صفحة 1 من 1

الانتفاضة السورية عند المنعطف الأخطر

مرسل: الأحد ديسمبر 18, 2011 7:33 pm
بواسطة محمد الصعب 1
الانتفاضة السورية عند المنعطف الأخطر



هناك نذر لخطر كبير على الانتفاضة الشعبية في سورية. فالنظام على وشك أن يبدأ تنفيذ خطة قمع واسعة مهّد لها بإعلان التعبئة العامة والاستعداد لحملة تشمل خمساً أو ست محافظات باتت معاقل للحراك الشعبي. وما دعاه إلى رفع درجة الاستشراس الأمني - «الشبّيحي» أنه، أولاً، يريد الانتهاء من هذه الأزمة التي ألحقت أضراراً ملموسة بهيبته ومكانته الإقليمية، كما أنه تلقى عملياً إنذاراً روسياً بأن أمامه فرصة أخيرة ليثبت سلطته بشكل واضح ونهائي وإلا فليستعد للرحيل. ولعل النظام فهم شعار «حماية المدنيين» الذي رفعته الانتفاضة في الجمعة الأخيرة، مرفقاً بطلب مراقبين دوليين، باعتباره خطوة تمهيدية لشعار لاحق قد يتضمن دعوة صريحة إلى «التدخل الدولي».

فالشعب الذي نجح في انتفاضته بفضل إصراره على سلميتها لا يزال يرفض «عسكرتها» لكنه يجد نفسه بلا خيارات للدفاع عن النفس مع ازدياد احتمالات إقدام النظام على مجازر أكبر من التي ارتكبها حتى الآن. ثم أن الانشقاقات عن الجيش لن تعني شيئاً إذا لم تقترن بمشروع مواجهة تتطلب بلورته وقتاً لن يتيحه النظام ودعماً لا يبدو أن دول الجوار في صدد توفيره. ويعتبر «اعتقال» المقدم المنشقّ حسين هرموش إنذاراً لجميع المنشقّين، إذ أن جهازاً استخبارياً أوقعه في فخّ، أي أنه سُلّم تسليماً. وفيما أصبح الجنود الفارون أهدافاً مستجدّة ذات أولوية للقتل، لوحظ أخيراً أن الاعتقال بغية التعذيب والتصفية الجسدية بات متقصداً ومنهجياً، بالاستناد إلى التفاصيل المفزعة لما تعرّض له الناشط غياث مطر وقد عُرف عنه في داريا أنه كان يقدّم وروداً إلى الجنود في بدايات الانتفاضة.

وهكذا قد يجد الداعون في عواصم العالم إلى وقف «فوري» للعنف والقتل أنهم إزاء ظاهرة لم يتعرفوا إلى كل أبعادها. أما القائلون بإن النظام وصل إلى خط النهاية في «الحل الأمني» فربما يفاجئهم إمعانه في التجذّر في «ما بعد بعد» العنف الذي بدر منه حتى الآن. وما اضطر الانتفاضة إلى صرخة «حماية المدنيين» إدراكها أن البطش الآتي قد يكون بالغ الكلفة وفوق الاحتمال. فرغم أن التظاهرات لا تزال تخرج وتتحدّى النظام، إلا أن الصعوبات زادت وهي مرشحة لأن تزداد أكثر فأكثر. ولعل ما يضغط حالياً على معنويات الانتفاضة أن الذين يتعرضون لخطر الموت في الداخل يشعرون بأن النظام لم يعد يلوّح بأي استعداد للتخلي عن العنف بل صار يستخدم تمترسه فيه لحمل من يحاولون التوسط معه على تبني حلوله «السياسية». وثمة اعتقاد بأنه استطاع، مرتكزاً إلى الدعم الروسي المطلق، إعادة إقناع بعض داعميه الإقليميين والدوليين بأن الحل يكون تحت مظلته أو لا يكون أبداً، وأن عليهم أن يختاروا نهائياً بينه وبين «نظام ديني» يمكن أن يخلفه. أما دليله إلى ذلك فليس فقط رواياته عن «العصابات المسلحة» ولا تحذيره الوسطاء من «الانسياق وراء حملات التضليل الإعلامي والتحريض على سورية»، وإنما خصوصاً الاضطراب والبلبلة اللذين يسمان السعي إلى توحيد معارضتي الداخل والخارج وكثرة الأيدي والأطراف المتدخلة من دون نتائج جادة. ويعرف النظام الشيء الكثير عن هذه العملية لأنه أول وأكبر المتدخلين فيها سواء بشكل مباشر عبر عدد من «وجوه» المعارضة أو غير مباشر عبر وجوه غير معروفة، فضلاً عن أنه اختبر خلال الأزمة قابلية بعض الفئات للدخول في مساومات خصوصاً في حقبة الإطلالة التركية على الأزمة.

في النهاية قد يكون الأمين العام للجامعة العربية وصل متأخراً إلى دمشق، لا لأن الزيارة عوّقت أولاً ثم قبلت ثم أرجئت إلى أن حصلت، بل لأن ظروف الحدّ الأدنى الموضوعية لحل يلاقي بنود «المبادرة العربية» قد تبددت. فـ «الوقف الفوري لكل أعمال العنف ضد المدنيين» و»تعويض المتضررين» و»إطلاق جميع المعتقلين السياسيين» تجاوزها النظام جميعاً، فهو الآن يعتبر نفسه في حرب ضد «التدخل الخارجي» ولن يقدم على أي تغيير في منهجه إلا بعد تأكيد قدرته على إسكات الشارع أو خفض صوته وشلّ حركته إلى مستوى غير معبّر. لذلك فإن البحث معه في «فصل الجيش عن الحياة السياسية والمدنية»، كما تنص المبادرة، بدا ضرباً من اللامعقول. أما إلزامه بإعلانات محددة وجدول زمني ومواصفات معينة للحكومة الائتلافية فلا يرى ما يوجبه طالما أنه يبادر زائريه بعرض مفصّل عن «الإصلاحات» التي تقول إن الأحداث تجاوزتها بينما يقول النظام أنه يوشك على إنجازها.

في ضوء التطورات والحال النفسية المهتاجة للنظام وجد نبيل العربي أنه ملزم بطمأنة الرئيس بشار الأسد إلى أن «التدخل الخارجي» في سورية ليس على جدول الأعمال العربي. أما قوله إنه «اتفق» مع الأسد على «سلسلة إجراءات» فيذكّر بخيبة الأمل التي أعقبت «اتفاقات» ظن وزير الخارجية التركي أنه توصل إليها، ثم أنه قد يحمّل العربي والجامعة قريباً مسؤولية «شرعنة» العنف الآتي. إذ لا يعقل أن تكون هناك «إجراءات» فعلاً وأن يكون الرئيس السوري انتظر الأمين العام للجامعة ليتفق معه في شأنها. ذاك أن جميع الذين حاولوا التوسط مع النظام لم يتمكنوا من إقناعه بوقف القتل. وفي البداية كان الوسطاء يسمعون كلاماً هادئاً عن «الإصلاح» مرفقاً بتصميم عالي النبرة على ضرب «العصابات» وبالأخص السلفيين. وفي الأسابيع الأخيرة بات التصميم على العنف هو المتصدّر طالما أن «المؤامرة» تريد إطاحة النظام ولم تعد تسأل عن الإصلاح. وهذا على الأرجح ما سمعه الأمين العام للجامعة.

واقع الأمر أن النظام عقد رهانه على روسيا، فهي الوحيدة المؤيدة للنهج الأمني بصرف النظر عن الكلفة البشرية، لكن بشرط أن «ينجز» على نحو حاسم ونهائي. ولذلك فإن موسكو ستتكفل بتأمين هذه الفرصة الأخيرة له عبر رزمة حلول «سياسية» ستعمل على ترويجها شراءً للوقت ولهدنة دولية غير معلنة. ورغم أن «المبادرة العربية» لم تصغ بذهنية «إسقاط النظام»، إذ لحظت انتخابات رئاسية بعد انتهاء ولاية الأسد سنة 2014، إلا أن تنفيذها يفضي بالضرورة إلى نظام آخر حتى قبل تلك الانتخابات. ومع ذلك يصعب الاعتقاد بأن الأسد يمكن أن يتعامل مع هذه المبادرة ما دامت موسكو تضمن له صفقة أفضل. لكن النظام يعرف، بمعزل عن الجامعة العربية أو روسيا أو سواهما، أن مشكلته لم تكن مع الخارج لذلك تبقى أولويته تصفية الحساب مع الانتفاضة دموياً، فهو يعتقد أن هذه وحدها يمكن أن تؤمن له مقداراً مريحاً من البقاء والاستمرارية، بل يرى حالياً أن هناك ظروفاً تجعلها ممكنة.