اقتصاد الثروة
مرسل: الأربعاء ديسمبر 14, 2011 8:55 am
يشتعل الخلاف في مصر، وما وراءها، حول الخطوة الاقتصادية التالية لدولة في حالة تغيير مستمر. ولكن يضع انعدام الثقة في المبادئ الليبرالية الجديدة المتشدق بها سابقا والمناخ السياسي الذي يتطلب إصلاحات طموحة للغاية، الحكومة الانتقالية في موقف صعب للغاية.
أخيرا في القاهرة وفي مساء أحد الأيام، احتشد أكثر من 200 شخص في قاعة المؤتمرات في نقابة المحامين المصريين للاستماع إلى سياسيين متنافسين – ليبراليين ويساريين وإسلاميين – وهم يتحدثون عن رؤاهم لدولة تتغير إحداثياتها السياسية يوميا. تعد مثل هذه الاجتماعات تاريخية. كانت حرية التجمع ضمن الحقوق العديدة التي حرم منها المصريون حتى شهر فبراير (شباط) الماضي، عندما تمت الإطاحة بحسني مبارك في ثورة شعبية. في اللقاء انغمس الحضور في نقاش مفتوح تزداد حدته لا سيما عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد، وكأنهم ينفضون صدأ الحكم الاستبدادي من خلال التنفيس الذي تمنحه لهم حرية التعبير عن الرأي.
في أثناء جلسة الأسئلة والأجوبة، اتهمت سيدة الضيف الليبرالي على المنصة بأنه رأسمالي متخف نظرا لتأييده لبرنامج الخصخصة في عهد مبارك وهو البرنامج المكروه بشدة بسبب الفساد الذي نتج عنه بالإضافة إلى تسببه في ارتفاع نسبة البطالة. وطالب زعيم عمالي بمعرفة سبب عدم مطالبة المتحدثين للحكومة المؤقتة التي عينها المجلس العسكري المصري بفرض حد أدنى لرواتب العاملين. ومن بين الحضور أيد عضو جماعة الإخوان المسلمين، المعروفة باعتناقها القديم لاقتصاد السوق، تقديم دعم حكومي للخبز وزيت الطهي.
كان مغزى اللقاء واضحا: تغلق مصر الباب في وجه خطة الإصلاح الليبرالية الجديدة التي وضعها خبراء مبارك. ليس من الصعب معرفة السبب. وعلى الرغم من أن الفضل في ارتفاع معدلات النمو يرجع إلى ستة أعوام من التحرر الاقتصادي تحت حكومة أحمد نظيف، فإنها لم تحقق شيئا من أجل تغيير تدني مستويات المعيشة. وبدلا من ذلك، صاحب التحرر الاقتصادي فجوة متنامية في الدخول بين طبقة ضئيلة من النخبة المقربة من الحكم وعدد متزايد من السكان المحتاجين، بالإضافة إلى تفاقم أزمة العشوائيات ونهب الأصول الوطنية على يد مستثمرين أجانب، والعجز عن توفير فرص عمل كافية تلائم 800.000 طالب وظيفة يدخلون سوق العمل سنويا.
يقول خبراء اقتصاد إن الهجوم على اللبيرالية الجديدة وواضعي خططها شديد، لدرجة أن مصر تتعرض لخطر فقدان كبار رجال الصناعة والممولين والمخططين الاقتصاديين. قالت غادة الجوهري، مستشارة رشيد محمد رشيد وزير التجارة الأسبق الذي أجبر على الهرب من البلاد بعد سقوط نظام مبارك: «غادر الكثير من المستثمرين لهذا السبب. هذا أسوأ شيء يمكن أن يحدث».
في حين لا تشكل الفوضى الاقتصادية في حد ذاتها تهديدا وجوديا لمصر - حيث توفر قناة السويس مصدرا ثابتا للعائدات، وتقدم مياه النيل مصادر معيشة دائمة – فإن معدل البطالة المتزايد والنمو البطيء قد يقيد في النهاية الديمقراطية الناشئة في البلاد في مهدها. توجد بالفعل توترات بين الثوار من جانب، في صراع مع الجيش حول من يحدد شروط الحكم، والتجار من جانب آخر حيث يريدون ببساطة إعلان الفوز والعودة إلى العمل. في حين يدعي أصحاب الفريق الأول أن روح الثورة ذاتها معرضة للخطر، إلا أن الفريق الثاني يقول إن ثورة دون اقتصاد حيوي يتم البناء عليه لن تكون قابلة للاستمرار وستكون غير مهمة.
ويزداد النقاش تعقيدا نظرا لحقيقة أن مصر، على نقيض دول شرق آسيا، عجزت عن الاستقرار على نموذج نمو فعّال. بعد تأميم الاقتصاد في أثناء الخمسينيات والستينيات تحت رئاسة الرجل القوي جمال عبد الناصر، ثم خصخصته مع انحسار حكم الحزب الواحد، اختبرت القاهرة نقيضي العلاج الاقتصادي في دولة لم تستعد رخاء الفترة الاستعمارية.
عودة الأمن
يتحدث الاقتصاديون والمحللون، بما فيهم المدونون الشباب الذين قادوا الثورة التي استمرت 18 يوما لتنتصر على النظام القديم، عن الحاجة إلى «عدالة اجتماعية». ويؤيدون «نموذجا سويديا» في النمو، بمعنى الرأسمالية الخاضعة للوائح صارمة وتوازن من خلال خدمات اجتماعية تقدمها الدولة، من رعاية صحية إلى إجازات رعاية الطفل للآباء إلى تأمين البطالة. ولكن حتى تتمكن مصر من توفير الدخل اللازم لسداد تلك الالتزامات، يظل النموذج السويدي أكثر طموحا من كونه وقائيا ضد ثورة قادمة أو انقلاب عسكري.
يقول جلال أمين، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية بالقاهرة: «ما زلنا نكرر للجيش بأن الأمن هو مفتاح عودة الاقتصاد. ولكن يتحدث الجميع عن إصلاح الضريبة التصاعدية والعدالة الاجتماعية. لماذا؟ لأن المصريين لم يجدوا عدالة اجتماعية منذ آلاف السنين، ولا يدفعون ضرائب في المقام الأول». ربما أخفق كوادر الليبرالية الجديدة في مصر في توفير فرص العمل، ولكنهم بالتأكيد حققوا نموا.
ومن عام 2004 إلى 2008، ارتفع معدل نمو الاقتصاد من 4.5 في المائة إلى 7.2 في المائة قبل أن ينخفض إلى نسبة معتدلة تقدر بـ5.2 في المائة في عام 2010. بعد تولي أحد نظيف رئاسة الحكومة بفترة وجيزة، تقدمت الحكومة بقوانين مصرفية جديدة تخصخص معظم القطاع المالي الحكومي المتعثر.
وساعد إصلاح العملة على تخفيض معدلات الفائدة وتنشيط أسعار الصرف وأسواق السلع. كما رفعت الرسوم على الواردات، وهو ما رحب به أصحاب المصانع الذين يعتمدون على مكونات أجنبية الصنع في تصنيع منتجاتهم. وارتفع حجم الاستثمار الأجنبي بقوة من أكثر من مليار دولار بقليل في عام 2004 إلى 12 مليار دولار بعد ذلك بثلاث سنوات، في حين زاد حجم الاحتياطي الأجنبي من مبلغ يكفي لشراء واردات لمدة عدة أشهر إلى 36 مليار دولار.
يرجع ذلك إلى حد كبير إلى الإصلاح الذي شهده عهد نظيف، حيث نجا الاقتصاد المصري من الأزمة المالية العالمية. وفي نهاية عام 2010، وضع البنك الدولي مصر على قمة التصنيف في تقرير أداء الأعمال العالمي.
في رد فعل كبير على النموذج المصري، تبنت دول أخرى في الشرق الأوسط من تونس إلى السعودية الإصلاحات التي أطلقت في القاهرة. ولفترة ما انتشر التفكير في أن الأنظمة الشمولية في المنطقة نجحت في استنساخ النموذج الصيني للنمو: حيث الانفتاح الاقتصادي مع قمع حرية التعبير السياسي.
ولكن كما أظهرت أحداث الأشهر الثمانية الأخيرة لم يتحول النموذج الصيني إلى العربية. لقد خرج ملايين المتظاهرين ضد مبارك ودائرة مقربيه الحاكمة في 25 يناير (كانون الثاني) نتيجة للشعور بالإحباط من البطالة المزمنة والفساد المتفشي.
كشفت دراسة صدرت أخيرا عن المعهد الجمهوري الدولي في واشنطن أن ثلثي المواطنين الذين شاركوا في الثورة المصرية فعلوا ذلك معارضة للظلم الاقتصادي في دولة يعيش 45 في المائة من سكانها تحت خط الفقر وتشكل نسبة 20 في المائة من أصحاب الدخل 60 في المائة من الدخل القومي.
فائض فساد
يعترف حتى المدافعون عن المبادئ الليبرالية الجديدة بأنه ربما استغل أفراد النظام هذه الإصلاحات. يقول عمرو الألفي أحد مديري سي آي كابيتال في القاهرة: «تحتاج الإصلاحات إلى بعض الوقت لينتشر أثرها ولكني أعتقد أن عائداتها كانت متركزة في مستويات محددة في المجتمع». بالنسبة لنجيب ساويرس، أحد أقوى رجال الأعمال الذين أيدوا الثورة بقوة، لم يكن التحرر الاقتصادي هو ما أنهى حكم مبارك ولكن الرأسمالية المصاحبة له. وقال: «كانت المشكلة في نقص الديمقراطية وفائض الديكتاتورية والفساد. حتى تنجح الرأسمالية يجب أن تنساب الفرص ولكن ذلك لم يحدث».
من المهم استيعاب فشل تحرر السوق في مصر. وعلى الرغم من أن ساويرس يعتقد أن الخصخصة ستستمر، فإنه يبدو ضمن أقلية بين شعب ينظر في حذر تجاه القطاع الخاص منذ مدة طويلة قبل أن يبدأ النظام في بيع أصول الدولة إلى الشركات الأجنبية ويسمح بتعويم الجنيه أمام الدولار.
ويعترف ساويرس نفسه أنه إذا كتب للرأسمالية الاستمرار في مصر سيكون عليها أن تُقدم بصورة أخرى. ويقول: «علينا أن نستخدم مصطلحات جديدة بدلا من علماني وليبرالي ورأسمالي، التي أصبحت كلمات سيئة الآن. ربما تكون مصطلحات "السوق الاجتماعية" أو "الرخاء الاجتماعي" هي الحل». ربما يتعلم المصريون أيضا من الحكمة الشهيرة المنسوبة إلى رجل الدولة الصيني دينغ شياو بينغ الذي كان يعرف كيفية تحفيز الأسواق النامية: «ليس مهما ما إذا كان القط داكن اللون أو أبيض طالما يلتقط الفئران».
لا يوجد نقص في الفئران، لا سيما منذ تدمير الثورة للاقتصاد حتى مع استحواذها على انتباه العالم. وفقا لسي آي كابيتال، من المقدر أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي المصري في الأشهر الستة الأولى من العام بنسبة أكبر من 6 في المائة، ومن المتوقع أن يصل معدل النمو إلى 1.2 في المائة فقط. كما خسر قطاع السياحة، الذي يعد بالإضافة إلى عائدات قناة السويس العمود الرئيسي للاقتصاد، نحو 1.8 مليار دولار بسبب إلغاء الحجوزات والقيود المفروضة على سفر الزوار المتوقعين.
ويتراجع الاستثمار الأجنبي والتحويلات من المصريين المغتربين بسبب الريبة السياسية في الخليج العربي، كما أجبر البنك المركزي المصري على حرق نحو ربع احتياطيه من النقد الأجنبي لدعم الجنيه. وقياسا لمقدار ضعف الدولار، استعادت العملة المصرية 6 في المائة فقط من قيمتها بعد قيام الثورة.
تهدئة المخاوف
هناك أيضا الارتياب السياسي. من المقرر أن تجرى الانتخابات البرلمانية في سبتمبر (أيلول)، ومن المتوقع أن تفوز جماعة الإخوان المسلمين بغالبية مقاعد البرلمان نظرا لشبكاتها الاجتماعية الواسعة. وفي حين يحاول قادة الإخوان طمأنة مجتمع الأعمال في مصر والشعب ككل بأنهم لا يرغبون في فرض تطبيق الشريعة على الاقتصاد، فإن تحالفهم مع الجماعات السلفية لم يساعد على بث الثقة. في يونيو (حزيران)، أشار مدير أحد الفنادق الكبرى المملوكة لأجانب في القاهرة إلى زجاجة بيرة مفتوحة في غذاء جماعي وأعلن أنها حرام، في إشارة اقشعرت لها أبدان مسؤولي الفندق الخائفين من تبعات أسلمة مصر.
يقول الشيخ محمد فرحات أحد دعاة السلفية البارزين إنه لا داعي للقلق، فبموجب الشريعة يعاقب السائحون بثمانية جلدات فقط إذا تناولوا الكحوليات في العلن. ولا توجد عقوبة ضدهم إذا تناولوها سرا في غرفهم داخل الفنادق.
كذلك لم يفعل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يحكم البلاد بصورة مؤقتة، الكثير لتهدئة المخاوف الشعبية من المستقبل. في يوليو (تموز)، أوردت «نيويورك تايمز» أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يصوغ دستورا جديدا يحافظ على استحقاقاته ليس فقط كدرع واق للشعب، بل كمالك ومدير لمشروعات تجارية مثل الفنادق الفاخرة ومصانع النسيج. بذلك أراد المجلس الأعلى الإساءة إلى كل من العلمانيين والإسلاميين الذين فهموا هذه الخطوة على أنها اتجاه نحو الثقافة السياسية في تركيا، حيث يحكم المدنيون برضا من ضباط الجيش الذين يملكون صلاحيات واسعة.
في حين ربما يقول البعض إن حكم السيادة المشتركة خدم تركيا جيدا نظرا لأدائها الاقتصادي المذهل على مدار العقدين الماضيين، إلا أنه في مصر خدمت الأعمال التي تملكها القوات المسلحة الجيش ذاته بصورة أكبر من خدمتها للشعب الذي أقسم لواءات الجيش على خدمته. في هذه الحالة، لا يعد النموذج التركي ملائما لمصر كما أن النموذج السويدي غبر قابل للتطبيق، على الأقل حاليا.
يجب على مصر، التي ظلت طوال قرون نهرا جاريا من التيارات السياسية والاقتصادية والثقافية الإقليمية وأصابته عقود من الحكم الديكتاتوري بالركود، أن تجد صيغة خاصة بها من أجل التجديد. ويبدو أن إيجاد حل هجين أمر حتمي، نظرا لتعدد جمهور الناخبين وخبرتهم القاتمة مع الحكم المطلق. ولكن يجب أن تصل مصر إلى شيء ما سريعا، وإلا قد تصبح ثورتها قصيرة العمر بصورة مذهلة كما هي مذهلة في حدوثها.
أخيرا في القاهرة وفي مساء أحد الأيام، احتشد أكثر من 200 شخص في قاعة المؤتمرات في نقابة المحامين المصريين للاستماع إلى سياسيين متنافسين – ليبراليين ويساريين وإسلاميين – وهم يتحدثون عن رؤاهم لدولة تتغير إحداثياتها السياسية يوميا. تعد مثل هذه الاجتماعات تاريخية. كانت حرية التجمع ضمن الحقوق العديدة التي حرم منها المصريون حتى شهر فبراير (شباط) الماضي، عندما تمت الإطاحة بحسني مبارك في ثورة شعبية. في اللقاء انغمس الحضور في نقاش مفتوح تزداد حدته لا سيما عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد، وكأنهم ينفضون صدأ الحكم الاستبدادي من خلال التنفيس الذي تمنحه لهم حرية التعبير عن الرأي.
في أثناء جلسة الأسئلة والأجوبة، اتهمت سيدة الضيف الليبرالي على المنصة بأنه رأسمالي متخف نظرا لتأييده لبرنامج الخصخصة في عهد مبارك وهو البرنامج المكروه بشدة بسبب الفساد الذي نتج عنه بالإضافة إلى تسببه في ارتفاع نسبة البطالة. وطالب زعيم عمالي بمعرفة سبب عدم مطالبة المتحدثين للحكومة المؤقتة التي عينها المجلس العسكري المصري بفرض حد أدنى لرواتب العاملين. ومن بين الحضور أيد عضو جماعة الإخوان المسلمين، المعروفة باعتناقها القديم لاقتصاد السوق، تقديم دعم حكومي للخبز وزيت الطهي.
كان مغزى اللقاء واضحا: تغلق مصر الباب في وجه خطة الإصلاح الليبرالية الجديدة التي وضعها خبراء مبارك. ليس من الصعب معرفة السبب. وعلى الرغم من أن الفضل في ارتفاع معدلات النمو يرجع إلى ستة أعوام من التحرر الاقتصادي تحت حكومة أحمد نظيف، فإنها لم تحقق شيئا من أجل تغيير تدني مستويات المعيشة. وبدلا من ذلك، صاحب التحرر الاقتصادي فجوة متنامية في الدخول بين طبقة ضئيلة من النخبة المقربة من الحكم وعدد متزايد من السكان المحتاجين، بالإضافة إلى تفاقم أزمة العشوائيات ونهب الأصول الوطنية على يد مستثمرين أجانب، والعجز عن توفير فرص عمل كافية تلائم 800.000 طالب وظيفة يدخلون سوق العمل سنويا.
يقول خبراء اقتصاد إن الهجوم على اللبيرالية الجديدة وواضعي خططها شديد، لدرجة أن مصر تتعرض لخطر فقدان كبار رجال الصناعة والممولين والمخططين الاقتصاديين. قالت غادة الجوهري، مستشارة رشيد محمد رشيد وزير التجارة الأسبق الذي أجبر على الهرب من البلاد بعد سقوط نظام مبارك: «غادر الكثير من المستثمرين لهذا السبب. هذا أسوأ شيء يمكن أن يحدث».
في حين لا تشكل الفوضى الاقتصادية في حد ذاتها تهديدا وجوديا لمصر - حيث توفر قناة السويس مصدرا ثابتا للعائدات، وتقدم مياه النيل مصادر معيشة دائمة – فإن معدل البطالة المتزايد والنمو البطيء قد يقيد في النهاية الديمقراطية الناشئة في البلاد في مهدها. توجد بالفعل توترات بين الثوار من جانب، في صراع مع الجيش حول من يحدد شروط الحكم، والتجار من جانب آخر حيث يريدون ببساطة إعلان الفوز والعودة إلى العمل. في حين يدعي أصحاب الفريق الأول أن روح الثورة ذاتها معرضة للخطر، إلا أن الفريق الثاني يقول إن ثورة دون اقتصاد حيوي يتم البناء عليه لن تكون قابلة للاستمرار وستكون غير مهمة.
ويزداد النقاش تعقيدا نظرا لحقيقة أن مصر، على نقيض دول شرق آسيا، عجزت عن الاستقرار على نموذج نمو فعّال. بعد تأميم الاقتصاد في أثناء الخمسينيات والستينيات تحت رئاسة الرجل القوي جمال عبد الناصر، ثم خصخصته مع انحسار حكم الحزب الواحد، اختبرت القاهرة نقيضي العلاج الاقتصادي في دولة لم تستعد رخاء الفترة الاستعمارية.
عودة الأمن
يتحدث الاقتصاديون والمحللون، بما فيهم المدونون الشباب الذين قادوا الثورة التي استمرت 18 يوما لتنتصر على النظام القديم، عن الحاجة إلى «عدالة اجتماعية». ويؤيدون «نموذجا سويديا» في النمو، بمعنى الرأسمالية الخاضعة للوائح صارمة وتوازن من خلال خدمات اجتماعية تقدمها الدولة، من رعاية صحية إلى إجازات رعاية الطفل للآباء إلى تأمين البطالة. ولكن حتى تتمكن مصر من توفير الدخل اللازم لسداد تلك الالتزامات، يظل النموذج السويدي أكثر طموحا من كونه وقائيا ضد ثورة قادمة أو انقلاب عسكري.
يقول جلال أمين، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية بالقاهرة: «ما زلنا نكرر للجيش بأن الأمن هو مفتاح عودة الاقتصاد. ولكن يتحدث الجميع عن إصلاح الضريبة التصاعدية والعدالة الاجتماعية. لماذا؟ لأن المصريين لم يجدوا عدالة اجتماعية منذ آلاف السنين، ولا يدفعون ضرائب في المقام الأول». ربما أخفق كوادر الليبرالية الجديدة في مصر في توفير فرص العمل، ولكنهم بالتأكيد حققوا نموا.
ومن عام 2004 إلى 2008، ارتفع معدل نمو الاقتصاد من 4.5 في المائة إلى 7.2 في المائة قبل أن ينخفض إلى نسبة معتدلة تقدر بـ5.2 في المائة في عام 2010. بعد تولي أحد نظيف رئاسة الحكومة بفترة وجيزة، تقدمت الحكومة بقوانين مصرفية جديدة تخصخص معظم القطاع المالي الحكومي المتعثر.
وساعد إصلاح العملة على تخفيض معدلات الفائدة وتنشيط أسعار الصرف وأسواق السلع. كما رفعت الرسوم على الواردات، وهو ما رحب به أصحاب المصانع الذين يعتمدون على مكونات أجنبية الصنع في تصنيع منتجاتهم. وارتفع حجم الاستثمار الأجنبي بقوة من أكثر من مليار دولار بقليل في عام 2004 إلى 12 مليار دولار بعد ذلك بثلاث سنوات، في حين زاد حجم الاحتياطي الأجنبي من مبلغ يكفي لشراء واردات لمدة عدة أشهر إلى 36 مليار دولار.
يرجع ذلك إلى حد كبير إلى الإصلاح الذي شهده عهد نظيف، حيث نجا الاقتصاد المصري من الأزمة المالية العالمية. وفي نهاية عام 2010، وضع البنك الدولي مصر على قمة التصنيف في تقرير أداء الأعمال العالمي.
في رد فعل كبير على النموذج المصري، تبنت دول أخرى في الشرق الأوسط من تونس إلى السعودية الإصلاحات التي أطلقت في القاهرة. ولفترة ما انتشر التفكير في أن الأنظمة الشمولية في المنطقة نجحت في استنساخ النموذج الصيني للنمو: حيث الانفتاح الاقتصادي مع قمع حرية التعبير السياسي.
ولكن كما أظهرت أحداث الأشهر الثمانية الأخيرة لم يتحول النموذج الصيني إلى العربية. لقد خرج ملايين المتظاهرين ضد مبارك ودائرة مقربيه الحاكمة في 25 يناير (كانون الثاني) نتيجة للشعور بالإحباط من البطالة المزمنة والفساد المتفشي.
كشفت دراسة صدرت أخيرا عن المعهد الجمهوري الدولي في واشنطن أن ثلثي المواطنين الذين شاركوا في الثورة المصرية فعلوا ذلك معارضة للظلم الاقتصادي في دولة يعيش 45 في المائة من سكانها تحت خط الفقر وتشكل نسبة 20 في المائة من أصحاب الدخل 60 في المائة من الدخل القومي.
فائض فساد
يعترف حتى المدافعون عن المبادئ الليبرالية الجديدة بأنه ربما استغل أفراد النظام هذه الإصلاحات. يقول عمرو الألفي أحد مديري سي آي كابيتال في القاهرة: «تحتاج الإصلاحات إلى بعض الوقت لينتشر أثرها ولكني أعتقد أن عائداتها كانت متركزة في مستويات محددة في المجتمع». بالنسبة لنجيب ساويرس، أحد أقوى رجال الأعمال الذين أيدوا الثورة بقوة، لم يكن التحرر الاقتصادي هو ما أنهى حكم مبارك ولكن الرأسمالية المصاحبة له. وقال: «كانت المشكلة في نقص الديمقراطية وفائض الديكتاتورية والفساد. حتى تنجح الرأسمالية يجب أن تنساب الفرص ولكن ذلك لم يحدث».
من المهم استيعاب فشل تحرر السوق في مصر. وعلى الرغم من أن ساويرس يعتقد أن الخصخصة ستستمر، فإنه يبدو ضمن أقلية بين شعب ينظر في حذر تجاه القطاع الخاص منذ مدة طويلة قبل أن يبدأ النظام في بيع أصول الدولة إلى الشركات الأجنبية ويسمح بتعويم الجنيه أمام الدولار.
ويعترف ساويرس نفسه أنه إذا كتب للرأسمالية الاستمرار في مصر سيكون عليها أن تُقدم بصورة أخرى. ويقول: «علينا أن نستخدم مصطلحات جديدة بدلا من علماني وليبرالي ورأسمالي، التي أصبحت كلمات سيئة الآن. ربما تكون مصطلحات "السوق الاجتماعية" أو "الرخاء الاجتماعي" هي الحل». ربما يتعلم المصريون أيضا من الحكمة الشهيرة المنسوبة إلى رجل الدولة الصيني دينغ شياو بينغ الذي كان يعرف كيفية تحفيز الأسواق النامية: «ليس مهما ما إذا كان القط داكن اللون أو أبيض طالما يلتقط الفئران».
لا يوجد نقص في الفئران، لا سيما منذ تدمير الثورة للاقتصاد حتى مع استحواذها على انتباه العالم. وفقا لسي آي كابيتال، من المقدر أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي المصري في الأشهر الستة الأولى من العام بنسبة أكبر من 6 في المائة، ومن المتوقع أن يصل معدل النمو إلى 1.2 في المائة فقط. كما خسر قطاع السياحة، الذي يعد بالإضافة إلى عائدات قناة السويس العمود الرئيسي للاقتصاد، نحو 1.8 مليار دولار بسبب إلغاء الحجوزات والقيود المفروضة على سفر الزوار المتوقعين.
ويتراجع الاستثمار الأجنبي والتحويلات من المصريين المغتربين بسبب الريبة السياسية في الخليج العربي، كما أجبر البنك المركزي المصري على حرق نحو ربع احتياطيه من النقد الأجنبي لدعم الجنيه. وقياسا لمقدار ضعف الدولار، استعادت العملة المصرية 6 في المائة فقط من قيمتها بعد قيام الثورة.
تهدئة المخاوف
هناك أيضا الارتياب السياسي. من المقرر أن تجرى الانتخابات البرلمانية في سبتمبر (أيلول)، ومن المتوقع أن تفوز جماعة الإخوان المسلمين بغالبية مقاعد البرلمان نظرا لشبكاتها الاجتماعية الواسعة. وفي حين يحاول قادة الإخوان طمأنة مجتمع الأعمال في مصر والشعب ككل بأنهم لا يرغبون في فرض تطبيق الشريعة على الاقتصاد، فإن تحالفهم مع الجماعات السلفية لم يساعد على بث الثقة. في يونيو (حزيران)، أشار مدير أحد الفنادق الكبرى المملوكة لأجانب في القاهرة إلى زجاجة بيرة مفتوحة في غذاء جماعي وأعلن أنها حرام، في إشارة اقشعرت لها أبدان مسؤولي الفندق الخائفين من تبعات أسلمة مصر.
يقول الشيخ محمد فرحات أحد دعاة السلفية البارزين إنه لا داعي للقلق، فبموجب الشريعة يعاقب السائحون بثمانية جلدات فقط إذا تناولوا الكحوليات في العلن. ولا توجد عقوبة ضدهم إذا تناولوها سرا في غرفهم داخل الفنادق.
كذلك لم يفعل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يحكم البلاد بصورة مؤقتة، الكثير لتهدئة المخاوف الشعبية من المستقبل. في يوليو (تموز)، أوردت «نيويورك تايمز» أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يصوغ دستورا جديدا يحافظ على استحقاقاته ليس فقط كدرع واق للشعب، بل كمالك ومدير لمشروعات تجارية مثل الفنادق الفاخرة ومصانع النسيج. بذلك أراد المجلس الأعلى الإساءة إلى كل من العلمانيين والإسلاميين الذين فهموا هذه الخطوة على أنها اتجاه نحو الثقافة السياسية في تركيا، حيث يحكم المدنيون برضا من ضباط الجيش الذين يملكون صلاحيات واسعة.
في حين ربما يقول البعض إن حكم السيادة المشتركة خدم تركيا جيدا نظرا لأدائها الاقتصادي المذهل على مدار العقدين الماضيين، إلا أنه في مصر خدمت الأعمال التي تملكها القوات المسلحة الجيش ذاته بصورة أكبر من خدمتها للشعب الذي أقسم لواءات الجيش على خدمته. في هذه الحالة، لا يعد النموذج التركي ملائما لمصر كما أن النموذج السويدي غبر قابل للتطبيق، على الأقل حاليا.
يجب على مصر، التي ظلت طوال قرون نهرا جاريا من التيارات السياسية والاقتصادية والثقافية الإقليمية وأصابته عقود من الحكم الديكتاتوري بالركود، أن تجد صيغة خاصة بها من أجل التجديد. ويبدو أن إيجاد حل هجين أمر حتمي، نظرا لتعدد جمهور الناخبين وخبرتهم القاتمة مع الحكم المطلق. ولكن يجب أن تصل مصر إلى شيء ما سريعا، وإلا قد تصبح ثورتها قصيرة العمر بصورة مذهلة كما هي مذهلة في حدوثها.