منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#40709
فضل العرب في تأريخ العلم في العالم

كتاب طبقات الأمم (نموذجاً) لصاعد بن أحمد الأندلسي

(420-462 ﻫ/ 1029-1070 م)



الدكتور محمد ياسر زكّور

باحث في تاريخ العلوم الطبية

عضو الجمعية السورية لتأريخ العلوم

إدلب - سورية



يعتبر كتاب "طبقات الأمم" لصاعد بن أحمد الأندلسي أحد الكتب المهمة في تأريخ العلم في العالم، وعلم الطبقات هو أحد فروع علم التأريخ الذي كان للعرب والمسلمين دور مهم في تدوينه في العالم، وبداية لنعرّف علم التأريخ بشكل عام ثم فروعَه، ومن اهتم بهذا العلم من العلماء العرب والمسلمين:



يعرّف علم التأريخ بأنه معرفة أحوال الطوائف وملوكهم وبلدانهم، وموضوعه الأشخاص الماضية، وفائدته العبرة بتلك الأحوال والوقوف على تقلبات الزمن، ليحترز عن أمثال ما نقل من المضار، ويستجلب نظائرها من المنافع([1]).

ولهذا العلم فروع؛ كعلوم الطبقات، والوفيات، لكن الموضوع مشتمل عليها. وقد صدق من قال: «لولا التاريخ لقال من شاء ما شاء، ومن قال: لم يستعن على الكذابين بمثل التاريخ»([2]).

ويحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السيَر والأخلاق، والعوائد والنحل والمذاهب، وسائر الأحوال([3]).

ولقد اهتم العرب والمسلمون بتأريخ العلم، فكتب فيه وألّف وصنّف الكثير من العلماء، ومن أوائل من كتب في هذا العلم: ابن خُرداذبه (ت. 300 ﻫ)، وابن حوقل (ت. 367 ﻫ)، وابن جلجل (ت. 381 ﻫ) وابن النديم (ت. 380 ﻫ)، وغيرهم، ثم تلاهم في العصور المتوسطة؛ ابن أبي أصيبعة (ت. 668 ﻫ)، والشهرزوري (ت. 687 ﻫ) وابن فضل الله العمري (ت. 749 ﻫ)، ومن المتأخرين داود الأنطاكي (ت. 1008 ﻫ) في "طبقات الحكام" - وهو مفقود - جعله ذيلاً لـ"عيون الأنباء".

أما كتاب "طبقات الأمم" أو "التعريف بطبقات الأمم" للقاضي صاعد بن أحمد الأندلسي - رحمه الله - فيعتبر من بواكير وأوائل الكتب التي اعتنت بتأريخ العلم في العالم، لذلك يعد من أهم الكتب في هذا المجال، وبالرغم من أنه صغير الحجم لكنه كثير الفائدة، فقد أخذ عنه معظم المؤرخين للعلم بعده. ويظهر هذا الكتاب الدور الحضاري لمؤلفه في تأريخه للعلم في العالم، والتعريف بأهم الشخصيات الفكرية التي برزت في مختلف العهود، كما يبين الكتاب الدور الحضاري الذي كان للعرب في تأسيس العلوم.



ترجمة المؤلف وعصره

قليلة هي المعلومات التي وردت في كتب التراجم عن صاعد بن أحمد الأندلسي - القاضي، العالم بالفلك، ومن أهم من ترجم له؛ ابن بشكوال (ت. 578 ﻫ) في "كتاب الصلة"، وابن عميرة (ت. 559 ﻫ) في "بغية الملتمس، والصفدي (ت. 764 ﻫ) في "الوافي بالوفيات"، وحاجي خليفة (ت. 1067 ﻫ) في "كشف الظنون"، والبغدادي في "هدية العارفين".

وقد قال عنه ابن بشكوال: «صاعد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن صاعد التغلبي، قاضي طليطلة، يكنى بأبي القاسم، وأصله من قرطبة، روى عن أبي محمد بن حزم، والفتح بن القاسم، وأبي الوليد الوقتي (الوقشي) وغيرهم. واستقضاه المأمون يحيى بن ذي النون بطليطلة، وكان متحرياً في أموره، واختار القضاء باليمين مع الشاهد الواحد في الحقوق، وبالشهادة على الخط، وقضى بذلك أيام نظره. وكان من أهل المعرفة والذكاء والرواية والدراية. ولد بالمرية في سنة عشرين وأربعمائة، وتوفي بطليطلة - وهو قاضيها - في شوال سنة اثنين وستين وأربعمائة، وصلى عليه يحيى بن سعيد بن الحديدي. ذكر بعضه ابن مطاهر»([4]).

وأضاف الصفدي بأنه يعرف بالجياني، وقال ابن عميرة: هو فقيه مشهور، أما حاجي خليفة فقال: «إنه عالم بالأخبار»([5]).



كتاب "طبقات الأمم"

هذا الكتاب صنفه صاعد الأندلسي عام 460 ﻫ ، ومنهم من سمى الكتاب "التعريف بطبقات الأمم" مثل ابن أبي أصيبعة، ومنهم من جعله كتابين منفصلين.

وتجدر الإشارة إلى كتاب آخر بنفس العنوان لأبي سعيد المغربي ذكره حاجي خليفة([6]). ولعله سعيد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن سعيد القرطبي (أبو القاسم) المتوفى أيضاً سنة 462 ﻫ ، وهو مؤرخ له كتاب "التعريف بطبقات الأمم" ذكره بروكلمان([7]).



أهمية الكتاب العلمية والتاريخية

يعد كتاب "طبقات الأمم" لصاعد الأندلسي من أوائل الكتب التي أرّخت للعلوم في العالم، والذي فيه تاريخ علمي للبشرية - بالرغم من صغر حجمه الذي لا يتجاوز العشرين ورقة مخطوطة - في حوالي مائة صفحة مطبوعة([8])، ولكنه أخذ الصفة العالمية لغناه بالمعلومات وعدد العلماء الذين ذكرهم.

ولأهمية الكتاب فقد كان أهل الأندلس يتفاخرون به، كونه أحد الكتب النادرة التي تعرّض فيها كتبة العرب لوصف العلوم بين الأمم التي سبقت عهدهم. وقد جمع فيه المؤلف عدة فوائد تدل على نشاط في البحث، وعلى رغبة في التحصيل، ودقة نظر في التدوين. وقد كان أهل الأندلس يروونه لأهل الشرق؛ فقد روي إن عبد الله بن محمد بن مرزوق اليحصبي لما قدم الإسكندرية روى هذا الكتاب لأبي طاهر السلفي([9]). هذا بالإضافة إلى التعليقات التي وضعت على الكتاب نظراً لأهميته البالغة.

ولأهمية الكتاب فقد أخذ عنه العديد من المؤرخين الذين أتوا بعد القاضي صاعد، وكان أحد المصادر المعتمدة لديهم، ومنهم:



- أبو الفرج غريغوريوس ابن العبري (ت. 685 ﻫ) في كتابه "تاريخ مختصر الدول"، في نبذتين مفيدتين في العرب وعلومهم([10]).

- حاجي خليفة في "كشف الظنون"، ونقل عنه فصلاً طويلاً في علم الرصد حيث يقول: قال القاضي أبو القاسم صاعد الأندلسي في كتاب "التعريف بطبقات الأمم": «لما أفضت الخلافة إلى عبد الله المأمون بن الرشيد العباسي وطمحت نفسه الفاضلة إلى درك الحكمة... وتولوا الرصد بها بمدينة الشماسية وبلاد دمشق من أرض الشام سنة 214 ﻫ »([11]).

- القفطي (ت. 646 ﻫ) في إخبار العلماء نقل قطعة في وصف أمة اليونان مع بعض التغيير، حيث يقول: اليونان أمة عظيمة القدرة في الأمم... منهم الإسكندر بن فيلبوس المقدوني المعروف بذي القرنين الذي غزا دارا بن دارا ملك الفرس... ([12]).

- ابن أبي أصيبعة في "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" فقد أورد عنه العديد من المقاطع، وكان يقول: وقال القاضي صاعد في "طبقات الأمم"، وأحياناً (التعريف بطبقات الأمم) خاصة في حديثه عن أطباء الأندلس، وفي حديثه عن الكندي - كما سيمر لاحقاً([13]).

- الشهرزوري محمد بن محمود شمس الدين في كتابه "نزهة الأرواح وروضة الأفراح" أورد مقاطع عدة من كتاب صاعد، وكان يقول: قال صاعد...

- ابن فضل الله العمري (ت. 749 ﻫ) في الجزء التاسع "الحكماء والأطباء" من موسوعته "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار"، فقد أورد أقوالاً عديدة عن صاعد...

- داود الأنطاكي (ت. 1008 ﻫ) في كتابه "تزيين الأسواق"، أورد فيه أقوالاً عن صاعد منها قوله: قال صاعد في "طبقات الأمم" عن فيثاغورث صاحب سليمان نبي الله عليه السلام، بينما يقول صاعد: فيثاغورث أخذ الحكمة عن أصحاب سليمان([14]).



وللأهمية التي تمتع بها كتاب "طبقات الأمم" لصاعد الأندلسي فقد اهتم به المستشرق الإنجليزي بوكوك Edward Pocok الذي ولد في أكسفورد سنة 1604 م، وعاش في حلب بسورية، وعمل قسيساً للطائفة الإنجليزية فيها، توفي سنة 1691 م؛ فقد اعتمد على ما دوّنه صاعد من معلومات علمية تاريخية تتعلق بالعصر الجاهلي([15]).

ثم في عام 1912 م حققه ونشره الأب لويس شيخو، وصدر عن المكتبة اليسوعية ببيروت، ونشر بتتابع في مجلة "الشرق" السنة الرابعة عشرة.

وفي عام 1935-1936 م ترجمه المستشرق الفرنسي ريجي بلاشير
R. Blacher إلى الفرنسية مع تعليقات مفصلة، وقدمه كأطروحة لنيل درجة الدكتوراة في باريس([16]).

وكان قد حقق لأول مرة وترجم للألمانية ونشره هنري سوتر الألماني، وقدّم له تقديماً جيداً، وقدم خدمة كبرى للفكر العربي([17]).

وقد اعتمدنا في بحثنا هذا على طبعتين هما: طبعة بيروت بتحقيق الأب لويس شيخو سنة 1912 م، وطبعة القاهرة بتحقيق حسين مؤنس سنة 1993 م.



الدراسة التحليلية للكتاب

كتب صاعد بن أحمد "طبقات الأمم"، أو كما يسميه التعريف بـ"طبقات الأمم"، وحاول فيه استكمال دراسة أستاذه ابن حزم الظاهري عن دور الأندلس في إنتاج العلوم، والتعريف بأهم الشخصيات الفكرية التي برزت في مختلف العهود الإسلامية، إلا أن دراسته اختلفت عن رسالة ابن حزم في "مراتب العلوم"([18]) (فهو لم يكتف بأخبار الكاتب، بل حاول التعريف بعصره وظروفه وبيئته، وبسبب شمولية الكتاب وضع مقدمة تحليلية للتعريف بتاريخ العلوم وتطور الأفكار واتصال الثقافات ببعضها من المشرق إلى المغرب، انتهاءً بالأندلس وعصره. فجاءت دراسته تاريخية حاول من خلالها الرد على مسألتين؛ الأولى مجرى التطور، والثانية صلة حلقات التطور ببعضها، وحتى تكون إجابات صاعد واضحة في معالمها كان لابد من تجاوز حدود الأندلس والابتعاد عنها جغرافياً، والغوص في عمق الزمن إلى عهود سابقة على ظهور الديانات السماوية، واضطر بسبب المستجدات، وتغيير خطة كتابه، أن يعيد قراءة مراتب العلوم كونياً في سياق رؤية عالمية للتطور الفكري، وصولاً إلى العرب وظهور الإسلام والفتوحات الكبرى.

فرضت خطة الكتاب على صاعد أن يقوم بمراجعة شاملة وسريعة لتاريخ الأفكار ودور الأمم في صنعها وصلاتها ببعضها، كذلك حاول قدر الإمكان التعريف بالأمة والتعريف بأفكارها، ثم التعريف بأعلامها حتى يربط حلقات التطور في مجرى زمني هادف([19]).



الأعلام الذين أخذ عنهم صاعد في "طبقات الأمم"

لقد اعتمد صاعد في كتابه "طبقات الأمم" على مصادر عديدة استقى منها معلوماته، بالإضافة إلى الإخبار الشفاهي عن بعض الثقات، وقد أشار إلى ذلك في كتابه، ولقد اخترنا بعض المصادر التي وردت في الكتاب:



- "الفهرست" لان النديم؛ حيث يقول صاعد في الصفحة 51 من طبعة القاهرة: وذكر ابن النديم في كتابه "الفهرست" أن ثابت بن قرة مولده سنة إحدى وعشرين ومائتين، وتوفي سنة ثمان وثمانين ومائتين....

- "مروج الذهب" للمسعودي (ت. 345 ﻫ)، وكتاب "التنبيه والإشراف"؛ في حديثه عن أهل الهند، وفي حديثه عن أرسطاطاليس([20]).

- "كتاب الألوف" لأبي معشر جعفر بن عمر البلخي (ت. 272 ﻫ)([21])، في حديثه عن كنكه الهندي.

- وأخذ عن حنين بن إسحاق الترجمان (ت. 264 ﻫ) ([22]).

- وأخذ عن أبي نصر محمد بن نصر الفارابي المنطقي (ت. 339 ﻫ) ([23]).

- وأخذ عن ابن قتيبة أبي محمد عبد الله بن مسلم الدينوري (ت. 267 ﻫ) من كتاب "المعارف"([24]).

- وعن خزيمة بن الأشيم الفقعسي؛ من كتاب "عرض الأديان" لأبي المعالي([25]).

- وعن الحسين بن محمد بن حميد المعروف بابن الآدمي، ذكر في تاريخه الكبير المعروف بـ"نظام العقد"([26]).

- أبو محمد الْهَمْداني المعروف بابن ذي الدُّمَيْنَة؛ أحد أشراف العرب، وهو الحسين بن أحمد بن يعقوب... ويصل نسبه إلى يعرب بن قحطان. له كتاب "الإكليل" المؤلف في أنساب حمير وأيام ملوكها، وهو كتاب عظيم الفائدة، يشتمل على عشرة فنون..([27]).

- عن أمير الأندلس الحكم المستنصر بالله بن عبد الرحمن الناصر... وجد بخط يده أن أبا محمد الهمداني توفي بسجن صنعاء سنة 334 ﻫ/ 946 م([28]).

- وأخذ شفاهة عن أبي عثمان سعيد بن محمد بن البغونش الطليطلي (ت. 444 ﻫ)...([29]).

- نقل بالخبر شفاهة عن الفضل أبي رافع بن أبي حزم الأندلسي([30]).

- عن كتاب "الصلة" لأبي محمد عبد الله بن محمد بن جعفر الفرغاني، وكتابه هذا في التاريخ وصل به تاريخ أبي جعفر الطبري الكبير([31]).

- وأخذ شفاهة عن الوزير أبي المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكبير بن وافد اللخمي (ولد سنة 398 )([32]).

- وأخذ شفاهة عن محمد بن سعيد السرقسطي، والقاضي أبي زيد عبد الرحمن بن عيسى بن محمد بن عبد الرحمن([33]).



توصيف الكتاب ومحتوياته

يعتبر كتاب "طبقات الأمم" لصاعد بن أحمد الأندلسي، من الكتب النادرة، والذي أخذ صورة عالمية، حيث تعرض فيه المؤلف لوصف العلوم بين الأمم التي سبقت عهده، وفيه دراسة مفصلة عن تاريخ العلم عند الأمم، وسجلّ هام لإسهاماتها العلمية وإسهامات علمائها، وسجلّ أهم لتطور العلوم في الأندلس، ولا سيما علمي الطب والصيدلة.

يفتتح القاضي صاعد الكتاب بقوله: «إن جميع الناس في مشارق الأرض ومغاربها، وجنوبها وشمالها - وإن كانوا نوعاً واحداً - يتميزون بثلاثة أشياء؛ الأخلاق، والصور، واللغات. وزعم من عُني بأخبار الأمم، وبحث عن سائر الأجيال، وفحص عن طبقات القرون، أن الناس كانوا في سالف الدهور - وقبل تشعب القبائل وافتراق اللغات - سبع أمم».

نلحظ هنا تقسيمه للشعوب اعتماداً على الأخلاق والصور واللغات، بينما في أبواب الكتاب يعتمد تصنيفاً آخر وهو الأمم التي عنيت بالعلوم، والأمم التي لم تعنَ بها.

جعل المؤلف الكتاب في أربعة أبواب:



الباب الأول: في الأمم القديمة؛ ويتحدث عن الأمم السبع (كما هو في تقسيم اليونان):



- الأمة الأولى: الفرس؛ ويتحدث فيها عن مسكنها وحدودها ولغتها.

- الأمة الثانية: الكلدانيون؛ وهم السريان والبابليون وتفرعاتهم، وسكنهم، ولغتهم السريانية التي تفرع عنها العربية والعبرانية.

- الأمة الثالثة: اليونان والروم والفرنجة وغيرهم في الربع الغربي والشمال من المعمورة.

- الأمة الرابعة: القبط من أهل مصر والجنوب، ولغتهم وسكنهم.

- الأمة الخامسة: أجناس الترك، ولغتهم ومسكنهم.

- الأمة السادسة: الهند والسند ولغتهم وملكهم.

- الأمة السابعة: الصين ومن اتصل بهم من سكان بلاد عامور بن يافث ابن نوح عليه السلام، فمملكتهم واحدة، ولغتهم واحدة.



وهذه الأمم كانت جميعها صابئة يعبدون الأصنام، ثم افترقت هذه الأمم السبع وتشعبت لغاتهم، وتباينت أديانهم.





الباب الثاني: اختلاف الأمم وطبقاتها بالأشغال، وهما طبقتان:



- طبقة عنيت بالعلوم: وهي ثماني أمم؛ الهند، والفرس، والكلدانيون، والعبرانيون، واليونانيون، والروم، وأهل مصر، والعرب.

- طبقة لم تُعنَ بالعلوم؛ وهي بقية الأمم.



الباب الثالث: الأمم التي لم تعن بالعلوم، وأنسب هذه الأمم:



- الصين: وحظهم من المعرفة إتقان الصنائع العملية، وإحكام المهن التصويرية.

- الترك: فهم أحذق الناس في الفروسية والمبارزة.



وما عداهم من الأمم التي لم تعن بالعلوم فهم أشبه بالبهائم، ممن كان موغلاً في الشمال - لإفراط بعد الشمس، أو قريباً من خط النهار - لطول مقارنة (مقاربة) الشمس لِسَمْت رؤوسهم.

أما الجلالقة والبربر وسائر سكان أكناف المغرب من هذه الطبقة فأمم خصها الله تعالى بالطغيان والجهل على أنهم لم يوغلوا بالشمال، ولا تمكنوا من الجنوب.

وأما سائر من لم يذكر بشيء من هذه الطبقة فهم أسوة هؤلاء بالجهل؛ كبعض قطان الصحارى وسكان الفلوات والفيافي.

الباب الرابع: الأمم التي عنيت بالعلوم، وهي ثماني أمم، وقد قصد صاعد فيه التعريف بعلومهم والتنبيه على علمائهم. فهم صفوة الله من خلقه، وخلاصته من عباده، لأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة الصانعة لنوع الإنسان والمقوّمة لطبعه، وزهدوا فيما رغب فيه الصين والترك ومن نزع منْزعهم من التنافس في أخلاق النفس الغضبية.



الأمة الأولى (الهند)

وقد اعترف لها بالحكمة وأقَرَّ لها بالبروز في فنون المعارف جميعُ الملوك السالفة والقرون الماضية. ويذكر المؤلف صفاتهم وأنواع العلوم التي كانت عندهم من علوم الدين والنجوم والكواكب والموسيقى والحساب والأخلاق، وغيرها... ويقول: «ولبعد الهند من بلادنا واعتراض الممالك بيننا وبينهم، قلّت عندنا تآليفهم، فلم تصل إلينا إلا طُرف من علومهم، ولا وردت علينا إلا نبذ من مذاهبهم، ولا سمعنا إلا بالقليل من علمائهم». ثم يتحدث عن بعض علماء الهند أمثال كنكه الهندي.



الأمة الثانية (الفرس)

يصفهم ويصف مدة ملكهم، وطبقات ملوكهم، وعنايتهم بصناعة الطب، ومعرفة أحكام النجوم، وديانتهم قبل الإسلام، وسبب تمجسهم. وذكر من أهم علمائهم أبو مشعر جعفر بن محمد البلخي وكتابه "الزيج الكبير"، وكتاب "صور درجات الفلك" المنسوب إلى أزدرشت (زردشت)، وغيره...



الأمة الثالثة (الكلدانيون)

كان لهم علماء أجلّة، وحكماء متوسعون في فنون المعارف من المهن التعليمية والعلوم الرياضية والإلهية، وكان لهم علوم بأرصاد الكواكب والنجوم، وتحقق بعلم أسرار الفلك. ويذكر المؤلف من علمائهم هرمس البابلي وبرجس صاحب كتاب "أسرار النجوم". ويذكر أيضاً أنه لم يصل إلينا من مذهب البابليين في حركات النجوم وصورة هيئة الفلك مذهب مُستقصى، ولا جملة، ولا عندنا من آدابهم في ذلك ولا من أرصادهم غير الأرصاد التي نقلها عنهم بطليموس اليوناني القلوذي في كتاب "المجسطي"؛ فإنه اضطُر إليها في تصحيح حركات الكواكب المتحيرة، إذ لم يجد لأصحابه في ذلك أرصاداً يثق بها.

وتحدث صاعد عن ملوك هذه الأمة الذين كان منهم النماردة الجبابرة - وأولهم النمرود بن كوشر بن حام. وقد نقل المؤلف هنا عن أبي محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني المعروف بابن ذوي الدُّمينة صاحب كتاب "سرائر الحكمة" وكتاب "الإكليل"، وغيرهما...



الأمة الرابعة (اليونانيون)

لقد أسهب صاعد في وصف هذه الأمة العظيمة القدر في الأمم، الطائرة الذكر في الآفاق، فخمة الملوك عند جميع أهل الأقاليم، الذين منهم كان الإسكندر بن فيلبوس المقدوني المعروف بذي القرنين، ثم بعده البطالسة.

ويحدد المؤلف مكانها وحدودها وامتدادها ولغتها الإغريقية، وديانتها الصابئة، وعلماءها الفلاسفة مبتدئاً بأولهم بندقليس، ثم فيثاغورث وسقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس، والكتب المؤلفة فيها، والعلوم الإلهية والكتب المؤلفة فيها، ثم يتحدث عن العلوم الطبيعية والطب مبتدئاً بأبقراط سيد الطبيعي في عصره، وصولاً إلى جالينوس - بعد ذكر كافة الطبقات بينهما، ثم من الرياضيين أبولونيوس وإقليدس وأرشميدس، إلى غيرهم من العلماء والعلوم، وذكر تأليفهم في الجغرافية والفلك، مفصلاً لتواريخ الأجيال الخالية وأهم كتبهم.



الأمة الخامسة (الروم)

وهي مجاورة لبلاد اليونانيين، يذكر المؤلف حدودها وتكوينها، ولغتها اللاطينية - نسبة لباني عاصمتها رومية من بلاد ألمانية روملش اللطيني - وهو أول ملوكها، وديانتهم الصابئة قبل اعتناق النصرانية من قبل قسطنطين بن هيلاني (هيلانة). ثم يتحدث المؤلف عن تمازج اليونان والروم في العلماء والملوك.

ويذكر صاعد أهم من ظهر منهم في الدولة العباسية من علماء في الطب والفلسفة والفلك والهندسة، وغيرها من العلوم - من النصارى والصابئين أمثال بختيشوع، ويوحنا بن ماسويه، وحنين، وثابت بن قرة، وغيرهم.





الأمة السادسة (أهل مصر)

ويتحدث المؤلف فيه عن عظمة ملكها وعزها قبل الطوفان وبعده؛ فقبله: ما بقي من أثر مثل الأهرام والمغاور، وبعده: كيف صار أهل الإقليم أخلاطاً من الأمم ما بين قبطي ورومي وعمليقي وغيرهم. ثم يتحدث عن ديانتهم قبل النصرانية والإسلام، ثم يذكر علومهم قبل الطوفان، وكيف عني الإنسان بأنواع الحِكَم، ويخص بالذكر هرمس الأول - وهو النبي إدريس عليه السلام، وهو أول من تكلم في الجواهر العلوية، وأول من نظر في علم الطب، وبنى الأهرام، وصور فيها جميع الصنائع خوفاً على ذهابها في الطوفان الذي أنذر به. ثم ينتقل صاعد - رحمه الله - إلى ذكر من كان بعد الطوفان في مصر من علماء الفلسفة والطبيعيات والكيمياء، وبناء دار العلم والحكمة في الإسكندرية التي ضمت العلماء الإسكندرانيين برئاسة أنقليدوس - في الطب وغيره.



الأمة السابعة (العرب)

كان العرب فرقتين؛ إحداهما بائدة - كعاد وثمود والعمالقة، وغيرها، وفرقة باقية - وهي قحطان وعدنان، ويضمهما جميعاً حالان؛ حال الجاهلية، وحال الإسلام.

فأما حال العرب في الجاهلية فمشهورة عند الأمم - من العز والمنعة، وكان مُلكهم في قحطان ثم في سبع قبائل. ثم يتحدث صاعد عن سائر عرب الجاهلية الذين كانوا طبقتين؛ أهل مدر، وأهل وبر، ويتحدث عن ديانتهم قبل الإسلام.

وأما علمها الذي كانت تتفاخر به وتباري به فعلم لسانها وإحكام لغتها ونظم الأشعار وتأليف الخطب، وكانت مع ذلك أصل علم الأخبار، ومعدن معرفة السير والأمصار؛ فليس يوصل إلى خبر من أخبار العجم والعرب إلا بالعرب، بالإضافة إلى علم بأنواء الكواكب ومطالع النجوم.

ولأبي حنيفة الدينوري (ت. 282 ﻫ) أحمد بن داود اللغوي كتاب شريف في الأنواء. وكان لهم بعض الفلسفة؛ فشهر منهم أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (ت. 252 ﻫ)، وأبو محمد الحسن الهمداني([34]). ثم يحدد المؤلف بلاد العرب وما تضم من بلدان وما يحدها من الجهات.

- أما حال العرب في الإسلام، فقد خصه المؤلف بعنوانين رئيسين، هما:



العلم الإسلامي في المشرق

يقول صاعد - رحمه لله: «كانت العرب في صدر الإسلام لا تعنى بشيء من العلم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها - حاشا صناعة الطب؛ فإنها كانت موجودة عند أفراد من العرب غير منكرة عند جماهيرهم لحاجة الناس طرّاً إليها، ولِما كان عندهم من الأثر عن النبي r في الحث عليها»، ثم يذكر ممن كان في عهد النبي r من الأطباء أمثال الحارث بن كلدة، وابن أبي رمثة. ثم ينتقل إلى ذكر من كان منهم في العهد الأموي أمثال ابن أبجر (الحبر) الكناني في عهد عمر بن عبد العزيز، وخالد بن يزيد بن معاوية.

ثم يتحدث عن حال العرب ونهضة العلوم في العهد العباسي، فكان أول من عني بها الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور - خاصة في علم صناعة النجوم، وازدهرت العلوم في عهد الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد حين أرسل إليه ملوك الروم ما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطاطاليس وأبقراط وجلينوس وغيرهم، فاستجاد لهم مهرة التراجمة وكلّفهم إحكام ترجمتها. وأتقن جماعة من ذوي الفنون والتعلم في أيامه كثيراً من أجزاء الفلسفة، وسنّوا لمن بعدهم منهاج الطب، ومهدوا أصول الأدب. ثم يسرد المؤلف أسماء من كان من العلماء في هذه الفترة إلى وقته من أهل العراق والشام ومصر من المسلمين - عربياً كان أو أعجمياً، ويبدأ في المنطق بعبد الله بن المقفع الخطيب الفارسي كاتب أبي جعفر المنصور والكتب التي ترجمها. وفي علم النجوم يذكر محمد بن إبراهيم الفزازي. ثم في عهد عبد الله المأمون بن هارون الرشيد جمع علماء عصره من أقطار مملكته، وأمرهم أن يصنعوا آلات الرصد وأن يقيسوا بها الكواكب ويتعرفوا أحوالها - كما فعل بطليموس - ففعلوا ذلك في مدينة الشماسية([35])من بلاد دمشق من أرض الشام سنة (214 ﻫ / 829 م).

ويقول صاعد: «ولم يزل خواص من المسلمين وغيرهم من المتصلين بملوك بني العباس وسواهم من ملوك الإسلام منذ ذلك الزمان إلى وقتنا هذا يعتنون بصناعة النجوم والهندسة والطب وغير ذلك من العلوم القديمة، ويؤلفون فيها الكتب الجليلة، ويظهرون منها النتائج الغريبة».

ثم يتحدث عن يعقوب بن إسحاق الكندي ومؤلفاته في الحكمة وغيرها، أما كتبه في المنطق فيقول عنها المؤلف: «وهي كتب قد نفقت عند الناس نفاقاً عاماً، وقلّما يُشفع بها في العلوم، لأنها خالية من صناعة التحليل التي لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل في كل مطلوب إلا بها. وأما صناعة التركيب - وهي التي قصد يعقوب في كتبه هذه إليها - فلا ينتفع بها إلا من كانت عنده مقدمات، فحينئذ يمكن التركيب، ومقدمات كل مطلوب لا توجد إلا بصناعة التحليل، ولا أدري ما حمل يعقوب على الإضراب عن هذه الصناعة الجليلة؛ هل جهل مقدارها وضنَّ على الناس بكشفه؟، وأي هذين كان فهو نقص فيه. وله بعد هذا رسائل كثيرة في علوم ظهرت له فيها آراء فاسدة ومذاهب بعيدة عن الحقيقة». ويعقب ابن أبي أصيبعة على ذلك في عيون الأنباء بقوله: «هذا الذي قاله القاضي صاعد عن الكندي فيه تحامل كثير عليه، وليس ذلك مما يحط من علم الكندي، ولا مما يصد الناس من النظر في كتبه والانتفاع بها»([36]).

ثم يذكر تلميذَ الكندي أحمد بن الطيب السرخسي، ويتحدث عن محمد بن زكريا الرازي طبيب المسلمين، وأبي نصر الفارابي الذي يتحدث عنه بإسهاب، ثم عن أحمد بن عبد الله البغدادي المعروف بحبش، وأحمد الفرغاني، وموسى بن شاكر وأبنائه، وغيرهم من علاء النجوم والفلسفة والهندسة.

ثم ينتقل المؤلف إلى ذكر من اشتهر بعلم الطب وسائر العلوم المستنبطة من العلم الطبيعي، فيذكر إسحاق بن عمران، وجابر بن حيان، وذا النون الأخميمي، وعلي بن ربن الطبري، وأحمد بن إبراهيم القيرواني المعروف بابن الجزار، وعلي بن عباس المجوسي.



العلوم في الأندلس

شهدت الأندلس بعد الفتح الإسلامي في العهد الأموي تحركاً وظهوراً غير شائع من أفراد الناس إلى طلب العلوم؛ فعلم الفلسفة نالت أجزاء كثيرة منه، وكانت الأندلس قبل ذلك في الزمان القديم خالية من العلم - خلا بعض الطلسمات، هذا على قول المؤلف الذي ينتقده فيه الأب لويس شيخو.

ثم يتحدث المؤلف عن دين أهل الأندلس قبل الفتح الإسلامي، ويتحدث عن حدود بلاد الأندلس. ثم ينتقل إلى ذكر العلماء الذين بدأ ظهورهم منذ عهد محمد بن عبد الرحمن الداخل في القرن الثالث الهجري إلى وسط القرن الرابع، فممن اعتنى بعلم الحساب والنجوم أبو عبيدة مسلم بن أحمد البلنسي صاحب القِبلة([37]) (ت. 259 ﻫ)، ويحيى بن يحيى المعروف بابن التيمية الذي كان بصيراً بحساب النجوم والطب وغير ذلك، ومحمد بن إسماعيل المعروف بالحكيم كان عالماً بالحساب والمنطق. ثم في زمن الحكم الثاني المستنصر بالله بن عبد الرحمن الناصر (ملك على قرطبة بين 350-366 ﻫ) الذي عني بالعلوم، فاستجلب من بغداد ومصر وغيرهما من ديار المشرق عيون التآلف الجليلة والمصنفات الغريبة في العلوم القديمة والحديثة، والتي حرقت فيما بعد - ما عدا كتب الطب والحساب - بعد تولي ولده وتغلُّب حاجبِه عليه.

ثم عادت الرغبة ترتفع في طلب العلم فيما بعد شيئاً فشيئاً حتى بدأ يظهر العلماء، منهم؛ أبو غالب حباب بن عبادة الفرائضي، وأبو أيوب عبد الغافر بن محمد المشهور في علم الهندسة، وعبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بالإقليدي الذي كان متقدماً في علم الهندسة أيضاً، وأبو عثمان سعيد بن فتحون في علم النحو والموسيقى والفلسفة، وإمام الرياضيين أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي، ومن تلامذته ابن السمح وابن الصفَّار، وأبو الحسن علي بن سليمان الزهراوي، وأبو الحكم عمرو بن عبد الرحمن الكرماني، وابن خلدون، وغيرهم ممن كان لهم شهرة في علوم الفلسفة والطب والهندسة وغير ذلك، حيث يعدد المؤلف الكثير منهم اختصرنا ذكرهم.

أما علم الطبيعي والعلم الإلهي فيقول صاعد فيه: «لم يُعْنَ أحد من أهل الأندلس بهما كبير عناية، ولا أعلم ممن تميّز بهما إلا عبد الله محمد بن عبد الله بن حامد المعروف بابن النبّاش البجاني، وأبا عامر بن الأمير بن هود، وأبا الفضل بن حسداي».

وفي صناعة الطب يقول صاعد: «لم يكن بالأندلس من استوعبها، ولا لحق بأحد من المتقدمين فيها، وإنما كان غرض أكثرهم من علم الطب قراءة الكنانيش المؤلفة في فروعه فقط، دون الكتب المصنفة في أصوله - مثل كتاب أبقراط وجالينوس - وليستعجلوا بذلك ثمرة الصناعة ويستفيدوا به خدمة الأملاك في أقرب مدة، إلا أفراداً منهم، رغبوا عن هذا الغرض وطلبوا الصناعة لذاتها، وقرأوا كتبها على مراتبها. وأول من اشتُهر بالطب في الأندلس أحمد بن إياس - في زمن محمد بن عبد الرحمن الأوسط، وكان الناس قبلهم يعولون في الطب على قوم من النصارى لم يكن عندهم تحقق به، ولا بشيء من سائر العلوم، وإنما كانوا يعولون على كتاب بأيديهم من كتب النصارى يقال له "الأبرسيم"، وتفسيره "الجامع والمجموع"».

ثم يذكر صاعد العديد من أطباء الأندلس أمثال؛ الحراني المشهور، قال: لم يبلغني اسمه. ويحيى بن إسحاق، وسعيد بن عبد الرحمن بن عبد ربه، وأحمد بن حفصون، ومحمد بن الحسين المعروف بابن الكناني، ومحمد بن عبدون، وغيرهم. وكان بعد هؤلاء إلى وقت المؤلف جماعة من أشهرهم سعيد بن محمد بن البغويش، والوزير أبو المطرف عبد الرحمن اللخمي، وأبو مروان عبد الملك بن زهر الإشبيلي، وغيرهم ممن يطول ذكرهم.

أما صناعة أحكام النجوم فيقول صاعد: «بأنها لم تزل نافقة بالأندلس قديماً وحديثاً، واشتهر بتقلدها جماعة في كل عصر إلى عصرنا هذا، فمن مشاهيرهم في زماننا وزمان بني أمية أبو بكر بن يحيى المعروف بابن الخياط، وأبو مروان عبيد الله بن خلف الأستجي».

ويختم المؤلف حديثه عن علماء المشرق والمغرب من العربة والمسلمين المشهورين بالعلوم القديمة قائلاً: «ولست أدعي الإحاطة بهم، فقد يمكن أن يكون فيمن لم أعرفه من يُربي على كثير من هؤلاء...»([38]).



الأمة الثامنة (بنو إسرائيل)

لم يشتهروا بعلوم الفلسفة، وإنما كانت عنايتهم بعلوم الشريعة وسير الأنبياء. وكان منهم في دولة الإسلام ممن اشتُهر بصناعة الطب؛ ماسرجويه الطبيب الذي تولى لعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ترجمة كتاب أهرن القس في الطب. وكان منهم ثَمَّ من المتأخرين إسحاق بن سليمان تلميذ إسحاق بن عمران. ومنهم من أهل أحكام النجوم سهل بن بشر بن حبيب.

وكان بباب الأندلس منهم جماعة؛ فممن عُني بصناعة الطب حسداي بن إسحاق خادم الحكم بن عبد الرحمن الناصر، ثم كان منجم بن الفوال من سكان سرقسطة وكان متقدماً في صناعة الطب وسائر العلوم، وغيرهم.

وممن كان لهم اعتناء بعلوم الفلسفة سليمان بن يحيى المعروف بابن جبرون من سكان سرقسطة، وحسداي بن يوسف بن حسداي.

ويختم القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي كتاب "طبقات الأمم" بقوله: «فهذا ما حضر في حفظه من تسمية علماء الأمم، والتعريف بنبذ من تواليفهم وأخبارهم، والحمد لله...».



خاتمة

يعتبر كتاب "طبقات الأمم" لصاعد بن أحمد الأندلسي من بواكير الكتب - بعد "الفهرست" للنديم - التي اهتمت بتأريخ العلم في العالم، وهذا الكتاب اهتم به المؤرخون القدامى وأخذوا عنه الكثير، ولتلك الأهمية أيضاً فقد تناول الكتاب دراسة وتحقيقاً العديد من المهتمين المعاصرين والمؤرخين العرب وغير العرب، وإن نَمّ هذا عن شيء فإنما ينم عن حضور الكتاب الكبير في تاريخ العلم المعاصر، فنرى أنه قد أعطى حق كل أمة دون إنقاص في دور كل منها في تأصيل العلم في العالم؛ من الهند إلى الفرس إلى المصريين وغيرهم ممن خلوا، وكان تركيزه على العرب قبل الإسلام وبعده في بلاد المشرق والمغرب، وبذلك يكون قد مكّن كل أمة من حقها في امتلاك تاريخ لعلمها، ويفتح الأبواب لدراستها في العصر الحديث لتأصيل ما ورد عندهم من العلوم.

لقد وضع صاعد الأندلس سجلاً هاماً ومفصلاً لإسهامات كافة الأمم في العلوم، مع دراسة مفصلة لتاريخ كل علم عند جميع الأمم، هذا السجل يعتبر وثيقة يعتمد عليها من قبل مؤرخي العلم المعاصرين، ولا يمكن إنكار أهميتها في تثبيت دور كل أمة من الأمم في نشوء الحضارات، ولعل من أمثلة ذلك ما ذكره القاضي صاعد في هذا الكتاب عن دور خالد بن يزيد بن معاوية في الكيمياء، ودور الخليفة عمر بن عبد العزيز في إخراج أول كتاب في الطب - في الحضارة العربية الإسلامية - لأهرن القس الإسكندري وأمر بترجمته من قبل ماسرجويه، وكذلك أول مرصد لعلم الفلك أنشئ في دمشق في عهد عبد الله المأمون بن الرشيد. ليس الأمر تاريخاً وحسب، بل فيه تدوين لتطور تلك العلوم - كما رأينا - عند كل أمة من الأمم، ولعل هذا ما أثار ويثير الشغف عند المؤرخين المعاصرين لدراسة هذا الكتاب كغيره من أمثاله لتدوين التاريخ المعاصر للعلوم، دون المساس في مصداقية ما يدون، لأن علم التأريخ كما ذكرنا صان الزمن والتاريخ من الكذابين.

اهتم المؤلف بتأريخ العلوم كافة، ولا سيما علم الطب في ظل الحضارة العربية الإسلامية، وقد وقف مطولاً على تاريخ العلوم في العهد العباسي، والعلوم في الأندلس، واعتمد هذا التاريخ كل من تلاه من المؤرخين، وكل معاصر، لذلك فحبذا لو جعل لهذا الكتاب ذيل لمتابعة تطور العلوم عند كل أمة من الأمم، ولا سيما أن المؤلف قد سهّل تلك المهمة لمن أراد في تصنيفه المبسط لتاريخ العلم في "طبقات الأمم" كافة، وبنفس الأسلوب الذي اتبعه المؤلف - رحمه الله - حتى يكون كتاباً شاملاً ومتطوراً مع التاريخ المعاصر.

وأخيراً أعتقد أن كتاب "طبقات الأمم" - مع صغر حجمه - يعتبر من الكتب المهمة في تاريخ العلم، والذي يؤصل دور العرب في تأريخ العلم في العالم، ويبرز الدور الحضاري للعرب والمسلمين في هذا العلم الذي لم يسبقهم إليه أحد. والله ولي التوفيق.