الوقيعة بين العرب وإيران
كانت مفاجأة بلا أدنى شك أن تعلن الإدارة الأميركية عن اكتشافها لمخطط إيراني يستهدف "السفير السعودي". حيث إن أول ما يتبادر للذهن من الناحية المنطقية هو عن مصلحة إيران في ذلك؟ وعن مدى الفائدة من استهداف السفير؟ ومن الناحية التقنية تبدو الأسئلة التالية مشروعة أيضاً.. لماذا يتم اختيار "هدف" على الأرض الأميركية؟ ثم لماذا تلجأ دولة بحجم إيران لعصابة مخدرات لتنفيذ العملية المفترضة؟ كل شيء في هذه القصة لا يبدو مقنعاً. حتى المعتقل صاحب الجنسية المزدوجة، قال بعض الكتاب الأميركيين عنه، إنه مريض نفسياً. وإذا صح ذلك، فكيف يمكن أن نصدق بأن جيش "القدس"، الفئة الأكثر احترافية، في الجيش الإيراني، يمكن أن تلجأ لرجل "مخبول" لتنفيذ مآربها. هنالك ثلاثة احتمالات في هذه القصة المفترضة:
الأول، بأن الولايات المتحدة بدأت بقرع طبول الحرب، وتحتاج لبناء قضية متكاملة ضد إيران. في البداية ادعاءات عن نية إيران بصناعة أسلحة نووية.. تلتها عقوبات.. الآن.. ادعاءات عن دولة تمارس الإرهاب.. تليها عقوبات جديدة، وربما إن لم تعارض روسيا والصين، فقرار إدانة من مجلس الأمن، يعقبه قرار آخر بتسليم "المتهم الثاني" في القضية للولايات المتحدة، يعقبة قرار ثالث بتحمل نتائج عدم التنفيذ. وهكذا الى أن تصل القضية لنهايتها بإعلان الحرب. هنالك ما يعزز هذا الإستنتاج وهو أن الولايات المتحدة أصبحت راغبة أكثر من أي وقت مضى بسحب جميع قواتها من العراق بعد أن كانت تضغط لإبقاء جزء منها على الأقل، تحت مسمى تدريب الجيش والشرطة في العراق. ثم إن الحديث بأن المستهدف هو "السفير السعودي" يجعل السعودية طرفاً في الحرب ويمهد الطريق لعودة القوات الأميركية لأراضيها ولتعاونها الكامل في الحرب على إيران. لكن هنالك أيضاً ما ينفي هذا الإستنتاج وهو أن حربي العراق وأفغانستان أنهكتا الاقتصاد الأميركي، وهو لم يعد قادراً على احتمال حرب جديدة. ثم ماذا ستكسب السعودية من حرب قد تدمر ما بنته دول الخليج في الخمسين عاماً الأخيرة. الحرب في النهاية ليست لعبة. الحرب دمار وتخريب، قتلى بالآلاف، وعشرات من السنين لإعادة البناء، هذا إذا انتهى الصراع بعد سنين. العراق لم يبدأ بعد عملية إعادة البناء بعد مضي ثماني سنوات على الحرب. في ليبيا الحرب لم تنته بعد بالرغم من مضي ثمانية أشهر عليها. لذلك لا نعتقد بأن هنالك نية للحرب، فلا مصلحة أميركية ولا سعودية وراءها.
الثاني، بأن الولايات المتحدة تهدف فقط الى تعميق الشرخ بين العالم العربي وإيران من خلال إعلان خطة مزعومة بأن المستهدف "عربي سعودي." ولهذا تبعات بالطبع منها كما شاهدنا الإسراع بإدانة إيران من قبل الجامعة العربية. ومنها الحملة الإعلامية على إيران وكأن هنالك وثائق حقيقية تدين إيران. بالطبع المستهدف ليس علاقات النظام العربي الرسمي بإيران، فهذه لم تكن يوماً ما "جيدة" وبالتالي ما الفائدة من استهدافها، ولكن الهدف كالعادة هو تغذية هذا العداء بين العرب أنفسهم تحت مسمى "شيعة" و"سنة". إذا كانت النية "قتل" الربيع العربي، فإن أفضل طريقة لذلك هي تغذية الخلاف المذهبي أو العرقي أو كليهما معاً. الانتصار على هذا المخطط يتطلب وعي الشعوب العربية أولاً وأخيراً. والتيارات السياسية الوطنية، وفي مقدمتها التيارات الإسلامية مطالبة بأن تخوض معركة توحيد العرب من أجل الحرية والكرامة، لا الانجرار للمعارك الطائفية، والعرقية، والقبلية. وهنا نتساءل لماذا يصمت ما يسمى "علماء المسلمين" على هذه المؤامرة التي تستهدف "روح" الثورة العربية. معركتهم اليوم يجب أن تتركز على سد الثغرات التي يحاول أعداء الثورة الدخول منها لإجهاض الثورة. بدأت المسألة بالصمت عن الصراع الطائفي في العراق وتغذيته أحياناً.. ثم بالصمت على محاولة توريط حزب الله في قضية يعلم كل صاحب عقل بأن حزب الله لا علاقة له بها.. ثم بالصمت على محاولات التصعيد الطائفي في سورية والبحرين.. وبالصمت على ما يجري في مصر بين الحين والآخر من صراع بلا معنى على بناء كنيسة أو مسجد.. وأخيراً بالصمت على الحملة المنظمة على إيران. على الصامتين أن يعلموا بأن الهدف ليس إيران، ولكن تلك العلاقات التي تربط العرب ببعضهم، بغض النظر عن طوائفهم الدينية ومنابتهم الفكرية.
الثالث، بأن هنالك طرفاً ثالثاً نسج خيوط المؤامرة المزعومة. هذا يعني بأن الإدارة الأميركية توجد لديها بيانات، ولا تختلق القصة. وهو احتمال قائم. قد يكون الهدف من ذلك إذكاء الخلاف بين الولايات المتحدة وإيران.. توريط السعودية في قضية لا تريدها لكنها ستكون مضطرة لأخذ موقف للدفاع عن نفسها. هذا يتطلب أن تكون الدول العربية وشعوبها أكثر يقظة وأن تجري اتصالات مباشرة من قبل الدول العربية بإيران لفك رموز هذه القضية المزعومة، لا الانجرار وراء الادعاء الأميركي. يمكن لأمير قطر، وهو على علاقة جيدة بإيران، ولأمين الجامعة العربية محمد العربي، وهو رجل مشهود له بالنزاهة والدفاع عن مصالح العرب، بأن يحملا الأدلة المزعومة لمناقشتها مع إيران وسماع رأيها. للأسف هذا لم يتم حتى الآن.
الحقيقة بأن كل شيء وارد في هذه القصة، لكن ما هو أقرب للعقل بأنه لا يوجد سبب واحد يسمح لنا بتصديقها. إيران دولة محاصرة، عليها عقوبات اقتصادية، النظام فيها مستهدف، ولا يوجد سبب يدفعها لدفع الولايات المتحدة وحلفائها للتصعيد معها. المطلوب من العرب في أوضاع كهذه، ألا يكونوا أداة لتدمير أنفسهم. كانوا كذلك في الحرب على العراق.. كانوا كذلك في الحرب على لبنان.. كانوا كذلك في الحرب على غزة.. والآن يريدونهم كذلك في الصراع مع إيران، وربما في الحرب المحتملة عليها.
أغرب ما نواجهه في هذه المرحلة بأنه عندما تتجمع الظروف- برحمة من السماء- لخدمة قضايا العربومصالحهم يقوم "بعض" العرب بتبديدها. لأول مرة منذ قيام دولة إسرائيل تصبح هذه الدولة بلا حلفاء في الشرق الاوسط. تركيا ابتعدت عنها وأصبحت في الخندق المعادي لها. إيران تعتبر إسرائيل أكبر أعدائها منذ أكثر من ثلاثين عاماً. مصر خرجت من العباءة الإسرائيلية بلا رجعة. لكن بدلاً من أن يستثمر "بعض" العربفي ذلك لتحقيق تفوق سياسي إستراتيجي يمكنهم من استعادة أراضيهم المحتلة من إسرائيل، وبناء مجتمع واقتصاد متطورين، نراهم يحاولون تدمير ما قدمته "السماء" لهم كهدية لانتشالهم من التبعية والذل والفقر. لا توجد مصلحة للعرب بضرب تركيا بإيران! لا توجد مصلحة لهم بضرب "حماس" بإيران! لا توجد مصلحة لهم بالهجوم على حزب لله! لا توجد مصلحة للعرب بالتحريض على أنفسهم بسبب اختلاف مذهبي أو قبلي تم بفعل الولادة! لكننا برغم ذلك، نرى الكثير من "التبديد" مما لا مصلحة للعرب بتبديده .