منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
By سعد الخثران
#41891
الجرائد الصامتة تسقط الأنظمة!

خلف الحربي
كان أخي يعمل قبطانا لأعالي البحار قبل أن يتفرغ لعمله الخاص، وفي كل بلد ترسو فيه سفينته كان نايف يحرص على أن يشتري أكبر قدر من الصحف التي تصدر في هذا البلد، كي يجلبها لشقيقه الأكبر «الذي هو حضرتنا»، لأنه كان يشعر بمقدار اهتمامي في ذلك الوقت بتأمل ما تحتويه الصحف في كل بلد من مواد صحفية، ومقدار حرية التعبير فيها بل وحتى طريقة الإخراج وعرض العناوين والصور والإعلانات، وفي إحدى المرات وصل إلى ليبيا في عهد ملك ملوك أفريقيا السابق معمر القذافي، وحين أراد شراء الصحف الليبية نبهه صاحب البقالة بأن الصحف المصرية موجودة في الخارج، ولكنه لاحظ إصراره على شراء صحف ليبية، فقال له باستغراب: «هل تمزح معي؟ ..لا أحد يقرأ الصحف الليبية .. نحن نعرضها فقط»!. وبالطبع حين وصلتني تلك الصحف فهمت ما كان يقصده صاحب البقالة، فقد كانت تلك الصحف «مسخرة» بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، ويكفي أن تعرفوا بأن إحدى هذه الصحف كتب عليها: «أسسها الطالب معمر القذافي حين كان طالبا في المتوسطة»!، ومثل هذه الصحف هي التي غيبت القذافي عن الوعي لأكثر من 40 عاما، وهي التي جعلته يهتف: «أنا معاي الملايين»، في الوقت الذي كانت فيه الملايين تبحث عنه كي تهديه رصاصة في الرأس.
وفي العراق أيام القائد الضرورة صدام حسين، أذكر أن الناس في بغداد كانوا يسألون ضيوفهم ما إذا كانوا أحضروا معهم صحفا أو مجلات خليجية أو عربية، لأنهم لم يكونوا يطيقون صحف البعث، ولا أحد يلومهم في ذلك، فالصحف كلها متشابهة وليس ثمة اختلاف بينها، باستثناء أسمائها، ويكفي أن تعرفوا أن صحيفة القادسية كانت تصدر عن الجيش العراقي!.. أي أن القارئ يحتاج إلى خوذة كي يقلب صفحاتها!، وبالطبع ساهمت هذه الصحف المتشابهة في تفاقم داء العظمة عند القائد الضرورة، وصورت له أن ملايين العراقيين يفتدونه بأرواحهم وأبنائهم، حتى جاءت لحظة الحقيقة التي رجم العراقيون فيها تمثاله بالأحذية واقتحموا قصره، في مشهد لن يغيب عن ذاكرة التاريخ.
وفي سورية، التي لا تختلف صحفها إطلاقا عن صحف البعث العراقي، حاول بشار الأسد في بداية حكمه أن يجرب الانفتاح الصحافي، فمنح ترخيصا لصحيفة «الدومري»، التي كان ناشرها الزميل المناضل الفنان علي فرزات، وكان صدور مثل هذه الجريدة الحرة في سورية شيئا لا يستوعبه العقل، ولو لم أكن أعرف علي فرزات لخمنت أنه يلعب لعبة خفية مع النظام، ولكن سرعان ما أغلقت الصحيفة لتسيطر على المكان من جديد الصحف البعثية التي لا يقرأها أحد، مثل تشرين والبعث والثورة، وهكذا دخل بشار الأسد في «البنج الصحافي»، وتخيل أن ملايين السوريين يذوبون في حبه ويهيمون إعجابا بممانعته، لذلك كانت صدمته كبيرة حين اكتشف فجأة أن السوريين يفضلون الموت برصاص الشبيحة على أن يبقى هو في الحكم. في أكثر من مكان تتكرر القصة ذاتها، حيث يظن الطاغية العربي أن الصحافة الحرة تهدد بقاءه فيقمعها ويسحقها ويمحو شخصيتها ويحارب الصحافيين في أرزاقهم ويحبسهم وينفيهم، وتكشف الأيام أن الخطر الحقيقي الذي يهدده يكمن في الصحافة المدجنة المنافقة التي تطبل لإنجازاته ليل نهار، فهي تخدره وتعزله عن شعبه وتغذي فيه نزوات الاستبداد وتخفي عنه المعلومات حتى تعميه عن كل ما حوله وتغيبه عن الوعي، وفي هذه اللحظة بالذات تقتحم الجماهير التي لا تقرأ الصحف الكاذبة قصره، فيصرح فيهم مذهولا مثل القذافي: «من أنتم؟!».