منتديات الحوار الجامعية السياسية

تعريف بدول العالم المعاصر
By محمد عامر العجمي 1
#42144
آسيا الصغرى


بالجهد تجد أسيا الصغرى لها مجالاً في دوائر المعارف الكتابية، لأن الإقليم المعروف الآن بهذا الاسم لا يذكر بهذا الاسم في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وأول من أطلق عليها هذا الاسم هو الكاتب أورسيوس في القرن الخامس الميلادي، وهكذا أصبح الاسم يطلق الآن في كل اللغات على شبه الجزيرة التي تكون الجزء الغربي لتركيا الآسيوية.

والسبب الذي يجعلنا نهتم بأسيا الصغرى من كل النواحى الجغرافية والتاريخية وأحوال شعوبها اجتماعياً وسياسياً في أيام العهد الجديد، هو ما قاله "جيبون" من أن الاقليم الواسع الغنى الذي يمتد من نهر الفرات إلى بحر إيجه، كان هو المسرح الرئيسي الذي ظهر عليه الرسول بولس، رسول الأمم بكل غيرته وتقواه، ولا توجد منطقة أخرى -خارج مدينة روما- قد احتفظت بكل هذه السجلات عن نمو وطبيعة المسيحية الأولي.



أولا – إقليم آسيا الصغرى:
1- موقع وحدود إقليم آسيا الصغرى:
أسيا الصغرى (تمييزا لها عن سائر أقاليم قارة أسيا) أو الأناضول، هو الأسم الذي يطلق على شبه الجزيرة التي تمتد بين البحر الاسود (بحر بطنس) في الشمال، والبحر المتوسط في الجنوب، مكونة معبرا مرتفعا بين أسيا الوسطى وأوربا، حيث يفصل الركن الشمالى الغربي من شبه جزيرة أسيا الصغرى عن أوربا، مضيق البسفور وبحر مرمرة ومضيق الدردنيل، ويتاخمها من الغرب بحر إيجه بجزائره العديدة المنتشرة فيه بين أسيا الصغرى وبلاد اليونان. والساحل الغربي تتخلله وديان الأنهار التي تشق طريقها وسط الجبال، وهو كثير التعاريج فيبلغ طوله أربعة أمثال المسافة المستقيمة بين أقصى نقطة في الشمال وأقصى نقطة في الجنوب، لذلك كثرت فيه الموانى الصالحة للملاحة، فأزدهرت تجارتها في كل العصور. أما في الشرق فقد جرت العادة على تحديد أسيا الصغرى بخط يمتد من الإسكندرية إلى سمسون على البحر الأسود، ولكن بالنسبة لتاريخ العهد الجديد، يجب أن نذكر أن جزءا من كيليكية وكبدوكية وبنطس (غلاطية) تقع شرقى ذلك الخط (بين خطى طول26 إلى 36 شرقا، وبين خطى عرض 36 إلى 42 شمالاً).



2 – الوصف العام لآسيا الصغرى:
هناك اقليمان متميزان في شبه جزيرة الأناضول، من ثم لهما تاريخان منفصلان، هما الأقليم الساحلى واقليم الهضبة الوسطى التي تحدها سلاسل الجبال من الغرب والشرق والشمال. وتنحدر الهضبة الوسطى المرتفعة نحو الشمال والغرب حيث أن سلاسل الجبال في هذين الجانبين ليست من الأرتفاع مثل جبال طوروس في الجنوب والجنوب الشرقي، فجبال طوروس – فيما عدا في طرفها الجنوبي الشرقي – ترتفع ارتفاعا حادا مباشرا من الساحل الجنوبي حتى إنها هي التي تشكل تعاريجه. أما في الشمال فإن جبال بنطس – التي هي امتداد لسلسلة جبال أرمينية – تعطى للساحل الشمالى شكله أيضا. ولا توجد ميناء صالحة على هذا الساحل الشمالى سوي ميناء سينوب، حيث لا يوجد سهل ساحلى بالمرة . أما الساحل الجنوبي، فتوجد السهول الخصبة في بمفيلية وكيليكية، كما توجد ميناء مكرى وميناء مارياريكى وجليجا أداليا والإسكندرونة. أما في الغرب فإن الهضبة ترتفع تدريجيا من الساحل، وتوجد مسافة أكثر من مائة ميل تفصل ما بين جبال فريجية التي تبدأ منها الهضبة الشرقية وبين الساحل الغربي بخلجانه الصغيرة ومدنه التجارية، وتتكون هذه المائة من الأميال من وديان الأنهار التي تفصل بينها سلاسل الجبال.

وهذه الوديان هي قنوات الأتصال ما بين الداخل وساحل البحر ومع أن هاتين المنطقتين هما جزءان من اقليم واحد، إلا أنه من الواضح – فيما يتعلق بمميزات كل اقليم من نبات وحيوان ومناخ وظروف الحياة والتاريخ – أن المنطقتين مختلفتان تماما، فالهضبة ترتبط طبيعيا بالشرق، فنباتاتها ومناخها وتغيرات درجات الحرارة فيها، وتربتها الجافة وهواؤها الجاف، مشابهة تماما للمنطقة الممتدة شرقا حتى أسيا الوسطى. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس الكتاب المقدس والأقسام الأخرى). أما المنطقة الساحلية فشبيهة في مناظرها وطبيعتها العامة ببلاد اليونان وجزرها، فهى تطل على بحر إيجه، وقد أثرت وتأثرت بسكان الشاطئ المقابل من بحر إيجه، ففى سميرنا كان يمكن للسائح أن يرى صورة للحياة النشطة المتألقة لجنوبي أوربا، كما يرى في أيقونية هدوء الحياة الشرقية الجامدة. ولقد كانت أسيا الصغرى في تركيبها الجغرافي وفي سكانها – على مدى التاريخ – ملتقى حضارات الشرق والغرب مع اختلافها الكبير، سواء عن طريق الأختلاط السلمى أو الالتحام في الحروب



3 – جبال آسيا الصغرى:
تمتد سلسلة الجبال الأرمنية غربا حتى تصل إلى الخط الوهمى الذي قلنا إنه يحدد أسيا الصغرى من الشرق، وهناك تتفرع إلى سلسلتين: جبال طوروس في الجنوب، وجبال بنطس في الشمال. ويقع جبل أرجيوس (ويزيد ارتفاعه على 12.000 قدم) عند زاوية تفرع هاتين السلسلتين، ولكنه أقرب إلى جبال طوروس منه إلى الجبال الشمالية. ويشق جبال طوروس في الجانب الشمالى من سهل كيليكية ممر يسهل اختراقه وفى نفس الوقت يسهل الدفاع عنه، ويعرف باسم " بوابات كيليكية ". كما يوجد طريق آخر طبيعى يصل من وسط كبدوكية إلى أميزوس على البحر الأسود. وهاتان السلسلتان من الجبال (ومتوسط ارتفاع جبال طوروس من 7.000 – 10.000 قدم، أما السلسلة الشمالية فأقل من ذلك كثيرا في الأرتفاع) تضمان فيما بينهما غلاطية وسهول ليكأونية التي يحدها من الغرب " داغ السلطان " وجبال فريجية التي تمتد منها إلى الساحل الغربي، ثلاث سلاسل من الجبال تكتنف وديان كايوكس وهرمس ومياندر (مندرس) التي تمتد من الشرق إلى الغرب كطرق طبيعية للمواصلات والتجارة.



4 – الأنهار والبحيرات والسهول في آسيا الصغرى:
تقع السهول الكبرى في الداخل وتشتمل على أجزاء من غلاطية وليكأونية وكبدوكية على ارتفاع بين 3.000، 4.000 قدم وتصل إليها الأنهار من الجبال المحيطة بها لكى تنتهى في بحيرات مالحة ومستنقعات. وفي العصور القديمة كان الكثير من هذه المياه يستخدم في الري، فقد كانت المناطق – التي لا تضم الآن سوى عدد قليل من القرى الفقيرة – يغطيها في العصر الرومانى عدد كبير من المدن الكبيرة، تحيط بها زراعة متقدمة جدا ، في تربة شديدة الخصوبة بطبيعتها. أما باقى الأنهار فتشق طريقها في ممرات صخرية ضيقة في أطراف الجبال المحيطة بالهضبة وفي الجانب الغربي من شبه الجزيرة، تنحدر هذه الأنهار إلى وديان متسعة منها وديان كايكوس وهرمس ومياندر (مندرس) وهى من أخصب الوديان في العالم. وفي هذه الوديان الغربية، وفي وادى سنقاريا (سنجاريوس) في الشمال الغربي ، تجرى الطرق العامة العظيمة من الداخل إلى ساحل البحر وفي هذه الوديان قامت أعظم المدن التي ازدهرت في العصور الهيلينية والأغريقية الرومانية، ومنها انتشرت الثقافة الأغريقية والديانة المسيحية إلى كل البلاد وأعظم أنهار أسيا الصغرى هو نهر الهالز (قيزل) الذي ينبع من جبال بنطس وبعد أن ينحنى في دائرة كبيرة نحو الجنوب الغربي ، يتجه شمالا ليصب في البحر الأسود. والهالز والايريس، شرقي أميزوس، هما النهران الوحيدان اللذان لهما أهمية في الساحل الشمالى. أما الأنهار في الساحل الجنوبي – بأستثناء ساروس وبيراموس اللذين يجريان من كبدوكية ويرويان سهول كيليكية – فهى لاتعدو أن تكون سيولا جبلية تنحدر إلى البحر. ومن أهم معالم أسيا الصغرى أنهارها التي تختفى تحت الأرض في الصخور الجيرية، ثم تظهر مرة أخرى بعد أميال كثيرة كينابيع أو رؤوس أنهار. كما تنتشر الينابيع المعدنية والحارة في كل الاقليم، وتكثر بصورة خاصة في وادى مياندر (مندرس). كما توجد بحيرات مالحة كثيرة، كبراها هي بحيرة " أتا " في ليكأونية. كما تنتشر بحيرات المياه العذبة مثل كراليس وليمو في الجبال في الجنوب الغربي.



5 – الطرق في آسيا الصغرى:
تحدد طبيعة أسيا الصغرى نظام الطرق فيها، وقد نشطت الحركة في تلك الطرق منذ فجر التاريخ، فالقادم من الفرات أو من سوريا يدخل أسيا الصغرى عن طريق مليتينى وقيصرية أو عن طريق بوابات كيليكية. فمن قيصرية يستطيع أن يصل إلى البحر الأسود عن طريق زيلا وأميزوس، وإذا واصل سيره غربا فإنه يصل إلى منطقة بحر إيجه، بإحدى الطرق التي حددتها الطبيعة كما ذكرنا آنفا، عن طريق وديان مياندر أو هرمس أو كايكوس. وإذا كانت وجهته البسفور فإنه يسير في وادى سنقاريا. كما توجد طرق أخرى تمتد من خليج أداليا إلى إنطاكية بيسيدية أو إلى أباميا أو إلى لاودكية على نهر ليكوس ومنها إلى مياندر فأفسس. وقد حدد موقع العاصمة الحثية في " بتريا " الطريق الشمالى من السهل الأوسط للقادمين من الشرق إلى الغرب. وقد تبع ذلك المسار أيضا الطريق الملكى الفارسى . وبعد ذلك كانت الطريق من الشرق تسير بمحازاة الجانب الجنوبي من أكسيلون شمالى أيقونية وأنطاقية بيسيدية إلى سهل ليكوس ومياندر وأفسس، وهو ينطبق على نفس الطريق من بوابات كيليكية في نقطة إلى الشمال الشرقي من أيقونية. ولكى يمكن السيطرة على قبائل بيسيدية في عهد أوغسطس قيصر، تم إنشاء سلسلة من الطرق في بيسيدية تخرج من أنطاكية، وكانت إحداها تمتد من أنطاكية إلى لسترة وفيها سار الرسول بولس في رحلته من أنطاكية إلى أيقونية (أع 13: 51).



6 – المناخ والحاصلات في آسيا الصغرى:
الشتاء فوق الهضبة طويل وقارس البرد، أما الصيف فحار وقصير، ولكن النسيم البارد القادم من الشمال يخفف من درجة الحرارة في الأصيل (العصر) والساحل الجنوبي حار صيفا وتنتشر فيه الملاريا، أما في الشتاء فمعتدل الجو. ويسقط الثلج كثيرا في المناطق المجاورة للبحر الأسود. أما مناخ الساحل الغربي فشبيه بمناخ جنوبي أوربا. وبالإقليم ثروات معدنية كبيرة، وقد استغل القدماء الكثير من المناجم. كما توجد غابات من الصنوبر والبلوط وغيرها في الجبال في الشمال والجنوب. أما الهضبة الوسطى فقد اشتهرت على الدوام بقطعان الأغنام. وكان الملك أمينتاس ملك غلاطية يمتلك قطعانا ضخمة كانت ترعى في سهل ليكأونية. كما أشتهرت أسيا الصغرى بصناعة السجاد والمنسوجات، فقد اعتمدت المدن في ثرائها – إلى حد بعيد – على المنسوجات والصباغة.



ثانياً – تاريخ آسيا الصغرى:
مما سبق يتضح أن تاريخ أسيا الصغرى، يتوقف – إلى حد أبعد من أي اقليم آخر – على جغرافيتها، فباعتبارها " معبرا بين أسيا وأوربا " كانت على مدى التاريخ البشرى، ملتقى الشعوب من الشرق ومن الغرب، وساحة للمعارك. فمن أقدم العصور – التي يصل إليها علمنا – سكانها خليط من الأجناس والديانات والنظم الأجتماعية التي مازالت آثارها باقية. وعلى مدى التاريخ زحفت إلى شبه الجزيرة أجناس جديدة وديانات جديدة ونظم اجتماعية جديدة، لتجد لها مستقرا فيها.



1- الحثيون:
في فجر التاريخ حكم أسيا الصغرى شعب آري، هم الحثيون الذين مازالت تتجمع المعلومات عنهم بسرعة حتى لا يمكن الجزم بالقول الأخير عنهم. وأسيا الصغرى تعتبر الآن أنها كانت مركز حضارتهم، وهو ما يختلف عن النظرة القديمة إليهم باعتبار أصلهم من بين النهرين. فقد اكتشفت قبورهم وكتاباتهم الهيروغليفية في كل مناطق أسيا الصغرى من سميرنا إلى الفرات. ويرجع الآن أن عاصمتهم كانت في " بوغازكيوى" (على نهر الهالز مقابل أنقرة). وقد أمكن تأكيد أن موقعها هو موقع " بتريا " التي ذكرها هيرودوت والتي فتحها كيروسيوس (قارون) عند زحفة ضد الفرس، مما يستنتج منه أن الأرض الحثية التي كانت تقع شرقى نهر الهالز كانت في ذلك الوقت ولاية فارسية وقد قام بالتنقيب في المدينة القديمة " بوغازكيوى " ونكلر وبوخشتين اللذان اكتشفا بقايا المكتبة الملكية، وهى سجلات مكتوبة على ألواح خزفية بالخط المسمارى بعضها باللغة البابلية وبعضها باللغة الوطنية (كما يظن) والتى لم تفك رموزها للآن. وتدل الوثائق التي باللغة البابلية على أنه كانت هناك علاقات سياسية وثيقة بين الحثيين والممالك الشرقية. وقى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، بيدو أن الحثيين غزوا جزءا كبيرا من سوريا ورسخوا أقدامهم في كركميش، وبذلك أصبحوا على أتصال ببلاد بين النهرين. ومنذ بداية القرن العاشر قبل الميلاد، كان الحثيون على اتصال دائم – سواء كأعداء أو كمحايدين – بأهل نينوى، ولذلك فإن فنهم تبدو فيه المميزات الأشورية الملحوظة حتى أنه لا يعتبر فنا مستقبلا.



2- الهجرات الفرجية والبيثينية:
لا يمكن تحديد تاريخ هجرات الفريجيين والبيثنيين من جنوب شرقى أوربا على وجه اليقين، ولكن هذه الهجرات حدثت في بداية القرن العاشر قبل الميلاد عندما بدأت قوة الحثيين في الضعف. فبعد تجوال كثير وجد الفريجييون موطنا لهم في الجانب الغربى من الهضبة، ولم يكن لشعب من الشعوب من الأثر في تطور أسيا الصغرى قديما مثلما كان للفريجيين ، وبخاصة في مجال الدين. فملوك فريجية " أثروا في الفكر اليونانى، أكثر مما فعلت أي دولة أخرى فكانت لغتهم هي اللغة الأصلية للآلهة نفسها، وكانت بلادهم هي بلاد المدن الحصينة، وكان ملوكهم رفقاء الآلهة أنفسهم ". ومن أهم آثار " اقليم فريجية ": " قبر ميداس والحصن فوقه، وغيره من القبور الصخرية المحيطة به، كما توجد بعض النقوش الشبيهة بالنقوش الأيونية (اليونان ) الأولى، على بعض القبور. كما ثبت – من حوالى سبعين نقشا – إن اللغة الفريجية – وهى لغة هندية جرمانية فيها شبه باليونانية والطليانية – ظلت تستخدم في العصر المسيحى. ويدل نقشان – قد اكتشفا حديثا – على أنها كانت مستخدمة في أيقونية نفسها " أقصى مدن فريجية " على الجانب الليكأونى، حتى القرن الثالث الميلادى. وجاء في هذه النقوش اسما " ما (سيبل) وأتيس " اللتين كان لهما أثر بالغ في ديانات اليونان وروما.



3- الليديون واليونان والفرس:
والدولة التي قامت بعد ذلك في أسيا الصغرى هي دولة ليديا – التي مازال أصلها غامضا – لقد سقطت الأمبراطورية الفريجية أمام غزوات الكيميريين في القرينين التاسع والثامن قبل الميلاد. وفي 617 ق. م صد ألياتس ملك ليديا هجوما ثانيا للكيميريين، كما أن كروسيوس ملك ليديا (وقد اشتهر كلاهما بثرائهما) كان سيدا لكل اقليم الهالز ولكل المستعمرات الإغريقية على الساحل، وقد بلغت هذه المستعمرات – التي أسسها هلاس – قمة مجدها في القرن الثامن قبل الميلاد، وانتشرت على سواحل أسيا الصغرى الثلاثة. ولفشلها في الاتحاد معا، أصبحت تحت رحمة كروسيوس، ثم تحت رحمة الفرس الذين هزموه ( في 546 ق. م) وقد قسم الفرس أسيا الصغرى إلى ولايات، ولكن المدن الإغريقية وضعت تحت سيطرة أمراء يونانيين يعترفون بسيادة الفرس. كما ظلت أجناس كثيرة في الداخل تحت حكم أمرائهم الوطنين وهزيمة أحزركسيس ( أحشويرش) أمام اليونانيين، حررت المدن اليونانية في أسيا الصغرى، وظلت حرة في عصور ازدهار أثينا. وفي 386 ق. م استعادها الملك الفارسى نتيجة دبلوماسية سبرطة الأنانية.



4- الإسكندر الأكبر خلفاؤه:
عندما عبر الإسكندر الأكبر مضيق الدردنيل في 334 ق. م. بدأ عصر جديد لليونانيين الأسيويين، فإلى ذلك العهد كانت المدن اليونانية في أسيا الصغرى مجرد مجتمعات تجارية، ورغم الجهود المتقطعة للاتحاد، ظلت كل منها مستقلة عن الأخرى بل وفي تنافس فيما بينها. تحاول كل منها تدمير الأخرى سعيا وراء المنفعة الأنانية وظلت هذه المستعمرات محصورة في المناطق الساحلية وفي وديان الأنهار المفتوحة للغرب. وكان الإسكندر الأكبر هو أول من فكر في إنشاء امبراطورية يونانية في أسيا الصغرى ونفذ ذلك فعلا، ومع ذلك استمر التنافس بين المدن رغم أنها جميعها أصبحت أعضاء في امبراطورية واحدة لها رسالة واحدة ، وهو ما أثار فيما بعد سخرية الرومان. وفي تلك الفترة بدأ نشر الحضارة الهيلينية في المناطق الداخلية في أسيا الصغرى، فقد كان هم خلفاء الإسكندر من الأتاليديين والسلوقيين أن يوطدوا دعائم الحكم اليونانى على كل الأجناس والقوميات، وأهم كل شيء أن يرتفعوا بهم إلى مستوى الحضارة والثقافة اليونانيتين، وقد نجحت هذه الجهود جزئيا ولفترة محدودة، ولكن هذا النجاح وما تلاه من جهود الرومان أيضا، كان له أثر بالغ في انتشار المسيحية في القرن الأول.



5- الغلاطيون:
جاء الغلاطيون – وهم قبيلة كلتية – من أوربا في 278 / 277 ق. م. ليستقروا نهائيا في شرقي فريجية القديمة وعلى جانبى نهر الهالز (قيزل) وطريقة دخولهم إلى أسيا الصغرى واستقرارهم بها وطبعها بطابع شخصيتهم القوية، إنما تذكرنا بالملامح الأساسية لهجرة الفريجيين إليها قبل ذلك بألف عام. " إن منطقة غلاطية التي كانت في عصور سحيقة المركز الرئيسي لحكم الشرقيين للمناطق الداخلية في أسيا الصغرى – والتى مازالت تحتفظ (فى تماثيلها الصخرية الشهيرة الموجودة في " بوغازكيوي " التي هي مدينة بتريا الملكية القديمة) بالمجد القديم الذي كاد ينسى – صارت على مر القرون جزيرة كلتية – لغة وحضارة – وسط أمواج من الشعوب الشرقية، وظلت هكذا في نظامها الداخلى حتى في أيام الإمبراطورية الرومانية ". ولكن هؤلاء الغاليين وقعوا تحت تأثير شرقي قوي، فطوروا – إلى حد ما – الديانة المحلية واعتنقوها تماما حتى أنه لم يظهر في كل نقوشهم وآثارهم سوي اسم واحد لإله كلتى، كما أنه لم تكتشف فيها مطلقا أي كتابة باللغة الغلاطية، مع أننا نعلم أنها ظلت لغة الطبقات الدنيا حتى القرن الرابع الميلادى. ويبدو أن الغلاطيين قد قضوا على اللغة الفريجيية في الجزء من غلاطية الذي كان قبلا فريجيا، فلم تكتشف إطلاقا أي كتابة أو نقوش فريجية في غلاطية، ورغم وجودها بكثرة في المناطق المتاخمة لها من الجنوب والغرب ولكن اللغة الغلاطية لم تستطع منافسة اليونانية كلغة للطبقة المثقفة، بل حتى الطبقات الأدنى التي كانت تعرف الكتابة، كانت تكتب باليونانية. كما حل نظام المدن الإغريقو رومانى محل النظام الكلتى القبلى في وقت مبكر وبصورة أكمل مما حدث في بلاد الغال نفسها، ورغم ذلك ظل الغلاطيون بمعزل عن اليونانيين والشرقيين ، وقد أدركت الدبلوماسية الرومانية ذلك، حتى إنه في صراع روما ضد الشرقيين واليونانيين في عهد ميثرادتس، وجدت لها في الغلاطيين حليفا قويا. وكان الغلاطيون يعتبرون أفضل الجنود في عصر الإمبراطورية.



6- الرومان في أسيا الصغرى:
أصبح للرومان نفوذ قوى في شئون أسيا الصغرى بعد هزيمتهم لأنطيوكس الكبير في 189 ق. م ولكن لم يبدأ احتلال الرومان لها إلا بعد أن أوصى أتالس ملك برغامس بمملكته " أسيا " للدولة الرومانية، فكانت هذه المملكة هي ولاية أسيا، ثم أضافت إليها ولاية بيثينية عند موت نيكوميدس الثالث في 74 ق. م.، وإليها أضيفت بنطس فيما بعد، كما ألحقت بها في عام 100 ق. م. كيليكية التي أهدت للإمبراطورية وللكنيسة الرسول بولس، وأعيد تنظيمها في عهد بومبي في 66 ق. م وكان الحكم الرومانى قد أستقر في هذه الولايات عند تأسيس الأمبراطورية، وبناء على مبدأ أن كل منطقة يستتب فيها السلام تخضع لإدارة مجلس الشيوخ ، بينما يحكم الأمبراطور بصورة مباشرة المناطق التي كانت في حاجة لوجود جيوش رومانية فيها، بناء على ذلك خضعت كل هذه الولايات الأسيوية باستثناء كيليكية – لمجلس الشيوخ، بينما بقيت كل منطقة في أسيا الصغرى – أضيفت بعد ذلك – في يد الأمبراطور، ونظمت كل هذه المناطق التي خضعت لروما في ولايات تحت حكم الامبراطور، ومن بينها كانت غلاطية التي أضيف إليها، في أيام ملكها الأخير أمينتاس ، جزء من فريجية وليكأونية وبيسيدية وبمفيلية، وأصبحت ولاية رومانية عند موته في 25 ق. م. (واستيلاء غلاطية في عهد أمينتاس على أنطاكية وإيقونية ولسترة ودربة، وادماج هذه المناطق في ولاية غلاطية، وهو الأساس التاريخى لنظرية " غلاطية الجنوبية ")، كما ضمت إليها بافلاجونيا في 7 ق. م. وكبدوكية في 17 م وليكأونية في 43 م ، وفي 63 م أضيف من بنطس الجزء المحصور بين أريس وأرمينية. وكانت أسيا الصغرى الرومانية في عهد الرسول بولس تشمل كل هذه المناطق.



ثالثاُ – أسيا الصغرى في القرن الأول:
1- سكان آسيا الصغرى:
إن تقسيم أسيا الصغرى إلى ولايات رومانية لم يتبع التقسيمات العرقية، بل إن هذه الاقسام نفسها لم تكن واضحة على الدوام وكما هو واضح من الموجز التاريخى السابق، كان سكان أسيا الصغرى من أجناس مختلفة جاءت جنسا بعد جنس، وتخلوا – إلى حد ما – عن شخصياتهم، وتطبعوا بالطابع الأناضولي. وتجاوبا مع ما ذكرناه سابقا عن انقسام أسيا الصغرى إلى اقليمين متميزين، واعتبارها ملتقى الشرق والغرب، نستطيع أن نستنتج من هذا الخليط من الأجناس والثقافات، وجود نظامين اجتماعيين متزاتمنين هما النظام القومى والنظام الهيلينى. وقد امتزج هذان النظامان واختلط أحدهما بالآخر (وبخاصة كنتيجة للحكم الرومانى)، ولكنهما يتجاوبان – بصورة عامة – مع التمييز بين نظام المدن، والحياة بمقتضى الأسلوب القروى (كما لاحظ سترابو) فقد كانت هناك هوة عميقة تفصل بين هاتين الصورتين للمجتمع.



2- النظام الاجتماعى القومى في آسيا الصغرى:
كان الاتجاه العام في أيام الحكم الرومانى، هو امتصاص الأناضوليين الأصليين في المدن اليونانية والمواطنة الرومانية، ولكن في العصر الرسولي، لم تكن هذه العمليات قد تعمقت في داخل الاقليم، وكان النظام الأجتماعى القومى مازال قائما يعيش في ظله قطاع كبير من السكان، وكان يجمع بين الشكل الثيوقراطى (حكم رجال الدين) للحكومة وأنماط مشتقة من مجتمعات منقرضة كانت السيادة فيها للأم. وكان مركز المجتمع القومى هو معبد الإله بمجموعته الكبيرة من الكهنة الذين يعيشون من موارد المعبد، وسائر الشعب الذين كانوا خداما أو عبيدا للإله يعملون في مزارع المعبد، وكانت القرى التي يعيش فيها هؤلاء العمال ملاصقة للمعبد. وكان للكهنة (أو الكاهن) السلطة المطلقة على الشعب. وكانت هناك طبقة " مقدسة " تقوم بخدمات خاصة (ربما لفترة محددة) في المعبد، وكانت هذه تتضمن أحيانا – في حالة النساء – ممارسة الدعارة الدينية. ففى أحد النقوش تفخر امرأة من ليديا (من طبقة رفيعة كما بيدو من أسمها الرومانى) بأنها من سلالة خدمت الآلهة بهذه الطريقة وأنها هي نفسها قد مارستها، وكانت أولئك النسوة يتزوجن فيما بعد من طبقتهن دون أن يكون في عملهن هذا أي عار. وكثير من النقوش تدل على أن الإله (عن طريق كهنته) كان له الاشراف الدقيق على كل الحياة الأدبية واليومية لشعبه، لقد كان حاكمهم وقاضيهم ومعينهم وشافيهم.



3- عبادة الأمبراطور في آسيا الصغرى:
لقد حدث تطور في مفهوم الحكومة الدينية (الثيوقراطية) بدخول عبادة الأمبراطور، لقد أصبح الولاء للإله مرادفا للولاء للامبراطور، فملوك السلوقيين ومن بعدهم أباطرة الرومان – على أرجح الآراء – أصبحوا ورثة ممتلكات الكهنة الذين جردوا منها، فقد ظهر إلى جانب الإله الأناضولى إله آخر هو الامبراطور الإله، وهكذا شارك الامبراطور الإله أو حل محل الإله القديم مثل زيوس وأبولو الخ. وهناك نقوش تسجل تكريس المعابد للإله القديم وللامبراطور معا. واقيمت في كل مكان وبخاصة في المدن، معابد جديدة لعبادة الامبراطور، وأصبحت أسيا الصغرى موطنا لعبادة الامبراطور، فقد وافقت النظام الدينى الذي كان موجودا فيها عنه في أى مكان آخر. وقد كشفت النقوش حديثا عن وجود جماعة " الرفقاء الضيوف من ذوى العلامة السرية " كانوا يعيشون في إحدى مزارع المعابد بالقرب من أنطاكية بيسيدية، وأصبحت في يد الأمبراطور الرومانى. وكان يدير المزرعة وال (لعله رئيس كهنة المعبد المحلى) نيابة عن الامبراطور. وهذه الجماعة صورة لجماعات مماثلة كثيرة في داخل أسيا الصغرى لم تكتشف إلا حديثا. كانت هذه الجماعات هي التي أيدت عبادة الامبراطور في مجتمعاتها، كما أنها كانت هي التي أثارت رجال الحكومة الرومانية ضد المسيحيين في أوقات الأضطهاد. وبمرور الوقت أصبح الناس في المزارع الامبراطورية مستعدين للبقاء رقيقا للامبراطور ولكنه كثيرا ما رفع الامبراطور بعضها أو جزءا منها إلى مرتبة المدينة.



4- النظام الهيلينى في آسيا الصغرى:
لقد كانت تحكم أغلب المناطق الداخلية في أسيا الصغرى حكومات ثيوقراطية ، أما المدن اليونانية فقد تعدت شيئا فشيئا على ممتلكات وامتيازات المعبد القديم. وقد أسس السلوقيون والأتاليديون الكثير من هذه المدن، وكان معنى ذلك – أحيانا – إقامة نظام جديد، أي إقامة حكومة مدنية يونانية في المدينة القديمة مع إضافة سكان جدد، وفي أغلب الأحيان كان هؤلاء السكان الجدد من اليهود الذين كان السلوقيون يعتبرونهم أهلا للثقة، والأرجح أن اليهود في أنطاكية بيسيدية (أع 13: 14) كانوا من هذه الطبقة وكان الغرض من هذه المدن صبغ البلاد بالصبغة الهيلينية وأن ينتقل تأثيرها إلى المدن المجاورة. وكان التناقض واضحا بين نظام الحكم الشرقى المطلق ونظام المدن الإغريقية والرومانية. وفي القرون الأولى من تاريخ الامبراطورية الرومانية، كانت هذه المدن تتمتع بنوع من الحكم الذاتى، وكان القضاة ينتخبون، وكان الأغنياء في نفس المدينة ينافسون بعضهم بعضا، كما كانت كل مدينة تنافس الأخرى، في إقامة المبانى العامة الفخمة وإنشاء المدارس ونشر التعليم وكل ما تعنيه الأمم الغربية بالحضارة. ودخل – عن طريق المدن الإغريقية – البانثيون (مجمع معابد الآلهة) اليونانى، واقتصر دور آلهة هلاس على مجرد إضافة أسمائهم إلى أسماء آلهة البلاد، فحيثما نجد تفصيلات عن عبادة في داخل الأناضول نرى على الفور الملامح الأساسية للإله الأناضولى القديم تحت ستار الإله اليوناني أو الرومانى.

لقد احتقر الإغريق على الدوام تطرف الديانات الأسيوية، كما أن ثقافة اليونانيين من أهل الأناضول، الأكثر تقدما، لم تستطع أن تقبل هذه الديانات المنحطة التي سعت للحفاظ على الأوضاع الاجتماعية التي قامت في ظلها، في أقبح صورها وأحطها. " لكن المجتمع في الريف كان أفضل من ذلك بينما ظل النظام الاجتماعى البدائي سائدا في المعابد العظيمة كواجب دينى ملزم للطبقة المقدسة في فترات خدمتهم في المعبد.. وكانت الفجوة التي تفصل الحياة الدينية عن حياة الثقافة تزداد باستمرار اتساعا وعمقا. كانت هذه هى الأحوال السائدة عندما دخل الرسول بولس إلى هذه البلاد، فحيثما كان التعليم قد أنتشر فعلا، فإن الرسول كان يجد أناسا مستعدين وتواقين لقبول رسالته " ويفسر لنا هذا " التأثير العجيب السريع لكرازة الرسول في غلاطية، كما جاء في سفر الأعمال" ( سير وليم رمزى: مدن وأسقفيات فريجية – ص 96).



5- المستعمرات الرومانية في آسيا الصغرى:
نستطيع أن نلحظ تطورا تدريجيا في تنظيم المدن على النمط الرومانى للبلديات، وكان من العوامل الرئيسية في ذلك انشاء مستعمرات رومانية في جميع الجهات الداخلية في أسيا الصغرى، التي كانت " قطعا من روما " في تلك الولايات، فقد انشئت هذه المستعمرات على المثال الرومانى تماما، وكانت أشبه بمعسكرات من المحاربين للمحافظة على استتباب الأمن في بعض المناطق المتمردة. وعلى هذا المثال كانت أنطاكية ولسترة (وأيقونية التي كانت تعتبر مستعمرة أقامها كلوديوس، ولكن المعروف الآن أن الذي رفعها إلى هذه الدرجة هو هارديان). وفي القرن الأول كانت اللاتينية هي اللغة الرسمية في المستعمرات ولكنها لم تتغلب مطلقا على اليونانية في الاستخدام العام، وسرعان ما حلت محلها اليونانية في المستندات الرسمية. وقد بلغ التعليم أعلى المستويات في المدن اليونانية والمستعمرات الرومانية، وهى التي توجه إليها الرسول بولس للكرازة بالإنجيل.



رابعاً – المسيحية في أسيا الصغرى:
لقد رسخت أقدام المسيحية – في حياة الرسول بولس – في الكثير من المراكز الكبرى للثقافة اليونانية الرومانية في أسيا وغلاطية. وقد كان التبشير بالإنجيل في أفسس – عاصمة أسيا، وإليها كانت تنتهى إحدى الطرق العظيمة التي كانت تخترق شبه الجزيرة – عاملا كبيرا في نشر المسيحية في المناطق الداخلية من أسيا وبخاصة في فريجيه، وبناء على خطة الرسول بولس، رسخت المسيحية أولا في المدن ومنها انتشرت إلى كل مناطق الاقليم.



النقوش المسيحية:
وأول مقر لها كان في فريجية حيث نجد الكثير من الوثائق التي ترجع إلى نهاية القرن الثانى وبداية القرن الثالث الميلادى. وأهم ما يميز هذه النقوش القديمة هو خلوها – بعامة – من أي شيء يدل بوضوح على مسيحيتها، وهي ظاهرة تجعل من الصعب تمييزها، وكان الهدف من ذلك تجنب استلفات أنظار أشخاص قد يثيرون السلطات الرومانية لاتخاذ اجراءات ضدهم وترجع النقوش الليكأونية إلى نحو قرن بعد ذلك، ولم يحدث هذا لأن المسيحية لم تنتشر من إيقونية ولسترة وغيرها بنفس السرعة التي انتشرت بها من المدن الأسيوية، ولكن لأن الثقافة اليونانية استغرقت وقتا أطول في الوصول إلى السهول قليلة السكان في الهضبة الداخلية عنها في المناطق الغنية بمدنها. ويتضح من رسائل بلينى إلى الامبراطور تراجان (111 – 113 م) أن الديانة الجديدة كانت قد رسخت في بيثينية في أوائل القرن الثانى، ولكن كان تقدم المسيحية أبطأ في الجهات الشرقية حيث كانت المعابد العظيمة مازال لها تأثيرها الكبير. ولكن في القرن الرابع أنتجت كبدوكية رجالا عظاما من أمثال باسيليوس والجريجوريين. وقد اشتعلت الاضطهادات بعنف – كما تثبت الكتابات والنقوش الكثيرة – في أسيا الصغرى. ويبدو تأثير الكنيسة في أسيا الصغرى في القرون الأولى من الامبراطورية من تلك الحقيقة: أنه لا يكاد يوجد أثر لديانة مثرا – المنافس الرئيسي للمسيحية – في كل الاقليم.

ومنذ مجمع نيقية (325 م) أصبح تاريخ أسيا الصغرى هو تاريخ الامبراطورية البيزنطية، فتوجد أطلال الكنائس من العصر البيزنطى في كل نواحى شبه الجزيرة، وتكثر بصورة خاصة في المناطق الوسطى والشرقية، وقد نشر سير وليم رمزى ومس ج. بل كتابا مفصلا عن مدينة ليكأونية التي كان بها عدد كبير جدا من الكنائس، بعنوان " ألف كنيسة وكنيسة " . وظلت القرى المتحدثة باليونانية في أجزاء كثيرة من أسيا الصغرى على اتصال دائم بالامبراطورية الرومانية.



أسيا الصغرى – أركيولوجيتها:
إنه لمن الصعوبة بمكان أن نوفى هذا الموضوع حقه حيث أن المنقبين مازالوا يكتشفون كل يوم جديدا، ويبذلون جهودا جبارة لفك رموز النقوش البالية. ويجمعون الوثائق، وأصبح من الواضح الآن أنه قد انفتح في أسيا الصغرى مجال واسع للاكتشافات الأثرية لايقل إغراء عما في وادى الفرات ووادى النيل.



1- التأثير المبكر من بلاد بين النهرين:
كتب بروفسور سايك في 1907 ليذكر قراءه بأن علماء الجغرافيا الإغريق كانوا يقولون إن كبدوكس هو ابن نينياس، أي أنهم رجعوا بأصل الثقافة الكبدوكية إلى نينوى، كما أنهم رجعوا بأصل أسرة المرمناديين ملوك ليديا إلى نينوس بن بيلو أي من بابل عن طريق أشور. والأرجح أن هذه الأساطير تحمل شيئا من التاريخ الحقيقى ، فجدول الأمم (تك 10: 22) يؤيد ذلك حيث نجد أن لود (ليديا) كان ابنا لسام وأخا لأشور، ولكن ليس معنى هذا أن أعدادا كبيرة من نسل سام قد استوطنوا أسيا الصغرى، وإن كان بروفسور ونكلر وآخرون يرون أن اللغة والكتابة والأفكار والقوانين المتميزة للحضارة البابلية كانت واسعة الانتشار بين شعوب أسيا الغربية، وأنه منذ العصور القديمة تأثرت أسيا الصغرى بها. ويسجل سترابو تقاليدا يقول إن "زيل وتيانا" قد شيدتا "فوق ركام سميراميس" وبذلك ربط بين هذين الموقعيين القديميين وثقافة بلاد بين النهريين. كما يرجح دكتور دافيد روبنسون أن أساسات سينوب القديمة هي أساسات أشورية، ولو أن التاريخ لايقول لنا بالتفاصيل كيف استقر الميليزيون في هذا المكان الواقع في أقصى شمالى شبه الجزيرة وأفضل ميناء فيها. كما لم يستطع سترابو أن يعود بتأسيس سمسون – (أميزوس القديمة) والميناء التجارية الهامة شرقى سينوب - إلى الميليزيين، ولكن الصورة
رقم 1 على هذه الصفحة تبين بوضوح التأثير الأشورى وهى تمثال خزفى اكتشف حديثا في سمسون القديمة. وهكذا يبدو أن التأثير الدينى والثقافى لبلاد بين النهرين قد صبغ بلونه أسيا الصغرى – على الأقل في بعض النقاط – حتى شواطئ البحر الأسود، وفى الحقيقة أن أسيا الصغرى تبدو في شكلها كأنها يد صديقة تمتد من قارة أسيا نحو قارة أوربا.



2- الألف الثالثة قبل الميلاد:
لقد بنى بروفسور سايك أراءه المذكورة سابقا على الألواح المسمارية التي اكتشفت في " كارا إيوك " أو " الركام الأسود "، وهو موقع قديم داخل منحنى نهر الهالز (قيزل) بالقرب من قيصرية مازاكا. وقد فك رموز هذه الألواح بروفسور سايك نفسه ومعه بروفسور بنشر، وثبت أنها من عهد إبراهيم – أو حمورابي (حوالى 2250 ق. م.). وقد كتب بلهجة أشورية، فقد كان المستوطنون في المكان جنودا من القسم الأشورى من الإمبراطورية البابلية، يعملون في المناجم والتجارة، وكانت أهم المعادن التي يستخرجونها الفضة والنحاس وربما الحديد أيضا " وكان الزمن يحسب كما في أشور بواسطة موظفين يطلق عليهم أسم " ليمى " ومنهم أخذت السنة اسمها. وكان لهؤلاء المستعمريين معبد له كهنته، وكان التبادل المالى يتم تحت الأشراف الدينى. وكانت هناك طرق وعربات بريد تمتلئ بالرسائل المكتوبة بالخط المسماري على ألواح من الطوب، وبالتجار المتجوليين بالثياب الفاخرة، مما يجعل من الطبيعى أن يجد عخان رداء شنعاريا فاخرا بين غنائم مدينة عاى (يش 7: 21). كما كان الرق أمرا معترفا به، كما نرى صبيا يرسل للحلاق لختانه، وبيتا وزوجة وأطفالا يرهنون ضمانا لدين، وشخصا " يقسم على رأس عصاه " مما يلقى ضوءا على الأعداد التي تصف يعقوب وهو على فراش الموت يبارك أولاده (تك 47: 31، عب 11 : 21). وهكذا نرى أن أسيا الصغرى منذ العصور قد استضاءت – في نواح كثيرة – بحضارة ما بين النهرين كما بعثت ببعض الأشعة المتفرقة إلى العالم اليونانى.



3- الألف الثانية قبل الميلاد:
أول القبائل الهامة التي استوطنت أسيا الصغري هم الحثيون. فمنذ عام 1872 عندما رجح دكتور رايت أن الكتابه الهيروغليفية الغربية على الأربعة الألواح البازلتية التي اكتشفها في حماة، هي من الفن الحثى، أخذت تتجمع كميات هائلة من هذه الأكتشافات أمام الباحثين. فهناك تماثيل من نفس الطراز لصور رجال الباحثين. فهناك تماثيل من نفس الطراز لصور رجال ونساء وآلهة وأسود وغيرها من الحيوانات، والنسور برؤوس مزدوجة، وتماثيل أبى الهول، وآلات موسيقية، وعجلات مجنحة والكثير من الأشكال الأخرى التي لايمكن معرفتها تماما، ومعها جميعها كتابات هيروغليفية لم تفك رموزها حتى الآن، والنقوش تقرأ من اليمين إلى الشمال ومن الشمال لليمين. كما اكتشفت قلاع بأسوار ومتاريس وبوابات وانفاق وخنادق وقصور ومعابد وغيرها من المبانى، وأكثر من هذا وجدت بعض الألواح المسمارية على وجه الأرض مما أدى إلى الاعتقاد بأنه لابد أن هناك وثائق مكتوبة ذات قيمة مدفونة في الأرض. فهناك آثار حثية في مالاتيا وماراش وقرة بل وسكجى جيزى وجوران وبوغازكيوى وإيوك وسنقاريا والعديد من المواقع. وكانت كركميش وقادش على نهر الأورنت مدنا كبرى في شمالى سوريا. وكان الحثيون في الأراضى المقدسة – سواء في أيام إبراهيم أو في أيام داود وسليمان – فروعا من نفس الأمة التي كان موطنها الأصلى في أسيا الصغرى.وقد أصبحت بوغازكيوى في السنين الأخيرة أشهر مدن الحثيين في أسيا الصغرى، فهي مدينة نموذجية تقع في شمالى كبدوكية إلى الجنوب من سينوب. وتوجد في يازيلى – إحدى ضواحيها – صخور مكتوبة أو منحوتة على شكل تماثيل. كما أن إيوك بمعبدها الذي تحرسه تماثيل أبي الهول تقع على بعد 15 ميلا إلى شمالها. لقد كان من حسن حظ بروفسور هيجو ونكلر من جامعة برلين الحصول على التمويل اللازم، وكذلك إذن الحكومة التركية، فاستطاع في صيف 1906 أن يكشف عن حوالى 3.000 لوح أو أجزاء من ألواح مكتوبة بالخط المسمارى باللغة الحثية. وكان هذا أول اكتشاف لمخزن من الكتابات الحثية التي لم تفك رموزها، وقدمت للعلماء عملا عظيما ليقوموا به. وهذه الألواح من الطين مكتوبة من الجهتين ثم حرقت حتى احمرت . والكتابة في الغالب في أعمدة منتظمة وكانت الحروف المسمارية – مثلها مثل الأبجدية اللاتينية في العصور الحديثة – مستعملة في جهات كثيرة بعيدة عن موطنها الأصلى، وعلى مدى آلاف السنين. والقليل من ألواح بوغازكيوي باللغة البابلية، وعلى الأخص نسخة من المعاهدة التي عقدت بين رمسيس الثانى ملك مصر وخيتاسار ملك الحثيين في وسط أسيا الصغرى، ولم يستخدم الكتبة الحروف البابلية فحسب، بل استخدموا أيضا بعض الصور الرمزية، وهي التي قدمت المفتاح لمفردات مئات الكلمات التي نشرها بنشر وسايك. وعندما ينشر ونكلر ومعاونوه من الألمان الألواح التي أودعوها متحف القسطنطينية، فيمكن أن نستمع إلى نغمات شاعر حثي (وكأنه هوميروس) يتحدث إلينا من خلال هذه الألواح الخزفية التي كتبت في زمن معاصر لموسى. وتبدو أبراج طروادة أمام بوغازكيوي وكأنها قرية صغيرة محصنة.

والتماثيل الحثية تمثل نوعا محددا من الناس بوجوه عريضة وعيون مائلة وأنوف بارزة وملامح منغولية، مما يجعلنا نفترض أنهم من دم طوراني أو منغولي، فهم قطعا ليسوا ساميين، والأرجح أنهم لم يكونوا آريين. وحيث أنهم احتلوا كثيرا من المراكز الداخلية في أسيا الصغرى قبل وفي أثناء الألف الثانية قبل الميلاد، فالأرجح أنهم قد احتلوا كل أو معظم المناطق التي تتخللها، فعاصمة عظيمة مثل بوغازكيوى بتحصيناتها الضخمة كانت تحتاج إلى ولايات شاسعة لتموينها وكان لابد أن تبسط سلطانها على كل المناطق المحيطة بها حتى لا تترك عدوا لها على مسافة يستطيع أن يضربها منها، والمعتقد الآن عموما أن " الأمازونيات " كن الكاهنات الحثيات لإحدى الإلاهات اللواتى انتشرت عبادتهن في كل أسيا الصغرى. وتمتد" جبال الأمازون " – التي مازالت تحتفظ هناك باسمها القديم – موازية لساحل البحر الأسود بالقرب من نهر إيريس. والرأي الشائع هناك هو أن النساء أقوى من الرجال وأكثر جلدا منهم على العمل، وأطول منهم عمرا وأصلب منهم في القتال والدراسة المقارنة للأوانى الخزفية المزخرفة – التي توجد بكثرة في المواقع القديمة من البلاد – تجعل من الأرجح أن تكون الروابي الصناعية – وهى إحدى معالم الأناضول – والمقابر الصخرية المنحوتة – والتي لعل أشهرها تلك التي في أمازيا من صنع الأيدى الحثية.

والتماثيل الحثية توحي بقوة بأنها كانت لأغراض دينية أكثر منها سياسية أو حربية، فقد كان الشعب شعبا وثنيا له آلهة كثيرون والإهات كثيرات ، كان يعتبر واحد منها أو زوجين على رأس البانثيون، فألقاب مثل سوتخ كركميش وسوتخ قادش، وسوتخ بلاد الحثيين دليل على أن الإله الرئيسي كان إلها محليا في مختلف الأماكن، ولعله كان يختلف أيضا في الأوصاف . وكانت إحدى الإلاهات الرئيسية تسمى " أنتاراتا "، فكانت هي الإلاهة الأم لأسيا الصغري التي بزت قرينها وتصور في التماثيل مع وجه شاب ذكر، كرفيق لها، لعله كان تصويرا لأسطورة " تموز " الذي كانت النسوة العبرانيات المخطئات يبكين عليه ( خر 8: 14) وقد سمي " أتيس " فيما بعد ذلك، وهو يشير إلى الحياة بعد الموت، والربيع بعد الشتاء، وجيل بعد جيل. وكان الإله الرئيسي المعبود في بوغازكيوي هو " تيشوب "، وإله آخر اسمه " خيبا "، ويظهر هذا الأسم نفسه في ألواح تل العمارنة المرسلة من أورشليم، مما يفسر قول النبي لأورشليم: "أمكن حثية" (خر 16: 45)

ومازالت عبادة الحثيين – في زمن معاصر للخروج – مصورة على صخور " يازيلي كايا " فقد كانت هذه البقعة هي مقدس العاصمة، كما يوجد بها بهوان صخريان مكشوفان، أكبرهما به على الجانبين حوالى ثمانين صورة محفورة على الحائط الصخرى الطبيعى الذي صقل لهذا الغرض حتى صار أملس، ويجتمع الجانبان في الطرف الداخلي من البهو. والصور بالقرب من المدخل في نحو نصف الحجم الطبيعى وكلما اتجهنا إلى الداخل كلما زاد ارتفاع الصور حتى تصبح الصورتان عند رأس البهو أكبر من الحجم الطبيعي، وهما يمثلان الكاهن الرئيسي والكاهنة الرئيسية أو الملك والملكة، وكل منهما تقف خلفه حاشية من جنسه، ويرتفع الملك الكاهن فوق رأسي اثنين من رعاياه أو أسراه والملكة الكاهنة فوق فهد ويقف خلفها ابنها.

وأطلال أيوك متراكمة وتتكون من معبد صغير، يحرس بابه تمثال لأبي الهول، مع صفين بهما حوالى أربعين من العابدين، والحجرة الرئيسية للمعبد 7 × 8 ياردة مربعة، وهى شبيهة بالقدس في خيمة الأجتماع الإسرائيلية التي كانت تعاصرها تقريبا فكلتاهما لم تكن تتسع لجماعة العابدين، بل تتسع فقط للكهنة الذين عليهم الخدمة. وتماثيل أبي الهول عند المدخل تذكرنا بالكروبيم في الهيكل الإسرائيلي. كما كانت هناك نسور مجنحة برؤوس مزدوجة تزين الحوائط الداخلية للمداخل. وبين هذه الصفوف من التماثيل على الصخور البازلتيه من ناحية المقدس، مذبح ينتصب أمامه ثور على قاعدة، ويقف خلفه كاهن يلبس قرطا كبيرا، وخلف الكاهن مباشرة تقف ثلاثة خراف وعنزة بالقرب من المذبح (قارن ذلك بما جاء في خروج 32). وصنعه عجلا " بنى مذبحا أمامه " " وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة. وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب ". كانت عبادة الإسرائيليين في بعض الطقوس شبيهة بعبادة الحثيين، ولكنها كانت تختلف عنها في محتواها الروحى اختلافا كليا. أما الآلات الموسيقية، فنرى في صور إيوك بوقا (فضيا ؟) وما يشبه الجيتار . ويمثل المملكة الحيوانية ثور آخر على ظهره صندوق أو تابوت، وأسد جيد النحت، وأرنبان بين مخلبي نسر، وهناك نبع قريب كمورد للماء اللازم للعابدين لطقوس العبادة.

ويقول بروفسور جارستانج في كتابه " أرض الحثيين " أن القوة التي كانت قد بدأت تضعف بعد سنة 1200 ق. م، نهضت مرة أخرى في القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد، وينسب لهذه الفترة آثار سكجى غيزى التي اكتشفها مع آثار حثية أخرى في أسيا الصغرى. كما قامت في الشمال الشرقى دولة " فان " المعروفة باسم " أورارتو " " أراراط " وهم من أقرباء الحثيين، ولكنهم كانوا منفصليين عنهم، كما بدأ الفريجيون يسودون في الغرب، وزحف الأشوريون على الجنوب الشرقي، ثم أجهزت جحافل الكمرانيين المخربين على الحثيين، وبعد أن استولى الأشوريون على كركميس في 717 ق. م لانجد أثراً للحثيين في الأكتشافات الأركيولوجية.



4- الألف الأولى قبل الميلاد:
قبل اختفاء الحثيين من أواسط أسيا الصغرى، استقرت أشتات من شعوب آرية، قريبة الصلة – إلى حد ما – باليونانيين، في نقاط مختلفة على الساحل. وكان " شلمان " رائد الاكتشافات الأركيولوجية في هذا الميدان، فبحماسته المتقدة وسعة حيلته ومثابرته، أماط اللثام عن كنوز مدينة " بريام " واسترجع ذكريات الأيام الغابرة حين كان العالم في صباه ومن أثمن المجموعات في متحف القسطنطينية، مجموعة طروادة التي تشتمل على فؤوس من البرونز ورؤوس رماح وأدوات من النحاس ووزنات من الفضة وأكاليل وأقراط وأسورة من الذهب وخناجر وإبر من العظام، ورؤوس مغازل من الطين المحروق، وأعداد من الأصنام والتقدمات وغيرها من الأشياء التي وجدت في طروادة.

وقد جاء المهاجرون من الفريجيين والتراقيين ثم من الغلاطيين من الشمال الغربي عبر الدردنيل واستقروا بين السكان القدامى. وهناك بعض الأشياء المشتركة بين الحضارتين الكريتية والإيجية وحضارة أسيا الصغرى، وإن كان بروفسور هوجارت يقول إنها قليلة. ويذكر هيرودوت أسماء اثنتي عشرة مدينة عولسية واثنتي عشر مدينة إيونية ( قدماء اليونان) وست مدن دورانية على الساحل الغربي أسسها مستعمرون جاءوا عبر بحر إيجه واختلطوا بالسكان الأصليين. وكانت ميليتس – إحدى هذه المستعمرات اليونانية – عامرة بالسكان حتى أنها أرسلت – من ستين إلى ثمانين مستعمرة تتبعها – حشودا متتابعة من المغامرين إلى الشمال والشرق على سواحل بحر إيجه وعبر البسفور وعلى امتداد الشاطئ الجنوبي للبحر الأسود. وقد نشر زينوفون والعشرة الآلاف معه، ثم الإسكندر ورجاله من المقدونين إلى مدى بعيد بذور الثقافة الهيلينية في تربة كانت مهيأة لاستقبالها. فالنقوش والتماثيل والمعابد والقبور والقصور والقلاع والمسارح والحلي والدمي الصغيرة من البرونز أو الخزف، والعملات الفضية أو النحاسية وغيرها من مخلفات ذلك العصر، يظهر فيها الفن والحضارة والديانة التي يحسن أن نسميها الأناضولية، ولكنها قريبة جدا لليونانية الأصلية. والتنقيب الأركيولوجي في أفسس وبرغامس وساردس وغيرها من المواقع الهامة، قد أثبتت تطعيم الحضارة المحلية بالحضارة اليونانية.

وأحد الملامح البارزة التي بقيت من تراث الحثيين هو عبارة " الالاهة الأم "، فسواء تحت اسم " ما " أو " سيبل " أو " أنيتيس " أو " ديانا " أو أي اسم آخر، لقد كان زعيم البانثيون (مجمع الالهة) أنثى لاذكرا. ومع الثقافة اليونانية جاء نظام أو حكومة دولة المدينة، وكانت المجتمعات البدائية الأولى منظمة على أساس القرية، فكان لكل قرية معبدها في حراسة الكهنة أو بالحرى الكاهنات، فكانت الأرض ملكا للإله وللالاهه، فكانت العشور تدفع للمعبد، كما كانت تقدم الذبائح والقرابيين في المكان المقدس الذي كان يوجد عادة على تل مرتفع تحت شجرة مقدسة وبجوار نبع مقدس، وكان التعليم قليلا، ولم يكن هناك قانون أو حكومة سوى الأقوال الصادرة من المعبد.

وفى الجزء الأول من ذلك العصر (الألف السنة الأولي قبل الميلاد) أصبح للفريجيين الأمر والنهى في الجزء الغربي من شبه الجزيرة. ويقول بروفسور هوجارت عن منطقة قبر الملك ميداس: "لاتوجد منطقة أخرى للأثار القديمة أكثر استحقاقا للتنقيب " من المنقبين والباحثين.

ثم جاء دور ليديا – التي كانت عاصمتها ساردس – ويقوم بروفسور بتلر ومعاونوه الأمريكيون بالتنقيب فيها. وقد سقطت ساردس في أيدى الفرس وخلعوا ملكها كروسيوس (قارون) في حوالى 546 ق. م وظل الفرس يبسطون نفوذهم على أسيا الصغرى لمدة قرنين حتى جاء الإسكندر الأكبر.



5- الرومان بعد الميلاد:
في حوالى 200 ق. م بدأ الرومان في التدخل في سياسات الممالك الأربع الرئيسية في أسيا الصغرى في ذلك الوقت، وهى : بيثينية وبرغامس وبنطس وكبدوكية. وبالتدريج اتسع نفوذهم واشتدت سواعدهم بزعامة قادة مدنيين وعسكريين من أمثال سولا ولوكالوس وبومبى وشيشرون ويوليوس قيصر. وقد سلم أتالوس ملك برغامس وبروسياس ملك بيثينية ولايتهما لتلك القوة الصاعدة في الغرب. وفي 133 ق. م شرع الرومان في تنظيم ولاية أسيا مشتقين الاسم من اسم مقاطعة ليدية ضمتها الولاية. وشيئا فشيئا أخذت الحدود الرومانية تزحف نحو الشرق. وكان يقال عن ميثرايداتس السادس ملك بنطس: " أقوى الأعداء الذين واجتهم الجمهورية "، ولكنه ركع أمام ذراع روما المنتصرة. وقد أدب يوليوس قيصر الفارنكيين في " زيل " في أواسط أسيا الصغرى وأعلن نجاحه بعبارته المشهورة: "جئت ورأيت وغلبت " وأخيرا وقعت شبه الجزيرة الجميلة في اليد الحديدية ، واستمر الحكم الرومانى لها أكثر من خمسمائة سنة إلى 395 م حين قسم ثيودسيوس الامبراطورية بين ولديه فأعطى الشرق لأركاديوس، والغرب لهونوريوس، وهكذا انقسمت الامبراطورية الرومانية إلى قسمين:

وكالعادة شق الرومان الطرق المرصوفة جيدا بالأحجار، بين المدن الرئيسية في ولاياتهم الشرقية، وكثيرا ما يسير علماء الآثار أو المسافرون فوق أجزاء من هذه الطرق – بين الغابات الكثيفة أحيانا – ما زالت تحتفظ بصورتها التي كانت عليها وقتئذ. وكانت هناك علامات تبين مراحل الطريق والمسافات بين المدن مكتوبة عادة باللغتين اللاتينية واليونانية. وحل رموز هذه العلامات يساعد على معرفة ذلك التاريخ المفقود. كما شيدت الجسور
(الكباري) فوق مجارى المياه الهامة وكانت ترمم على توالى الأجيال. لقد كان الرومان مغرمين بالبناء، فالكثير من المبانى الحكومية وقنوات المياه، والحمامات والمسارح والمعابد وغيرها من العمائر تبدو ظاهرة للعيان، والكثير منها أيضا يحتاج إلى التنقيب عنه. ودراسات النقوش – مثل التي قام بها بروفسور ستريت – تدل على أن هناك كنوزا من النقوش باللاتينية واليونانية في انتظار من يكشف النقاب عنها.

في أثناء ذلك العصر الرومانى، أشرقت المسيحية على أسيا الصغرى، وقد استخدم التلاميذ المسيحيون، وكذلك حكام روما وجيوشها هذه الطرق والجسور والمباني. فهناك الكثير من المبانى الكنسية القديمة والمؤسسات الدينية التي تستعرض أمامنا مشاهد التاريخ . فما أروع أن تقرأ في اللغة اليونانية على أحجار المقابر التي ترجع إلى القرنين الأول والثاني مثل هذه الأقوال: "هنا يرقد خادم الله دانيآل "، " هنا ترقد جارية الله مارية ". وأهم مرجع لتاريخ هذه الفترة هو سير وليم رمزى، فمؤلفاته عن الجغرافية التاريخية لأسيا الصغرى وغيرها يجب أن يقرأها كل فرد يريد أن يعرف شيئا عن هذا الحقل الواسع الثراء.



6- العصر البيزنطي:
وشيئا فشيئا ارتدى العصر الروماني الزى البيزنطي، وهنا ننتقل من دائرة علم الأركيولوجى إلى التاريخ الأكيد ، مما يدعونا للإيجاز. ظلت الامبراطورية الشرقية قائمة على مدى ألف سنة بعد سقوط روما، حيث انتشرت جماعات يونانية مع الاحتفاظ بالنفوذ الرومانى، وكانت القسطنطينية هي قلبها النابض، وكان طابع العصر دينيا خالصا، ومع ذلك كانت المسيحية السائدة هي مسيحية توفيقية تتضمن الكثير من عبادة الطبيعة التي كانت شائعة في الأناضول في الأيام الغابرة. وقد انعقدت المجامع الكنسية الكبرى الأولى فوق تربة أسيا الصغرى. وانعقد المجمع الرابع في أفسس في 431 م وفي ذلك المجمع اضيفت إلى قانون الإيمان عبارة " والدة الإله "، ولقد رأينا أنه على مدى خمسين جيلا أو أكثر عبد شعب أسيا الصغرى " الإلاهة الأم " – وفي أغلب الأحيان مع ابنها الملازم لها. وفي أفسس مركز عبادة ديانا، أضافت السلطات الكنسية – والكثيرون منهم لم تكن لهم إلا معرفة ضئيلة بالمسيحية – هذه العبارة إلى قانون إيمانهم.



7- عصر الأتراك السلاجقة:
ومرة أخرى تغيرت حكومة البلاد، وتغير الجنس الحاكم وتغيرت الديانة واللغة والثقافة، وعندما غزاها الأتراك السلاجقة أسلاف الأتراك العثمانيين. جاء هؤلاء السلاجقة إلى أسيا الصغرى قادمين من أسيا الوسطى في حوالى نفس الوقت الذي استقر فيه النورمان على سواحل أوربا الغربية، ولهم في التاريخ مكان واضح ، ولكننا نذكرهم هنا ونحن نتحدث عن الأركيولوجى للعمائر الضخمة التي خلفوها في أسيا الصغرى، من مساجد ومدارس ومبان حكومية وخانات وحصون ونافورات وغيرها، مازالت قائمة بإعداد كبيرة والبعض منها في حالة جيدة، وهى تتميز بضخامتها ونقوشها الدقيقة المنمقة.

والأتراك العثمانيون – هم أبناء عمومة السلاجقة – خرجوا من أسيا الوسطى بعد ذلك واستولوا على القسطنطينية بطريقة بارعة في 1453 م. ويمكن أن نقول إنه بهذه الحادثة يتنحى علم الأركيولوجي ليأخذ التاريخ مكانه.