صفحة 1 من 1

التنميه في الدول الفقيره من التبعيه الى البدائل المتاحه*

مرسل: الثلاثاء ديسمبر 13, 2011 11:24 pm
بواسطة تركي المحارب5
" ليس المهم حجم قطعة اللحم التي نتناولها ، أو عدد مرات ترددنا على المصايف خلال عطلاتنا ، او نوعية السلع المستوردة التي نستطيع اقتناءها ، إن الشيء المهم هو احساسنا بالاشباع الذاتي المتزايد ، بثرواتنا ومسؤلياتنا المتزايدة "
تشي جيفارا
مقدمة :

بحصول الدول الفقيرة على استقلالها ، بدت قضية التنمية وكأنها أكثر القضايا إثارة للجدل وموضعاً للاهتمام . فقد وجدت هذه الدول نفسها في مواجهة تحديات بالغة الصعوبة ، بعضها يتصل بالنظام العالمي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية ، والبعض الآخر يتعلق بطبيعة البناءات الاجتماعية التي ورثتها هذه الدول من القوى الاستعمارية الأوروبية . وقد زاد هذا الموقف صعوبة ، ذلك التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين هذه الدول الفقيرة من ناحية ، والدول المتقدمة من ناحية أخرى . وأحد النتائج المترتبة على ذلك ، تحليل حالة التفاوت الدولي والوقوف على أسباب فقر وتخلف الدول " النامية " . وأحذ الكثيرون من حقوقيين ، وعلماء اجتماع ، ورجال اقتصاد يهتمون بدراسة هذا التفاوت ومحاولة علاجه ، بعضهم بنية طيبة وآخرين بنية سيئة .

إثر هذه الاهتمامات المتنوعة ظهر مفهوم " التنمية " بوصفه أداة أو وسيلة من خلالها تستطيع الدول الفقيرة مواجهة عوامل التخلف بتبنيها لخصائص أو سمات المجتمعات المتقدمة . ولقد بُذِلَتْ محاولات عديدة لتحديد معنى هذا المفهوم . نحن نرى أن التنمية هي عملية تستند الى الاستغلال الرشيد للموارد بهدف إقامة مجتمع حديث . وبهذا المعنى فالمجتمع المتقدم يتميز بتطبيق التكنولوجيا ، والتكافل الاجتماعي الواسع النطاق ، والتحضر والتعليم ، والحراك الاجتماعي فضلاً عن التوحدات الشعبية مع التاريخ والمنطقة والكيان القومي . بعبارة أخرى فإن التنمية تفترض توافر بعض الخصائص منها : الدينامية والتغيّر ، والتصنيع ، والاستقلال ، والتأثير ، والقوة ، والوحدة الداخلية . وبغضّ النظر عن دقّة وصدق تعريفنا للتنمية ، إلّا أنه يشير الى حقيقة أساسية هي ، أن التنمية عملية معقدة شاملة تضم فيما جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية . تلك حقيقة أساسية يتعين أخذها في الاعتبار سواء كنّا بصدد اقامة تصور عام لظاهرة التخلف أو تحديد دقيق لاستراتيجية التنمية .

التبعية :

إن التبعية ليست مجرد سلب الموارد والأرض والممتلكات . إنها قبل كل شيء سلب لانسانية الانسان القاطن في دول الفقر ، سلب لهويته بالذات ولطاقته على النمو والابداع والتفتح على العالم . إذا يَفرِضُ علينا هذا المصطلح دراسة ظاهرة المساعدات الاقتصادية الخارجية الممنوحة للدول الفقيرة . إذ يذهب البعض الى أن هذه المساعدات تصدر عن مشاعر انسانية خيّرة نبيلة تحملها الدول المتقدمة ازاء الدول الفقيرة والمتخلفة . رغم زيف هذه التصورات ، إلا أن الأمر يتطلب نظرة فاحصة متأنية نتمكن من خلالها ابراز ما هو كامن ومستتر . إن المساعدات الاقتصادية الخارجية التي تتلقاها الدول الفقيرة لا تمثل حركات ذات اتجاه واحد بقدر ما تمثل ضرباً من التبادل الاجتماعي . فالدول الغنية قد تقدم مساعدات ( رؤوس أموال وتكولوجيا وخبراء ) للدول الفقيرة ، ولكنها ( أي المتقدمة ) تحصل بعد ذلك على مقابل أعظم هو أن تظل الدول الفقيرة في حالة تبعية دائمة . واضح إذاً أن المشاعر الانسانية النبيلة تخفي وراءها ارادة السيطرة والتحكم . واذا كانت الدول المتقدمة تقدم مساعدات اقتصادية للدول الفقيرة ، فإن الأولى تحصل بعد ذلك من الثانية على مكاسب سياسية من انواع مختلفة .

وأياً كانت الأهداف التي تتبناها الدول المتقدمة ، فأننا لا نستطيع تصور المساعدات الاقتصادية على أنها عملية سياسية – اجتماعية – ثقافية أيضاً . والملاحظ أن جانباً من المساعدات الاقتصادية يأخذ شكل المنح . أما في حالة القروض فغالباً ما تكون نسبة الفوائد منخفضة وأقل من من المعاملات المالية في الظروف الطبيعية . غير أن هذه القروض واجبة السداد بعد ذلك ، ومن ثم فهي أقرب الى التسليف منها الى الإحسان . ولقد أصبحت أغلب الدول المتخلفة الآن تعاني من عبء هذه القروض وفوائدها التي تتراكم عاماً بعد عام ، الى الحد الذي جعل بعض هذه الدول تخصص على الأقل ما يعادل ٣٠٪ من صادراتها لتسديد ديونها [1] . ولنا أن نتوقع بعد ذلك أن تمارس الدول المانحة تأثيرات وضغوط سياسية واقتصادية على الدول المتلقية . من ذلك – مثلاً – أن تفرض الأولى على الثانية ضرورة انفاق جزء من القروض في أراضيها هي ، وأن تشترط الحصول على انواع معينة من الصادرات .

فالدول المقرضة تمارس على الدول المقترضة تأثيرات وضغوط مباشرة وغير مباشرة حتى تطمئن على استخدام القروض في الأغراض والمشاريع التي تلائم مصالحها . وأحد هذه الأساليب التي تتبع في هذا المجال أن تطلب الدول المقرضة من الدول المقترضة ضرورة اجراء دراسات واقعية للتأكد من توظيف القروض في مكانها الصحيح . وواقع الأمر أن اجراء هذه الدراسات يتم بهدف التعرف على مدى أهمية وجدوى مشاريع معينة بالذات لا بغرض القاء نظرة عامة على مدى استغلال القروض في التنمية الزراعية مثلاً . وعادة ما تكون هذه الدراسات دقيقة وتفصيلية الى حد بعيد ، خاصة اذا ما كانت متعلقة بمشروع كبير كبناء سدّ مائي ضخم أو برنامج شامل كتنظيم الأسرة وخلال عمليات المفاوضات بين دولة متقدمة وأخرى متخلفة من أجل الحصول على قرض ، قد تطلب الأولى من الثانية مصارحتها بظروفها وأسرارها على نحو يتنافى مع الاحساس بالاستقلال . وقد يتخذ ذلك شكل زيارات عديدة يقوم بها خبراء الدول المتقدمة للدول المتخلفة بقصد التعرف على الظروف الواقعية ، ثم يصلون بعد ذلك الى رفض القرض الذي تحتاج اليه الدول المتخلفة الا اذا تغيرت بعض الأوضاع الاقتصادية والسياسية والقانونية والاجتماعية ، مما يعني مرة أخرى تأثيراً شاملاً من خلال عملية اقتصادية قد تبدو محدودة النطاق .

وتستطيع الدولة المقرضة ( أو المانحة ) أن تمارس بعد ذلك تأثيرات وضغوط عديدة على الدولة المقترضة ( أو المتلقية ) . فالقروض عادة ما تستخدم كبداية لحركة تستهدف تحريك البناء الاقتصادي ودفعه الى الأمام . وعادة ما تستخدم القروض في اطار مفهوم " الخطة القومية " . هنا تبدو الخطة القومية في الدول الفقيرة أشبه بمجموعة من المشاريع التصورية المنفصلة . فمفهوم الخطة يشير الى مدى واسع جداً ابتداء من مجرد تحديد الحكومة للقطاعات التي ترغب في تخصيص استثمارات لها وتشجيع أنواع معينة من الاستثمارات حتى تحديد أهداف بدقة وتبني سياسة مركزية صارمة بهدف مراقبة أو متابعة كل فرع من فروع الصناعة أو وحدة من وحدات الانتاج . غير أن علاقة الدولة المقرضة بالمقترضة لا تتوقف على مجرد رؤوس الأموال ، ولكنها تتعدى ذلك الى مجالات أخرى ليس آخرها التكنولوجبا التي تخضع على الدوام لتغييرات عديدة . وربما كانت المساعدات العسكرية مثالاً واضحاً على ذلك . فمن المعروف أن مجال الاسلحة الحربية يفتقد الى مواصفات عالمية واحدة ، مما يعني تبعية وارتباطا عضوياً من أجل الحصول على قطع الغيار اللازمة والمعدات الأكثر تقدما .

ولا تخلو اشارتنا هنا للمساعدات من دلالات سياسية واقتصادية واجتماعية أخرى . فالمساعدات العسكرية – وهي تشكل جانباً أساسياً من المساعدات – لا تسهم مباشرة في زيادة الانتاج أو رفع معدلات الاستهلاك . وعلى الرغم أن البيانات الدولية تميل الى استبعاد الارقام الخاصة بالمساعدات العسكرية ، الا ان بالامكان تفسير ذلك في ضوء الديناميات الكامنة وراء هذه المساعدات . ذلك أن ما يطلق عليه بالبرامج أو المشاريع الانسانية كتلك المتعلقة بالصحة أو الانتاج الزراعي قد تكون جزءا من استراتيجية عامة تهدف الى تحويل الدولة الفقيرة الى حليف للدولة المتقدمة ، مما يعني أيضاً التأثير على البناء الداخلي للدولة المتخلفة بما يتلائم مع التزامات الحليف . ان النظرة العابرة لبناء المجتمع الدولي المعاصر تكشف على الفور عن الارتباط المباشر بين نوعية وكثافة المساعدات الخارجية بمختلف أنواعها التي تحصل عليها الدول المتخلفة وطبيعة بناء القوة في هذا المجتمع . كذلك تشير النظرة الخاطفة الى ان تدفق المساعدات الخارجية على الدول المتخلفة المتلقية يقل – بصفة عامة – كلما عجزت الدول المتقدمة المانحة عن تغيير النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة في الدول المتلقية بما يتفق ورغبات الدول المانحة . وفي خضم هذه اللعبة نجد بعض الدول المتخلفة تحصل على عملات صعبة في مقابل أن تمنح تأييدها لمواقف سياسية معينة . وهكذا نجد أنفسنا في موقف تُشْتَرَى فيه المواقف السياسية وتنتفي فيه كل علامات الاستقلال الوطني .

ولا نستطيع أن نتوقع من برامج المساعدات هذه أن تحد من التفاوت الاجتماعي بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة . فالشواهد الاحصائية الدولية تشير الى أن الهوة بين هذه الدول في تزايد مستمر [2] . . ولقد قام بعض المفكرين والدارسين الى طرح قضية الثورة في الدول الفقيرة ، لكن الدلائل تشير الى الضعف العام في الاتجاهات الثورية في الدول الفقيرة في هذه الحقبة .

وتميل الدول المتخلفة الى استخدام مفهوم " الثورة " بمعاني متنوعة تشير الى أوضاع مختلفة . غير أن الملاحظ – باستثناءات ضئيلة – أن مفهموم " الثورة " مرتبط بتحقيق أهداف قومية خالصة . وعلى الرغم من حركات الاستقلال في بعض الدول الفقيرة ( أمثال الجزائر وأنجولا وموزمبيق ) قد استخدمت مفهوم " الثورة " استخداما خاصا ، الا أن معنى هذا المفهوم قد تغير حينما تمتلك هذه الحركات مقاليد الحكم [3] . يُستثنى من هذه الدول فيتنام التي حافظت فيها حركة الاستقلال على معنى مفهوم " الثورة " وخاصة في المجال الزراعي . وفضلاً عن ذلك نجد ان بعض الدارسين يجدون حلاً لمشكلة التبعية للدول الفقيرة فيما أطلقوا عليه " النموذج الثوري " في التنمية . ويستمد هذا النموذج قوته من مجموعة العناصر العديدة المتداخلة التي يتضمنها والتي يحتل كل منها أهمية خاصة منفصلة [4] . ولو نظرنا الى هذا " النموذج الثوري " في جملته ، وجدناه يتضمن خريطة فكرية للعالم ، خريطة تفسر كيف يسير العالم ، وتحدد مكوناته الاساسية . وحسب هذه الخريطة فإن الدول الفقيرة هي ضحايا للامبريالية والعولمة . كذلك فإن هذا النموذج يضع انسان العالم في اطار عالمي ، أي أنه يحدد له هويته ، ومن ثم يميز له أولئك الذين يشبهونه وأولئك الذين يخالفونه ويختلفون عنه . هنا نجد أن هذا الانسان منتميا لطبقة . وفضلاً عن ذلك فإن النموذج يساعد الانسان الفقير على التعرف على ماهيته ليس فقط في ضوء المفاهيم البنائية ، بل أيضاً في ضوء المفاهيم الأخلاقية ، أي أنه يعينه على فهم أنه مُسْتَغَلْ وهامشي . يُضاف الى ذلك كله حقيقة هامة هي أن هذا النموذج يضع أهدافا محددة للمجتمع المراد إقامته ، وبرنامجا واضحا ينير الطريق أمام العمل السياسي – الاجتماعي – الاقتصادي .

وقد تكون معالجتنا لقضية المساعدات الخارجية أكثر شمولاً وتحديدا اذا ما تناولنا الدور الذي لعبته أو ما يمكن ان تلعبه الهيئات الدولية في هذا المجال ، خاصة وأن مناقشاتنا السابقة كانت مقتصرة على دور المساعدات الصادرة من الدول المتقدمة للدول المتخلفة . ان من الأمورالتي يسهل ملاحظتها أن الدور الذي تلعبه الهيئات الدولية في السياسات الاقتصادية للدول الفقيرة ليس دوراً حيادياً على الاطلاق ، كما أنه ليس دورا محدودا أو مقتصراً على مجرد الاستشارة أو التوصل الى الحلول المثلى . ذلك ان الهيئات الدولية تميل على الدوام الى تدعيم السياسات التي تتبناها حكومات الدول الفقيرة الساعية الى الحصول على المساعدة الدولية . فإذا كانت حكومة دولة نامية تتبنى سياسة معينة ، فإن الاحتمال الأكبر هو أن تعاونها مع الهيئات الدولية في تدعيم هذه السياسة وانجاحها . واذا لم يتم التطابق بين سياستي الدول النامية والهيئات الدولية ، فإن الأمر ينتهي عادة بمفاوضات تؤدي الى بعض التنازلات من جانب الأولى ، على أن تظل الخطوط العريضة لسياستها قائمة . ومن الطبيعي أن يختلف هذا الموقف من دولة نامية لأخرى طبقاً لمدى وضوح سياستها الاقتصادية وعلاقتها بالهيئات الدولية . إن التعهد الذي تلتزم به الدول النامية تجاه الهيئات الدولية يتخذ النمط التالي : أن ترفع هذه الدول معدلات الاستهلاك ، وأن تزيد من مشاركة القطاع الخاص ، وتقلل من مشاركة القطاع العام في الصناعة ، وان تقلل من قيمة عملتها ، ومن ثم تغير من نظام الأسعار داخل الدولة .

استراتيجية الإفقار:

عادة ما يبدو دور الهيئات الدولية في الدول النامية وكأنه مقتصر على اعتبارات فنية خالصة لا علاقة لها بالمسائل الأيديولوجية . ولعل ذلك ما يبرر تركيز الهيئات الدولية على الشؤون المالية . غير أن هذا التركيز لا يعني فقط تجاهلاً لمشكلات أخرى ، ولكنه يتعارض باستمرار مع حل هذه المشكلات . فليس هناك في الدول الفقيرة مشكلة فنية خالصة . ويكفي لتوضيح ذلك أن نشير الى أن سياسات الهيئات الدولية تستند الى فهم عميق للظروف الخاصة لكل دولة من الدول الفقيرة ، مما يعني أنها تنطلق من تصورات وافتراضات استشراقية سيئة النية . ولو تأملنا تقارير الهيئات الدولية ، نلاحظ أنها تخلو من أية مناقشات جادة لآثار الاجراءات المختلفة التي تتبعها الدول النامية في مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، والاحتمالات البديلة التي يمكن أن تتبعها . ومن هنا يبدو لنا بوضوح كيف أن شعار " الموضوعية " الذي يتبناه البنك الدولي إنما هو شعار خاص يخفي وراءه أهداف مستترة وخبيثة .

وتشير النظرة الفاحصة لسياسات الهيئات الدولية في الدول الفقيرة الى أنها تتبنى افكاراً اقتصادية ليبرالية ، وإنها تتمسك وتصر دائما على المبادئ الدولية التي حددها الغرب في هذا المجال . بعبارة أخرى فإن سياسات هذه الهيئات تستند الى قبول مطلق لمنطق العلاقات الرأسمالية سواء على المستوى العالمي أو القومي . وذلك يعني أن الهيئات الدولية لا تستطيع أن تقبل أية تغييرات في الدول الفقيرة من شأنها تهديد نظام التجارة الدولية ، أو الحد من الاستثمارات الخاصة الأجنبية ، أو التأخير في سداد الديون وفوائدها . وفضلاً عن ذلك نجد أن الهيئات الدولية تميل الى تشجيع المشاريع الحرة والاعتماد على التجارة الحرة واحترام الملكية الخاصة ( سواء أكانت محلية أو أجنبية ) . وعادة ما تقرُّ الهيئات الدولية بعض التغييرات الطفيفة التي قد تطرأ على الدول النامية ، ولكن المطلب الرئيس الذي يتعين تحقيقه على الدوام هو " الاستقرار " . ولنا أن نتوقع بعد ذلك تعاون الهيئات الدولية مع أية حكومة تحقق لها مبدأ " الاستقرار " ابتداء من الحكومات اليمينية الرجعية والديكتاتوريات العسكرية . نرى أن الهيئات الدولية تبدو وكأنها تساعد الدولة الفقيرة على أداء وظائفها في هدوء وتوازن وسلام وموضوعية .

وفضلا عن مشكلة " الموضوعية " فإن هنالك قضايا أخرى يتعين إثارتها . واحدى هذه القضايا تتعلق بمدى كفاءة التحليلات الاقتصادية التي تجريها الهيئات الدولية بقصد فهم مشاكل التنمية في الدول الفقيرة . فمثل هذه التحليلات لا تخلو من مغالطات وتناقضات حتى في القضايا الأساسية . ومن شأن هذا الموقف أن يمنع ويبدد أي اسهام حقيقي في فهم التخلف . بعبارة اخرة يصعب القول بأن اخفاق خبراء الهيئات الدولية في أداء واجباتهم نحو الدول الفقيرة راجع الى قلة خبراتهم ومناهجهم فقط ، بل أيضا أنه راجع الى تقصير كامن في هذه الهيئات ذاتها وعدم قدرتها على فهم المشاكل النوعية التي تعاني منها الدول المتخلفة !

إعادة إنتاج التبعية:

لعل القضية الحاسمة التي يمكن أن تُثار بعد ذلك تتعلق بمدى ملائمة النظم الاقتصادية والاجتماعية القائمة بالفعل في الدول النامية وقدرتها على تحقيق نهوض حقيقي يتصل بجماهير فقرائها ، خاصة وأن بعض هذه النظم تميل الى الاعتماد القوي على المشاريع الخاصة وما يترتب على ذلك من تفاوت اجتماعي شاسع . وواقع الامر أن سياسة الهيئات الدولية ازاء الدول النامية تفترض أن تحقيق مثل هذا النهوض أمر ثانوي اذا ما قورن باعتبارات أخرى ، وإن الولايات المتحدة الامريكية التي تمثل أكبر مساندي هذه الهيئات الدولية تحرص أشد الحرص على استمرار الأوضاع الراهنة لأطول فترة ممكنة . وأياً كان الأمر فإن الشيء الواضح هنا هو أن الهيئات الدولية تنهج سياسة من شأنها أن تتعارض مع فكرة النهوض الحقيقي لفقراء العالم . فالأسعار في ارتفاع منقطع النظير ، والقطاع الخاص لا يستجيب على النحو المتوقع ، والأجور في انخفاض ، ونتيجة لذلك نجد بعض الهيئات الدولية المطالبة بالاستقرار الاقتصادي تحارب وبشراسة أية محاولة للاستنهاض من خلال توزيع الدخل بشكل عادل ، وزيادة الانفاق الاجتماعي ، والنهوض بالطبقة الوسطى بوجه عام .

على أن النجاح الذي حققته الهيئات الدولية في مجال " الاستقرار الاقتصادي " للدول الفقيرة كان ضئيلاُ للغاية . فالاتجاه العام – باستثناءات ضئيلة – يشير الى أن هذا الاستقرار قد أدى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي ، وهبوط متوسط الدخل الفردي بوجه عام . واذا كان هناك الآن اتجاها ناميا يذهب الى أن برامج الاستقرار الاقتصادي يجب ألا يؤدي الى ركود اقتصادي ، إلا أن الهيئات الدولية لا تزال تصر على أن تحقيق هذا الاستقرار يجب أن يتم بطريقة تدريجية . إن زيادة المساعدات الخارجية قد تعني – نظريا – رفع معدلات الاستثمار والنمو . غير أن ما يحدث – واقعياً – أن اهتمام الهيئات الدولية ينصب على تحقيق الاستقرار أكثر مما ينحصر في رفع معدلات النمو ولعل ذلك هو السبب الذي من أجله تسعى الهيئات الدولية الى تشجيع الدول النامية على زيادة مصادر دخلها القومي . ففي ذلك تدعيم لموقفها الاقتصادي ، مما يعني القدرة على تسديد الديون وفوائدها . ومن بين الأساليب التي تتبع في هذا المجال تشجيع هذه الدول على تنويع صادراتها ، ودعم الانتاج الزراعي ، ثم تأييد الاستثمارات الخاصة . وفضلاً عما سبق لوحظ أن برامج الهيئات الدولية في الدول النامية لم تسهم اسهاما كبيراً في رفع مستويات المعيشة ، وزيادة العمالة في المناطق الريفية ، ومواجهة الاكتظاظ السكاني في الأحياء المختلفة . ذلك أن اهتمام هذه الهيئات لا ينصب أساسا على المجالات الاجتماعية بقدر ما ينصب على المجالات الاقتصادية بمعناها الضيق . وحتى اذا اهتمت هذه الهيئات ببعض المجالات الاجتماعية ، فغالبا ما يتركز هذا الاهتمام على المناطق الحضرية حيث يلعب القطاع الخاص الدور الأكبر . ومن الطبيعي ان يؤدي التركيز على المجالات الاقتصادية الى إغفال المجالات الاجتماعية . إذ أن الاستثمار في الأخيرة يبدو وكأنه " غير انتاجي " .

إفقار العمّال:

على الرغم من ان المشكلة الزراعية في الدول النامية قد حظيت باهتمام الهيئات الدولية في الفترة الأخيرة ، إلا أن هذا الاهتمام يتوقف على مدى ما سيسهم به الانتاج الزراعي بعامة وفي الميزانية العامة بخاصة . ونلاحظ أيضا أن اهتمام الهيئات الدولية بالمشكلة الزراعية مقتصر على ازالة القيود التي تحكم ضبط الاسعار ، وتنويع المحاصيل الزراعية وتشجيع المشاريع الزراعية الضخمة التي من الممكن ان تحقق فائضا اقتصاديا . ومن هنا نلحظ أن الفائدة التي يحققها صغار الفلاحين من مساعدات الهيئات الدولية محدودة للغاية .

والواقع أن كثيراً مما قيل عن الزراعة في الدول النامية يمكن ان يقال أيضا عن الصناعة . فبرامج الهيئات الدولية التي سعت الى تحقيق استقرار اقتصادي في هذه الدول حبذت تخفيض العمالة سواء في القطاع الخاص أو العام . ففي القطاع الخاص اضطرت بعض المصانع الى الاستغناء عن نسبة من العمال الصناعيين ، فضلا عن عدم تشجيع اقامة صناعات جديدة . وفي القطاع العام مارست الهيئات الدولية على حكومات الدول النامية ضغوطا عديدة من أجل تخفيض العمالة دون أن تقدم عمالة بديلة . نتيجة لذلك ، تزداد معدلات البطالة يوما بعد يوم ، ومعدلات زيادة السكان تنمو نمو الصاعقة ، ومعدلات الهجرة الريفية الحضرية تسجل ارتفاعا مستمرا . ويمكننا أن نضيف إلى ذلك الآثار التي أحدثتها الميكنة والآلية ، والزيادة الساحقة في أعداد الفلاحين المعدمين . ومما يزيد الامر خطورة أن التقارير الجادة الحديثة تميل الى تأكيد استمرار وتعاظم هذه الآثار السلبية . فنسبة العاملين في الصناعة في كثير من الدول الفقيرة لا تزال محدودة للغاية ، بل أنها تتناقص لو أخذنا في اعتبارنا الزيادة الكلية في عدد السكان . ومن هنا تبدو لنا مشكلة البطالة كمشكلة ملحة ضاغطة لا تستطيع برامج الهيئات الدولية أن تواجهها ، لأن الهيئات الدولية تسعى الى تدعيم الاستقرار الاقتصادي ، وبالتالي تثبيت الأوضاع الراهنة [5] .

مواجهة التبعية والبدائل المتاحة :

تقودنا الاعتبارات السابقة الى تقسيم السياسات البديلة التي انتهجتها الدول النامية في مواجهة مشكلة التبعية الى بديلين محتملين : الاول هو الاصلاح ، والثاني هو الثورة . إن الاحتمال الاول هو الأكثر شيوعاً في مختلف الدول الدول النامية ، بينما الثاني يمثل حالات تكاد تكون شبه استثنائية .

البديل الإصلاحي:

ومن الواضح أن الاصلاح يعني – من حيث المبدأ – عدم المساس بالاوضاع القائمة الا في حدود بعض التعديلات الطفيفة . ويتخذ الاصلاح صورا عديدة منها على سبيل المثال النمو الاقتصادي المصحوب بالتضخم ، واجراء تعديلات ثانوية على توزيع الارباح . ولقد ظهرت خلال السنوات الاخيرة بعض المعايير الاقتصادية الاصلاحية . من ذلك – مثلا – دفع النمو الاقتصادي ، وإعادة توزيع الدخل ، والحد من التضخم . بيد ان هذه المعايير الاقتصادية لا تضمن بذاتها تحقيق التنمية بقدر ما تمثل شرطا لها . وليس أدل على ذلك من تجاهل هذه المعايير لفكرة اعادة توزيع الأرباح لصالح الفقراء ، إذ أن هذه الحقيقة وحدها كفيلة بتغيير نظام الطلب . إن الخطأ الذي تنطوي عليه المعايير الاقتصادية الخالصة لا يقل فداحة عن خطأ الاعتقاد بأن المشكلة الاساسية في الدول الفقيرة تتمثل في اختلال ميزان المدفوعات بسبب المشاكل التي واجهتها هذه الدول في تسويق منتجاتها الاولية خلال فترة الخمسينات من القرن الماضي ، ومن ثم نجد محاولات عديدة لاقناع هذه الدول تبنّي التصنيع ، لانها تستطيع بذلك أن تحدث تغييرا أساسيا في سياساتها التجارية [6] .

بالاضافة الى ذلك نلحظ لدى خبراء الهيئات الدولية ميلا للاستعانة بنظريات التنمية الغربية المتقدمة في فهم مشاكل الدول النامية ، وتجاهل الشكوك والانتقادات التي تعرضت لها هذه النظريات ولا زالت كما نرى فيما حدث في لويزيانا أخيرا وما جلبته كاترينا من دمار للبلد وخلخلة لنظريات التمنية الغربية . لقد أغفل هؤلاء الخبراء الخصائص الأساسية التي تميز واقع الدول النامية . من ذلك – مثلا – تركّز النمو في مناطق صغيرة قليلة ، وعدم عدالة توزيع الدخل والارباح ، وارتفاع معدلات البطالة ، وصعوبة احداث تغييرات أساسية في مجال الزراعة حينما يسيطر اقتصاد الاعاشة سيطرة أساسية ، وارتفاع معدل زيادة السكان ، واعتماد الاقتصاد على قطاع التصدير يضاف الى ذلك كله عدم تجانس الوحدات المكونة للدول النامية على نحو يسمح بحل مشاكلها بطريقة مستقلة ، ومواجهة الضغوط الخارجية . وهكذا نجد نظريات التنمية الغربية بعيدة كل البعد عن قلب مشاكل الدول الفقيرة التي أهمها الجوع والمرض والفقر .

ويزداد هذا الموقف وضوحاً اذا ما تناولنا السياسات الاصلاحية التي تبنتها حكومات الدول النامية لمواجهة مشكلة التبعية . ففي دول أمريكيا اللاتينية ذات التقاليد البرمانية – مثل البرازيل والأرجنتين – احتلت قضية التنمية أهمية خاصة وظهرت محاولات عديدة لمعالجتها . فالقوانين والتشريعات التي ووفق عليها في البرلمانات من اجل إقرار بعض السياسات الاصلاحية نجحت بشكل جزئي جداً لأن هذه السياسات كانت قطاعية وجزئية الى حد بعيد ولم تكن موجهة لاحداث تغييرات بنائية عميقة بسبب سيطرة الاقطاعيين والرأسماليين على البرلمانات . ويكفي أن نشير أن اسهام هذه السياسات الاصلاحية بالنسبة للفلاحين المعدمين كان محدودا للغاية ، بينما نجد هذا الاسهام كبيرا بالنسبة للطبقتين الوسطى والعليا . وهذا يعني أن التغييرات الطفيفة التي طرأت على نمط توزيع الدخل والارباح لم تكن تخدم سوى فئات اجتماعية معينة . وهكذا نجد مشاريع التنمية تتخذ طابعا معينا وقد نرمز اليه برموز عديدة . من ذلك – بناء المدارس الخاصة في الاحياء السكنية الحضرية الراقية ، وانشاء مزيد من الجامعات لتخريج أعداد متزايدة من الجامعيين ، وإقامة صناعات تنتج سلعا كمالية ، واقامة عمارات سكنية راقية تخدم قطاعات معينة من السكان . ومن الطبيعي ألا تغيّر مثل هذه المشاريع من البناء الاقتصادي – الاجتماعي – السياسي في هذه المجتمعات ، طالما أنها لا تعبر عن قطاعاتها السكانية العريضة . ويكفي أن نشير هنا الى مصير المشاريع الحيوية التي تبنتها هذه السياسات الاصلاحية كالحد من ارتفاع معدلات زيادة السكان ، والاصلاح الزراعي . فالاول تم بطريقة تدريجية بيروقراطية بطيئة بحيث بات من الصعب تلمّس نتائجه ، والثاني واجه معارضة من الاقطاعيين والرجعيين بدعوى أنه – باستناده الى الملكية الزراعية الصغيرة – يؤدي الى هبوط معدلات الانتاج الزراعي [7] .

واقع الامر أن موقف حكومات الدول الفقيرة من سياساتها الاصلاحية ينطوي على ضرب من الازدواجية . فهي تدرك جيدا المخاطر الناجمة عن عدم تحسين أحوال الفقراء وما يؤدي اليه ذلك من ضغوط شعبية ، ولكنها – وفي نفس الوقت – تشارك القوى الاجنبية رغبتها في استمرار الاوضاع القائمة . كذلك نجد هذه الحكومات تعي جيدا – لاعتبارات وطنية – مدى سيطرة الشركات الاجنبية على الاقتصاد القومي ، وعدم قدرة هذه الحكومات على المناورة ، فضلا عن الخسارة الاقتصادية الناجمة عن موقف التبعية ، لكنها – مع ذلك – تدرك الاخطار الناجمة عن قطع أو انهيار العلاقات مع القوى الاجنبية . وفي ضوء هذه الازدواجية نستطيع تفسير حرص الدول النامية على تسديد ديونها الاجنبية وعدم الاقدام على تأميم مشاريعها . إن ذلك لا يمثل فقط خوفا من ردع القوى الاجنبية ، ولكنه يمثل أيضا حرصا على عدم إحداث تغييرات داخلية من شأنها المساس بأوضاع الصفوة القائمة . وهكذا نجد – مرة أخرى – توازيا بين مصالح القوى الاجنبية ومصالح الصفوات القومية المحلية الحاكمة .

ولسنا بحاجة بعد ذلك كله الى الافاضة في توضيح شروط التجارة العالمية القاسية التي تحيط بدول الفقر . فأغلب منتجات هذه الدول أولية ، كما أن أسعارها تخضع – الى حد كبير – للسياسات التي تنتجها دول أخرى غنية . وغالبا ما تخضع هذه الاسعار لتقلبات شديدة ، أو إن شئنا الدقة لانخفاض تدريجي دائم [8] . وأحد أسباب ذلك أن مستقبل الاستهلاك العالمي لهذه المنتجات الاولية محدود ، وأن كمية هذه المنتجات في الاسواق العالمية لا تخضع لتنسيق بين الدول المنتجة لها ولسوف يكون من العبث أن تحاول دولة نامية أن تنتج سلعاً معينة ( بهدف التنوع ) تنتجها دول أخرى وتجد صعوبة في تسويقها [9] .

ومما سبق يبدو أن تحقيق النمو الاقتصادي والتغير الثقافي أمر صعب الحدوث في دول الفقر ما لم تحدث تغيّرات جذرية حقيقية ، عالمية ومحلية ، وأن ندرك أن التحولات العالمية ليست بمعزل عن التحولات القومية . إن القوى الاحتكارية العالمية تميل الى الانتشار بطريقة اخطبوطية ساعيةً الى تدعيم نفسها واضعاف الدول النامية وزيادة إفقارها . ولا يمكن للاحتكار أن يؤدي إلا الى نتيجة واحدة هي : التبعية . وإذا كان القرن الماضي قد شهد جهودا إصلاحية عديدة ولا زالت في القرن الجديد ، كلها تهدف الى مواجهة التبعية وما تتخذه من مظاهر ، إلا أن النظرة العابرة تشير الى أن التبعية في ازدياد دائم والاستقلال في انهيار متصل . ولعل ذلك هو ما دفع ويدفع بعض الدول الفقيرة الى اللجوء الى الثورة كوسيلة للخلاص من أسْرِ التبعية والخضوع للتخلف . لكن هذه الحقيقة تحتاج الى مزيد من التحليل والتأمل .

تستند فكرة الثورة الى أن قضية أساسية هي ، أن السياسات الاصلاحية التي اتبعتها حكومات الدول النامية قد أَستَنفذت اهدافها دون تحقيق تنمية حقيقية ، وأن الدور الذي لعبته ولا تزال الهيئات الدولية في تنمية هذه الدول محدود لاعتبارات عديدة كنا قد أشرنا اليها . ومع أن هناك وجوه شبه عديدة بين التجارب الثورية التي مرت بها دول الفقر ، إلا أن هناك اختلافات بينها يصعب اغفالها ، مما يجعل من عملية صياغة تعميمات واحكام عامة مخاطرة سابقة لأوانها . لذلك نكتفي هنا – ولأغراض التحليل والاستشهاد – بتناول تجربة الثورة الكوبية كمثال يوضح لنا كيفية مواجهتها لمشكلة التبعية .

النموذج الثوري، كوبا نموذجا :

لقد أنجزت كوبا الكثير بفضل ثورتها وخلال فترة زمنية قصيرة برغم الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة الامريكية ، وبرغم اعتماد الاقتصاد الكوبي على الولايات المتحدة خلال فترة ما قبل الثورة . والملاحظ أن الاحصاءات المنشورة تعكس لنا نجاحا باهراً أنجزته الثورة الكوبية وعلى الاخص فيما يتعلق بمعدلات انتاج السلع المادية ، ذلك أن معدلات الانتاج قد ازدادت بالنسبة لسلع معينة بينما انخفضت بالنسبة لسلع أخرى . وتشير الاحصاءات المنشورة أن كوبا استثمرت حتى عام ۱٩٩۲ ما يزيد عن ٣٠٪ من مجموع دخلها القومي في مشاريع انتاجية ، وإن هناك جهودا تبذل من أجل المحافظة على هذه النسبة ورفع معدلات التصدير الى الخارج والحد من معدلات الاستيراد . والثورة الكوبية بهذا المعنى تسعى الى النهوض بموارد الدولة وتوجيه عمل الشعب بما يحقق تنمية شاملة حقيقية [10] .

ومن الصعب تقييم النتائج التي حققتها الثورة الكوبية في ضوء معايير ونظريات التنمية الغربية . غير ان ذلك لا يمنعنا من الاشارة الى بعض الملامح الأساسية . فمن الحقائق الاحصائية المقررة أن الثورة الكوبية قد تمكنت من القضاء على البطالة التي كان يصل معدلها ( فيما قبل الثورة ) الى ۵٠٪ في قطاع الزراعة باستثناء الشهور الثلالثة التي كان يتم فيها حصاد قصب السكر ، واستطاعت أن تخلق عدالة في توزيع الدخل القومي وما يرتبط بذلك من وضع حد أدنى للأجور ، كما تمكنت من تخفيض معدلات الأمية واتاحة الفرصة امام أبناء الجماهير للالتحاق بالمدارس . وفضلا عن ذلك استطاعت الثورة الكوبية القضاء على الكثير من الامراض المتوطنة ونشر الخدمات الصحية والتعليمية في المناطق الريفية البعيدة المنعزلة ، كما تمكنت من ادخال أساليب تكنونلوجية جديدة في الزراعة ، ولا ننسى ان كوبا من أكبر منتجي الأدوية في العالم بفضا الثورة [11] . ولا شك ان الانجازات التي حققتها الثورة الكوبية في مجال العمالة تعد علامة بارزة في تاريخها ، خاصة اذا ما أخذنا في اعتبارنا الجهود التي بذلتها دول نامية أخرى للقضاء على البطالة . ولقد أُرتبط بذلك جهود مضنية من اجل النهوض بمختلف الاقاليم الكوبية حيث نالت المناطق الريفية نصيبها الضروري من الاهتمام في الوقت الذي حظيت فيه المناطق الحضرية برعاية ملحوظة . ونستطيع أن نضيف الى ذلك الاستثمارات الاجتماعية الهائلة في ميادين الصحة والتعليم والاسكان . ولقد كانت هذه الاستثمارات الاجتماعية موازية تماما للاستثمارات الانتاجية وعلى الأخص في مجال الزراعة [12] .

وعلى الرغم من ان البيانات الدولية تميل الى اظهار ارتفاع معدلات الانتاج في كوبا ، إلا أن هذا الارتفاع لا يمثل وحده الهدف الاساسي للسياسة الكوبية . ذلك أن البيانات تفترض عادة ان الهدف الاساسي " للتنمية " هو زيادة الانتاج . ومن شأن ذلك تجاهل طبيعة المنتجات وبناء المجتمع بشكل عام ، فضلا عن معالجة القضايا الاقتصادية بمعزل عن مشاكل المجتمع الأخرى . إن أعظم الانجازات التي حققتها الثورة الكوبية يبدو – في اعتقادي – متمثلا في الجانب الاجتماعي : مزيد من المساواة وتكافؤ الفرص ، وتحطيم للعلاقات الرئاسية المكبلة ، ومشاركة واسعة النطاق من جانب الجماهير العريضة ، ووعي متزايد بالقضايا الاقتصادية والساسية والثقافية والاجتماعية . وقد تبدو هذه الانجازات متعارضة في بعض الاحيان مع تحقيق معدلات انتاج عالية ، لكن الانجاز الانساني يصعب تحديده وحصره . وهنا تبدو لنا وجاهة عبارة جيفارا الشهيرة : " ليس المهم حجم قطعة اللحم التي نتناولها ، أو عدد مرات ترددنا على المصايف خلال عطلاتنا ، او نوعية السلع المستوردة التي نستطيع اقتناءها ، إن الشيء المهم هو احساسنا بالاشباع الذاتي المتزايد ، بثرواتنا ومسؤلياتنا المتزايدة " [13] . ولا يعني ذلك أن كوبا لم تواجه مشاكل وعقبات حاسمة . يكفي أن نشير في هذا المجال الى الحصار الامريكي والى الصعوبات الناجمة عن تأميم المصالح الاجنبية .

خاتمة :

ذهب بعض الدارسين الى ضرورة تغيير السياسة التي تتبعها الدول المتقدمة والهيئات الدولية ازاء الدول الفقيرة . ذلك أن المساعدات الدولية التي تقدمها الهيئات يجب ان تزداد بالنسبة للدول الأشد فقرا وتخلفا . بعبارة اخرى يتوجب على المقرضين عدم ربط المساعدات المالية بسياسة معينة يتعين على الدول النامية ان تتبناها . وقد يسهم هذا الحياد ، وإن بدا خياليا ، في الحد من تدخل الدول المتقدمة في التأثير على سياسات الهيئات الدولية وفرض شروط معينة على المعونات التي تحصل عليها الدول النامية من هذه الهيئات . لكن في واقع الامر أن هذا ينطوي على تبسيط مبالغ فيه وتفاؤل لا ينهض على أساس صلب . فالشواهد المستقاة من الواقع الدولي تشير بجلاء الى أن امكانية تغيير الهيئات الدولية لسياساتها ازاء دول الفقر لا تزال محدودة للغاية ، كما أن فرص اقامة منظمات جديدة تخدم أهدافا أكثر حيادية لا تزال بعيدة المنال .

عربيا ، ما العمل ؟ الثورة ! :

يعود الاختلاف حول اختيار البديل التنموي الافضل في تغيير الواقع العربي الى مواقع الافراد والجماعات في البنى الاجتماعية – الاقتصادية – الساسية ، والى مستوى الوعي التحليلي الفكري ، والى نوعية الغايات التي نريدها لأنفسنا وللمجتمع والعالم .

وبقدر ما تقترب مواقع الأفراد والجماعات من قمة بنية النظام الهرمي السائد والعميل للأجنبي ، تميل صفوة هؤلاء للتمسك بالنظام العام وتكافح للمحافظة عليه . وعلى العكس ، بقفدر ما تتدنى مواقع الافراد والجماعات من أسفل الهرم الى رفض النظام القائم والكفاح لتغييره . فالاختلاف يأتي نتيجة الغايات التي نريدها لانفسنا وللمجتمع . لذلك يكون من المهم ان نتساءل : ما هي الغايات الكبرى التي يجب ان نكافح من أجلها في سبيل النهوض بالمجتمع العربي ؟

نعتقد ان النهضة العربية المؤملة والتمية اقتضتا ولا تزالان تقتضيان تحقيق ثلاثة غايات أساسية :

أ – القضاء على التبعية والتخلف

يتعين على هذه الغاية انهاء حالة التبعية وردم الهوة الحضارية بين المجتمع العربي والمجتمعات المتقدمة ، لا يكونان بتقليد هذه الأخيرة بل بابداع نظامنا الخاص دونما انغلاق على تجارب مجتمعات العالم الأخرى . تعلمنا من تجاربنا الاخيرة ان التخلف والفقر متلازمان مع التبعية ، فلا يكون الخروج من التخلف إلا بالتحرر من التبعية . تبدأ التنمية بسيطرتنا على مواردنا الطبيعية والانسانية والاعتماد على النفس والمشاركة في صنع الحضارة على قدم المساواة مع الشعوب الأخرى .

ب – إلغاء الطبقية : الاشتراكية

يتطلب مشروع التنمية الحقيقية وإلغاء الفقر ردم الهوة بين الأغنياء والفقراء داخل المجتمع العربي والقضاء على الفقر . إن ما تمارسه الدول المتقدمة والهيئات الدولية علينا من تركيع وسلب لمواردنا ، تمارسه الطبقات الحاكمة والغنية على الغالية العظمى من الأمة العربية التي تعيش في حالة فقر مدقع ، فيما تنعم فئة ضئيلة بثروات البلاد وتسيطر كل شيء في هذه البلاد . إن هذه الطبقات الحاكمة الغنية مرتبطة بشبكة الاستغلال العالمي فيحميها الغرب من خلال هيئاته الدولية وجيوشه إن لزم الامر ضدنا كشعوب مقابل تأمين هذه الطبقة لمصالح الغرب على حسابنا . هذه الدائرة الشرسة لا يمكن كسرها إلا بالكفاح والثورة الحقيقيين .

ج – تحقيق الحرية والعدالة

لا تتحقق الحرية بدون تحقيق العدالة . ولا يستطيع الانسان ان يكون حرا في أسفل الهرم وفي مناخات تجرده من انسانيته ، ومن القدرة على التفكير تفكيراً حراً ودون خيارات . فالحرية تعني الديمقراطية على احترام التنوع المنسجم لا على إلغائه ، وفرض ثقافة ذات بعد واحد . الحرية تعني أن يتوفر للانسان رغيف خبز للجميع ، قميص نظيف نلبسه ، ومساحة خاصة بنا نحلم بها .

لا تتحقق هذه الغايات الثلاث من دون ثورة . لا نقصد بالثورة الانقلابات العسكرية ، ولا الاصلاح الغربي الليبرالي او الاصلاح " العربي الاشتراكي " ، ولا مجرد المعارضة والتمرد والمغامرات الفردية ولا الانتفاضات السلفية المثقلة بتقاليد عصور التخلف ، ولا مجرد الثورة السياسية والوصول الى الحكم .

اننا نقصد بالثورة هنا الثورة الشاملة ( السياسية – الاجتماعية – الاقتصادية – الثقافية – الحقوقية ) التي تهدف الى استبدال النظام السائد بنظام آخر في سبيل تحقيق الاستقلال والتمية الحقيقيين . إنها " ثورة تعطي الناس مفاتيح العالم ولا تسحبها منهم " [14] . إن الثورة مصيرية . كي نتجاوز التخلف ونوقف الانقراض ونحقق العدالة والحرية والتنمية ونساهم في اغناء الانسانية .

ويبدو لنا أنه ليس هناك بديل آخر غير الثورة الشاملة لحصول الانقاذ . انها جسرنا نحو حاضرٍ أفضل وأقل فقرا وأكثر انسانية . هنا التحدي الحالي قبل المستقبلي . .