بين المقاومة والمهادنة
مرسل: الأحد ديسمبر 18, 2011 7:33 pm
بين المقاومة والمهادنة
د. علي بن عمر بادحدح
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد:
إن العدوان على المقومات الأساسية للأمة « الدين، اللغة، التاريخ » أشد وأعظم من نهب ثروتها واحتلال أرضها، لأن المال يسترد، والأرض تستعاد، لكن العدوان على الدين و اللغة والتاريخ، أخطر وأفظع لأنه يأتي البناء من قواعده، ويمسخ هوية الأمة ، ويلغي ذاكرتها، وينسخ ثقافتها، فالمقاومة للحفاظ على المقومات هي مقاومة للحفاظ على العراقة والأصالة التي تعد أساسية للأمة، وهي تجديد وتقوية للعزة والكرامة التي هي صبغة الأمة ومزيتها.
وتتأكد المقاومة إذا كان العدوان شاملاً أي حسياً ومعنوياً، وبالتالي ينبغي أن تستنفر المقاومة كل القوى، وتستنفد كل الإمكانات، للحفاظ على المقومات والمقدسات ولا يدخر لتحقيق ذلك مال ولا جهد بل تبذل لأجله الأرواح، وهذا من الناحية الإنسانية مقرر ومسلَّمٌ به، فضلاً عن النهج الإسلامي والمبدأ الإيماني.
وإذا خصصنا الحديث عن مقاومة المحتل الذي يسلب الأرض وينتهك العرض ويسفك الدم، وهو محارب للدين، ومدنِّسٌ للمقدسات فالأمر أشد وضوحاً في أهمية المقاومة، وإذا وضحنا التخصيص وجعلنا الحديث عن مقاومة الصهاينة اليهود الذين احتلوا بلاد المسلمين فالأمر أظهر واظهر، وإليك بعض التفصيل بعد الإجمال:
1- مشروعية المقاومة:
إن مقاومة المحتل والدفاع عن الأرض والعرض حق مكفول في جميع الملل والشرائع ، ومشروعية المقاومة ضد المحتل أقرتها الأعراف والقوانين الدولية، واستمداد المشروعية - عند المسلم - لا يفتقر إلى ذلك لأن أساسه الوحي المعصوم ومواده آيات القرآن الكريم فالحق جل وعلا يقول: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } [ التوبة:12 – 14 ]، وفي سنة سيد المجاهدين صلى الله عليه وسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ) [ رواه الترمذي،وله رواية مختصرة عند البخاري ] ، فهل بعد هذه المشروعية الواضحة المحددة في الحالات المختلفة حاجة لمزيد؟
وينبغي التنبيه أن مشروعية الجهاد الإسلامي الصحيح المشروع دائمة ومستمرة ومستمدة من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد روى سلمة بن نفيل الكندي قال:كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله أذال الناسُ الخيل ووضعوا السلاح، وقالوا لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال: ( كذبوا، الآن الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ) رواه النسائي.
شبهات وردود:
تكلّم بعض الساسة، وكتب بعض الإعلاميين نقداً للمقاومة باعتبارها تعرّض البلاد والعباد للخطر والضرر، وانضم للركب بعض أهل العلم فرأى أن عدم التكافؤ في القوة مسقط للمقاومة وموجب للمهادنة وكان الاستشهاد بآيات الأنفال التي فيها ذكر العدد المكافئ للمسلمين من أعدائهم، ومن هنا أقول: ما جاء في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ الأنفال:65-66 ]، لا يصلح للاستدلال على منع جهاد ومقاومة العدو المحتل بحجة أن عدد المجاهدين المقاومين أقل من نصف عدد الأعداء، وذلك لأمرين أساسيين :
الأول: وهو الأكثر أهمية، وهو أن النص عن عموم المسلمين وليس عن المسلمين في بلد بعينه، أي يكون عموم المسلمين أقل من عدوهم، وقد مر بنا حكم وجوب الجهاد إذا نزل العدو بلاد المسلمين ووجوب نصرة المسلمين لإخوانهم الأقرب فالأقرب، وإذا نزَّلْنَا الأمر على الواقع فالمسلمون في فلسطين وما جاورها أكثر عدداً من عدوهم، وعندهم من أسباب وأدوات القتال ما لا يصح معه أن يُقال إنه لا يجوز لهم القتال، وهذا أمر مهم فليس الأمر يخص أهل بلد ولا هو متعلق بمجرد ما يقع بالعدوان من القتل والإتلاف بل هو حكم شرعي، فلو رضي أهل فلسطين – على سبيل المثال – بالاحتلال وامتنعوا عن مقاومته فلا يتغير الحكم بوجوب الجهاد لاستخلاص ديار المسلمين ومقدساتهم من العدو الغاصب، وما جد البوم من تسمية الدول وحدودها فضلاً عن أوضاع المعاهدات والاتفاقات بين بعض الدول وأعداء الإسلام من اليهود لا يغير من الحكم الشرعي شيئاً.
الثاني: أنه ورد في كلام المفسرين معان أخرى جديرة بالاعتبار ولها قوة في الاستدلال ، فقد روى الطبري في تفسير الآية عن ابن عباس رواية يقول فيها:" فلا يغرنَّك قولُ رجالٍ ! فإني قد سمعت رجالا يقولون: إنه لا يصلح لرجل من المسلمين أن يقاتل حتى يكون على كل رجل رجلان، وحتى يكون على كل رجلين أربعة، ثم بحساب ذلك، وزعموا أنهم يعصون الله إن قاتلوا حتى يبلغوا عدة ذلك، وإنه لا حرج عليهم أن لا يقاتلوا حتى يبلغوا عدَّةَ أن يكون على كل رجل رجلان، وعلى كل رجلين أربعة، وقد قال الله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } [سورة البقرة: 207]، وقال الله: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } [سورة النساء: 84]، فهو التحريض الذي أنزل الله عليهم في الأنفال، فلا تعجزن، قاتلْ، قد سقطت بين ظهري أناس كما شاء الله أن يكونوا"(تفسير الطبري 14/54،53).وغاية ما نُقل في ذلك هو أن المسلمين إذا كانوا أقل من النصف من عدوهم لم يجب عليهم القتال، وعدم وجوبه لا يعني حرمته، فقد روى الطبري عن ابن عباس قوله:" وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم ,عن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم أن يُقاتلوا، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم" [ تفسير الطبري 8/52 ].
وقد مال الرازي إلى ترجيح القول بعدم النسخ فقال:" والحاصل أن الجمهور ادعوا أن قوله { الآن خفف الله عنكم} ناسخ للآية المتقدمة، , وأنكر أبو مسلم الأصفهاني هذا النسخ،وتقرير قوله أن يقال : إنه تعالى قال في الآية الأولى : { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } فهب أنا نحمل هذا الخبر على الأمر إلا أن هذا الأمر كان مشروطاً بكون العشرين قادرين على الصبر في مقابلة المائتين ، وقوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } يدل على أن ذلك الشرط غير حاصل في حق هؤلاء ، فصار حاصل الكلام أن الآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص ، وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة ، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ البتة .
فإن قالوا : قوله : { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } معناه : ليكن العشرون الصابرون في مقابلة المائتين ، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم .
قلنا : لم لا يجوز أن يقال إن المراد من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين ، فليشتغلوا بجهادهم؟ والحاصل أن لفظ الآية ورد على صورة الخبر خالفنا هذا الظاهر وحملناه على الأمر ، أما في رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره ، وتقديره إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين فليشتغلوا بمقاومتهم ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ... "وختم بقول:" إن ثبت إجماع الأمة على الإطلاق قبل أبي مسلم على حصول هذا النسخ فلا كلام عليهن فإن لم يحصل هذا الإجماع القاطع فنقول: قول أبي مسلم صحيح حسن " [ تفسير الرازي 8/202،201 ] .
كما أن الرازي لفت النظر إلى المعاني والحقائق الإيمانية التي تحرر المسلم من الرضوخ لضغط الواقع عند ضعف إيمانه فقال رحمه الله: "واعلم أن هذا التكليف إنما حسن لأنه مسبوق بقوله تعالى : { حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلاً لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه".
وفي علة نصر المؤمنين على الكافرين بأنهم لا يفقهون قال قولاً نفيساً جاء فيه:" أنه تعالى بين العلة في هذه الغلبة، وهو قوله: { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } وتقرير هذا الكلام من وجوه :
الوجه الأول : أن من لا يؤمن بالله ولا يؤمن بالمعاد ، فإن غاية السعادة والبهجة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية . ومن كان هذا معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا يعرضها للزوال ، أما من اعتقد أنه لا سعادة في هذه الحياة وأن السعادة لا تحصل إلا في الدار الآخرة فإنه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا ولا يلتفت إليها ولا يقيم لها وزناً ، فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح ، ومتى كان الأمر كذلك ، كان الواحد من هذا الباب يقاوم العدد الكثير من الباب الأول .
الوجه الثاني : أن الكفار إنما يعولون على قوتهم وشوكتهم ، والمسلمون يستعينون بربهم بالدعاء والتضرع ، ومن كان كذلك كان النصر والظفر به أليق وأولى " [ تفسير الرازي 8/199].
د. علي بن عمر بادحدح
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد:
إن العدوان على المقومات الأساسية للأمة « الدين، اللغة، التاريخ » أشد وأعظم من نهب ثروتها واحتلال أرضها، لأن المال يسترد، والأرض تستعاد، لكن العدوان على الدين و اللغة والتاريخ، أخطر وأفظع لأنه يأتي البناء من قواعده، ويمسخ هوية الأمة ، ويلغي ذاكرتها، وينسخ ثقافتها، فالمقاومة للحفاظ على المقومات هي مقاومة للحفاظ على العراقة والأصالة التي تعد أساسية للأمة، وهي تجديد وتقوية للعزة والكرامة التي هي صبغة الأمة ومزيتها.
وتتأكد المقاومة إذا كان العدوان شاملاً أي حسياً ومعنوياً، وبالتالي ينبغي أن تستنفر المقاومة كل القوى، وتستنفد كل الإمكانات، للحفاظ على المقومات والمقدسات ولا يدخر لتحقيق ذلك مال ولا جهد بل تبذل لأجله الأرواح، وهذا من الناحية الإنسانية مقرر ومسلَّمٌ به، فضلاً عن النهج الإسلامي والمبدأ الإيماني.
وإذا خصصنا الحديث عن مقاومة المحتل الذي يسلب الأرض وينتهك العرض ويسفك الدم، وهو محارب للدين، ومدنِّسٌ للمقدسات فالأمر أشد وضوحاً في أهمية المقاومة، وإذا وضحنا التخصيص وجعلنا الحديث عن مقاومة الصهاينة اليهود الذين احتلوا بلاد المسلمين فالأمر أظهر واظهر، وإليك بعض التفصيل بعد الإجمال:
1- مشروعية المقاومة:
إن مقاومة المحتل والدفاع عن الأرض والعرض حق مكفول في جميع الملل والشرائع ، ومشروعية المقاومة ضد المحتل أقرتها الأعراف والقوانين الدولية، واستمداد المشروعية - عند المسلم - لا يفتقر إلى ذلك لأن أساسه الوحي المعصوم ومواده آيات القرآن الكريم فالحق جل وعلا يقول: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } [ التوبة:12 – 14 ]، وفي سنة سيد المجاهدين صلى الله عليه وسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ) [ رواه الترمذي،وله رواية مختصرة عند البخاري ] ، فهل بعد هذه المشروعية الواضحة المحددة في الحالات المختلفة حاجة لمزيد؟
وينبغي التنبيه أن مشروعية الجهاد الإسلامي الصحيح المشروع دائمة ومستمرة ومستمدة من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد روى سلمة بن نفيل الكندي قال:كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله أذال الناسُ الخيل ووضعوا السلاح، وقالوا لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال: ( كذبوا، الآن الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ) رواه النسائي.
شبهات وردود:
تكلّم بعض الساسة، وكتب بعض الإعلاميين نقداً للمقاومة باعتبارها تعرّض البلاد والعباد للخطر والضرر، وانضم للركب بعض أهل العلم فرأى أن عدم التكافؤ في القوة مسقط للمقاومة وموجب للمهادنة وكان الاستشهاد بآيات الأنفال التي فيها ذكر العدد المكافئ للمسلمين من أعدائهم، ومن هنا أقول: ما جاء في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ الأنفال:65-66 ]، لا يصلح للاستدلال على منع جهاد ومقاومة العدو المحتل بحجة أن عدد المجاهدين المقاومين أقل من نصف عدد الأعداء، وذلك لأمرين أساسيين :
الأول: وهو الأكثر أهمية، وهو أن النص عن عموم المسلمين وليس عن المسلمين في بلد بعينه، أي يكون عموم المسلمين أقل من عدوهم، وقد مر بنا حكم وجوب الجهاد إذا نزل العدو بلاد المسلمين ووجوب نصرة المسلمين لإخوانهم الأقرب فالأقرب، وإذا نزَّلْنَا الأمر على الواقع فالمسلمون في فلسطين وما جاورها أكثر عدداً من عدوهم، وعندهم من أسباب وأدوات القتال ما لا يصح معه أن يُقال إنه لا يجوز لهم القتال، وهذا أمر مهم فليس الأمر يخص أهل بلد ولا هو متعلق بمجرد ما يقع بالعدوان من القتل والإتلاف بل هو حكم شرعي، فلو رضي أهل فلسطين – على سبيل المثال – بالاحتلال وامتنعوا عن مقاومته فلا يتغير الحكم بوجوب الجهاد لاستخلاص ديار المسلمين ومقدساتهم من العدو الغاصب، وما جد البوم من تسمية الدول وحدودها فضلاً عن أوضاع المعاهدات والاتفاقات بين بعض الدول وأعداء الإسلام من اليهود لا يغير من الحكم الشرعي شيئاً.
الثاني: أنه ورد في كلام المفسرين معان أخرى جديرة بالاعتبار ولها قوة في الاستدلال ، فقد روى الطبري في تفسير الآية عن ابن عباس رواية يقول فيها:" فلا يغرنَّك قولُ رجالٍ ! فإني قد سمعت رجالا يقولون: إنه لا يصلح لرجل من المسلمين أن يقاتل حتى يكون على كل رجل رجلان، وحتى يكون على كل رجلين أربعة، ثم بحساب ذلك، وزعموا أنهم يعصون الله إن قاتلوا حتى يبلغوا عدة ذلك، وإنه لا حرج عليهم أن لا يقاتلوا حتى يبلغوا عدَّةَ أن يكون على كل رجل رجلان، وعلى كل رجلين أربعة، وقد قال الله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } [سورة البقرة: 207]، وقال الله: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } [سورة النساء: 84]، فهو التحريض الذي أنزل الله عليهم في الأنفال، فلا تعجزن، قاتلْ، قد سقطت بين ظهري أناس كما شاء الله أن يكونوا"(تفسير الطبري 14/54،53).وغاية ما نُقل في ذلك هو أن المسلمين إذا كانوا أقل من النصف من عدوهم لم يجب عليهم القتال، وعدم وجوبه لا يعني حرمته، فقد روى الطبري عن ابن عباس قوله:" وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم ,عن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم أن يُقاتلوا، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم" [ تفسير الطبري 8/52 ].
وقد مال الرازي إلى ترجيح القول بعدم النسخ فقال:" والحاصل أن الجمهور ادعوا أن قوله { الآن خفف الله عنكم} ناسخ للآية المتقدمة، , وأنكر أبو مسلم الأصفهاني هذا النسخ،وتقرير قوله أن يقال : إنه تعالى قال في الآية الأولى : { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } فهب أنا نحمل هذا الخبر على الأمر إلا أن هذا الأمر كان مشروطاً بكون العشرين قادرين على الصبر في مقابلة المائتين ، وقوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } يدل على أن ذلك الشرط غير حاصل في حق هؤلاء ، فصار حاصل الكلام أن الآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص ، وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة ، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ البتة .
فإن قالوا : قوله : { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } معناه : ليكن العشرون الصابرون في مقابلة المائتين ، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم .
قلنا : لم لا يجوز أن يقال إن المراد من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين ، فليشتغلوا بجهادهم؟ والحاصل أن لفظ الآية ورد على صورة الخبر خالفنا هذا الظاهر وحملناه على الأمر ، أما في رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره ، وتقديره إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين فليشتغلوا بمقاومتهم ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ... "وختم بقول:" إن ثبت إجماع الأمة على الإطلاق قبل أبي مسلم على حصول هذا النسخ فلا كلام عليهن فإن لم يحصل هذا الإجماع القاطع فنقول: قول أبي مسلم صحيح حسن " [ تفسير الرازي 8/202،201 ] .
كما أن الرازي لفت النظر إلى المعاني والحقائق الإيمانية التي تحرر المسلم من الرضوخ لضغط الواقع عند ضعف إيمانه فقال رحمه الله: "واعلم أن هذا التكليف إنما حسن لأنه مسبوق بقوله تعالى : { حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلاً لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه".
وفي علة نصر المؤمنين على الكافرين بأنهم لا يفقهون قال قولاً نفيساً جاء فيه:" أنه تعالى بين العلة في هذه الغلبة، وهو قوله: { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } وتقرير هذا الكلام من وجوه :
الوجه الأول : أن من لا يؤمن بالله ولا يؤمن بالمعاد ، فإن غاية السعادة والبهجة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية . ومن كان هذا معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا يعرضها للزوال ، أما من اعتقد أنه لا سعادة في هذه الحياة وأن السعادة لا تحصل إلا في الدار الآخرة فإنه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا ولا يلتفت إليها ولا يقيم لها وزناً ، فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح ، ومتى كان الأمر كذلك ، كان الواحد من هذا الباب يقاوم العدد الكثير من الباب الأول .
الوجه الثاني : أن الكفار إنما يعولون على قوتهم وشوكتهم ، والمسلمون يستعينون بربهم بالدعاء والتضرع ، ومن كان كذلك كان النصر والظفر به أليق وأولى " [ تفسير الرازي 8/199].