القرن العشرون المنسي جان فيرنر مولر
قبل عشرين عاماً تفكك الاتحاد السوفييتي، وهو الحدث الذي يمثل بالنسبة إلى العديد من المؤرخين النهاية الحقيقية “للقرن العشرين القصير” القرن الذي اتسم منذ بداية العام 1914 بالصراعات الأيديولوجية المطولة بين الشيوعية والفاشية والديمقراطية الليبرالية، إلى أن بدا الأمر وكأن الديمقراطية الليبرالية خرجت من هذه الصراعات منتصرة . ولكن شيئاً غريباً حدث على الطريق إلى نهاية التاريخ: يبدو الأمر وكأننا نبذل قصارى جهدنا لكي نتعلم من الماضي القريب، ولكننا في واقع الأمر مربكون تماماً إزاء الدروس التي يتعين علينا أن نستوعبها .
من الواضح أن كل التاريخ هو في واقع الأمر تاريخ معاصر، والدروس التي يتعين على الأوروبيين بشكل خاص أن يستوعبوها اليوم من القرن العشرين تتعلق بالمدى الذي بلغه التطرف الأيديولوجي الفكري في العصور المظلمة من قوة، والطبيعة الخاصة التي اتسمت بها الديمقراطية الأوروبية منذ بنائها في أعقاب الحرب العالمية الثانية .
من بعض النواحي، تبدو الصراعات الأيديولوجية الكبرى في القرن العشرين الآن قريبة ووثيقة الصلة بقدر أهمية المناقشات الأكاديمية في العصور الوسطى، وخاصة في نظر الأجيال الشابة . فمن يفهم الآن ولو من بعيد فضلاً عن تحمل عناء محاولة الفهم الأعمال السياسية الكبرى لمفكرين من أمثال آرثر كوستلر وفيكتور سيرج، الذين خاطروا بحياتهم لمناصرة الشيوعية، ثم لمهاجمتها؟
بيد أننا نظل على الرغم من ذلك عالقين في أحابيل المفاهيم التي سادت في ظل الحروب الأيديولوجية أثناء القرن العشرين بدرجة أعظم كثيراً مما قد يعترف بها أغلبنا . ولقد تجلى هذا في أوضح صوره مع الاستجابات الفكرية للتطرف الإسلامي: حيث ظهرت مصطلحات مثل “الفاشية الإسلامية” أو “الشمولية الثالثة”، التي صيغت ليس فقط لتشخيص العدو الجديد للغرب، بل وأيضاً لاستحضار تجربة الصراع ضد الحكم الشمولي التي سبقت الحرب العالمية الثانية وتلتها .
الواقع أن مثل هذه المصطلحات تسعى إلى استعارة الشرعية من الماضي والاستعانة به لتفسير الحاضر، على النحو الذي لم يجده أغلب الدارسين الجادين للإسلام أو الإرهاب مفيداً بدرجة كبيرة . فالقياس بهذه الطريقة يعكس رغبة في إعادة خوض المعارك القديمة، وليس محاولة توضيح معالم الأحكام السياسية التي نصدرها على الأحداث المعاصرة .
كيف ينبغي لنا إذاً، أن نفكر في الإرث الأيديولوجي الذي خلفه لنا القرن الماضي؟ في المقام الأول من الأهمية، يتعين علينا أن نكف عن استعراض القرن العشرين وكأنه فترة تاريخية فاصلة حافلة بتجارب مَرَضية أدارها مفكرون وساسة مخبولون، وكأن الديمقراطية الليبرالية كانت قائمة قبل هذه التجارب وأن الأمر لم يكن يتطلب سوى إحيائها بعد فشل تلك التجارب .
وهي ليست بالفكرة السارة بل وربما كانت بالغة الخطورة ولكن تظل الحقيقة الواضحة هي أن العديد من الناس، وليس أنصار الأيديولوجيات فحسب، علقوا آمالهم على التجارب الاستبدادية والشمولية في القرن العشرين، ونظروا إلى ساسة من أمثال موسيليني بل وحتى ستالين باعتبارهم أشخاصاً قادرين على حل المشكلات، في حين استبعدوا الديمقراطيين الليبراليين باعتبارهم ساسة فاشلين .
ولا أقصد بهذا اختلاق الأعذار، فليس صحيحاً أن الطريق إلى الفهم يمر بالغفران . بل إن الأمر على العكس من ذلك تماماً، فأي فهم لائق للأيديولوجيات لابد أن يدرك مدى القوة التي تمتعت بها هذه الأيديولوجيات في إغواء بل وحتى إقناع الناس الذين لا يبالون كثيراً بما تمثله من جاذبية عاطفية سواء للاعتزاز بها أو لتبغيضها ولكنهم رغم ذلك يتصورون أنها تقدم حلولاً عقلانية حقاً . وينبغي لنا أن نتذكر أن موسيليني وهتلر حُمِلا في نهاية المطاف إلى قمة السلطة بفضل ملك وجنرال متقاعد على التوالي أو بعبارة أخرى، بفضل النخب التقليدية، وليس المتعصبين من مقاتلي الشوارع .
وثانياً، يتعين علينا أن نقدر الطبيعة الخاصة والإبداعية للديمقراطية التي أنشأتها النخب الأوروبية الغربية في أعقاب العام ،1945 ففي ضوء التجربة الشمولية، توقفت هذه النخب عن تعريف الديمقراطية بالسيادة البرلمانية التفسير الكلاسيكي للديمقراطية التمثيلية في كل مكان باستثناء الولايات المتحدة . فلم يعد من الجائز السماح لأيه هيئة برلمانية بالتنازل مرة أخرى عن السلطة لأمثال هتلر أو فيليب بيتان . وبدلاً من ذلك لجأ مهندسو الديمقراطية الغربية بعد الحرب إلى وضع أكبر عدد ممكن من الضوابط والتوازنات، وعلى نحو لا يخلو من المفارقة، تمكين مؤسسات غير منتخبة من تعزيز الديمقراطية الليبرالية ككل .
والمثال الأكثر أهمية هنا هو المحاكم الدستورية التي تختلف عن المحكمة العليا في الولايات المتحدة، والمكلفة خصيصاً ضمان احترام الحقوق الفردية . وفي نهاية المطاف، تقبلت حتى البلدان المتشككة تقليدياً في “حكم القضاة” مثل فرنسا كحالة كلاسيكية هذا النموذج للديمقراطية المقيدة . وفي النهاية تبنت كل بلدان أوروبا الوسطى والشرقية هذا النموذج بعد عام ،1989 ومن الأهمية بمكان أن نتذكر أن المؤسسات الأوروبية وخاصة محكمة العدل الأوروبية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تتناسب أيضاً مع هذا الفهم للديمقراطية من خلال آليات شرعية غير ديمقراطية .
واليوم، بات من الواضح أن الأوروبيين غير راضين عن هذا المفهوم للديمقراطية . فكثيرون منهم يرون أن القارة تدخل ما أطلق عليه العالم السياسي كولين كراوتش “عصر ما بعد الديمقراطية” . ويزعم المواطنون على نحو متزايد أن النخب السياسية لا تمثلهم على النحو اللائق، وأن المؤسسات المنتخبة بشكل مباشر البرلمانات الوطنية بشكل خاص مرغمة على الامتثال لهيئات غير منتخبة مثل البنوك المركزية . وكانت النتيجة الطبيعية انتشار الاحتجاجات الشعبية الحماسية وصعود الأحزاب الشعبوية في مختلف أنحاء القارة .
لا يكفي ببساطة أن نعيد تأكيد النموذج الأوروبي للديمقراطية في مرحلة ما بعد الحرب، وكأن البديل الوحيد يتلخّص في شكل أو آخر من أشكال الحكم الشمولي . ولكن يتعين علينا أن نتعامل بوضوح مع الخلفية التي أتينا منها ولماذا، وأن ندرك أن العالم لم يشهد عصراً ذهبياً للديمقراطية الليبرالية الأوروبية، سواء قبل الحرب العالمية الثانية، أو في خمسينات القرن العشرين، أو في أي مرحلة أسطورية أخرى .
لقد تعود الأوروبيون العاديون لفترة طويلة وضع ثقتهم في النخب في ما يتصل بقضية الديمقراطية، بل إنهم في كثير من الأحيان فضلوا النخب غير المنتخبة . وإذا كانوا راغبين الآن في تعديل العقد الاجتماعي (على افتراض أن الديمقراطية المباشرة تظل في حكم المستحيل)، فإن التغيير لابد أن يستند إلى حس متعمق في التاريخ بما قد تحتاج إليه الديمقراطية الأوروبية من إبداعات حقيقية، ومن يثق الأوروبيون بهم حقاً لتولي السلطة، ولقد بدأت هذه المناقشة للتو .