صفحة 1 من 1

الثورة السورية...صدمة أنجبت صمودا

مرسل: الأحد ديسمبر 18, 2011 7:13 pm
بواسطة رائد ذياب العنزي (3)
بقلم د. عوض السليمان
الصدمة (trauma)، تعني الجرح الغائر الذي يتوجه إلى إصابة
النفس البشرية، ويعرفها المتخصصون بشكل أدق بأنها حادث مرعب يهاجم الإنسان مخترقاً وسائله الدفاعية، ومهدداً حياته.
وقد يتطور الأذى، فيصبح مرضاً عضوياً قد لا ينجو المصدوم منه.
تتراوح نتائج الصدمة بين القدرة على التغلب عليها، إلى الإحساس بالشلل أمامها ويختلف الناس في كيفية تعاملهم مع الصدمة، بين متماسك أمامها وبين خائر في مواجهتها. وقد أسهب علماء النفس في شرح خطرها، ذلك أنها تؤدي إلى تمزيق حياة الفرد المصاب، بل والمجتمع بأكمله في بعض الأحيان.
لا بأس أن نذكر هنا، أن الصدمة قد تؤدي بالفعل إلى إهلاك من وقعت عليه، وتحول حياته إلى كابوس من الخوف والرعب (Panic Attac)، ولكنه من الأهمية بمكان أن نركز، وبمنتهى الوضوح، على أن الصدمة أيضاً قد تلعب دوراً رئيساً في صقل شخصية المصدوم، كما قد تعطيه القوة والدافع للتغلب على فاجعته وعلى كل فاجعة لاحقة، ويصف المتخصصون هذا "بالاسترداد"، بمعنى قدرة الشخص على الشفاء، والإفادة من الصدمة أيضاً (résilience).
وكمثال على ما ذكرنا، فالقارئ يعلم أن الخنساء رضي الله عنها قالت عند صدمتها باستشهاد أولادها الأربعة : الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم. بينما شقّ غيرها الثوب على وفاة قريب.
هذا يعني بالنتيجة أن قسماً من الناس يثور على صدمته، فيزداد إيمانه بسببها، ويكون قادراً على تحطيمها، بل لنقل على صدم الصدمة نفسها، وهذا بالضبط ما اختاره الشعب السوري لمواجهة الزلازل التي تعرض لها ولا يزال.
ليس صدفة أبداً لجوء النظام إلى الفتك في سوريا وقتل الأطفال وانتهاك الأعراض والحرمات، وإمعانه في التقتيل وسحل الجثث، والتفنن في تقطيع أوصال الأجساد، فقد أراد من ذلك استخدام أسلوب الصدمة في شل حركة الشارع السوري وثنيه عن التظاهر، على اعتبار أن هذا الأسلوب يزرع الخوف عميقاً في نفس المصدوم ويجعله ضعيفا أمام الصادم. ولكن أية نتيجة تلك التي حملته الصدمة لأهل الشام؟.
اختار الشعب السوري أن يواجه الصدمة بالصمود (Tténacité)، وأثبت أن الصمود هو خط الدفاع الذي لا يخترق، فقلب الطاولة من خلال ذلك على النظام وأساليبه الوحشية.
ولكن ما هي الصدمات التي تعرض لها الشعب السوري، وكيف تصرف إزاءها؟ وكيف أثبت أنه شعب قادر على تغيير ملامح علم النفس نفسه فضلاً عن إسقاط الأنظمة وجبروتها؟.
الصدمة الأولى هي ما تعرض لها رجالات درعا أمام رئيس قسم الأمن السياسي عاطف نجيب، عندما فاخر أمام وجهاء المدينة، بأن يعذب أطفالهم، وأنه مستعد مع رجاله "لتحبيل نساء المحافظة كلهن، من أجل إنجاب أولاد مهذبين بدلاً من أولئك الأوباش الذين لن يعودوا أبداً".
بالطبع، كانت تلك الجمل غاية في القسوة على أبناء المحافظة، وقد غلت الدماء في عروق السامعين، ولم يتأخر أبطال المحافظة حتى أعلنوا نيتهم طردَ عاطف نجيب والمحافظ من المدينة كلها، وتمّ اتخاذ القرار بمطالبة بشار الأسد بمحاسبة هذين الرجلين "قبل أن يحاسبهما الأحرار"، لكن وللأسف، وقف الأسد مع ابن خالته وفضله على مليون حرّ وحرّة في محافظة حوران.
لم يكتف الأسد بانتصاره لأحد المجرمين، بل أمر بالتعامل مع المتظاهرين بمنتهى الشدة، فحلقت الطائرات في سماء درعا، وقصفت الحوّامات محيط المسجد العمري، وزُج بآلاف من الشبيحة، في شوارع المدينة ودرعا البلد والمحطة.
بعد ذلك أرسل "القائد المناضل" قناصته لقتل كل من يخرج من بيته بل لقنص كل جسم يتحرك. لا شك أن هذه الصدمة أشد من سابقتها، لكنها أبداً لم تستطع أن تجعل الأحرار يعودون إلى بيوتهم، بل هب أهل القرى في شرق المدينة وغربها، لنصرة إخوانهم في المدينة المحاصرة، وبدلاً من أن تسبب الصدمة إرهاب المتظاهرين، طوَر هؤلاء أسلوب الصمود من جديد لينتقل إلى التحدي (Défi)، وبدأ زحف أهل القرى إلى مدينة درعا، وبدأت الشعارات تأخذ زخمأ جديداً وألفاظاً أشد وأقسى من ذي قبل.
ليس المقصود هنا تعداد الجرائم التي قام بها النظام في سورية، ولكنني أسوق بعضها للتدليل على الفكرة التي أطرحها.
فقد توالت الصدمات بعد ذلك، الواحدة تلو الأخرى على الشعب السوري، وإن كان من أهمها، الخطاب المهرجاني الذي ألقاه الأسد يوم 29/ آذار، ولا شك أن علماء النفس والإعلام، سيذكرون كيف أن ذلك الخطاب جاء بنتائج عكسية لصاحبه، بطريقة لم يشهد التاريخ مثلها، إذ فقد الرئيس من خلال كلماته كل علاقة بالشعب، وظهرت صورته الحقيقية، كمتحدث باسم الطائفة، واكتشف السوريون مدى الحب الذي يكنه الرئيس لأبناء بلده.
لقد فضح الرجل نفسه، وأسس لثورة لن تنتهي إلا بإسقاطه وضاعف من صمود الشعب السوري كله، إذ دفع الخطاب كثيراً من المترددين للالتحاق بالثورة.
ما زلت أعتبر أن خطاب الأسد هذا، كان أعنف صدمة تلقاها الشعب السوري الذي كان يعول على الرئيس الشاب. وما كان السوريون ليظنّوا أنّ رئيسهم سيصفهم بالحثالة والمتآمرين والمندسين والسلفيين، بل ويهددهم بالقتل والثبور.
لا معنى بعد ذلك الخطاب للحديث عن مفهوم الصمود الذي تبناه السوريون، فقد اتخذّ الصمود شكلاً جديداً، الموت ولا المذلة، والموت ولا حكم بشار. انتشر الصمود على مساحة الأرض السورية وطال حتى أطفال المدارس.
يتوجب اليوم، على علماء النفس الإعلامي، أن يغيروا القواعد التي اتفقوا عليها لأكثر من سبعين سنة، فالصدمة لا ترعب أهل سورية.
على هؤلاء العلماء أن يزوروا حمص، قبل أن يضعوا قواعدهم الجديدة. وأن يتعرفوا إلى خنساواتها ورجالها وأطفالها.
ما عادت الصدمة قادرة على أن تعيد السوريين إلى لعب الورق في البيوت، والبحث عن لقمة العيش. الصدمة في سورية تولد الصمود، الذي يشارك فيه الأطفال والنساء والشيوخ. الصمود الذي أيقظ الجامعة العربية من سبات عميق، وعصف بعلاقات سوريا بأقرب حلفائها. أي صدمة تستطيع أن تقتلع هذ الصمود؟، ألا فلتبلغوا الأسد.