أحكام السلطان وإصلاح سياسة الإمام
مرسل: الأربعاء ديسمبر 14, 2011 12:30 am
ليس بالإمكان تحميل التراث، السياسي منه على وجه الخصوص، تبعات ما يحصل في عالم المسلمين اليوم من خراب، لكن من المؤكد أن المورث يتحمل جزءاً من المسؤولية في ذلك، باعتباره ما يزال فاعلاً ومؤثراً حتى اليوم، وفي الوقت الذي يبلغ فيه التراث ذروة تأثيره في الحاضر، بوصفه مستنداً لخطاب سياسي احتجاجي معارض(يعارض الدولة، والمجتمع، والعالم ربما) وظيفته نزع المشروعية والتجييش ضد الواقع؛ فإن تأثير التراث في الواقع أضعف ما يكون في تشكيل البرامج السياسية وإصلاح النظم السياسية، وذلك على الرغم من أن ما كتب نظرياً في هذا المجال، هائل في حجمه قياساً لما نقل إلينا من التراث!
من القضايا التي تمثل إحدى الركائز الرئيسية لفهم التراث، تأريخ المفاهيم وتفسير ظهورها وتطوراتها، اعتماداً على معرفة التاريخ الخاص بها، إذ لا يمكن أن ينفصل مفهوم ما عن تاريخه. تشكل المفاهيم المفتاحية للتراث، أساس فهمه، فظهور مصطلحات مثل: "الإمامة" و"السياسة" و"الخلافة" و"الولاية" و"السلطان"، أمر يحمل دلالة فكرية وواقعية تاريخية، وبالمثل فإن ظهور مصطلحات جديدة تؤسس للتراث السياسي بوصفه باباً فقهياً وأدبياً مثل:"السياسة الشرعية" و"الأحكام السلطانية"، أمر يحمل دلالة ذات مغزى تتعلق بهذا "العلم" وتطور نظرياته.
فيما يخص هذين المصطلحين الأخيرين ـ على سبيل المثال ـ فإن أياً منهما لم يكن قد ظهر بعد حتى نهاية القرن الرابع الهجري، وتحديداً قبل كتابي أبو الحسن الماوردي الشافعي، وأبي يعلى الفراء الجنبلي، اللذين يحملان الاسم نفسه(الأحكام السلطانية) (وقد زيد للماوري لدى بعض مترجميه: والولايات السلطانية). لم يكن لهذا المصطلح وجود فيما نعتقد، ومحاولة فهم معنى الأحكام السلطانية من خلال التعريفات الواردة في كتب المتأخرين، تبدو مضللة؛ إذ تكشف جزءاً من الحقيقة، والجزء الثاني يبقى مرجعه في التاريخ.
لنتذكر أولاً أن مصطلح "السلطان" لم يظهر بوصفه ولاية شرعية(منصب سياسي في إطار الخلافة) من الولايات التي عرفها عصر الخلافة الراشدة والعصر الأموي، فقد كان مفهوم السلطان لا يعني(في فضاء السياسة) أكثر من سطوة الولاة، لكنه في أواخر الدولة العباسية، حيث استولى المماليك(حُجَّاب الخليفة أو الإمام) على قرار الإمام، ظهر "السلطان" كمنصب سياسي جديد، عدَّل في تركيبة نظام الخلافة؛ فقد بقي الخليفة باعتباره يمثل منصباً "شرعياً"، ولكنه بات محجوباً عن العمل بمقتضاه. أما السلطان فهو من بات يتولى الأمور فعلياً بتفويض شكلي من الخليفة، أي أن الخليفة كان قد تحول إلى مجرد مظلة للشرعية بالنسبة لمن يتولى السلطنة، ومن المعلوم تاريخياً أن هذه الفترة ـ التي شهدت انهيار الخلافة فعلياً ثم رسمياً عبر ابتكار لقب "السلطان" ـ كانت في العهد المملوكي في المشرق.
وربما ظهر وصف "السلطان" بالأندلس في القرن الرابع الهجري، عندما استأثر أبو عامر محمد بن أبي عامر بالخليفة الأموي الشرعي "المؤيد بالله هشام بن الحكم"، وأطلق على نفسه لقب "المنصور" فوُصف تارة بالسلطان(كما هو لدى ابن خلدون) وأخرى بالملك(كما يذكر الحميدي في جذوة المقتبس في ولاة الأندلس)، حيث كان فعلياً يمارس الخلافة بعد أن حجب الخليفة، وتلقب بالمنصور.
ويبدو أن وصف "الملك" شاع أولاً باعتباره لقباً للوزير المفوض، ويزعم القلقشندي أنه مستقى من وصف الملك في سورة يوسف للوزير عزيز مصر، ويشرح القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى" هذا التحول من الوزارة والحجابة إلى الملك والسلطنة، فقد "كانت في بداية الأمر إمارة استكفاء يولي عليها الخليفة في كل زمن من يقوم بأعبائها، ويتصرف في أمورها، قاصر الولاية عليها، واقفٌ عند حد ما يرد عليه من الخليفة من الأوامر والنواهي، إلا ما كان في أيام بني طولون من الخروج عن طاعة الخلفاء في بعض الأحيان.
فلما استولى عليها الفاطميون واستوزروا أرباب السيوف في أواخر دولتهم، وعظمت كلمتهم عندهم، صارت سلطنتها وزارة تفويض، وكان الخليفة يحتجب والوزير هو المتصرف في المملكة؛ كالملوك الآن أو قريباً منهم. وكانوا يلقبون بألقاب الملوك الآن، كالملك الأفضل رضوان وزير الحافظ، وهو أول من لُقّب بالملك منهم، فيما ذكره المؤيد صاحب حماة في تاريخه. والملك الصالح طلائع بن رزيك، وزير الفائز ثم العاضد. والملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي، وزير العاضد، وابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وزير العاضد أيضاً، قبل أن يستقل بالملك ويخطب بالديار المصرية لبني العباس ببغداد."ولما انتُزعت الخلافة من الفاطميين، وصارت إلى بني أيوب، وكانوا يلونها عن خلفاء بني العباس، صارت إمارة استيلاء لاستيلائهم عليها بالقوة، واستبدادهم بالأمر والتدبير مع أصل إذن الخليفة وتقليده. وكان الرشيد قد لقّب جعفر بن يحيى البرمكي في زمن وزارته له بالسلطان، ولم يأخذ الناس بالتلقيب به. فلما تغلب الملوك بالشرق على الخلفاء، واستبدوا عليهم، صار لقب السلطان سمةً لهم، مع ما يختصهم به الخليفة من ألقاب التشريف، كشرف الدولة، وعضد الدولة، وركن الدولة، ومعز الدولة، وعز الدولة، ونحو ذلك. وشاركهم في لقب السلطنة غيرهم من ملوك النواحي، فتلقب بذلك صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتلقب بالملك الناصر عند استبداده بالملك على العاضد الفاطمي بعد وزارته له، ونقل ما كان من وزارة التفويض والعهد بها إلى السلطنة، وصارت الوزارة عن السلطان معدوقةً بقدرٍ مخصوصٍ من التصرف. وبقي الأمر على ما هو عليه من الاستيلاء والاستبداد بالملك، مع أصل إذن الخليفة وكتابة العهد بالملك، وهي على ذلك إلى زماننا، إلا ما كان في زمن تعطيل جيد الخلافة من الخلفاء، من حين قتل التتار المستعصم آخر خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين إقامة الخليفة بمصر في الدولة الظاهرية بيبرس".
ويبدو أن العادة بعد ذلك، جرت على أن يتم الجمع بين منصب السلطان ولقب الملك، فقد ذكر ابن تغري بردي في كتابه "المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي" في "جلوس الظاهر برقوق على تخت الملك
و[خلع بقي السلطان عليه، أنه] خطب الخليفة [العباسي] المتوكل على الله أبو عبد الله محمد وبايعه على السلطنة، وقلّده أمر البلاد والعباد، وفوض عليه التشريف الخليفتي، ثم خلع على الخليفة أيضاً، وبايعه القضاة الأربعة، وأعيان الدولة على مراتبهم، فأشار شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني أن يكون لقب السلطان بـ"الملك الظاهر" وقال:هذا وقت الظهر، والظهر مأخوذ من الظهيرة والظهور، وقد ظهر هذا الأمر بعد أن كان خافياً؛ فتلقب بالملك الظاهر".
إن مفهوم السلطنة ولد من رحم فكرة وزارة التفويض، التي يفوض فيها الخليفة إلى وزيره(حاجبه) تدبير جميع الممالك الإسلامية بالتفويض العام بلا استثناء، وقد أدى التكييف الفقهي لهذه السلطنة إلى ظهور تناقض طريف، وهو جمع وصفين متناقضين في إمارة السلطنة، فقد ظهرت مشكلة أن ما يتولاه السلطان تفويضاً هو ما يقع تحت يد الخليفة، فما هو حكم الفتوح السلطانية الجديدة التي لم تقع تحت يده؟ أجيب عن ذلك بأنه جائز كما يجوز للإمام أن يقطع أرض الكفر قبل أن تفتح، و"حينئذ تكون سلطنة الديار المصرية الآن مركبة من وزارة التفويض وإمارة الاستيلاء" على حد تعبير القلقشندي، وهكذا بدأ ينشأ فقه سلطاني، يستند كلياً إلى فكرتين: التفويض والاستيلاء.
لا شك أن هذا لا يختلف كثيراً عن أحكام الماوردي وتخريجاته في الأحكام السلطانية التي هاجمها الإمام أبو المعالي الجويني في كتابه "غياث الأمم في التياث الظلم" بشدة، لكنه في الوقت نفسه كان داعماً بلا حدود السلطان كبير الحجَّاب الوزير المفوض "نظام الملك"، حتى أنه أهداه كتابه!
وعلى الرغم من أن منصب السلطان استمر في عهد المماليك، فإن ابن تيمية يبتكر مصطلحاً يبدو كما لو أنه منعطف في الأحكام السلطانية، هو "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية"، فوصف السياسة الشرعية كان يطلق على تصرفات الإمام في العقوبات، لكن ابن تيمية حوّله علماً على باب فقهي سياسي بالكامل، يتحدث فيه في الاستكفاء في الولايات وشروطه، وإقامة الحدود وشروطها، ويبدو أن القسم الأول متعلق بإصلاح الراعي، والقسم الثاني متعلق بإصلاح الرعية، فابن تيمية يرى أن السياسة الشرعية تتحقق في ولاة أكفاء وتطبيق الحدود والحسبة، ذلك أن "السلطان ظل الله في الأرض" وأن صلاحه فيه صلاح العباد، وأصل إصلاحه في ذلك أن تتحول الولاية من مطمع في الرياسة إلى "اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله..وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال بها" على حد تعبير ابن تيمية.
هل تمثل السياسة الشرعية تحولاً في الأحكام السلطانية بتخليها عن قضايا الإمامة الرئيسية في الانتخاب والبيعة وطرق التولية والعزل، ومسألة السلطنة المقتاتة على منصب الإمام لصالح توطيد سلطة "أهل الإسلام" وإصلاحها؟ أغلب الظن أن هذا ما كان ابن تيمية يريده، فابن تيمية مفكر ومقاتل في ظروف الغزو التتري الآتي من الشرق، وتداعي الأمم على العالم الإسلامي، وكان هاجسه حماية بيضة المسلمين.
من المؤكد أن التأريخ لمصطلحات الفقه السياسي يكشف كثيراً مما لا تستطيع المعرفة التاريخية التقليدية العامة كشفه، فبإمكان عمل تاريخي معرفي واسع حول تاريخ المفاهيم والمصلحات السياسية في الفقه السياسي، أن يساعد على فهمه بشكل أفضل، ويمكّن من وضعه في سياقه الواقعي.
من القضايا التي تمثل إحدى الركائز الرئيسية لفهم التراث، تأريخ المفاهيم وتفسير ظهورها وتطوراتها، اعتماداً على معرفة التاريخ الخاص بها، إذ لا يمكن أن ينفصل مفهوم ما عن تاريخه. تشكل المفاهيم المفتاحية للتراث، أساس فهمه، فظهور مصطلحات مثل: "الإمامة" و"السياسة" و"الخلافة" و"الولاية" و"السلطان"، أمر يحمل دلالة فكرية وواقعية تاريخية، وبالمثل فإن ظهور مصطلحات جديدة تؤسس للتراث السياسي بوصفه باباً فقهياً وأدبياً مثل:"السياسة الشرعية" و"الأحكام السلطانية"، أمر يحمل دلالة ذات مغزى تتعلق بهذا "العلم" وتطور نظرياته.
فيما يخص هذين المصطلحين الأخيرين ـ على سبيل المثال ـ فإن أياً منهما لم يكن قد ظهر بعد حتى نهاية القرن الرابع الهجري، وتحديداً قبل كتابي أبو الحسن الماوردي الشافعي، وأبي يعلى الفراء الجنبلي، اللذين يحملان الاسم نفسه(الأحكام السلطانية) (وقد زيد للماوري لدى بعض مترجميه: والولايات السلطانية). لم يكن لهذا المصطلح وجود فيما نعتقد، ومحاولة فهم معنى الأحكام السلطانية من خلال التعريفات الواردة في كتب المتأخرين، تبدو مضللة؛ إذ تكشف جزءاً من الحقيقة، والجزء الثاني يبقى مرجعه في التاريخ.
لنتذكر أولاً أن مصطلح "السلطان" لم يظهر بوصفه ولاية شرعية(منصب سياسي في إطار الخلافة) من الولايات التي عرفها عصر الخلافة الراشدة والعصر الأموي، فقد كان مفهوم السلطان لا يعني(في فضاء السياسة) أكثر من سطوة الولاة، لكنه في أواخر الدولة العباسية، حيث استولى المماليك(حُجَّاب الخليفة أو الإمام) على قرار الإمام، ظهر "السلطان" كمنصب سياسي جديد، عدَّل في تركيبة نظام الخلافة؛ فقد بقي الخليفة باعتباره يمثل منصباً "شرعياً"، ولكنه بات محجوباً عن العمل بمقتضاه. أما السلطان فهو من بات يتولى الأمور فعلياً بتفويض شكلي من الخليفة، أي أن الخليفة كان قد تحول إلى مجرد مظلة للشرعية بالنسبة لمن يتولى السلطنة، ومن المعلوم تاريخياً أن هذه الفترة ـ التي شهدت انهيار الخلافة فعلياً ثم رسمياً عبر ابتكار لقب "السلطان" ـ كانت في العهد المملوكي في المشرق.
وربما ظهر وصف "السلطان" بالأندلس في القرن الرابع الهجري، عندما استأثر أبو عامر محمد بن أبي عامر بالخليفة الأموي الشرعي "المؤيد بالله هشام بن الحكم"، وأطلق على نفسه لقب "المنصور" فوُصف تارة بالسلطان(كما هو لدى ابن خلدون) وأخرى بالملك(كما يذكر الحميدي في جذوة المقتبس في ولاة الأندلس)، حيث كان فعلياً يمارس الخلافة بعد أن حجب الخليفة، وتلقب بالمنصور.
ويبدو أن وصف "الملك" شاع أولاً باعتباره لقباً للوزير المفوض، ويزعم القلقشندي أنه مستقى من وصف الملك في سورة يوسف للوزير عزيز مصر، ويشرح القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى" هذا التحول من الوزارة والحجابة إلى الملك والسلطنة، فقد "كانت في بداية الأمر إمارة استكفاء يولي عليها الخليفة في كل زمن من يقوم بأعبائها، ويتصرف في أمورها، قاصر الولاية عليها، واقفٌ عند حد ما يرد عليه من الخليفة من الأوامر والنواهي، إلا ما كان في أيام بني طولون من الخروج عن طاعة الخلفاء في بعض الأحيان.
فلما استولى عليها الفاطميون واستوزروا أرباب السيوف في أواخر دولتهم، وعظمت كلمتهم عندهم، صارت سلطنتها وزارة تفويض، وكان الخليفة يحتجب والوزير هو المتصرف في المملكة؛ كالملوك الآن أو قريباً منهم. وكانوا يلقبون بألقاب الملوك الآن، كالملك الأفضل رضوان وزير الحافظ، وهو أول من لُقّب بالملك منهم، فيما ذكره المؤيد صاحب حماة في تاريخه. والملك الصالح طلائع بن رزيك، وزير الفائز ثم العاضد. والملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي، وزير العاضد، وابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وزير العاضد أيضاً، قبل أن يستقل بالملك ويخطب بالديار المصرية لبني العباس ببغداد."ولما انتُزعت الخلافة من الفاطميين، وصارت إلى بني أيوب، وكانوا يلونها عن خلفاء بني العباس، صارت إمارة استيلاء لاستيلائهم عليها بالقوة، واستبدادهم بالأمر والتدبير مع أصل إذن الخليفة وتقليده. وكان الرشيد قد لقّب جعفر بن يحيى البرمكي في زمن وزارته له بالسلطان، ولم يأخذ الناس بالتلقيب به. فلما تغلب الملوك بالشرق على الخلفاء، واستبدوا عليهم، صار لقب السلطان سمةً لهم، مع ما يختصهم به الخليفة من ألقاب التشريف، كشرف الدولة، وعضد الدولة، وركن الدولة، ومعز الدولة، وعز الدولة، ونحو ذلك. وشاركهم في لقب السلطنة غيرهم من ملوك النواحي، فتلقب بذلك صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتلقب بالملك الناصر عند استبداده بالملك على العاضد الفاطمي بعد وزارته له، ونقل ما كان من وزارة التفويض والعهد بها إلى السلطنة، وصارت الوزارة عن السلطان معدوقةً بقدرٍ مخصوصٍ من التصرف. وبقي الأمر على ما هو عليه من الاستيلاء والاستبداد بالملك، مع أصل إذن الخليفة وكتابة العهد بالملك، وهي على ذلك إلى زماننا، إلا ما كان في زمن تعطيل جيد الخلافة من الخلفاء، من حين قتل التتار المستعصم آخر خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين إقامة الخليفة بمصر في الدولة الظاهرية بيبرس".
ويبدو أن العادة بعد ذلك، جرت على أن يتم الجمع بين منصب السلطان ولقب الملك، فقد ذكر ابن تغري بردي في كتابه "المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي" في "جلوس الظاهر برقوق على تخت الملك
و[خلع بقي السلطان عليه، أنه] خطب الخليفة [العباسي] المتوكل على الله أبو عبد الله محمد وبايعه على السلطنة، وقلّده أمر البلاد والعباد، وفوض عليه التشريف الخليفتي، ثم خلع على الخليفة أيضاً، وبايعه القضاة الأربعة، وأعيان الدولة على مراتبهم، فأشار شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني أن يكون لقب السلطان بـ"الملك الظاهر" وقال:هذا وقت الظهر، والظهر مأخوذ من الظهيرة والظهور، وقد ظهر هذا الأمر بعد أن كان خافياً؛ فتلقب بالملك الظاهر".
إن مفهوم السلطنة ولد من رحم فكرة وزارة التفويض، التي يفوض فيها الخليفة إلى وزيره(حاجبه) تدبير جميع الممالك الإسلامية بالتفويض العام بلا استثناء، وقد أدى التكييف الفقهي لهذه السلطنة إلى ظهور تناقض طريف، وهو جمع وصفين متناقضين في إمارة السلطنة، فقد ظهرت مشكلة أن ما يتولاه السلطان تفويضاً هو ما يقع تحت يد الخليفة، فما هو حكم الفتوح السلطانية الجديدة التي لم تقع تحت يده؟ أجيب عن ذلك بأنه جائز كما يجوز للإمام أن يقطع أرض الكفر قبل أن تفتح، و"حينئذ تكون سلطنة الديار المصرية الآن مركبة من وزارة التفويض وإمارة الاستيلاء" على حد تعبير القلقشندي، وهكذا بدأ ينشأ فقه سلطاني، يستند كلياً إلى فكرتين: التفويض والاستيلاء.
لا شك أن هذا لا يختلف كثيراً عن أحكام الماوردي وتخريجاته في الأحكام السلطانية التي هاجمها الإمام أبو المعالي الجويني في كتابه "غياث الأمم في التياث الظلم" بشدة، لكنه في الوقت نفسه كان داعماً بلا حدود السلطان كبير الحجَّاب الوزير المفوض "نظام الملك"، حتى أنه أهداه كتابه!
وعلى الرغم من أن منصب السلطان استمر في عهد المماليك، فإن ابن تيمية يبتكر مصطلحاً يبدو كما لو أنه منعطف في الأحكام السلطانية، هو "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية"، فوصف السياسة الشرعية كان يطلق على تصرفات الإمام في العقوبات، لكن ابن تيمية حوّله علماً على باب فقهي سياسي بالكامل، يتحدث فيه في الاستكفاء في الولايات وشروطه، وإقامة الحدود وشروطها، ويبدو أن القسم الأول متعلق بإصلاح الراعي، والقسم الثاني متعلق بإصلاح الرعية، فابن تيمية يرى أن السياسة الشرعية تتحقق في ولاة أكفاء وتطبيق الحدود والحسبة، ذلك أن "السلطان ظل الله في الأرض" وأن صلاحه فيه صلاح العباد، وأصل إصلاحه في ذلك أن تتحول الولاية من مطمع في الرياسة إلى "اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله..وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال بها" على حد تعبير ابن تيمية.
هل تمثل السياسة الشرعية تحولاً في الأحكام السلطانية بتخليها عن قضايا الإمامة الرئيسية في الانتخاب والبيعة وطرق التولية والعزل، ومسألة السلطنة المقتاتة على منصب الإمام لصالح توطيد سلطة "أهل الإسلام" وإصلاحها؟ أغلب الظن أن هذا ما كان ابن تيمية يريده، فابن تيمية مفكر ومقاتل في ظروف الغزو التتري الآتي من الشرق، وتداعي الأمم على العالم الإسلامي، وكان هاجسه حماية بيضة المسلمين.
من المؤكد أن التأريخ لمصطلحات الفقه السياسي يكشف كثيراً مما لا تستطيع المعرفة التاريخية التقليدية العامة كشفه، فبإمكان عمل تاريخي معرفي واسع حول تاريخ المفاهيم والمصلحات السياسية في الفقه السياسي، أن يساعد على فهمه بشكل أفضل، ويمكّن من وضعه في سياقه الواقعي.