قصة الحدود بين السعوديه وايران
مرسل: السبت ديسمبر 17, 2011 1:03 pm
القصة الكاملة لصراع الحدود بين السعودية واليمن(1):
ماذا قال الملك عبد العزيز للإمام يحيى،
وماذا قال الملك فهد للرئيس صالح؟
فصول من مسلسل تاريخي بدأ قبل ستين سنة
سأل الإسكندر حكماء أهل بابل:
أياً أبلغ عندكم، الشجاعة أم العدل؟
قالوا: إذا استعملنا العدل، استغنينا عن الشجاعة.
رواه العاملي في «الكشكول»
انتظرناهم من البر فجاؤونا من البحر.
هكذا كانت مفاجأة الأحداث اليمنية الأسبوع الماضي لكثير من المراقبين، وقد اشتعلت الجبهة اليمنية ـ السعودية مجدداً بحدودها البحرية هذه المرة، بعد أن كانت قد توترت الحدود البرية قبلها، وبعد أن وصل الوضع الداخلي اليمني إلى حافة الانفجار في مواجهات متعددة بين النظام والمتظاهرين في عدة مدن يمنية احتجاجاً على الإصلاحات الاقتصادية التي أعلنتها حكومة الرئيس الدكتور عبد الكريم الأرياني في حزيران 1998 المنصرم، والتي طلبت بموجبها رفع الدعم عن عدد من السلع الاستهلاكية. في وقت كانت المواجهة بين القبائل في الشمال قد وصلت إلى حد القتال مع الجيش، مما أدى إلى خسائر عديدة في الأرواح.
ماذا يجري؟
الذي لا شك فيه أن اليمن يعيش حالة غليان. في الداخل لم يعرفها منذ ما قبل حرب الانفصال، وفي الخارج لم يعرفها منذ أن وصل التوتر على الحدود مع السعودية في العام 1995 إلى أقصى درجاته. والغليان الذي نشهده اليوم في اليمن وعلى حدوده البحرية والبرية ما هو إلاّ نتيجة أمرين أساسيين:
الأول، أن موضوع ترسيم الحدود بين اليمن والسعودية قد وقع تحت سيف سياسة المماطلة للمرة المائة بعد الألف منذ أن بدأ قبل حوالى خمس وستين سنة. وفي كل مرة تصل قضية الحدود إلى نهاية النفق المظلم الذي تتخبط فيه منذ العقود الستة الماضية، نراها تعود مجدداً إلى حافية الهاوية، فيعود الموضوع برمته إلى نقطة الصفر. والصفر يعني خطاً وهمياً مرسوماً على مجموعة كثبان من الرمال. والصفر الذي هو بداية علم الحساب، من الأهمية التاريخية بمكان في هذا السياق، بحيث من الممكن أن يشعل اشتباكاً هنا وحرباً هناك، قد تأتي على كل أصفار الجزيرة العربية وخطوطها الوهمية.
الثاني، أن موضوع الحدود اليمنية ـ السعودية مرتبط عبر تاريخ اليمن في القرن الحالي، ارتباطاً عضوياً بكل تركيبة البيت اليمني، شمالاً وجنوباً، قبائل وأحزاباً، طوائف وزعامات، برلماناً وصحافة. بل هو مرتبط اليوم أكثر وأكثر بنجاح أو فشل التجربة الديموقراطية كما تمارس على الأرض اليمنية. فهو بادىء ذي بدء، نزاع دامٍ، وفي المحصلة النهائية جرح ينزف ولا يبدو أن هناك طبيباً مداوياً في المستقبل المنظور.
انطلاقاً من هذا الواقع، لا بد من التوقف عند مفاصل أحداث الأيام العشرة الأخيرة لتكون مدخلاً إلى فهم خلفية موضوع الحدود الذي يتمتع بتاريخ حافل. وسأبدأ برواية ذلك على عدة حلقات تسرد القصة المعقدة ـ والبسيطة في الوقت نفسه ـ لأكبر خلاف حدودي عربي ما زال يستعر حتى الآن. وهي قصة في مجملها تحمل في كل ثنية من ثناياها أبعاداً سياسية واقتصادية بعيدة وخطيرة في مراميها.
27 تموز 1998
القصة الكاملة لصراع الحدود بين السعودية واليمن(1):
ماذا قال الملك عبد العزيز للإمام يحيى،
وماذا قال الملك فهد للرئيس صالح؟
فصول من مسلسل تاريخي بدأ قبل ستين سنة
Page 2:7
الاتهام والرد
كان مسرح الأزمة مهيئاً من قبل أن يظهر أبطاله على الجمهور، عندما تناقلت الصحف في الأسابيع الأخيرة، أن المملكة العربية السعودية قد قامت بتسجيل تحفظاتها لدى الأمم المتحدة والأمانة العامة لجامعة الدول العربية، احتجاجاً على اتفاق الحدود بين الجمهورية اليمنية وسلطنة عُمان التي اعتبرته السعودية مجحفاً بحقها، بـإيداعها وثائق رسمية تسجل عدم اعترافها بهذا الاتفاق ورفضها لأي آثار تترتب عليه. وكان هذا الاتفاق الحدودي بين اليمن وعُمان قد وقِّع في العام 1992، واعترفت به السعودية ضمنياً (لا رسمياً) بسكوتها عليه ست سنوات، حتى كان الأسبوع الأخير من نيسان 1998 الماضي، حين أعلنت المملكة اعتراضها عليه رسمياً للمرة الأولى بمذكرتي احتجاج إلى الأمم المتحدة والجامعة العربية معلنة عدم اعترافها به، وأنه يشمل أراضي سعودية ويمر فيها.
بعد حوالى شهرين من الاحتجاج السعودي على الاتفاق اليمني ـ العُماني، صدر في 17 تموز 1998 الجاري، بيان عن صنعاء، وزعته وكالات الأنباء يتهم السعودية «رسمياً» بأنها «ما تزال تقوم بعملية اعتداء واقتطاع مستمر للأراضي اليمنية». ونُسِبَ هذا البيان إلى «متحدث يمني رسمي». وهدد البيان اليمني برفع القضية إلى محكمة العدل الدولية (وهو أمر ترفضه السعودية) طالباً منها إنهاء «التواجد السعودي في الأراضي اليمنية». وأعلن البيان رفض اليمن الاحتجاجات السعودية بشأن الاتفاق الحدودي المبرم بين اليمن وعُمان، معتبراً أن ذلك يشكل انتكاسة خطيرة.
ونفت السعودية في اليوم ذاته في بيان رسمي على لسان مصدر مسؤول أي اعتداء من جانبها على أراضي اليمن بأي شكل من الأشكال، قائلاً أن المذكرة التي قدمتها السعودية للأمم المتحدة بشأن اتفاق الحدود اليمني ـ العُماني هي «إجراء متعارف عليه الغرض منه التنبيه لحفظ حقوق ومصالح السعودية نظراً لوجود حدود مشتركة بين السعودية وعمان واليمن». وأكد المصدر السعودي «التزام بلاده باتفاق الطائف وتقارير الحدود الملحقة بها ومذكرة التفاهم بين البلدين وما تضمنه محاضر اللجان الحدودية المشتركة».
بعد ذلك بيومين أعلن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح في 19 تموز 1998 الجاري، خلال مؤتمر صحافي عقده في صنعاء، أن القوات السعودية قد قامت باحتلال الجزيرة الدويمة قبالة شاطئ ميدي في البحر الأحمر وأنها قد استخدمت الأسلحة الثقيلة في هجومها على خفر السواحل اليمنيين الذي أودى بعدد من القتلى والجرحى في صفوف حرس الحدود هؤلاء. وأكد الرئيس اليمني أن اللجـان الفنية المشكلة لبحث قضايا الحدود لم تفلح أبداً في تحقيق أي شيء يذكر في مسار المفاوضات الحدودية بين البلدين. وقال الرئيس صالح إن الاعتراض السعودي على اتفاق الحدود اليمني ـ العُماني، الذي جاء متأخراً ست سنوات، ما هو إلاّ من قبيل وضع العراقيل في طريق تسوية قضية الحدود معها. وكان الرئيس اليمني يقسو في حديثه عن التدخل السعودي في بلاده، في الوقت الذي كان نائب رئيس وزرائه ووزير خارجيته عبد القادر باجمال في طريقه إلى السعودية ليفاوض ويتفاوض لمرات لا حصر لها، حول تداعيات الأزمة الحالية وانعكاساتها على الوضع الحقيقي لمفاوضات الحدود.
وجاء القول الفصل السعودي في هذه الأزمة، برد الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية السعودي في مؤتمر صحافي في 21 تموز 1998 الجاري، على ما قاله الرئيس اليمني في اليوم السابق، مفنداً الأقوال اليمنية بالتفصيل معتبراً ما حدث في جزيرة الدويمة هو «حادث حدودي لن يؤثر على سير المفاوضات والاجتماعات التي تعقدها اللجان المشتركة للانتهاء من قضية الحدود». وأكد الأمير نايف أن الخلاف مع اليمن لا يحتاج إلى تحكيم دولي، ولكن «إذا أراد اليمنيون التحكيم فإن السعودية لا تخشى ذلك». وبهذا وضعت السعودية النقاط على الحروف في أزمتها الحدودية الحالية مع اليمن.
لكن ما هي خلفية هذه الأزمة، من أين بدأت وأي درب سارت عليه حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن، بل هل ستصل إلى طريق مسدود محتم عليها بحكم السوابق التاريخية؟ هذا هو سؤال العرافين السياسيين اليوم.
27 تموز 1998
القصة الكاملة لصراع الحدود بين السعودية واليمن(1):
ماذا قال الملك عبد العزيز للإمام يحيى،
وماذا قال الملك فهد للرئيس صالح؟
فصول من مسلسل تاريخي بدأ قبل ستين سنة
النزاع الدامي
من غير المشكوك فيه أبداً هو أن العلاقات السعودية ـ اليمنية عبر التاريخ، استمرت في حالة نزاع دائم وتورط مستمر، عادت على شبه الجزيرة العربية بالخير حيناً وبالشر أحياناً منذ ما قبل الإسلام وإلى اليوم. وحتى لا نغوص في القِدَم كثيراً، فإن مشكلة الحدود السعودية ـ اليمنية، التي انفجرت في مطلع العام 1995، كانت توطئة للبحث عن مخرج لا عن حل، لكسر عقدة هذا النزاع الدامي. أما الصدام حول مناطق الحدود، فما هو إلاّ فصل آخر من مسلسل تاريخي حديث بدأ قبل نحو ستين سنة، وما زال يستأثر بالمسرح السياسي في شبه الجزيرة العربية كل عقد أو عقدين من الزمن.
والخلاف الحدودي بين السعودية واليمن، ليس هو الخلاف الوحيد للمملكة مع جيرانها. فللسعودية حدود مشتركة مع ثماني دول، هي: دول مجلس التعاون الخليجي الخمس (عُمان، الإمارات، قطر، البحرين، الكويت) إلى جانب اليمن والأردن والعراق. وكلها حدود غير مستقرة وغير آمنة. والمشكلة في هذه الحدود تعود إلى نشوء الدولة السعودية الحديثة.
حكم النزاع على الأرض في اليمن علاقات الجوار مع كل البلدان المحيطة بها، أي جغرافية اتخذت. سواء اليمن الشمالي أو اليمن الجنوبي. اليمن الصغير أو اليمن الكبير. اليمن الأمامي المتوكلي أو يمن الاستعمار البريطاني والمحميات والسلاطين. اليمن الجمهورية العربية أو اليمن الاشتراكي ـ الماركسي. اليمن المسالم أو اليمن العدواني. أي يمن قام منذ القرن العشرين وإلى اليوم، حكمه نزاع ما على أرض أو حدود. لكن النزاع على الأرض ما تحكّم بين اليمن ودولة أخرى، بقدر ما تحكّم بصورة أساسية في العلاقة مع السعودية. فمنذ ستين سنة ونيف وقعت حرب الحدود الأولى بين اليمن والسعودية، وما زالت مستمرة بشكل أو بآخر حتى اليوم.
قبل ما يزيد على نصف قرن حُسِم جزء من هذا النزاع على الأرض بين اليمن والسعودية في معاهدة الطائف وملحقاتها الموقعة في جدة في 20 أيار 1934 . حُسِم على الورق بمعنى أنه تمّ الاتفاق على الحدود من البحر الأحمر حتى جبل ثار. وحُسِم عملياً بمعنى أنه أوقف الحرب اليمنية ـ السعودية بين آل حميد الدين وآل سعود، وأنهى المواجهة بين الملك عبد العزيز والإمام يحيى. ولكنه لم ينهِ حالة الكره الدائم بين آل سعود وآل حميد الدين، على الرغم من دعم السعوديين لآل حميد الدين وللملكية المتوكلية بوقوفهم ضد الثورة اليمنية في العام 1962 . فقد كان الدعم السعودي للملكيين في اليمن في حربهم ضد الجمهوريين والثورة، يعود إلى أسباب سياسية واستراتيجية أهم وأخطر من كرههم لبيت حميد الدين وعدم اطمئنانهم إليهم ونفورهم منهم.
وإذا كانت معاهدة الطائف قد سوّت جزءاً من النزاع على الأرض، إلاّ أنها أبقت النزاع على الجزء الآخر من الحدود مفتوحاً. أي المنطقة الممتدة من جبل ثار حتى الربع الخالي والحدود مع سلطنة عُمان الحالية. لكن في الوقت نفسه، كانت معاهدة الطائف بمثابة انتصار حاسم من جانب واحد، هو الطرف السعودي. ومثّلت هزيمة للجانب اليمني، قَبِلَها على مضض، ولم يعترف بها داخلياً، لأنها كانت مرفوضة في المفهوم الوطني اليمني. وظل كل حاكم لليمن منذ العام 1934 إلى اليوم، يسوّف ويماطل في تنفيذ معاهدة الطائف، حتى جاء الرئيس علي عبد الله صالح، ليصبح أول حاكم لليمن يعترف بهذه المعاهدة وذلك في كانون الثاني 1995، ويقبل بها أساساً يتم التوصل انطلاقاً منه إلى ترسيم باقي الحدود، ويحاول عبر هذه المعاهدة كذلك تطبيع علاقة بلاده مع السعودية، في محاولة لحسم هذا النزاع الطويل.
الملاحظ منذ ذلك الحين أنَّ معاهدة الطائف، التي طبـعت العلاقات اليمنية ـ السعودية لسنوات طويلة وحتى سنوات قادمة، نصّت على تشكيل لجان ميدانية منذ العام 1934. ولأن الإمام يحيى كان مهزوماً ومقهوراً، ظل يماطل ويناور لعدة شهور، في الوقت الذي كان الملك عبد العزيز يحث الإمام على ضرورة سرعة تشكيل اللجان. وكان وراء مماطلة الإمام، ليس فقط حبه للتسويف ولا عدم رغبته بعدم تسليم أرض يمنية إلى السعوديين، لكن لأنه كان يعد مؤامرة لاغتيال الملك عبد العزيز، وذلك حين حاول يمنيان قتل الملك في الحرم الشريف في مكة في العام 1935. واتضح أن سيف الإسلام أحمد (الإمام فيما بعد) ابن الإمام يحيى هو الذي أعد المؤامرة، بعلم أبيه أو بغير علمه. وعندما فشلت محاولة الاغتيال، أعدم الملك عبد العزيز اليمنيين المتورطين. وهكذا بعد أن فشلت محاولة الاغتيال، وافق الإمام يحيى
ماذا قال الملك عبد العزيز للإمام يحيى،
وماذا قال الملك فهد للرئيس صالح؟
فصول من مسلسل تاريخي بدأ قبل ستين سنة
سأل الإسكندر حكماء أهل بابل:
أياً أبلغ عندكم، الشجاعة أم العدل؟
قالوا: إذا استعملنا العدل، استغنينا عن الشجاعة.
رواه العاملي في «الكشكول»
انتظرناهم من البر فجاؤونا من البحر.
هكذا كانت مفاجأة الأحداث اليمنية الأسبوع الماضي لكثير من المراقبين، وقد اشتعلت الجبهة اليمنية ـ السعودية مجدداً بحدودها البحرية هذه المرة، بعد أن كانت قد توترت الحدود البرية قبلها، وبعد أن وصل الوضع الداخلي اليمني إلى حافة الانفجار في مواجهات متعددة بين النظام والمتظاهرين في عدة مدن يمنية احتجاجاً على الإصلاحات الاقتصادية التي أعلنتها حكومة الرئيس الدكتور عبد الكريم الأرياني في حزيران 1998 المنصرم، والتي طلبت بموجبها رفع الدعم عن عدد من السلع الاستهلاكية. في وقت كانت المواجهة بين القبائل في الشمال قد وصلت إلى حد القتال مع الجيش، مما أدى إلى خسائر عديدة في الأرواح.
ماذا يجري؟
الذي لا شك فيه أن اليمن يعيش حالة غليان. في الداخل لم يعرفها منذ ما قبل حرب الانفصال، وفي الخارج لم يعرفها منذ أن وصل التوتر على الحدود مع السعودية في العام 1995 إلى أقصى درجاته. والغليان الذي نشهده اليوم في اليمن وعلى حدوده البحرية والبرية ما هو إلاّ نتيجة أمرين أساسيين:
الأول، أن موضوع ترسيم الحدود بين اليمن والسعودية قد وقع تحت سيف سياسة المماطلة للمرة المائة بعد الألف منذ أن بدأ قبل حوالى خمس وستين سنة. وفي كل مرة تصل قضية الحدود إلى نهاية النفق المظلم الذي تتخبط فيه منذ العقود الستة الماضية، نراها تعود مجدداً إلى حافية الهاوية، فيعود الموضوع برمته إلى نقطة الصفر. والصفر يعني خطاً وهمياً مرسوماً على مجموعة كثبان من الرمال. والصفر الذي هو بداية علم الحساب، من الأهمية التاريخية بمكان في هذا السياق، بحيث من الممكن أن يشعل اشتباكاً هنا وحرباً هناك، قد تأتي على كل أصفار الجزيرة العربية وخطوطها الوهمية.
الثاني، أن موضوع الحدود اليمنية ـ السعودية مرتبط عبر تاريخ اليمن في القرن الحالي، ارتباطاً عضوياً بكل تركيبة البيت اليمني، شمالاً وجنوباً، قبائل وأحزاباً، طوائف وزعامات، برلماناً وصحافة. بل هو مرتبط اليوم أكثر وأكثر بنجاح أو فشل التجربة الديموقراطية كما تمارس على الأرض اليمنية. فهو بادىء ذي بدء، نزاع دامٍ، وفي المحصلة النهائية جرح ينزف ولا يبدو أن هناك طبيباً مداوياً في المستقبل المنظور.
انطلاقاً من هذا الواقع، لا بد من التوقف عند مفاصل أحداث الأيام العشرة الأخيرة لتكون مدخلاً إلى فهم خلفية موضوع الحدود الذي يتمتع بتاريخ حافل. وسأبدأ برواية ذلك على عدة حلقات تسرد القصة المعقدة ـ والبسيطة في الوقت نفسه ـ لأكبر خلاف حدودي عربي ما زال يستعر حتى الآن. وهي قصة في مجملها تحمل في كل ثنية من ثناياها أبعاداً سياسية واقتصادية بعيدة وخطيرة في مراميها.
27 تموز 1998
القصة الكاملة لصراع الحدود بين السعودية واليمن(1):
ماذا قال الملك عبد العزيز للإمام يحيى،
وماذا قال الملك فهد للرئيس صالح؟
فصول من مسلسل تاريخي بدأ قبل ستين سنة
Page 2:7
الاتهام والرد
كان مسرح الأزمة مهيئاً من قبل أن يظهر أبطاله على الجمهور، عندما تناقلت الصحف في الأسابيع الأخيرة، أن المملكة العربية السعودية قد قامت بتسجيل تحفظاتها لدى الأمم المتحدة والأمانة العامة لجامعة الدول العربية، احتجاجاً على اتفاق الحدود بين الجمهورية اليمنية وسلطنة عُمان التي اعتبرته السعودية مجحفاً بحقها، بـإيداعها وثائق رسمية تسجل عدم اعترافها بهذا الاتفاق ورفضها لأي آثار تترتب عليه. وكان هذا الاتفاق الحدودي بين اليمن وعُمان قد وقِّع في العام 1992، واعترفت به السعودية ضمنياً (لا رسمياً) بسكوتها عليه ست سنوات، حتى كان الأسبوع الأخير من نيسان 1998 الماضي، حين أعلنت المملكة اعتراضها عليه رسمياً للمرة الأولى بمذكرتي احتجاج إلى الأمم المتحدة والجامعة العربية معلنة عدم اعترافها به، وأنه يشمل أراضي سعودية ويمر فيها.
بعد حوالى شهرين من الاحتجاج السعودي على الاتفاق اليمني ـ العُماني، صدر في 17 تموز 1998 الجاري، بيان عن صنعاء، وزعته وكالات الأنباء يتهم السعودية «رسمياً» بأنها «ما تزال تقوم بعملية اعتداء واقتطاع مستمر للأراضي اليمنية». ونُسِبَ هذا البيان إلى «متحدث يمني رسمي». وهدد البيان اليمني برفع القضية إلى محكمة العدل الدولية (وهو أمر ترفضه السعودية) طالباً منها إنهاء «التواجد السعودي في الأراضي اليمنية». وأعلن البيان رفض اليمن الاحتجاجات السعودية بشأن الاتفاق الحدودي المبرم بين اليمن وعُمان، معتبراً أن ذلك يشكل انتكاسة خطيرة.
ونفت السعودية في اليوم ذاته في بيان رسمي على لسان مصدر مسؤول أي اعتداء من جانبها على أراضي اليمن بأي شكل من الأشكال، قائلاً أن المذكرة التي قدمتها السعودية للأمم المتحدة بشأن اتفاق الحدود اليمني ـ العُماني هي «إجراء متعارف عليه الغرض منه التنبيه لحفظ حقوق ومصالح السعودية نظراً لوجود حدود مشتركة بين السعودية وعمان واليمن». وأكد المصدر السعودي «التزام بلاده باتفاق الطائف وتقارير الحدود الملحقة بها ومذكرة التفاهم بين البلدين وما تضمنه محاضر اللجان الحدودية المشتركة».
بعد ذلك بيومين أعلن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح في 19 تموز 1998 الجاري، خلال مؤتمر صحافي عقده في صنعاء، أن القوات السعودية قد قامت باحتلال الجزيرة الدويمة قبالة شاطئ ميدي في البحر الأحمر وأنها قد استخدمت الأسلحة الثقيلة في هجومها على خفر السواحل اليمنيين الذي أودى بعدد من القتلى والجرحى في صفوف حرس الحدود هؤلاء. وأكد الرئيس اليمني أن اللجـان الفنية المشكلة لبحث قضايا الحدود لم تفلح أبداً في تحقيق أي شيء يذكر في مسار المفاوضات الحدودية بين البلدين. وقال الرئيس صالح إن الاعتراض السعودي على اتفاق الحدود اليمني ـ العُماني، الذي جاء متأخراً ست سنوات، ما هو إلاّ من قبيل وضع العراقيل في طريق تسوية قضية الحدود معها. وكان الرئيس اليمني يقسو في حديثه عن التدخل السعودي في بلاده، في الوقت الذي كان نائب رئيس وزرائه ووزير خارجيته عبد القادر باجمال في طريقه إلى السعودية ليفاوض ويتفاوض لمرات لا حصر لها، حول تداعيات الأزمة الحالية وانعكاساتها على الوضع الحقيقي لمفاوضات الحدود.
وجاء القول الفصل السعودي في هذه الأزمة، برد الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية السعودي في مؤتمر صحافي في 21 تموز 1998 الجاري، على ما قاله الرئيس اليمني في اليوم السابق، مفنداً الأقوال اليمنية بالتفصيل معتبراً ما حدث في جزيرة الدويمة هو «حادث حدودي لن يؤثر على سير المفاوضات والاجتماعات التي تعقدها اللجان المشتركة للانتهاء من قضية الحدود». وأكد الأمير نايف أن الخلاف مع اليمن لا يحتاج إلى تحكيم دولي، ولكن «إذا أراد اليمنيون التحكيم فإن السعودية لا تخشى ذلك». وبهذا وضعت السعودية النقاط على الحروف في أزمتها الحدودية الحالية مع اليمن.
لكن ما هي خلفية هذه الأزمة، من أين بدأت وأي درب سارت عليه حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن، بل هل ستصل إلى طريق مسدود محتم عليها بحكم السوابق التاريخية؟ هذا هو سؤال العرافين السياسيين اليوم.
27 تموز 1998
القصة الكاملة لصراع الحدود بين السعودية واليمن(1):
ماذا قال الملك عبد العزيز للإمام يحيى،
وماذا قال الملك فهد للرئيس صالح؟
فصول من مسلسل تاريخي بدأ قبل ستين سنة
النزاع الدامي
من غير المشكوك فيه أبداً هو أن العلاقات السعودية ـ اليمنية عبر التاريخ، استمرت في حالة نزاع دائم وتورط مستمر، عادت على شبه الجزيرة العربية بالخير حيناً وبالشر أحياناً منذ ما قبل الإسلام وإلى اليوم. وحتى لا نغوص في القِدَم كثيراً، فإن مشكلة الحدود السعودية ـ اليمنية، التي انفجرت في مطلع العام 1995، كانت توطئة للبحث عن مخرج لا عن حل، لكسر عقدة هذا النزاع الدامي. أما الصدام حول مناطق الحدود، فما هو إلاّ فصل آخر من مسلسل تاريخي حديث بدأ قبل نحو ستين سنة، وما زال يستأثر بالمسرح السياسي في شبه الجزيرة العربية كل عقد أو عقدين من الزمن.
والخلاف الحدودي بين السعودية واليمن، ليس هو الخلاف الوحيد للمملكة مع جيرانها. فللسعودية حدود مشتركة مع ثماني دول، هي: دول مجلس التعاون الخليجي الخمس (عُمان، الإمارات، قطر، البحرين، الكويت) إلى جانب اليمن والأردن والعراق. وكلها حدود غير مستقرة وغير آمنة. والمشكلة في هذه الحدود تعود إلى نشوء الدولة السعودية الحديثة.
حكم النزاع على الأرض في اليمن علاقات الجوار مع كل البلدان المحيطة بها، أي جغرافية اتخذت. سواء اليمن الشمالي أو اليمن الجنوبي. اليمن الصغير أو اليمن الكبير. اليمن الأمامي المتوكلي أو يمن الاستعمار البريطاني والمحميات والسلاطين. اليمن الجمهورية العربية أو اليمن الاشتراكي ـ الماركسي. اليمن المسالم أو اليمن العدواني. أي يمن قام منذ القرن العشرين وإلى اليوم، حكمه نزاع ما على أرض أو حدود. لكن النزاع على الأرض ما تحكّم بين اليمن ودولة أخرى، بقدر ما تحكّم بصورة أساسية في العلاقة مع السعودية. فمنذ ستين سنة ونيف وقعت حرب الحدود الأولى بين اليمن والسعودية، وما زالت مستمرة بشكل أو بآخر حتى اليوم.
قبل ما يزيد على نصف قرن حُسِم جزء من هذا النزاع على الأرض بين اليمن والسعودية في معاهدة الطائف وملحقاتها الموقعة في جدة في 20 أيار 1934 . حُسِم على الورق بمعنى أنه تمّ الاتفاق على الحدود من البحر الأحمر حتى جبل ثار. وحُسِم عملياً بمعنى أنه أوقف الحرب اليمنية ـ السعودية بين آل حميد الدين وآل سعود، وأنهى المواجهة بين الملك عبد العزيز والإمام يحيى. ولكنه لم ينهِ حالة الكره الدائم بين آل سعود وآل حميد الدين، على الرغم من دعم السعوديين لآل حميد الدين وللملكية المتوكلية بوقوفهم ضد الثورة اليمنية في العام 1962 . فقد كان الدعم السعودي للملكيين في اليمن في حربهم ضد الجمهوريين والثورة، يعود إلى أسباب سياسية واستراتيجية أهم وأخطر من كرههم لبيت حميد الدين وعدم اطمئنانهم إليهم ونفورهم منهم.
وإذا كانت معاهدة الطائف قد سوّت جزءاً من النزاع على الأرض، إلاّ أنها أبقت النزاع على الجزء الآخر من الحدود مفتوحاً. أي المنطقة الممتدة من جبل ثار حتى الربع الخالي والحدود مع سلطنة عُمان الحالية. لكن في الوقت نفسه، كانت معاهدة الطائف بمثابة انتصار حاسم من جانب واحد، هو الطرف السعودي. ومثّلت هزيمة للجانب اليمني، قَبِلَها على مضض، ولم يعترف بها داخلياً، لأنها كانت مرفوضة في المفهوم الوطني اليمني. وظل كل حاكم لليمن منذ العام 1934 إلى اليوم، يسوّف ويماطل في تنفيذ معاهدة الطائف، حتى جاء الرئيس علي عبد الله صالح، ليصبح أول حاكم لليمن يعترف بهذه المعاهدة وذلك في كانون الثاني 1995، ويقبل بها أساساً يتم التوصل انطلاقاً منه إلى ترسيم باقي الحدود، ويحاول عبر هذه المعاهدة كذلك تطبيع علاقة بلاده مع السعودية، في محاولة لحسم هذا النزاع الطويل.
الملاحظ منذ ذلك الحين أنَّ معاهدة الطائف، التي طبـعت العلاقات اليمنية ـ السعودية لسنوات طويلة وحتى سنوات قادمة، نصّت على تشكيل لجان ميدانية منذ العام 1934. ولأن الإمام يحيى كان مهزوماً ومقهوراً، ظل يماطل ويناور لعدة شهور، في الوقت الذي كان الملك عبد العزيز يحث الإمام على ضرورة سرعة تشكيل اللجان. وكان وراء مماطلة الإمام، ليس فقط حبه للتسويف ولا عدم رغبته بعدم تسليم أرض يمنية إلى السعوديين، لكن لأنه كان يعد مؤامرة لاغتيال الملك عبد العزيز، وذلك حين حاول يمنيان قتل الملك في الحرم الشريف في مكة في العام 1935. واتضح أن سيف الإسلام أحمد (الإمام فيما بعد) ابن الإمام يحيى هو الذي أعد المؤامرة، بعلم أبيه أو بغير علمه. وعندما فشلت محاولة الاغتيال، أعدم الملك عبد العزيز اليمنيين المتورطين. وهكذا بعد أن فشلت محاولة الاغتيال، وافق الإمام يحيى