صفحة 1 من 1

تحديات السياسة الخارجية السعودية

مرسل: الخميس ديسمبر 15, 2011 12:45 am
بواسطة محمد الزامل 5
تستند السياسة الخارجية السعودية في تفاعلها الدولي (الإقليمي والعالمي) إلى معطيات شكلت في مجملها المصادر الداخلية للسياسة الخارجية السعودية، وعززت هذه المعطيات من فاعلية الدبلوماسية السعودية وزادت من تأثيرها الإقليمي والدولي، على الرغم من التحديات التي تواجهها. ومن هذه المعطيات:

البعد الاقتصادي: تمتلك المملكة العربية السعودية احتياطيا يقدر بـ265 مليار برميل من البترول الثابت وجوده، وهذا يمثل 20 في المائة من احتياطي البترول العالمي، وتعتبر المملكة الأولى عالميا في مجال تصدير البترول، حيث تصدر يوميا 7.3 مليون برميل من الخام والمنتجات البترولية، وهذا يشكل 15 في المائة من الصادرات العالمية، وتلعب المملكة دورا محوريا في منظمة الأوبك، وتراعي في سياستها البترولية مصالح كل من المنتجين والمستهلكين للبترول، كما تراعي استقرار سوق البترول العالمية، وخلال الفترة مابين 1973 - 2009م بلغ إجمالي ما قدمته المملكة من مساعدات إنمائية 99.7 مليار دولار، استفاد منها 95 دولة نامية، وتسهم المملكة بشكل فاعل في المنظمات الاقتصادية الإقليمية والدولية، حيث إنها تسهم بحصة الأسد في البنك الإسلامي للتنمية، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وصندوق الأوبك للتنمية الدولية، والمملكة عضو في المجالس التنفيذية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بحصة تصويت 3.16 في المائة في الصندوق و2.79 في المائة في البنك الدولي، وتمثل مساهمة المملكة سابع أكبر حصة في مساهمات الصندوق والبنك - بعد الولايات المتحدة الأميركية واليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا والصين - يضاف إلى ذلك عضوية المملكة في مجموعة العشرين.

البعد العربي والإسلامي: تعبر المملكة بشكل عفوي وتلقائي عن عمق هويتها العربية والإسلامية، حيث تعد منبع العروبة ومهد الإسلام، وتضم المملكة العربية السعودية الحرمين الشريفين حيث يتجه إلى الكعبة المشرفة خمس مرات يوميا أكثر من 1300 مليون مسلم، ويوجد في المملكة أكبر مطبعة لطباعة المصحف الشريف، كما يوجد بها مقرات عدد من المنظمات الإسلامية المهمة، ومنها: منظمة المؤتمر الإسلامي، والبنك الإسلامي للتنمية، ورابطة العالم الإسلامي، والندوة العالمية للشباب الإسلامي. ونظرا لوجود الأماكن المقدسة، وهذه المؤسسات الإسلامية المهمة فقد جسدت المملكة هيبة الإسلام وأصبحت محط أنظار المسلمين.

البعد الاستراتيجي: تمثل المملكة بحكم موقعها الجغرافي ومساحتها وثقلها الاقتصادي والسكاني المحور الرئيسي في منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، كما تمثل محورا مهما في منظومة الدول العربية والإسلامية. وتربط المملكة بحكم موقعها الجغرافي بين قارتي آسيا وأفريقيا، وتقع على أهم البحار (الخليج العربي، البحر الأحمر)، وتمثل مجال عبور جوي مهم بين الشرق والغرب، وعلى مقربة منها يقع اثنان من أهم الممرات المائية الدولية (مضيق هرمز، ومضيق باب المندب).

البعد الواقعي: من الثوابت الأساسية في السياسة الخارجية السعودية نهجها الواقعي في التعامل مع الدول ومع الأزمات الإقليمية والتطورات الدولية، مما أكسبها رصيدا ضخما من المصداقية، وهذا النهج الواقعي أبعد المملكة عن النزعة الإمبريالية في سلوكها الإقليمي، وجعل منها محور اعتدال في المنطقة، وضمن هذا النهج نظرت المملكة لعلاقاتها الدولية ضمن منظور وطني، وعربي، وإسلامي، وإنساني، وتتعامل المملكة مع الممكن؛ سواء في علاقاتها الدولية الثنائية أو فيما تطرحه من مبادرات سياسية تجاه الأزمات الإقليمية أو الأحداث الدولية، وتسعى للمحافظة على التوازنات الإقليمية التي تحقق الاستقرار لدول المنطقة. وفي تعاملها مع الأزمات الإقليمية تأخذ بخيار الدبلوماسية لإدراكها أن الدبلوماسية الفعالة يمكن أن توفر الجهد، وتقلل الثمن، وتحقق الغاية المنشودة، وتوجد مناخا للفعل والتفاعل الدولي.

بيد أن هذه المعطيات التي تستند عليها السياسية الخارجية السعودية يقابلها تحديات كثيرا ما تحد من خيارات وفاعلية الدبلوماسية السعودية.

أول هذه التحديات التحدي المؤسسي؛ فقد رفع التطور المذهل في حقل العلاقات الدولية تحديا غير مسبوق لجهاز صنع السياسة الخارجية في جميع الدول، ومنها المملكة العربية السعودية. فقد تعددت الأجهزة الحكومية التي تسهم في صنع وتنفيذ السياسة الخارجية للدول، حتى إننا نجد أن بعض الأجهزة الحكومية أصبح لها اتصال يومي مباشر مع العالم الخارجي قد لا يقل عن اتصال وزارة الخارجية، وتكاملت مصالح الدول وتشابكت، مما غيّر من مضمون ومفهوم المصلحة الوطنية، كما برز دور المواطن العام في مدخلات القرار الخارجي، سواء من خلال المؤسسات المدنية والسياسية أو الرأي العام، وجاءت الثورة في وسائل الاتصالات وتقنية المعلومات وبما فتحته من آفاق جديدة في التواصل بين الشعوب لتعقد من عملية صنع القرار الخارجي، يضاف إلى ما سبق ظهور أنماط جديدة من الدبلوماسية تزاحم الدبلوماسية التقليدية، مثل: دبلوماسية القمم، والدبلوماسية الموازية، والدبلوماسية البرلمانية، والدبلوماسية الشعبية، والمملكة العربية السعودية ليست استثناء من هذه التطورات في عالم السياسة الخارجية.

ولقد سعت وزارة الخارجية في المملكة العربية السعودية للاستجابة لهذه التحديات، بيد أن استجابتها كانت محدودة أمام قوة التحديات وتنوعها، وتمثلت هذه الاستجابة في إعادة هيكلة الوزارة بما يلائم نمط العلاقات الدولية المعاصرة، الذي برز فيه دور المنظمات الإقليمية والدولية، بيد أن ما هو مطلوب من جهات صنع السياسية الخارجية بالمملكة، خصوصا في هذه المرحلة، هو تعزيز مساندة القرار الخارجي وترشيد مدخلاته من خلال عمل مؤسسي، وبما يتلاءم مع مستوى التحديات التي تواجهها السياسة الخارجية السعودية في محيطيها الإقليمي والدولي.

أما التحدي الثاني فيتمثل في التغير في نسق المنتظم الدولي. لقد أدت نهاية الحرب الباردة ثم ظهور الوفاق الدولي وما تلاه من انهيار للمعسكر الاشتراكي إلى تغير جذري في نسق المنتظم الدولي، فقد تحول هذا المنتظم من منتظم ثنائي القطبية إلى منتظم أحادي انفردت الولايات المتحدة الأميركية بقيادته، ولا شك في أن هذا التحول ليس في صالح دول المجتمع الدولي، ومنها المملكة، إذ إنه حدّ من خياراتها في لعبة التوازنات الدولية.

ولقد سعت الدبلوماسية السعودية إلى توسيع قاعدة علاقاتها الاستراتيجية من خلال الاتجاه شرقا نحو الصين والهند وكذلك روسيا الاتحادية، وذلك بغية الحد من تأثير التغير في نسق المنتظم السياسي الدولي، بيد أن الفراغ الذي خلفه انهيار الاتحاد السوفياتي لا يزال قائما في الوقت الحاضر وفي المستقبل القريب، ذلك أن مكونات القوة ليست القوة الاقتصادية أو عدد السكان فحسب، وإنما هناك عناصر أخرى تفتقر لها كل من الصين والهند وروسيا الاتحادية في الوقت الحاضر. لذا فإن الدبلوماسية السعودية تواجه معضلة التغير في نسق المنتظم الدولي، وهذا رفع لها تحديا؛ إذ جعلها رهينة لبيئة دولية قد لا تقدم أفضل خيار للمصالحة الوطنية.

ويتمثل التحدي الثالث بتراكم الأزمات الإقليمية: لقد شاء الله أن تكون المملكة في عين العواصف والأزمات الإقليمية. فخلال الفترة مابين 1979 - 2011م عصفت بالمنطقة الكثير من التحولات والأزمات الكبرى، التي رفعت تحديا غير مألوف لصانع القرار السعودي. ومن هذه التحولات والأزمات نذكر، على سبيل المثال لا الحصر:

القضية الفلسطينية بتشعباتها السياسية والإنسانية، الثورة الإيرانية وما رفعته من تحديات سياسية وأمنية لدول الخليج العربية، الحرب العراقية - الإيرانية وتداعياتها الإقليمية، احتلال العراق لدولة الكويت وما جسده من تحد سافر لمنظومة الأمن العربي، الاحتلال الأميركي للعراق، الذي جعل أقوى قوة في العالم فجأة على الحدود الشمالية للمملكة، وأدخل العراق في مستنقع الحرب الأهلية، مساعي إيران لامتلاك قدرات نووية ونظام إرسال صاروخي متطور قادر على حمل الرؤوس النووية، تدخل إيران في الشؤون الداخلية العربية، الأزمات المزمنة في كل من اليمن، ولبنان، والصومال، وأخيرا الزلزال السياسي الذي ضرب العالم العربي في مطلع عام 2011م وأدى إلى تغير في بنية بعض الأنظمة العربية وإنهاء حالة الاستثناء العربي من موجة التغيير السياسي الكبرى.

هذا التراكم للتحولات والأزمات شكل عبئا غير مسبوق على صانع القرار السعودي وعلى الإمكانات السعودية. وهذه التحولات والأزمات يزداد مفعولها يوما بعد يوم نظرا لتعقيداتها المحلية، والإقليمية، والدولية مما يعني أن آلية صنع القرار الخارجي السعودي مقبلة أكثر من أي وقت مضى على تحديات كبيرة مصدرها التأزم الإقليمي.

وأخيرا تأتي مستجدات الظواهر في المجتمع الدولي: اتسمت العقود الأخيرة ببروز ظواهر دولية أثرت في تشكيل السياسات الدولية، ومنها سياسة المملكة العربية السعودية.

أبرز هذه الظواهر ظاهرة العولمة في أبعادها المختلفة، خصوصا بعدها السياسي، الذي كان له دور كبير في تشكيل القيم والمفاهيم الدولية المعاصرة. لقد أدى سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار حائط برلين إلى تقهقر في دور الآيديولوجيا في تشكيل السياسات الدولية، وحل محلها مشترك دولي يركز على تعزيز حقوق الإنسان ومشاركة الشعوب من خلال مؤسساتها التمثيلية في صنع القرار، ولم تكن المملكة معزولة عن هذه التحديات وتأثيراتها على سياستها الخارجية.

بيد أن التحدي الأكبر هو ذلك الزلزال السياسي الكبير الذي ضرب العالم العربي في مطلع العام الحالي، وأطلق عاصفة سياسية وهبات شعبية بدأت من تونس باتجاه المشرق العربي. لقد أدى هذا الزلزال إلى ما سماه عبد المنعم سعيد بـ«نهاية الاستثناء العربي» من موجة التحولات السياسية الكبرى، ورفع تحديا جديدا للدبلوماسية السعودية، حيث وضعها بين سندان مطالب الاستقرار السياسي وتماسك الكيانات العربية ومطرقة الانتفاضات الشعبية العربية ومطالبها السياسية، ومثل هذه التطورات المفاجئة تفرض على صانع القرار السعودي أخذ الحيطة والحذر في مدخلات القرار، وذلك لضمان أفضل عائد سياسي لمخرجاته. وهنا تأتي أهمية ترشيد القرار الخارجي السعودي وفق أسس مؤسسية تأخذ بعين الاعتبار كل أبعاد القرار.

وبرزت ظاهرة صدام الثقافات لتشكل طرحا جديدا في العلاقات بين الأمم، وجاء هذا المفهوم ليجعل من الصدام الثقافي بديلا للصدام الآيديولوجي والاقتصادي القائم في المجتمع الدولي، فوفقا لمنظِّر هذا المفهوم (صامويل هنتنغتون) فإن «الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون خطوط المعارك في المستقبل» وإن «التفاعل بين الإسلام والغرب صدام حضارات». وبحكم مكانة المملكة ودورها القيادي في العالم الإسلامي تصدت لهذا الطرح الذي يوجد العداوة والبغضاء بين الشعوب، بطرح بديل يتمثل بالحوار بين أتباع الأديان بغية تعزيز قيم المحبة والسلام. فقد قاد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله جهودا محلية وإقليمية ودولية لنشر وتعزيز الحوار بين أتباع الأديان، تمثلت هذه الجهود بنداء مكة المكرمة ثم بمؤتمر مدريد وتوجت بلقاء قمة في الأمم المتحدة، وقد سعى الملك عبد الله من خلال هذه الجهود لفتح صفحة جديدة في تاريخ البشرية يحل فيها المحبة والوئام محل التوتر والعداء، والتركيز على المشترك الإنساني بين أتباع الأديان والثقافات، وإبراز القيم النبيلة في كل دين، مع احترام خصوصية كل معتقد وثقافة.

ومنذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001م وجدت المملكة نفسها فجأة أمام ظاهرة جديدة تمثلت في الإرهاب الدولي، وعانت المملكة مثل غيرها من الدول من هذه الظاهرة التي ألحقت الأذى المادي والبدني في كثير من الدول، وعانى منها الكثير من الشعوب. ومما أثار قلق القيادة السعودية والشعب السعودي هو أن العناصر الإرهابية لبست ثوب الإسلام عند تنفيذ أعمالها الشريرة، مما جعل المملكة تواجه تحديا مزدوجا: ماديا تمثل في العمل الإرهابي، وثقافيا تمثل في الدفاع عن الإسلام وما نُسب إليه من أعمال شريرة يحرمها في تعاليمه، وتتنافى مع قيمه ومضامينه الإنسانية. ولقد تصدت المملكة لهذه الظاهرة الإرهابية من خلال برنامج متكامل الأبعاد، شمل البعدين الأمني والفكري، ففي الوقت الذي أحكمت فيه حكومة المملكة من قبضتها الأمنية على العناصر الإرهابية، سخرت كل آليات التنشئة السياسية في المجتمع لاحتواء هذه الظاهرة، وفي الوقت الذي عملت فيه حكومة المملكة على تفكيك الخلايا الإرهابية، وتجفيف منابعها، وحرمانها من مصادر التمويل، نفذت برنامج «مناصحة» للعناصر التي تلوث فكرها بالإرهاب، في حين تم تنفيذ «حملة السكينة» كإجراء وقائي لاحتواء العناصر المتطرفة.

بين هذه المعطيات والتحديات تعمل السياسة الخارجية السعودية. وفي السياسات الدولية لا يوجد نجاح مطلق أو فشل مطلق، ذلك لأن التاريخ الدبلوماسي يعلمنا أن النجاح والفشل في الدبلوماسية مسألة نسبية، بيد أن الإجماع بين المعنيين في الشأن الخارجي هو أن ترشيد السياسة الخارجية، من خلال تعميق بعدها المؤسسي، يزيد من احتمالات النجاح، ويقلل من الثمن السياسي والمالي لتحقيق الأهداف الخارجية.



الكاتب : محمد بن ابراهيم الحلوة

جريدة الشرق الاوسط