الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله صحبه أجمعين.
في القرن الماضي تمكنت القوى الاستعمارية المتمثلة في بريطانيا وفرنسا – بقدر الله الكوني - من السيطرة على بلدان العالم الإسلامي. وفي المقابل استطاع الملك عبد العزيز - بفضل الله – أن يُعيد توحيد بلدان الجزيرة العربية تحت مسمى المملكة العربية السعودية.
في تلك الأثناء نشأت علاقة بين بريطانيا والملك عبد العزيز هي فريدة من نوعها. فلم تتمكن بريطانيا من احتلال البلاد مثل غيرها من بلدان العالم الإسلامي. ولم يرفض الملك عبد العزيز العلاقات مع بريطانيا جملة وتفصيلاً. وإنما تمكن – بفضل الله – من تحديد أبواب معينة ثم سمح للإنجليز الدخول منها. وكان لضم الملك عبد العزيز منطقة الأحساء بداية لتلك العلاقات. وفي هذه المقالة سيتم التركيز على المرحلة التي سبقت توحيد المملكة العربية السعودية في عام (1351هـ) الموافق (1932م)
اتفاق المصالح في أثناء الحرب العالمية الأولى :
مع بداية الحرب العالمية الأولى في (05/09/1332هـ) الموافق (28/07/1914م) قررت الحكومة البريطانية احتلال البصرة بعد شهرين من بدء الحرب، وكان برسي كوكس – المقيم البريطاني في الخليج العربي – قد أرسل رسالتان إلى الملك عبد العزيز يطلب منه مساعدة القوات البريطانية لاحتلال البصرة ولكن الملك رفض الطلب والتزم الحياد [1].
ولما رأت الحكومة البريطانية امتناع الملك عبد العزيز عن الانضمام لها في حربها ضد العثمانيين؛ أرسلت وليم شكسبير – الوكيل السياسي البريطاني في الكويت – في شهر صفر من عام (1333هـ) الموافق يناير من عام (1915م) لإقناع الملك بعدم الهجوم على حليفها الشريف حسين. وبعد المقابلة تعهد الملك بعدم الهجوم على الشريف.
أوقع الله الهزيمة على الملك عبد العزيز في موقعتين في عام (1333هـ) الأولى : في معركة جراب أمام أمير حائل المدعوم بقوات عثمانية، والأخرى : في موقعة كنزان أمام قبيلة العجمان.
تم توقيع اتفاقية دارين بين الملك عبد العزيز وبريطانيا مع بداية عام (1334هـ) الموافق نهاية (1915م). وكانت القوات البريطانية بعد احتلالها للبصرة في وضع مكشوف أمام القبائل في شمال الجزيرة العربية مما قد يُغري أمير حائل - الذي خرج من توه منتصراً على الملك عبد العزيز في موقعة جراب - من مهاجمة تلك القوات المنتشرة في البصرة. وفي المقابل ما جرى للملك عبد العزيز من الهزيمتين السالفة الذكر مما مهد الطريق لتوقيع تلك الاتفاقية.
بموجب اتفاقية دارين حصل الملك على مساعدة فورية قدرها 1000 بندقية مع 20 ألف جنية استرليني نقداً، كما تعهد بريطانيا بتقديم منحة شهرية قدرها 5 آلاف جنية استرليني و4 رشاشات كبيرة و3 آلاف بندقية. مقابل أن يهيئ الملك قوة عسكرية قوامها 4 آلاف رجل لتكون قوة احتياطية للقتال ضد أمير حائل إذا طُلب منه ذلك [2].
أعلن الشريف حسين الثورة العربية ضد الأتراك من خلال مراسلات مستمرة سُميت بمراسلات الحسين مكماهون وكان ذلك في شعبان من عام (1334هـ) الموافق يونيو (1916م).
بعث الملك عبد العزيز رسالة إلى برسي كوكس مؤيداً للثورة العربية ما دام الهدف منها إخراج الأتراك من الجزيرة العربية.
بدأت العلاقات تتدهور بين الملك عبد العزيز والشريف حسين مع بداية عام (1335هـ) الموافق نهاية عام (1916م) بعد أن أعلن الأخير نفسه ملكاً على العرب، فقررت بريطانيا تهدئة الوضع حتى لا يؤثر ذلك على موقفها التعبوي ضد الأتراك فألزمت الشريف حسين بالاكتفاء بملك الحجاز.
ازدادت الاتصالات بين الملك عبد العزيز وبين بريطانيا مع بداية عام (1335هـ) الموافق نهاية عام (1916م) حيث جرى ثلاثة اجتماعات الأول : اجتماع العقير والثاني : مؤتمر الكويت والثالث : لقاء البصرة. وتوصل الطرفان إلى زيادة المعونات المادي إلى الملك مقابل مواصلة حشد قوات الملك ضد أمير حائل[3].
أرسلت الحكومة البريطانية ثلاث بعثات إلى الرياض لمقابلة الملك عبد العزيز في عام (1335هـ) الموافق (1917م)، الأولى : بعثة رونالد ستورس، والثانية : بعثة الكولونيل هاملتون، والثالثة : بعثة سنت جون فيلبي.
لاحظ المبعوث البريطاني هاملتون في خلال زيارته انتشار الهجر في شبة الجزيرة مما دعاه إلى أن يكتب تقريراً تحذيرياً أحدث ضجة في الأوساط الإنجليزية. أما فيلبي فقد لاحظ أن المدافع التي ترسلها القوات البريطانية إلى الملك عبد العزيز لا تشارك في الهجوم على حائل بل تبقى في مستودعات الإحساء، كما لاحظ أن الهجوم الذي تشنها قوات الملك عبد العزيز ليس هجوماً جدياً وإنما هجوماً شكلي، فكتب إلى حكومته تقريراً يقترح أن تُلزم الحكومة البريطانية ابن سعود مستقبلاً بمشاركة ما يقدم له من أسلحة في الهجوم على الخصم [4].
تُعد قضية التهريب من القضايا التي أزعجت الحكومة البريطانية في أثناء الحرب. فالأسلحة والمؤن التي تأتي من الهند إلى القوات البريطانية في البصرة تُهرب وتُباع عن طريق القبائل إلى القوات العثمانية في الشام. فاضطرت بريطانيا إلى عقد اتفاقيات مع الحكام العرب ومن بينهم الملك عبد العزيز لمنع عملية التهريب مقابل ما يفرضه الملك من مساعدات مالية وعسكرية.
عندما كان فيلبي في الرياض بلغت أخبار هجمات جيش الشريف على بلدة الخرمة حيث تمكن أهلها الموالين للملك من صد هجمات الشريف، في حين لم يقدم الملك لأهل الخرمة أي دعم ملتزماً بالاتفاق مع بريطانيا في عدم التعرض للشريف، عندئذ أصبح واضحاً لدى فيلبي حجم القوة الهائلة للملك عبد العزيز فأرسل فيلبي إلى حكومته قائلاً : أن بريطانيا ستكون مخطئة في سياستها إذا استمرت تتجاهل قوة ابن سعود.
اختلاف المصالح بعد الحرب العالمية الأولى :
وقعت الخلافات بين الملك عبد العزيز وبريطانيا بسبب اختلاف المصالح بين الطرفين. ومن أهم ما جاء فيها :
مع نهاية الحرب العالمية الأولى في أوائل عام (1337هـ) الموافق نهاية عام (1918م) قررت بريطانيا قطع المساعدات عن الملك عبد العزيز بدون أي اتفاق مسبق معللة بذلك هزيمة العثمانيين وعدم الحاجة لتلك المساعدات، ولما بلغ الخبر للملك عبد العزيز وجه تحذيراً لجون فيلبي قائلاً : (من سيثق بكم بعد هذا؟ إن أهل نجد الذين انتقدوا دائماً سياستي بالتحالف معكم كانوا على حق في ذلك. ماذا سأقول لهم الآن؟ ليس هناك الآن إلا خياران يمكنني القبول بهما : إما أن تدع تخالفنا النشط ضد العدو يعاد تأكيده، وتقوم حكومتك بما عليها من مساعدة لي بالمال والمعدات أو تضمن لي عدم الاعتداء علي من أعدائي)[5].
انقسم السياسيون البريطانيون المختصون في شؤون الشرق الأوسط إلى مجموعتين : الأولى المدرسة الإنجلو-مصرية، ويؤيد أتباعها الشريف حسين. والثانية المدرسة الإنجلو-هندية، ويؤيد أتباعها الملك عبد العزيز[6].
انعقد في لندن مؤتمر دوائر الشرق الأوسط الأول في عام (08/06/1337هـ) الموافق (10/03/1919م) بهدف إعادة النظر في السياسة البريطانية تجاه المنطقة العربية، وتقويم موقف بريطانيا تجاه الصراع بين الملك عبد العزيز والشريف حسين، وقد افتتح رئيس المؤتمر قوله : (سياستنا سياسة الحسين)، كما عبرت قرارت المؤتمر الختامية تخويل الشريف حسين صلاحية الاستيلاء على واحه الخرمة، وتحذير ابن سعود من القيام بأي عمل تجاه الشريف، وفي المؤتمر تجاهل المؤتمرون وجه نظر سانت جون فيلبي [7].
بعد شهرين ونصف تقريباً من انتهاء المؤتمر السابق، حصلت المفاجأة الكبرى أمام بريطانيا العظمى إذا تقابل جيش الملك عبد العزيز المتمثل في الأخوان وجيش الشريف في معركة تربة وانتهت المعركة بفوز ساحق لجيش الملك عبد العزيز على خصمه. وبعد تلك المعركة بدأت الاستراتيجية البريطانية التخلص تدريجياً من التزاماتها مع الشريف حسين.
انعقد في لندن مؤتمر دوائر الشرق الأوسط الثاني في عام (20/12/1337هـ) الموافق (15/09/1919م) وقد أشار رئيس المؤتمر مخاطباً فيلبي : (هل في وسعك يا سيد فيلبي مساعدتنا بصورة من الصور، فقد برهنت على صحة رأيك بالنسبة إلى التطورات تمام البرهان)، فأجابه فيلبي (إن ابن سعود لن يواصل زحفه لأنه أكثر حكمة من أن يلحق الإساءة في علاقاته ببريطانيا من خلال التوسع في الحجاز) [8].
طلبت الحكومة البريطانية من الملك عبد العزيز إرسال وفد إلى بريطانيا للتفاوض، فأرسل الملك نجله فيصل – وكان عمره آنذاك 13 عاماً – وأرسل معه وفداً للتفاوض وكان ذلك في عام (ذو الحجة/1337هـ) الموافق (سبتمبر/1919م).
جرى اجتماع في العقير بين الملك عبد العزيز وبرسي كوكس في عام (12/1338هـ) الموافق (08/1920م) ومن أهم ما جاء في الاجتماع أن أخبر برسي كوكس الملك نية بريطانيا في تعيين فيصل بن الشريف ملكاً على العراق بعد أن فقد عرشه في سوريا.
انعقد في القاهرة المؤتمر الخاص بالشرق الأوسط في عام (03/07/1339هـ) الموافق (12/03/1921م) وتقرير تعيين فيصل بن الشريف ملكاً على العراق، وكذلك تعيين عبد الله بن الشريف ملكاً على شرق الأردن. وفي جهة أخرى بدأت تتشكل مفاوضات بين بريطانيا وأمير حائل.
بعد أن رأى الملك عبد العزيز أن الإنجليز أحاطوه بشريط من الحكام الأشراف قرر التوجه إلى بلده حائل وضمها إلى حكمه وقد تحقق له ذلك مع بداية عام (1340هـ) الموافق نهاية عام (1921م).
انعقد مؤتمر المحمرة بين نجد والكويت بإشراف برسي كوكس - المندوب السامي البريطاني في العراق - ثم عقبه مؤتمر العقير وتم تعيين الحدود بين البلدين وكان ذلك في عام (1341هـ) الموافق (1922م)، ولما سُئل برسي كوكس عن سبب تحيزه إلى الملك عبد العزيز أجاب : (لو لم يعط ابن سعود الأراضي التي طالب بها لكان قد أخذها بالقوة)[9]. كما جرى في مؤتمر العقير محاولة لتعيين الحدود بين نجد والعراق ولكن غارات القبائل بين البلدين لم تساعد في نجاح المؤتمر.
التزام بريطانيا موقف الحياد :
طلبت الحكومة البريطانية عقد مؤتمر الكويت بين نجد والعراق وبين نجد وشرق الأردن وبين نجد والحجاز واشترط الملك عبد العزيز أن تكون المفاوضات كلاً على حده، وتم الاجتماع في عام (1342هـ) الموافق (1923م) برئاسة نوكس - المقيم السياسي البريطاني – واستمر الاجتماع بضعة أشهر ولم يتوصل الجميع إلى حل. وفي تلك الأثناء كانت القبائل العربية على الحدود تسرح وتمرح بالغارات على بعضها. وبعد فشل المؤتمر قرر الملك عبد العزيز الاتجاه إلى الحجاز وضمها إلى حكمه. ولم رأت الحكومة البريطانية إصرار الملك على ذلك ألتزمت الحياد وأعلنت أن الموضوع : مسألة إسلامية.
أمر الملك عبد العزيز رجاله من الأخوان بالتوجه إلى الطائف في عام (1343هـ) الموافق (1924م)، فتمكنوا من دخول الطائف ثم مكة المكرمة، ثم بدأ حصار جدة الذي استمر عاماً تقريباً حتى يسر الله للملك من توحيد الحجاز وضمها إلى حكمه.
في أثناء حصار جدة شعرت الحكومة البريطانية أن الملك عبد العزيز ينوي التوجه إلى العراق وشرق الأردن وضمها إلى حكمه بعد الانتهاء من الحجاز، عندئذ أرسلت الحكومة البريطانية مندوبها كلايتون للتفاوض مع الملك عبد العزيز بشأن الحدود مع العراق وشرق الأردن فتم توقيع اتفاقية بحرة بين الملك والحكومة العراقية، كما تم توقيع اتقافية حدة بين الملك وحكومة شرق الأردن وكان ذلك في عام (1344هـ) الموافق (1925م). وبعد هذه الاتفاقيتين بشهر ونصف تم توقيع اتفاقية تسليم جدة إلى الملك عبد العزيز.
وفي عام (18/11/1345هـ) الموافق (20/05/1927م) تم توقيع معاهدة جدة وإلغاء معاهدة دارين بعد اثناعشر عام من توقيعها، وكان من أهم ما جاء فيها[10] :
1. السماح للملك عبد العزيز أن يُقيم علاقات دبلوماسية وشراء السلاح مع أي دولة دون تدخل بريطانيا.
2. رفض الملك عبد العزيز الاعتراف بالوضع الخاص لبريطانيا في فلسطين باعتبارها أراضي إسلامية مقدسة لا يجوز أن تخضع لقوة غير إسلامية.
3. إلغاء جميع الامتيازات الأجنبية في الحجاز التي منحها العثمانيون للرعايا الأوروبيين دون سواهم في مجال القضاء والقوانين الجنائية والمدنية.
اضطربت الأحوال بين بريطانيا والملك عبد العزيز بشأن مشكلات الحدود بين نجد والعراق في عامي (1346-1347هـ) الموافق (1927-1928م