احياء الخلافة
مرسل: الأربعاء ديسمبر 14, 2011 8:17 am
على نحو متزايد، وخلال فترة حكم رئيس الوزراء أردوغان، أعادت السياسة الخارجية لتركيا اكتشاف الإسلام، ولكن لأي غرض، ذلك هو السؤال. فهل هذا جزء من خطة لتفكيك إرث جمهورية أتاتورك؟ هل تستخدم حكومة حزب العدالة والتنمية، في إطار مهمة تحويل البلاد إلى قوة عالمية، الإسلام كوسيلة لكي تتسيد العالم الإسلامي؟
بالاستماع إلى خطاب رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، الذي ألقاه في الأول من فبراير (شباط) من هذا العام، يمكنك أن تفهم لماذا يقارن مؤيدوه بينه وبين السلاطين الفاتحين في القرن الخامس عشر.
خلال مظاهرات مصر وفي الأسبوع الثاني من بداية حركة الاحتجاج، قال أردوغان في تصريح له: «لا توجد قوة تستطيع تجاهل مطالب الشعب بالحقوق الديمقراطية». ثم أخبر حسني مبارك بأن عليه أن يتنحى، طارحا نفسه كنموذج يحتذى به. ووفقا لأردوغان، تمثل حكومته «استحواذ الشعب على السلطة عبر الوسائل الديمقراطية». فيقول أردوغان إن الشرعية هي ما ساعدت على بناء المنطقة منذ البداية.
وهنا يظهر أردوغان ثقة مطلقة في تركيا باعتبارها قائدا سياسيا، بالإضافة إلى يقين في أن السياسة الداخلية لتركيا تقدم نموذجا للمنطقة بأسرها، وهما عنصران أساسيان فيما أطلق عليه البعض عثمانية أردوغان الجديدة.
ولكن خطاب الأول من فبراير (شباط) احتوى على عنصر ثالث، لم يتم التركيز عليه: غطاء كثيف من الخطاب الديني. فقد قال أردوغان لمبارك: «فكر في لحظة موتك»، و«تذكر: جميعنا، ليس لنا سوى مترين مربعين من الأرض فقط.. وكل ما نطمح إليه جميعا هو أن نترك ذكرى طيبة». ولاحقا، وبعد حديث مطول حول القيم الإسلامية الشهيرة التي تتمحور حول العدالة والجور، أضاف: «فلسطين، لبنان، العراق.. لقد حفرت تلك الحكومة اسمها في التاريخ باعتباره صوت المضطهدين في العالم».
مجرد شعبوية؟ ربما وربما لا. فقد كانت عبارة أردوغان الأخيرة مشابهة تماما للوعد المثير للجدل الذي قدمه الرئيس الجديد لإدارة الشؤون الإدارية في تركيا، «الديانة» والمسؤولة عن إدارة الحياة الدينية في تركيا. فقد قال محمد جورميز في أول خطاب له بعد ترقيه في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي: سوف تعمل «إدارة الشؤون الدينية» من خلال مبدأ خدمة المسلمين في العالم الإسلامي بأسره، كافة الأمم التي تتعرض للقمع في العالم، كل الأقليات المسلمة، ربما لا تعني تلك العبارات الكثير لنا، ولكنها، بالنسبة للأذن التركية، بدت ضربا من الهرطقة وأثارت جدلا واسعا.
رؤية أتاتورك
لقد أنشأ مؤسس الجمهورية التركية، كمال أتاتورك، «هيئة الشؤون الدينية» بعد إلغائه الخلافة في عام 1924، للقضاء على ما أطلق عليه «وهم تصوير أنفسنا باعتبارنا سادة العالم».
وكانت تلك الإدارة أداة أساسية لتشكيل الإسلام الجديد الذي كان أتاتورك يحلم به - عقلاني، وطني تماما، وبعيدا عما ينظر إليه الحداثيون الأتراك باعتباره الممارسات الرجعية للعالم العربي.
إذن لماذا تغيرت نبرة الحديث؟ هل قرر أردوغان التخلي عن الإرث الجمهوري لـ«الإسلام التركي» والذي تم تصمميه بعناية؟ هل كان يحاول عولمة الإسلام الرسمي لتركيا وتحويله لقوة عالمية؟ هل كان يحاول تنصيب نفسه كزعيم ديني للمنطقة بالإضافة إلى كونه زعيما سياسيا؟ كان ذلك بالضبط هو الانطباع الذي تبادر إلى ذهن المحافظين الأتراك في أعقاب خطاب محمد جورميز وهو ما أسرهم بالطبع.
«عاد الإسلام للوقوف على قدميه» ذلك ما كتبه المؤلف محمد علي بولوت في مقال له على الموقع الإلكتروني للقناة التلفزيونية المحافظة «كانال 7». وقد قال المفكر الإسلامي في أوائل القرن العشرين، بديع الزمان سعيد النورسي: «سوف يأتي اليوم الذي نحتفي فيه بقيادة أمتنا للأمم الإسلامية الأخرى».. ويظهر خطاب جورميز مدى قرب ذلك «المستقبل المشرق».
وكان عاكف إيمري، كاتب العمود بصحيفة «يني سافاك» اليومية والموالية لحزب العدالة والتنمية أكثر جرأة. فقد كتب إن لغة جورميز كانت تتلاءم إلى حد ما مع «خليفة دولة حديثة» أكثر مما تناسب موظف بدولة علمانية.
وبالنسبة لهاكان يافوز، الخبير المرموق في الإسلام بتركيا، فإن إشارات تغير خطاب «هيئة الشؤون الدينية» هو مجرد مثال على استغلال الإسلام، في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، وتدويله.
وأشار إلى مدى الجهد الذي بذلته أنقرة في 2005، لكي يتم تعيين مرشحها كرئيس للمنظمة الإسلامية. ومنذ ذلك الوقت، أدت مواقف المنظمة التي أصبحت أكثر نشاطا - وفي بعض الأحيان أكثر تركية - إلى إثارة التوتر بين تركيا وبعض الدول العربية خاصة المملكة العربية السعودية التي يعود قلقها من محاولات تركيا تزعم العالم الإسلامي إلى القرن الثامن عشر، عندما تمرد السعوديون ضد العثمانيين.
وليست الهيئات الدينية فقط في الدولة التركية هي التي أعادت اكتشاف مركزية الإسلام. فمن خلال ما يقدر بنحو ستة ملايين في تركيا، وفي المدارس، والشركات في ما يزيد على 120 دولة في جميع أنحاء العالم، حولت جماعة الإخوان التركية النافذة، حركة «فتح الله غولان» انتباهها إلى الجنوب أيضا.
حيث إن التغير الذي طرأ على الحركة مفاجئ بقدر التغير الذي طرأ على خطاب «هيئة الشؤون الدينية». وعلى غرار محافظين آخرين، يرفض الواعظ الذي يتزعم الحركة (كان قبل ذلك موظفا بهيئة الشؤون الدينية مثله مثل 80 ألف إمام آخر في تركيا) الخطاب العلماني حول كيف طعن العالم العربي تركيا في الظهر في نهاية الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من ذلك، كان أتباعه يدعمون لعدة عقود الإسلام الوطني الذي ينحاز إلى تركيا حتى النخاع.
وعندما بدأت تركيا تنفتح على العالم في أواخر الثمانينيات، دعا الإسلاميون الراديكاليون الأتراك لإقامة علاقات وثيقة بالشرق الأوسط. وقد فضلت حركة فتح الله غولان اتباع مسار الحكومة في ذلك الوقت، وذهنها محمل بالقومية التركية، والتوجه شرقا إلى سهول آسيا الوسطى. وفي عام 1996، كانت 90 في المائة من مدارسها في الولايات التركية حديثة الاستقلال في شرق بحر قزوين.
ويقول أحد كتاب الأعمدة في صحيفة «الزمان» اليومية الموالية للحركة والتي توزع نحو 850 ألف نسخة، عبد الحميد البليسي، السبب وراء ذلك قائلا: «في الإسلام، تعد فكرة مساعدة من بحاجة إلى المساعدة ضرورية للغاية، ولكن الرسول أوضح أنك يجب أن تبدأ بالأقرب إليك، بذوي القربى». إلا أنه في الوقت الراهن، أصبح لدى الحركة على الأقل 20 مدرسة في دول من الجزائر إلى سوريا. كما أصبح لديها «هيرا»، أول مجلة تركية تصدر باللغة العربية والتي تم الإعداد لها في أكتوبر (تشرين الأول) 2005 «بنية أن تصبح جسرا ثقافيا بين العالم الإسلامي العربي وتركيا». وبعدما صدرت في مصر في أواخر 2008، فتحت «هيرا» مكاتب لها في المملكة العربية السعودية في مايو (أيار) 2010. فيقول إبراهيم ترك، المنظر القريب من الحركة والذي عاد للتو من مؤتمر ترعاه الحركة في القاهرة: «لقد رحبوا بنا واستقبلونا بأذرع مفتوحة».
هل ذلك صحيح؟ تختلف الآراء. فليس لدى روشن جاقر أحد المحليين ذوي الميول العلمانية والذي يكتب بقدر من الموضوعية حول الإسلام في تركيا، أي شك في أن العلاقات الاقتصادية والصلات السياسية المتنامية مع الشرق الأوسط تعزز التقارب. فيقول: «لقد شهد العقد الأخير تعزيزا لمفهوم الأمة بين المسلمين الأتراك».
وتساءل حول إذا ما كانت التطورات السياسية الأخيرة في الشرق الأوسط قد تقلل من وتيرة التقارب. حتى الآن، يواجه أردوغان معضلة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية: فالمواطن العربي العادي يحب شعبويته التي تميل نحو الإسلام، فيما يتشكك إلى حد بعيد زعماؤهم في تلك الشعبوية. وبخلع الأنظمة السلطوية في مصر وتونس، يقول جاقر، ربما يجد حزب العدالة والتنمية نفسه وهو يتحدث إلى حكومات جديدة تحمل رؤى للعالم قريبة من رؤيته. فهناك أعضاء بارزون بجماعة الإخوان المسلمين المصرية يزورون حاليا تركيا، وينتظرون التطورات التي سوف تحدث داخل بلدانهم.
وفي حديثه عن رؤيته للمستقبل بعد حكم بن علي، وفي يوم عودته إلى تونس بعد 22 عاما قضاها في المنفى، أخبر راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة الإسلامية الصحافيين أن حزب العدالة والتنمية «أثبت أن الإسلام والديمقراطية يسيران جنبا إلى جنب. وذلك ما سوف يحدث في تونس أيضا».
وتقول نهال بنغيسو، كاتبة العمود في الصحيفة اليومية «هابرتورك» موافقة: «أجل، تستغل حكومة حزب العدالة والتنمية (الدين) كمحرك أساسي لسياستها الخارجية الإقليمية ولرؤيتها الاقتصادية. ولكنها لا تقوم بذلك على نحو صادم. بل إنها تصبغه بصبغة صالحة للبيع والترويج. وهو ما يجعله مقتنعا».
وهناك آخرون، أكثر تشككا. فيقول أحد المؤرخين الأتراك البارزين، إسماعيل كارا، إن إحدى المعضلات الرئيسية للآمال التركية لإقامة نوع من الخلافة الحديثة هو أن انهيار الخلافة الحقيقية في 1924 أثر على كل من المسلمين الأتراك والعرب على نحو مختلف.
فخارج تركيا، كان رد فعل المثقفين المسلمين هو البحث عن بديل، فكرة الدولة الإسلامية التي طرحها حسن البنا والمودودي، وفقا لكارا.
ومتأثرين بعواصف الإصلاحات العلمانية التي أجراها مصطفى كمال، اقتصر المفكرون الإسلاميون الأتراك على محاولة «الحفاظ على الإيمان». فقد تشبث المسلمون الأتراك العاديون بالجماعات الصوفية مثل «النقشبندية» التي لم يكن بإمكانها أبدا الحصول على ذلك العدد من الأتباع في العالم العربي والتي كان شيوخها بعيدين تماما عن التفسير السلفي للإسلام الذي ينتشر جنوبا.
وقد ترك ذلك التنوع تركيا بعيدة تماما عن الموجات الحديثة من الفكرة الإسلامية، فيقول كارا: «إن الأفكار التي كانت تصدر إلى تركيا في نهاية الستينيات وما بعدها لم تؤثر على نحو حقيقي على تركيا لأنها كانت نتاجا لمنظومة مختلفة من الملابسات التاريخية والتجارب».
باسم الأمة
نظرا لتعاطفه مع الحركات في الشرق الأوسط التي تتجاوز الإخوان المسلمين، ينحدر أردوغان من حركة إسلامية تركية وطنية في المقام الأول.
وهناك دلائل على أن مفهوم الأمة ما زال قائما اليوم. فالاهتمام الشعبي بالإسلام تزايد في ظل حكومة أردوغان وأصبحت المناقشات أكثر حرية. ولكن الجيل الجديد من المسلمين الأتراك يتوجه صوب الإرث «التركي» بحثا عن الإلهام، إنهم يتوجهون إلى الموالي، الذين عملوا على التحديث الإسلامي للدولة العثمانية الأخيرة ليس إلى المفكرين العرب المعاصرين.
ويعلن أحد المثقفين الأتراك البارزين الذي تأثر في شبابه بحركة الإخوان المسلمين، علي بولاك، أسفه على ذلك. فيقول: ذلك محدود كما أنه يعرض تركيا إلى خطر السقوط ضحية الغرور وهي تتحرك بعيدا عن أرضها.
وعودة إلى التسعينيات، تحركت تركيا إلى آسيا الوسطى «مثل الأخ الأكبر الذي جاء لحل مشكلات العائلة». وبعد نحو 15 عاما، وبخلاف عدد محدود من المشروعات الناجحة، و40 مدرسة غولانية، وقمة تركية سنوية يؤكد فيها السياسيون الإقليميون عن محبتهم للآخرين بلغة تركية صرفة فلا يوجد أثر للانفتاح على آسيا الوسطى. ويقول بولاك: «إن المشكلة أننا نتحرك الآن صوب الشرق الأوسط بنفس المقاربة». مضيفا: «لا أعتقد أن العالم العربي يبحث عن نموذج. فلديهم تقاليد ثرية بما يكفي لكي يعتمدوا عليها».
وعاد كريم بالسي، أحد الأعضاء المرموقين بحركة غولان، مؤخرا من رحلة عمرة بمكة المكرمة بنفس الهواجس. حيث إن إحدى النقاط الأساسية للعمرة، هي تعزيز الإحساس بالانتماء إلى مجتمع دولي من المؤمنين. ولكن «هيئة الشؤون الدينية» التي نظمت رحلات الحج التركية «فعلت كل شيء تستطيعه للتقليل من تفاعلنا مع المسلمين الآخرين». فقد وضعتهم في فنادق منفصلة في مكة، ومدن من الخيام المنفصلة في منى وعرفات. وبعدما عادوا إلى تركيا، فضلت السلطات الدينية الحديث حول فقر البنية التحتية السعودية بدلا من المزايا الروحية للعمرة.
لقد كان الإسلاميون الأتراك دائما لديهم موقف متشكك من «هيئة الشؤون الدينية». وقد قارن أحد الآباء الروحانيين للإسلامية الحديثة لتركيا والتي ألهمت رؤيته «الشرق الأعظم» أردوغان وهو شاب، نجيب فاضل قيصاكورة، تلك الإدارة بحرس غير مسلح يتم إجباره على حماية ديانة مضطهدة في دولة بوليسية. ففي إطار كل الجدل الدائر حاليا حول مساعي أنقرة تفعيل الإسلام السياسي بالتوازي مع سياستها الخارجية النشطة، فلا يوجد من هو أكثر انعزالا من الراديكاليين القدامى.
«هيئة الشؤون الدينية؟»، تعجبت عالمة الاجتماع فاطمة باربارسوغلو: «إن الشيء الوحيد الذي تجيده تلك الهيئة هو تخريج شيوخ مدنيين يتثاءبون وهم يلقون بالخطب ويوقعون بالانصراف عند الخامسة مساء». وقد وصف عاكف إيمري، كاتب العمود بيني سافاك، الإدارة بأنها «عقبة أمام الوعي الديني المستقل عن الدولة ناهيك عن أن تحل محل الخليفة».
وكممثل عن نسخة أكثر تشددا من الإسلام ظهرت في تركيا في الثمانينيات ثم أصابها الضعف منذ ذلك الوقت، انتقد إمري استخدام الحكومة التركية السياسة الإقليمية كأداة.
وفي إطار من المرارة التي يشعر بها المثقفون اليساريون الأوروبيون والذين رأوا أحلامهم وهي تذوي في ظل انتشار الليبرالية اليمينية في الثمانينيات، قال إن كل ما تستطيع تركيا أن تقدمه الآن للعالم الإسلامي هو «إسلامية دون إسلام مجردة تماما من الجانب الديني».
ولنسخة إمري من الإسلام أجندة سياسية وادعاءات بالدولية. ومنذ فتحت الدولة التركية أبوابها أمام المسلمين المحافظين في أعقاب 1980، يعتقد أن المسلمين الأتراك قد تخلوا عن مثلهم في مقابل الراحة الاستهلاكية والإسلام الثقافي الذي تقلص إلى «حلية، أو حقيقة إنسانية يتم تقديرها فقط لأنها توفر الثراء الثقافي».
وبالعودة إلى القرنين الـ12، والـ13، قاد المقاتلون الأتراك المحملون بالإيمان التوسع الإسلامي إلى البلقان وأوروبا. واليوم، يقود جيل جديد من المقاتلين الأتراك التوسع جنوبا محملين بدين جديد: دين الاستهلاكية والأسواق الدولية.
بالاستماع إلى خطاب رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، الذي ألقاه في الأول من فبراير (شباط) من هذا العام، يمكنك أن تفهم لماذا يقارن مؤيدوه بينه وبين السلاطين الفاتحين في القرن الخامس عشر.
خلال مظاهرات مصر وفي الأسبوع الثاني من بداية حركة الاحتجاج، قال أردوغان في تصريح له: «لا توجد قوة تستطيع تجاهل مطالب الشعب بالحقوق الديمقراطية». ثم أخبر حسني مبارك بأن عليه أن يتنحى، طارحا نفسه كنموذج يحتذى به. ووفقا لأردوغان، تمثل حكومته «استحواذ الشعب على السلطة عبر الوسائل الديمقراطية». فيقول أردوغان إن الشرعية هي ما ساعدت على بناء المنطقة منذ البداية.
وهنا يظهر أردوغان ثقة مطلقة في تركيا باعتبارها قائدا سياسيا، بالإضافة إلى يقين في أن السياسة الداخلية لتركيا تقدم نموذجا للمنطقة بأسرها، وهما عنصران أساسيان فيما أطلق عليه البعض عثمانية أردوغان الجديدة.
ولكن خطاب الأول من فبراير (شباط) احتوى على عنصر ثالث، لم يتم التركيز عليه: غطاء كثيف من الخطاب الديني. فقد قال أردوغان لمبارك: «فكر في لحظة موتك»، و«تذكر: جميعنا، ليس لنا سوى مترين مربعين من الأرض فقط.. وكل ما نطمح إليه جميعا هو أن نترك ذكرى طيبة». ولاحقا، وبعد حديث مطول حول القيم الإسلامية الشهيرة التي تتمحور حول العدالة والجور، أضاف: «فلسطين، لبنان، العراق.. لقد حفرت تلك الحكومة اسمها في التاريخ باعتباره صوت المضطهدين في العالم».
مجرد شعبوية؟ ربما وربما لا. فقد كانت عبارة أردوغان الأخيرة مشابهة تماما للوعد المثير للجدل الذي قدمه الرئيس الجديد لإدارة الشؤون الإدارية في تركيا، «الديانة» والمسؤولة عن إدارة الحياة الدينية في تركيا. فقد قال محمد جورميز في أول خطاب له بعد ترقيه في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي: سوف تعمل «إدارة الشؤون الدينية» من خلال مبدأ خدمة المسلمين في العالم الإسلامي بأسره، كافة الأمم التي تتعرض للقمع في العالم، كل الأقليات المسلمة، ربما لا تعني تلك العبارات الكثير لنا، ولكنها، بالنسبة للأذن التركية، بدت ضربا من الهرطقة وأثارت جدلا واسعا.
رؤية أتاتورك
لقد أنشأ مؤسس الجمهورية التركية، كمال أتاتورك، «هيئة الشؤون الدينية» بعد إلغائه الخلافة في عام 1924، للقضاء على ما أطلق عليه «وهم تصوير أنفسنا باعتبارنا سادة العالم».
وكانت تلك الإدارة أداة أساسية لتشكيل الإسلام الجديد الذي كان أتاتورك يحلم به - عقلاني، وطني تماما، وبعيدا عما ينظر إليه الحداثيون الأتراك باعتباره الممارسات الرجعية للعالم العربي.
إذن لماذا تغيرت نبرة الحديث؟ هل قرر أردوغان التخلي عن الإرث الجمهوري لـ«الإسلام التركي» والذي تم تصمميه بعناية؟ هل كان يحاول عولمة الإسلام الرسمي لتركيا وتحويله لقوة عالمية؟ هل كان يحاول تنصيب نفسه كزعيم ديني للمنطقة بالإضافة إلى كونه زعيما سياسيا؟ كان ذلك بالضبط هو الانطباع الذي تبادر إلى ذهن المحافظين الأتراك في أعقاب خطاب محمد جورميز وهو ما أسرهم بالطبع.
«عاد الإسلام للوقوف على قدميه» ذلك ما كتبه المؤلف محمد علي بولوت في مقال له على الموقع الإلكتروني للقناة التلفزيونية المحافظة «كانال 7». وقد قال المفكر الإسلامي في أوائل القرن العشرين، بديع الزمان سعيد النورسي: «سوف يأتي اليوم الذي نحتفي فيه بقيادة أمتنا للأمم الإسلامية الأخرى».. ويظهر خطاب جورميز مدى قرب ذلك «المستقبل المشرق».
وكان عاكف إيمري، كاتب العمود بصحيفة «يني سافاك» اليومية والموالية لحزب العدالة والتنمية أكثر جرأة. فقد كتب إن لغة جورميز كانت تتلاءم إلى حد ما مع «خليفة دولة حديثة» أكثر مما تناسب موظف بدولة علمانية.
وبالنسبة لهاكان يافوز، الخبير المرموق في الإسلام بتركيا، فإن إشارات تغير خطاب «هيئة الشؤون الدينية» هو مجرد مثال على استغلال الإسلام، في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، وتدويله.
وأشار إلى مدى الجهد الذي بذلته أنقرة في 2005، لكي يتم تعيين مرشحها كرئيس للمنظمة الإسلامية. ومنذ ذلك الوقت، أدت مواقف المنظمة التي أصبحت أكثر نشاطا - وفي بعض الأحيان أكثر تركية - إلى إثارة التوتر بين تركيا وبعض الدول العربية خاصة المملكة العربية السعودية التي يعود قلقها من محاولات تركيا تزعم العالم الإسلامي إلى القرن الثامن عشر، عندما تمرد السعوديون ضد العثمانيين.
وليست الهيئات الدينية فقط في الدولة التركية هي التي أعادت اكتشاف مركزية الإسلام. فمن خلال ما يقدر بنحو ستة ملايين في تركيا، وفي المدارس، والشركات في ما يزيد على 120 دولة في جميع أنحاء العالم، حولت جماعة الإخوان التركية النافذة، حركة «فتح الله غولان» انتباهها إلى الجنوب أيضا.
حيث إن التغير الذي طرأ على الحركة مفاجئ بقدر التغير الذي طرأ على خطاب «هيئة الشؤون الدينية». وعلى غرار محافظين آخرين، يرفض الواعظ الذي يتزعم الحركة (كان قبل ذلك موظفا بهيئة الشؤون الدينية مثله مثل 80 ألف إمام آخر في تركيا) الخطاب العلماني حول كيف طعن العالم العربي تركيا في الظهر في نهاية الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من ذلك، كان أتباعه يدعمون لعدة عقود الإسلام الوطني الذي ينحاز إلى تركيا حتى النخاع.
وعندما بدأت تركيا تنفتح على العالم في أواخر الثمانينيات، دعا الإسلاميون الراديكاليون الأتراك لإقامة علاقات وثيقة بالشرق الأوسط. وقد فضلت حركة فتح الله غولان اتباع مسار الحكومة في ذلك الوقت، وذهنها محمل بالقومية التركية، والتوجه شرقا إلى سهول آسيا الوسطى. وفي عام 1996، كانت 90 في المائة من مدارسها في الولايات التركية حديثة الاستقلال في شرق بحر قزوين.
ويقول أحد كتاب الأعمدة في صحيفة «الزمان» اليومية الموالية للحركة والتي توزع نحو 850 ألف نسخة، عبد الحميد البليسي، السبب وراء ذلك قائلا: «في الإسلام، تعد فكرة مساعدة من بحاجة إلى المساعدة ضرورية للغاية، ولكن الرسول أوضح أنك يجب أن تبدأ بالأقرب إليك، بذوي القربى». إلا أنه في الوقت الراهن، أصبح لدى الحركة على الأقل 20 مدرسة في دول من الجزائر إلى سوريا. كما أصبح لديها «هيرا»، أول مجلة تركية تصدر باللغة العربية والتي تم الإعداد لها في أكتوبر (تشرين الأول) 2005 «بنية أن تصبح جسرا ثقافيا بين العالم الإسلامي العربي وتركيا». وبعدما صدرت في مصر في أواخر 2008، فتحت «هيرا» مكاتب لها في المملكة العربية السعودية في مايو (أيار) 2010. فيقول إبراهيم ترك، المنظر القريب من الحركة والذي عاد للتو من مؤتمر ترعاه الحركة في القاهرة: «لقد رحبوا بنا واستقبلونا بأذرع مفتوحة».
هل ذلك صحيح؟ تختلف الآراء. فليس لدى روشن جاقر أحد المحليين ذوي الميول العلمانية والذي يكتب بقدر من الموضوعية حول الإسلام في تركيا، أي شك في أن العلاقات الاقتصادية والصلات السياسية المتنامية مع الشرق الأوسط تعزز التقارب. فيقول: «لقد شهد العقد الأخير تعزيزا لمفهوم الأمة بين المسلمين الأتراك».
وتساءل حول إذا ما كانت التطورات السياسية الأخيرة في الشرق الأوسط قد تقلل من وتيرة التقارب. حتى الآن، يواجه أردوغان معضلة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية: فالمواطن العربي العادي يحب شعبويته التي تميل نحو الإسلام، فيما يتشكك إلى حد بعيد زعماؤهم في تلك الشعبوية. وبخلع الأنظمة السلطوية في مصر وتونس، يقول جاقر، ربما يجد حزب العدالة والتنمية نفسه وهو يتحدث إلى حكومات جديدة تحمل رؤى للعالم قريبة من رؤيته. فهناك أعضاء بارزون بجماعة الإخوان المسلمين المصرية يزورون حاليا تركيا، وينتظرون التطورات التي سوف تحدث داخل بلدانهم.
وفي حديثه عن رؤيته للمستقبل بعد حكم بن علي، وفي يوم عودته إلى تونس بعد 22 عاما قضاها في المنفى، أخبر راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة الإسلامية الصحافيين أن حزب العدالة والتنمية «أثبت أن الإسلام والديمقراطية يسيران جنبا إلى جنب. وذلك ما سوف يحدث في تونس أيضا».
وتقول نهال بنغيسو، كاتبة العمود في الصحيفة اليومية «هابرتورك» موافقة: «أجل، تستغل حكومة حزب العدالة والتنمية (الدين) كمحرك أساسي لسياستها الخارجية الإقليمية ولرؤيتها الاقتصادية. ولكنها لا تقوم بذلك على نحو صادم. بل إنها تصبغه بصبغة صالحة للبيع والترويج. وهو ما يجعله مقتنعا».
وهناك آخرون، أكثر تشككا. فيقول أحد المؤرخين الأتراك البارزين، إسماعيل كارا، إن إحدى المعضلات الرئيسية للآمال التركية لإقامة نوع من الخلافة الحديثة هو أن انهيار الخلافة الحقيقية في 1924 أثر على كل من المسلمين الأتراك والعرب على نحو مختلف.
فخارج تركيا، كان رد فعل المثقفين المسلمين هو البحث عن بديل، فكرة الدولة الإسلامية التي طرحها حسن البنا والمودودي، وفقا لكارا.
ومتأثرين بعواصف الإصلاحات العلمانية التي أجراها مصطفى كمال، اقتصر المفكرون الإسلاميون الأتراك على محاولة «الحفاظ على الإيمان». فقد تشبث المسلمون الأتراك العاديون بالجماعات الصوفية مثل «النقشبندية» التي لم يكن بإمكانها أبدا الحصول على ذلك العدد من الأتباع في العالم العربي والتي كان شيوخها بعيدين تماما عن التفسير السلفي للإسلام الذي ينتشر جنوبا.
وقد ترك ذلك التنوع تركيا بعيدة تماما عن الموجات الحديثة من الفكرة الإسلامية، فيقول كارا: «إن الأفكار التي كانت تصدر إلى تركيا في نهاية الستينيات وما بعدها لم تؤثر على نحو حقيقي على تركيا لأنها كانت نتاجا لمنظومة مختلفة من الملابسات التاريخية والتجارب».
باسم الأمة
نظرا لتعاطفه مع الحركات في الشرق الأوسط التي تتجاوز الإخوان المسلمين، ينحدر أردوغان من حركة إسلامية تركية وطنية في المقام الأول.
وهناك دلائل على أن مفهوم الأمة ما زال قائما اليوم. فالاهتمام الشعبي بالإسلام تزايد في ظل حكومة أردوغان وأصبحت المناقشات أكثر حرية. ولكن الجيل الجديد من المسلمين الأتراك يتوجه صوب الإرث «التركي» بحثا عن الإلهام، إنهم يتوجهون إلى الموالي، الذين عملوا على التحديث الإسلامي للدولة العثمانية الأخيرة ليس إلى المفكرين العرب المعاصرين.
ويعلن أحد المثقفين الأتراك البارزين الذي تأثر في شبابه بحركة الإخوان المسلمين، علي بولاك، أسفه على ذلك. فيقول: ذلك محدود كما أنه يعرض تركيا إلى خطر السقوط ضحية الغرور وهي تتحرك بعيدا عن أرضها.
وعودة إلى التسعينيات، تحركت تركيا إلى آسيا الوسطى «مثل الأخ الأكبر الذي جاء لحل مشكلات العائلة». وبعد نحو 15 عاما، وبخلاف عدد محدود من المشروعات الناجحة، و40 مدرسة غولانية، وقمة تركية سنوية يؤكد فيها السياسيون الإقليميون عن محبتهم للآخرين بلغة تركية صرفة فلا يوجد أثر للانفتاح على آسيا الوسطى. ويقول بولاك: «إن المشكلة أننا نتحرك الآن صوب الشرق الأوسط بنفس المقاربة». مضيفا: «لا أعتقد أن العالم العربي يبحث عن نموذج. فلديهم تقاليد ثرية بما يكفي لكي يعتمدوا عليها».
وعاد كريم بالسي، أحد الأعضاء المرموقين بحركة غولان، مؤخرا من رحلة عمرة بمكة المكرمة بنفس الهواجس. حيث إن إحدى النقاط الأساسية للعمرة، هي تعزيز الإحساس بالانتماء إلى مجتمع دولي من المؤمنين. ولكن «هيئة الشؤون الدينية» التي نظمت رحلات الحج التركية «فعلت كل شيء تستطيعه للتقليل من تفاعلنا مع المسلمين الآخرين». فقد وضعتهم في فنادق منفصلة في مكة، ومدن من الخيام المنفصلة في منى وعرفات. وبعدما عادوا إلى تركيا، فضلت السلطات الدينية الحديث حول فقر البنية التحتية السعودية بدلا من المزايا الروحية للعمرة.
لقد كان الإسلاميون الأتراك دائما لديهم موقف متشكك من «هيئة الشؤون الدينية». وقد قارن أحد الآباء الروحانيين للإسلامية الحديثة لتركيا والتي ألهمت رؤيته «الشرق الأعظم» أردوغان وهو شاب، نجيب فاضل قيصاكورة، تلك الإدارة بحرس غير مسلح يتم إجباره على حماية ديانة مضطهدة في دولة بوليسية. ففي إطار كل الجدل الدائر حاليا حول مساعي أنقرة تفعيل الإسلام السياسي بالتوازي مع سياستها الخارجية النشطة، فلا يوجد من هو أكثر انعزالا من الراديكاليين القدامى.
«هيئة الشؤون الدينية؟»، تعجبت عالمة الاجتماع فاطمة باربارسوغلو: «إن الشيء الوحيد الذي تجيده تلك الهيئة هو تخريج شيوخ مدنيين يتثاءبون وهم يلقون بالخطب ويوقعون بالانصراف عند الخامسة مساء». وقد وصف عاكف إيمري، كاتب العمود بيني سافاك، الإدارة بأنها «عقبة أمام الوعي الديني المستقل عن الدولة ناهيك عن أن تحل محل الخليفة».
وكممثل عن نسخة أكثر تشددا من الإسلام ظهرت في تركيا في الثمانينيات ثم أصابها الضعف منذ ذلك الوقت، انتقد إمري استخدام الحكومة التركية السياسة الإقليمية كأداة.
وفي إطار من المرارة التي يشعر بها المثقفون اليساريون الأوروبيون والذين رأوا أحلامهم وهي تذوي في ظل انتشار الليبرالية اليمينية في الثمانينيات، قال إن كل ما تستطيع تركيا أن تقدمه الآن للعالم الإسلامي هو «إسلامية دون إسلام مجردة تماما من الجانب الديني».
ولنسخة إمري من الإسلام أجندة سياسية وادعاءات بالدولية. ومنذ فتحت الدولة التركية أبوابها أمام المسلمين المحافظين في أعقاب 1980، يعتقد أن المسلمين الأتراك قد تخلوا عن مثلهم في مقابل الراحة الاستهلاكية والإسلام الثقافي الذي تقلص إلى «حلية، أو حقيقة إنسانية يتم تقديرها فقط لأنها توفر الثراء الثقافي».
وبالعودة إلى القرنين الـ12، والـ13، قاد المقاتلون الأتراك المحملون بالإيمان التوسع الإسلامي إلى البلقان وأوروبا. واليوم، يقود جيل جديد من المقاتلين الأتراك التوسع جنوبا محملين بدين جديد: دين الاستهلاكية والأسواق الدولية.