صفحة 1 من 1

الخوف والبرلمانات

مرسل: الأحد ديسمبر 11, 2011 10:43 am
بواسطة فيصل ناصر العتيبي

ت
منـح الصـلح

في اسطنبول عاصمة السلطنة العثمانية وفي ذهن نزيلها ووزير دائرة المعارف فيها الخالد الذكر سليمان البستاني ولدت للمرة الأولى شرارة الصحوة التاريخية في النضال السياسي العربي على ما تدبره الصهيونية والاستعمار الغربي ضد عروبة القدس

منذ العصر العثماني وشارع بيروت السياسي هو ساحة الصراع الأشد توهجاً وفعالية بين النضال العربي من أجل التقدم والتحرر والوحدة من جهة، ومشاريع الاستعمار الغربي في تفتيت الأمة العربية وإلهائها والحد من قدراتها وطموحاتها من جهة ثانية.

في اسطنبول عاصمة السلطنة العثمانية وفي ذهن نزيلها ووزير دائرة المعارف فيها الخالد الذكر سليمان البستاني ولدت للمرة الأولى شرارة الصحوة التاريخية في النضال السياسي العربي على ما تدبره الصهيونية والاستعمار الغربي ضد عروبة القدس.

وبعكس المزاعم والأقاويل التي بثتها جهات أجنبية ماكرة ومحلية ساذجة فإنه ليس صحيحاً الجزم بأن الديمقراطيات في العالم العربي كانت دائما تجربة فاشلة تستدعي أن يتطوع الأخيار وذوو النيات الطيبة لينقذوا البلاد منها.

بل إن الأقرب الى الواقع والحقيقة هو أن جهات متضررة من الوعي السياسي الذي جاءت الحياة البرلمانية تبثه بين الناس رأت أنه من الضروري التخلص، في أقرب وقت ممكن ، من هذه المؤسسة الخطرة، التي دأبها تفتيح الأعين على ما ينبغي أن يظل مخفياً من أعمال أو نيات الحاكمين.

هكذا جرى ويجري تشويه حقائق الحياة البرلمانية، فواقع الأمر أن البرلمان بأكثريته لم يكن يعكس تصورات ومفاهيم ووجهات نظر الحكومات ومن بيدهم الأمر بالدرجة الأولى، فليس صحيحاً أنه كان يغمط دائما وجهات نظر الحاكمين وأهل القرار ليكون بوق الجماهير والناس العاديين، بل كل ما في الأمر أنه وإن أعطى الفئة الحاكمة كل حقوقها وأكثر إلا أنه بطبيعته وطبيعة الحياة البرلمانية ظل يعطي للناس العاديين حقَ أن يجدوا في ما يسمعون أصواتاً تمثل رأيهم أيضاً الى جانب رأي الطبقة السياسية.

ذلك أن كل ما يطلبه الناس في بلداننا هو أن يبقى بين الأصوات الكثيرة المرتفعة أصوات ولو قليلة، يشعرون أنها منهم أو غير بعيدة عنهم، وإلا فكيف يمكن للنظام أن يصف نفسه بأنه ديمقراطي وجمهوري وأن شعبه وليس "ممثلوه" وحدهم هم أصحاب القرار؟

لقد دفعت دول عربية كثيرة غالياً ثمن احتكار فئة حاكمة ضيقة صفة تمثيل الشعب بكامله.

أما لبنان فكلّ ما يطمح إليه هو أن يفهم كل ذي سلطة فيه أنه يعتبر نفسه وطناً وشعباً وليس طبقة حاكمة ضيقة تفترض نفسها أنها هي وحدها الموجودة، الأمر الذي لم يحصل بعد ولن يحصل في لبنان بالتأكيد.

إن بعض البلدان في مناطق متعددة من هذا العالم لم تعطِ أهمية بما فيه الكفاية لمعنى وتطبيقات كلمة الديمقراطية التي عرفتها، ما أزعجها فيما بعد.

من هنا ضرورة أن لا يقع لبنان في ما وقع فيه غيره، بل يبقى الأحوج بين البلدان العربية الى ذلك، فإذا كان غير لبنان من الأوطان العربية يستطيع أن يعيش لمئة سبب وسبب من دون ديمقراطية كاملة فإن لبنان لا يستطيع أن يفعل ذلك.

لقد كُتب علينا كلبنانيين أن يعيش وطننا ظروفاً غير سهلة، ولا يجوز أن يستخف أحد منا بالتحديات التي تحيط بنا ومنها جوار إسرائيل التي تضمر للبنان الحقد الذي ما بعده حقد معتبرة إياه واحداً من الدول العربية الأخطر عليها فهي لا تغفر له اعتبار نفسه النقيض لكل ما تمثله تكويناً وأطماعاً ومخططات، ولا تغفر له أنه يعتبر نفسه طليعة النهضة في المنطقة العربية، بينما هي لا تفهم نفسها إلا على أنها وجدت لمحاربة النهضة العربية.

لقد استقل لبنان في العام 1943 ورئيس حكومته رياض الصلح يصوغ له الشعارات الأخطر على إسرائيل، وهي تلك التي تجمع بين الاستقلالية عن الأجنبي المستعمر، والانفتاح الايجابي على الحضارة العالمية فلبنان كما تصفه عبارة رياض الصلح الشهيرة "وطن عربي الوجه سيد مستقل يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب".

ولعل هذه الصيغة المعتدلة والمتشددة معاً هي ما أعطى لبنان دوره العربي وتنافسيته الحضارية في وقت واحد فهو على كونه أحد الأوطان العربية الأخطر على إسرائيل كان وظل رمز النهضوية البناءة في محيطه.

وما عداوة إسرائيل الحادة للبنان إلا دليل على تألقه الحضاري أيضاً وليس على صموده العسكري المادي في وجه أخطر عدو للأمة العربية.

وليس لبنان كما حاول كارهوه أن يصوروه بالخاصرة الرخوة في الجسم العربي، بل هو على النقيض من ذلك، هو الوطن العربي الاكثر تآخياً مع الشعب الفلسطيني منذ أيام زعامة الحاج أمين الحسيني في فلسطين، وهو الذي اتخذ من بلدة جونية الساحلية منفى اختياريا له في البيت نفسه الذي سكنه الرئيس الراحل فؤاد شهاب في ما بعد. فضلًا عن ان الطرابلسي فوزي القاوقجي كان قائدا عسكريا في الثورة الفلسطينية، وكذلك شأن المجاهد معروف سعد المناضل الصيداوي. بل ان بنت جبيل في الجنوب اللبناني ما كانت تعطي قيادتها من بين أهلها إلا لمن عرف عنه التعاون مع الثورة الفلسطينية. بل إن الجنوب لم يكن ليعترف بشاعرية شاعر الا اذا نظم قصائد في الثورة الفلسطينية المتميزة بالوعي المبكر على ثنائية الصهيونية والاستعمار فهما مرتبطان بالعداء لعدو واحد هو فلسطين العربية بينما الدول العربية غير موحدة الصف في دعم النضال الفلسطيني، اذ كان الكثير من القادة العرب يعتقد بل يبشر بإمكان التفريق بين الصهيونية والاستعمار الغربي.

ولعل السذاجة عند القادة العرب كانت أقوى حليف لثنائي الصهيونية والاستعمار في حربهما على الأمة العربية.

ولعل أبشع خسائر الأمة العربية في فلسطين إجماع العالم منذ تلك النكبة على أن المعركة كانت بين الشطارة اليهودية والتخلف العربي.