- الجمعة ديسمبر 09, 2011 3:40 pm
#41496
منقول ...
“لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.”
- المادة (١٩) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
يتصور البعض أننا عندما نتحدث عن “حقوق الإنسان” أننا نتحدث عن مسألة ترفية لا تمس مباشرة واقع الإنسان، هذا الواقع الذي لا أعلم كيف، لكنه فجأة يتقلص إلى مسألة مالية أو غذائية أو أمنية. البعض الآخر، ينظر للمسألة باعتبار أننا- أولئك الذين يدعون لمثل هذه الحقوق- متأثرين بالغرب، وأننا نروج لأفكار تتعارض في جوانب منها مع الشريعة والدين…إلخ هذا الكلام. في الحقيقة، أن كل هذا الكلام لا معنى له. وسأحاول قدر الإمكان توضيح أن “السعودي” هو من أكثر الناس قدرة على تخيل وفهم معنى هذه الحقوق ومدى استحقاق كل إنسان لها، وذلك- ببساطة- لأنه حديث عهد بدولة حديثة. فالمطالبة بحقوق الإنسان مرتبطة ارتباطا جذريا بظهور الدولة الحديثة وطبيعتها السيادية. والمدخل الذي سأستخدمه في توضيح هذا الأمر، لن يكون أكثر من قصة الإنسان السعودي، الذي انتقل من “القرية” إلى “الدولة”، ولن تكون حقوق الإنسان، إلا تلك التي كان يتمتع بها في “قريته” ليجد نفسه مسلوبا منها في دولته، وسنبدأ بالحق في التعبير عن الرأي.
أنا سعودي، لكن جدي ليس كذلك. ولعل ارتفاع معدلات البطالة في نفس الوقت التي تتزايد فيه أعداد العمالة الأجنبية في البلاد سيجعل القارئ -الذي بدأ يعاني من رهاب الأجانب الذين تحولو إلى كبش فداء يحملهم كل مشاكله الحياتية- يفهم أن معنى الجملة السابقة أني “مجنس”، وهذا ليس صحيحا. فجدي كان “بريداويا”، ولكنه لم يكن سعوديا لأن الدولة لم تقم بعد، واعتقد أن نسبة كبيرة من السعوديين لم يكن أجدادهم سعوديين، أو على الأقل عاشوا الفترة الكبرى من حياتهم وهم ليسوا سعوديين. وكل ما سأفعله هنا هو مقارنة بين الحقوق التي كان يتمتع بها جدي “البريداوي” وأنا “السعودي”. أنا وهو عشنا في نفس المكان، كلنا عشنا في بريدة، لكن هو عاش في بريدة التي لم تكن جزءا من دولة حديثة، وأنا عشت فيها بعد أن أصبحت جزءا من هذه الدولة.
وقبل أن أبدأ المقارنة، لأتحدث قليلا عن معنى التعبير عن الرأي. كلنا نفكر، ونفكر باشياء كثيرة، وإيقاف عملية التفكير في داخلنا قد لا يمكن أن تتم إلا بالموت نفسه. وكنتيجة لعملية التفكير المستمرة هذه يحدث أن تتولد لدينا آراء بخصوص أمور معينة. رأي حول كيف يجب عليه أن تكون الأمور الاقتصادية، ورأي حول كيف يجب أن تكون عليه الأمور العسكرية، ورأي حول كيف يجب أن تكون عليه الأمور السياسية، ورأي في الأمور الدينية، والاجتماعية….إلخ. هل يحق لنا التعبير عن هذه الآراء؟ أم علينا ابتلاعها في داخلنا؟
قد يبدو السؤآل سخيفا بهذا الشكل، لكن بمجرد أن نتبين معنى “التعبير عن الرأي” ستزول سخافته. التعبير عن الرأي أمر مختلف عن مجرد “النطق” به. أنا مثلا لدي رأي في كيفية إدارة ميزانية البلاد، أستطيع أن أنطق بهذا الرأي في الاستراحة التي أستأجرها مع اصدقائي في أطراف بريدة، وأستطيع كذلك أن أنطق به في البيت… هل أكون بذلك مارست حقي بالتعبير عن الرأي؟ الجواب: لا. لماذا؟ علينا أن نعود إلى بريدة التي عاش فيها جدي سابقا لنفهم ذلك.
في بريدة القديمة لم تكن هناك “حكومة” بالمعنى الذي توجد فيه الآن. كان هناك أمير، وكان هناك قاضي، وكان هناك بعض الجند والعساكر. وفي ذلك الوقت لم تكن هناك جرائد وصحف وقنوات تلفازية وانترنت، كانت الأخبار تنتقل بشكلها القديم بين الأماكن، فكان جدي اذا اراد معرفة أخبار محددة عن الشام أو الهند أو العراق أو عنيزة، كان عليه أن يذهب إلى السوق ويسمع من التجار القادمين من تلك البلدان ويتعرف من خلالهم على أخبارها. لم تكن هناك مؤسسات حكومية متخصصة بنقل الأخبار والتحكم فيما يذاع وما لا يذاع. كان جدي بقدراته الذهنية المحدودة وخبرته في التعامل مع الأشخاص يستطيع تحديد الخبر الصحيح من الإشاعة من خلال ثقته بهذا الفرد أو ذاك. في السوق- يدعى في بريدة “سوق الجردة”- كان يجتمع التجار والباعة من كافة الأنحاء ويتبادلون الاخبار وكان كل واحد منهم يستطيع الوصول إلى الخبر بكل سهولة وسلاسة وكان يستطيع من مجموع الأخبار والمعلومات التي يتوصل إليها أن يكون رأيه المستقل فيها ويعبر عنه في هذا الفضاء العام دون أن يتعرض لمسائلة أو يستأذن من أحد أو يراقبه أحد. فمثلا عندما سمع جدي بأن مصر وقعت تحت حكم البريطانيين، اعتبر ذلك أمرا مفيدا لهم، على الرغم من أن ناقل الخبر كان معارضا للوجود الإنجليزي هناك: لم نسمع أن عساكر أمير بريدة دخلت سوق الجردة وقبضت على جدي لأنه عبر عن مثل هذا الرأي، الذي سيعتبر في أيامنا هذه “خيانة” و”انعدام وطنية”.
مات جدي، وبدأ عهد جديد، عهد الدولة الحديثة التي أصبحت بريدة جزءا منها. الدولة الحديثة كما قلنا سابقا تعتمد في بقائها وتطورها وقوتها على توظيف سيادتها المطلقها على المقدرات والطاقات والقوى البشرية الموجودة ضمن حدودها السياسية… في عملية تدعوها “التنمية”. ولتحقيق عملية تنموية ناجحة فإن الدولة بحاجة لجهاز حكومي أكثر تعقيدا من الحكومة التي كانت تحكم بريدة زمن جدي، كما أنها بحاجة لمعلومات متعددة وتفصيلية عن الدولة التي ستقام فيها عملية التنمية: هكذا تنشأ مصلحة احصاءات عامة، وكذلك هي بحاجة لتتابع الاحداث اليومية في العالم من حولها وفي الداخل فيها من أجل ضمان سير العملية التنموية ضمن الخطة المتبعة، وهكذا يتم انشاء وكالة أنباء وصحف وجرائد وقنوات تلفزيونية… ولأن العملية التنموية هذه يهدف من ورائها توفير شروط حياة عالية للأفراد الذين يعيشون في هذه الدولة: نظام تعليمي عالي، وخدمات صحية متقدمة، ومواصلات متطورة….إلخ، وكذلك لأنه لابد من استثمار هؤلاء الافراد وجعلهم وسيلة فعالة في هذه العملية التنموية: فإنه لا بد من تعليمهم، وإقناعهم بالسياسات العامة المتخذة. من هذه الزاوية، تلجأ بعض الدول لبناء نظام تعليمي يحشو رأس التلميذ بالمعلومات التي ترى هي أنه بحاجة إليها من أجل “مصلحة الوطن”، ومن بين الأخبار الكثيرة التي تجمعها عن العالم من حولها والآراء المتعددة المحيطة به، فإنها تنتقي أخبارا محددة وتسمح بنشر آراء محددة تتماشى مع “سياساتها العامة” المفضية للـ”صالح العام”.
لنعد بناء الصورة من جديد: الدولة الحديثة تقوم بعملية التنمية، تؤدي هذه العملية لتضخم الدولة وتحكمها في مجالات لم تكن تتحكم فيها مسبقا من ضمنها نقل الاخبار ومساحات التعبير عن الرأي، إذا لم تكن هذه الدولة تحترم “حقوق الإنسان” فإنها ستنتهك حقه في الوصول للأخبار والتعبير عن آرائه حولها. “حقوق الانسان” هنا – إذا أردنا التبسيط- ليست أكثر من الحقوق التي كان يتمتع بها جدي.
فالتأكيد على حق الانسان في التعبير عن الرأي لم يطفو على السطح لأننا متأثرين بالغرب، أو لأننا نريد أن “نسب الدين” كما يروج بعض المتدينين، بل طفى على السطح لأن شيئا جديدا طرأ بدأ يسلب هذا الحق منا أو يهدده بعد أن كان أجدادنا يمارسونه بسهولة، وهذا الشيء الجديد هو “الدولة” بمعناها الحديث. كيف نحل هذه المسألة؟ هل نعود لنمط الحياة القديم؟ الجواب: لا. لنشاهد التجارب الأخرى من حولنا. مثلا في أمريكا، هناك لائحة مثبته مع الدستور تسمى “لائحة الحقوق” تنص مادتها الأولى على “أن الكونجرس لن يسن أي قانون يحد من التعبير عن الرأي” أو يؤدي لـ”الحجر على الصحافة”. ماذا يعني هذا؟ يعني أن أي أمريكي باستطاعته أن ينشئ صحيفة، وأن من حقه أن يذهب لأي جهة حكومية ويطالبها بالافصاح عن المعلومات التي يحتاجها، وإذا كانت تلك المعلومات “سرية” أو تتعلق “بالأمن القومي” فإنه يتم الكشف عنها للناس بعد ثلاثين سنة في بعض الدول وخمس عشرين سنة في دول أخرى. يستطيع كل أمريكي أن يقول ما يشاء متى شاء كيفما شاء. احترام حق الإنسان هذا في الوصول إلى الأخبار، وابداء الرأي فيما يحدث حوله من أحداث وظواهر، لم يعق الولايات المتحدة الأمريكية من أن تكون الدولة ذات أعظم اقتصاد عالمي وأقوى قوة سياسية عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ. بالمقابل، لم يؤدي التحفظ المبالغ فيه في السعودية في نقل الأخبار أو سقف الحرية المتدني للتعبير عن الرأي إلى تطورات تنموية هائلة، فما زال تصنيفنا عالميا ضمن دول “العالم الثالث” وإن كنا نحضر اجتماعات “الدول العشرين”.
قد لا يقنعك هذا الكلام، قد تقول “ولو، هذا موضوع ثانوي ومسألة ترف وشي نخبوي”. سأقول لك: لنعد قليلا إلي العام ١٩٩٩م حيث تم ادخال وسيط الانترنت. هذا الوسيط يختلف عن الاذاعة والتلفاز والصحافة، حيث لا يمكن بحال التحكم به مركزيا. فهو فضاء عام بين طرفين، بيني وبينك مباشرة، واستطيع ان اصل إليك مهما حاولت الحكومة وضع الحواجز بيننا. عندما تم تدشين الانترنت، كان تلقف الناس له أسرع بكثير من تنظيم الحكومة له. فمثلا قانون الجرائم الالكترونية جاء بعد دخوله بأعوام، وما أعلنته وزارة الاعلام من تنظيم النشر الالكتروني جاء بعد أكثر من عشرة آعوام. وعلى الرغم من الحجب لكثير من المواقع إلا أن السعوديين أسسوا منتديات، وصحف إلكترونية، ومدونات، ومواقع إخبارية ومجموعات بريدية، وأصبح اعتمادهم على الخبر الإلكتروني وثقتهم به أكثر من الخبر الرسمي. خذ مثلا متابعة أخبار أمطار جدة، وانتشار أخبار “المعتقلين السعوديين”، لو لم يكن هناك انترنت هل كنا سنصدق بأن مثل هذا الشيء موجود؟ في إحدى روايات جابرييل جارسيا ماركيز “مائة عام من العزلة” يحكي قصة رجل شهد عملية ابادة جماعية في محطة قطار، وعندما عاد لقريته يخبرهم بما رآه لم يصدقه أحد انطلاقا من أن خبرا بهذا الحجم لابد أن يذاع في التلفاز. وفي فلم “احنا بتوع الاوتوبيس” -من الساعة الثانية والدقيقة السابعة وما بعد-يتابع المساجين السياسيين أخبار حرب مصر واسرائيل عام ١٩٦٧م عبر المذياع الذي ينقل أشياء كثيرة لم تحدث أبدا على أرض الواقع. لكن في الثورة المصرية الأخيرة، حاول التلفزيون المصري أن يزيف ما يحدث على أرض الواقع لكن الاخبار التي كان يرفعها الناس العاديين على الانترنت عكست واقعا مختلفا عن الواقع “الرسمي”.
فعندما نطالب بحقنا الإنساني بالوصول للمعلومة ومعرفة الأخبار والتعبير عن آرائنا، فنحن لا نطالب بذلك نتيجة تأثرنا بالغرب، ولا نطالب بذلك لأن “ديننا أقل”، بل- وببساطة شديدة- نطالب بما كان يتمتع بها أجدادنا قبل أقل من ثمانين سنة. إن قرائتك لهذه الأسطر الآن التي أقوم فيها أنا بالتعبير عن رأي ما في مسألة ما مثال واحد من أمثلة الحق في التعبير عن الرأي، ولكنها متاحة للأسف الشديد ليس لأنه حق مكفول لي، ولكن فقط لأن وسائل الرقابة والتحكم بوسيط الانترنت متخلفة لدينا… ففي الصين مثلا، ولأن الدولة متقدمة – التقدم هنا يعني تقدم تقني بحت، أي تطور أدوات ووسائل القمع- تستطيع الدولة إخفاء خبر بحجم مذبحة في الميدان السماوي راح ضحيتها الآلاف عن مواطنيها لأكثر من عشرين سنة ويعرف عنها العالم كله ما عدا أبناء الوطن نفسه.
“لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.”
- المادة (١٩) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
يتصور البعض أننا عندما نتحدث عن “حقوق الإنسان” أننا نتحدث عن مسألة ترفية لا تمس مباشرة واقع الإنسان، هذا الواقع الذي لا أعلم كيف، لكنه فجأة يتقلص إلى مسألة مالية أو غذائية أو أمنية. البعض الآخر، ينظر للمسألة باعتبار أننا- أولئك الذين يدعون لمثل هذه الحقوق- متأثرين بالغرب، وأننا نروج لأفكار تتعارض في جوانب منها مع الشريعة والدين…إلخ هذا الكلام. في الحقيقة، أن كل هذا الكلام لا معنى له. وسأحاول قدر الإمكان توضيح أن “السعودي” هو من أكثر الناس قدرة على تخيل وفهم معنى هذه الحقوق ومدى استحقاق كل إنسان لها، وذلك- ببساطة- لأنه حديث عهد بدولة حديثة. فالمطالبة بحقوق الإنسان مرتبطة ارتباطا جذريا بظهور الدولة الحديثة وطبيعتها السيادية. والمدخل الذي سأستخدمه في توضيح هذا الأمر، لن يكون أكثر من قصة الإنسان السعودي، الذي انتقل من “القرية” إلى “الدولة”، ولن تكون حقوق الإنسان، إلا تلك التي كان يتمتع بها في “قريته” ليجد نفسه مسلوبا منها في دولته، وسنبدأ بالحق في التعبير عن الرأي.
أنا سعودي، لكن جدي ليس كذلك. ولعل ارتفاع معدلات البطالة في نفس الوقت التي تتزايد فيه أعداد العمالة الأجنبية في البلاد سيجعل القارئ -الذي بدأ يعاني من رهاب الأجانب الذين تحولو إلى كبش فداء يحملهم كل مشاكله الحياتية- يفهم أن معنى الجملة السابقة أني “مجنس”، وهذا ليس صحيحا. فجدي كان “بريداويا”، ولكنه لم يكن سعوديا لأن الدولة لم تقم بعد، واعتقد أن نسبة كبيرة من السعوديين لم يكن أجدادهم سعوديين، أو على الأقل عاشوا الفترة الكبرى من حياتهم وهم ليسوا سعوديين. وكل ما سأفعله هنا هو مقارنة بين الحقوق التي كان يتمتع بها جدي “البريداوي” وأنا “السعودي”. أنا وهو عشنا في نفس المكان، كلنا عشنا في بريدة، لكن هو عاش في بريدة التي لم تكن جزءا من دولة حديثة، وأنا عشت فيها بعد أن أصبحت جزءا من هذه الدولة.
وقبل أن أبدأ المقارنة، لأتحدث قليلا عن معنى التعبير عن الرأي. كلنا نفكر، ونفكر باشياء كثيرة، وإيقاف عملية التفكير في داخلنا قد لا يمكن أن تتم إلا بالموت نفسه. وكنتيجة لعملية التفكير المستمرة هذه يحدث أن تتولد لدينا آراء بخصوص أمور معينة. رأي حول كيف يجب عليه أن تكون الأمور الاقتصادية، ورأي حول كيف يجب أن تكون عليه الأمور العسكرية، ورأي حول كيف يجب أن تكون عليه الأمور السياسية، ورأي في الأمور الدينية، والاجتماعية….إلخ. هل يحق لنا التعبير عن هذه الآراء؟ أم علينا ابتلاعها في داخلنا؟
قد يبدو السؤآل سخيفا بهذا الشكل، لكن بمجرد أن نتبين معنى “التعبير عن الرأي” ستزول سخافته. التعبير عن الرأي أمر مختلف عن مجرد “النطق” به. أنا مثلا لدي رأي في كيفية إدارة ميزانية البلاد، أستطيع أن أنطق بهذا الرأي في الاستراحة التي أستأجرها مع اصدقائي في أطراف بريدة، وأستطيع كذلك أن أنطق به في البيت… هل أكون بذلك مارست حقي بالتعبير عن الرأي؟ الجواب: لا. لماذا؟ علينا أن نعود إلى بريدة التي عاش فيها جدي سابقا لنفهم ذلك.
في بريدة القديمة لم تكن هناك “حكومة” بالمعنى الذي توجد فيه الآن. كان هناك أمير، وكان هناك قاضي، وكان هناك بعض الجند والعساكر. وفي ذلك الوقت لم تكن هناك جرائد وصحف وقنوات تلفازية وانترنت، كانت الأخبار تنتقل بشكلها القديم بين الأماكن، فكان جدي اذا اراد معرفة أخبار محددة عن الشام أو الهند أو العراق أو عنيزة، كان عليه أن يذهب إلى السوق ويسمع من التجار القادمين من تلك البلدان ويتعرف من خلالهم على أخبارها. لم تكن هناك مؤسسات حكومية متخصصة بنقل الأخبار والتحكم فيما يذاع وما لا يذاع. كان جدي بقدراته الذهنية المحدودة وخبرته في التعامل مع الأشخاص يستطيع تحديد الخبر الصحيح من الإشاعة من خلال ثقته بهذا الفرد أو ذاك. في السوق- يدعى في بريدة “سوق الجردة”- كان يجتمع التجار والباعة من كافة الأنحاء ويتبادلون الاخبار وكان كل واحد منهم يستطيع الوصول إلى الخبر بكل سهولة وسلاسة وكان يستطيع من مجموع الأخبار والمعلومات التي يتوصل إليها أن يكون رأيه المستقل فيها ويعبر عنه في هذا الفضاء العام دون أن يتعرض لمسائلة أو يستأذن من أحد أو يراقبه أحد. فمثلا عندما سمع جدي بأن مصر وقعت تحت حكم البريطانيين، اعتبر ذلك أمرا مفيدا لهم، على الرغم من أن ناقل الخبر كان معارضا للوجود الإنجليزي هناك: لم نسمع أن عساكر أمير بريدة دخلت سوق الجردة وقبضت على جدي لأنه عبر عن مثل هذا الرأي، الذي سيعتبر في أيامنا هذه “خيانة” و”انعدام وطنية”.
مات جدي، وبدأ عهد جديد، عهد الدولة الحديثة التي أصبحت بريدة جزءا منها. الدولة الحديثة كما قلنا سابقا تعتمد في بقائها وتطورها وقوتها على توظيف سيادتها المطلقها على المقدرات والطاقات والقوى البشرية الموجودة ضمن حدودها السياسية… في عملية تدعوها “التنمية”. ولتحقيق عملية تنموية ناجحة فإن الدولة بحاجة لجهاز حكومي أكثر تعقيدا من الحكومة التي كانت تحكم بريدة زمن جدي، كما أنها بحاجة لمعلومات متعددة وتفصيلية عن الدولة التي ستقام فيها عملية التنمية: هكذا تنشأ مصلحة احصاءات عامة، وكذلك هي بحاجة لتتابع الاحداث اليومية في العالم من حولها وفي الداخل فيها من أجل ضمان سير العملية التنموية ضمن الخطة المتبعة، وهكذا يتم انشاء وكالة أنباء وصحف وجرائد وقنوات تلفزيونية… ولأن العملية التنموية هذه يهدف من ورائها توفير شروط حياة عالية للأفراد الذين يعيشون في هذه الدولة: نظام تعليمي عالي، وخدمات صحية متقدمة، ومواصلات متطورة….إلخ، وكذلك لأنه لابد من استثمار هؤلاء الافراد وجعلهم وسيلة فعالة في هذه العملية التنموية: فإنه لا بد من تعليمهم، وإقناعهم بالسياسات العامة المتخذة. من هذه الزاوية، تلجأ بعض الدول لبناء نظام تعليمي يحشو رأس التلميذ بالمعلومات التي ترى هي أنه بحاجة إليها من أجل “مصلحة الوطن”، ومن بين الأخبار الكثيرة التي تجمعها عن العالم من حولها والآراء المتعددة المحيطة به، فإنها تنتقي أخبارا محددة وتسمح بنشر آراء محددة تتماشى مع “سياساتها العامة” المفضية للـ”صالح العام”.
لنعد بناء الصورة من جديد: الدولة الحديثة تقوم بعملية التنمية، تؤدي هذه العملية لتضخم الدولة وتحكمها في مجالات لم تكن تتحكم فيها مسبقا من ضمنها نقل الاخبار ومساحات التعبير عن الرأي، إذا لم تكن هذه الدولة تحترم “حقوق الإنسان” فإنها ستنتهك حقه في الوصول للأخبار والتعبير عن آرائه حولها. “حقوق الانسان” هنا – إذا أردنا التبسيط- ليست أكثر من الحقوق التي كان يتمتع بها جدي.
فالتأكيد على حق الانسان في التعبير عن الرأي لم يطفو على السطح لأننا متأثرين بالغرب، أو لأننا نريد أن “نسب الدين” كما يروج بعض المتدينين، بل طفى على السطح لأن شيئا جديدا طرأ بدأ يسلب هذا الحق منا أو يهدده بعد أن كان أجدادنا يمارسونه بسهولة، وهذا الشيء الجديد هو “الدولة” بمعناها الحديث. كيف نحل هذه المسألة؟ هل نعود لنمط الحياة القديم؟ الجواب: لا. لنشاهد التجارب الأخرى من حولنا. مثلا في أمريكا، هناك لائحة مثبته مع الدستور تسمى “لائحة الحقوق” تنص مادتها الأولى على “أن الكونجرس لن يسن أي قانون يحد من التعبير عن الرأي” أو يؤدي لـ”الحجر على الصحافة”. ماذا يعني هذا؟ يعني أن أي أمريكي باستطاعته أن ينشئ صحيفة، وأن من حقه أن يذهب لأي جهة حكومية ويطالبها بالافصاح عن المعلومات التي يحتاجها، وإذا كانت تلك المعلومات “سرية” أو تتعلق “بالأمن القومي” فإنه يتم الكشف عنها للناس بعد ثلاثين سنة في بعض الدول وخمس عشرين سنة في دول أخرى. يستطيع كل أمريكي أن يقول ما يشاء متى شاء كيفما شاء. احترام حق الإنسان هذا في الوصول إلى الأخبار، وابداء الرأي فيما يحدث حوله من أحداث وظواهر، لم يعق الولايات المتحدة الأمريكية من أن تكون الدولة ذات أعظم اقتصاد عالمي وأقوى قوة سياسية عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ. بالمقابل، لم يؤدي التحفظ المبالغ فيه في السعودية في نقل الأخبار أو سقف الحرية المتدني للتعبير عن الرأي إلى تطورات تنموية هائلة، فما زال تصنيفنا عالميا ضمن دول “العالم الثالث” وإن كنا نحضر اجتماعات “الدول العشرين”.
قد لا يقنعك هذا الكلام، قد تقول “ولو، هذا موضوع ثانوي ومسألة ترف وشي نخبوي”. سأقول لك: لنعد قليلا إلي العام ١٩٩٩م حيث تم ادخال وسيط الانترنت. هذا الوسيط يختلف عن الاذاعة والتلفاز والصحافة، حيث لا يمكن بحال التحكم به مركزيا. فهو فضاء عام بين طرفين، بيني وبينك مباشرة، واستطيع ان اصل إليك مهما حاولت الحكومة وضع الحواجز بيننا. عندما تم تدشين الانترنت، كان تلقف الناس له أسرع بكثير من تنظيم الحكومة له. فمثلا قانون الجرائم الالكترونية جاء بعد دخوله بأعوام، وما أعلنته وزارة الاعلام من تنظيم النشر الالكتروني جاء بعد أكثر من عشرة آعوام. وعلى الرغم من الحجب لكثير من المواقع إلا أن السعوديين أسسوا منتديات، وصحف إلكترونية، ومدونات، ومواقع إخبارية ومجموعات بريدية، وأصبح اعتمادهم على الخبر الإلكتروني وثقتهم به أكثر من الخبر الرسمي. خذ مثلا متابعة أخبار أمطار جدة، وانتشار أخبار “المعتقلين السعوديين”، لو لم يكن هناك انترنت هل كنا سنصدق بأن مثل هذا الشيء موجود؟ في إحدى روايات جابرييل جارسيا ماركيز “مائة عام من العزلة” يحكي قصة رجل شهد عملية ابادة جماعية في محطة قطار، وعندما عاد لقريته يخبرهم بما رآه لم يصدقه أحد انطلاقا من أن خبرا بهذا الحجم لابد أن يذاع في التلفاز. وفي فلم “احنا بتوع الاوتوبيس” -من الساعة الثانية والدقيقة السابعة وما بعد-يتابع المساجين السياسيين أخبار حرب مصر واسرائيل عام ١٩٦٧م عبر المذياع الذي ينقل أشياء كثيرة لم تحدث أبدا على أرض الواقع. لكن في الثورة المصرية الأخيرة، حاول التلفزيون المصري أن يزيف ما يحدث على أرض الواقع لكن الاخبار التي كان يرفعها الناس العاديين على الانترنت عكست واقعا مختلفا عن الواقع “الرسمي”.
فعندما نطالب بحقنا الإنساني بالوصول للمعلومة ومعرفة الأخبار والتعبير عن آرائنا، فنحن لا نطالب بذلك نتيجة تأثرنا بالغرب، ولا نطالب بذلك لأن “ديننا أقل”، بل- وببساطة شديدة- نطالب بما كان يتمتع بها أجدادنا قبل أقل من ثمانين سنة. إن قرائتك لهذه الأسطر الآن التي أقوم فيها أنا بالتعبير عن رأي ما في مسألة ما مثال واحد من أمثلة الحق في التعبير عن الرأي، ولكنها متاحة للأسف الشديد ليس لأنه حق مكفول لي، ولكن فقط لأن وسائل الرقابة والتحكم بوسيط الانترنت متخلفة لدينا… ففي الصين مثلا، ولأن الدولة متقدمة – التقدم هنا يعني تقدم تقني بحت، أي تطور أدوات ووسائل القمع- تستطيع الدولة إخفاء خبر بحجم مذبحة في الميدان السماوي راح ضحيتها الآلاف عن مواطنيها لأكثر من عشرين سنة ويعرف عنها العالم كله ما عدا أبناء الوطن نفسه.