منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
#43338
ترى مصر أنَّ لها حُقُوقًا تاريخيَّةً مُكتسَبَةً بالنسبة لمياه النِّيل، وأنه لا يجوز التعرُّضُ لها، وأنَّ لمصرَ الحقَّ في الحصولِ على نصيبٍ معقولٍ من أيِّ إيرادات إضافيَّة تنجُمُ عن تقليل المفقود عند المنابع، كما تؤكِّد على وجوب التشاوُر معها من قِبَلِ دول حوض النهر قبل الشروع في أيِّ ترتيبات من شأنها أن تؤثِّر على مواردِهِ الحاليَّةِ والمُستقبليَّةِ، وتعتمِدُ مصرُ في تحقيق هذه الرُّؤية الاستراتيجية على أداتين هما:
أ - الهيئة الفنيَّة الدائمة المشتركة لمياه النيل، الَّتي أنشئت طبقًا لاتفاقية عام 1959 م بين مصر والسودان، ومهمتها دراسة الأرصاد الجوية النَّهْرِيَّة، ومَسْح مناطقِ تَجَمُّع الأمطار التي تُغَذِّي بحيرات الهضبة الاستوائية (فكتوريا، كيوجا، البرت)، وتحظى الهيئة بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP )، ومنظمة الأرصاد العالمية (OMW )، وهدفها الأساسي هو تنظيم عملية استغلال مياه النهر بواسطة الدول المُطِلَّة عليه.

ب - الأندوجو: وتعني الصداقة، أوِ الإخاء باللغة السواحلية، وهي عبارة عن تَجَمُّع لدول حَوْض النيل أنشئ عام 1983 م؛ بناء على اقتراح مصريٍّ وتأييد سودانيٍّ، وأهدافُهُ التعاون والتنسيق والتشاور بين دُول حوض النيل التسع، انطلاقًا من خطة عمل لاجوس عام 1980، الّتي أكَّدت على أنَّ الأنهار الإفريقية هي البِنْيَة الأساسية الضرورية للتعاون الإقليمي، ويشارك في أعمال المجموعة كل دول الحوض (باستثناء إثيوبيا) لوضع خطط العمل المشترك في المجالات المائية.

وتبرِّرُ مصرُ حقَّها الثابت هذا بأنَّه عندما كانتْ بريطانيا تحتلُّ الجزء الأكبر من حوض نهر النيل وَقَّعَتْ بريطانيا – باعتبارها مسؤولةً عنِ السودان – مع إثيوبيا عام 1902م على معاهدة تنُصُّ بالتزام إثيوبيا بعدم القيام بأية أعمال أو مشاريعَ على منابعِ نهر النيل، مِمَّا يؤدي إلى التأثير على كَمِّيَّةِ المياه المتدَفِّقَة في النهر – إلا بعد الرجوع إلى الحكومتين البريطانية والسودانية، وتعتبر هذه المعاهدة سارية المفعول من وجهة نظر القانون الدوليّ، برغم اعتراض الحكومات الإثيوبية المتعاقبة.

وقد سعتْ بعض الدول غير المشاركة بحوض النيل بالتَّنسيق مع إحدى أو بعض دول الحوض؛ لإقامة مشاريع على النهر من باب استثمار النهر، وعلى سبيل المثال ما حدث عام 1964م حينما استخدمت الولايات المتحدة مشروعاتِ استصلاح أراضي إثيوبيا؛ كورقة ضغط سياسي تجاه مصر في الوقت الذي كانتِ العلاقة بين أمريكا ومصر (في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر) سيئة للغاية، وفي محاولة منها للرد على مشروع السد العالي اقترحت أمريكا في الدراسة إنشاء 26 سَدًّا وخَزَّانًا؛ لتوفير مياه الرَّيِّ لإثيوبيا، وبالتالي خفض تصريف النيل الأزرق بنحو 5.4 مليار متر مكعب، مِمَّا يعني أنها ستخلق مشكلة لمصر والسودان، وقد نفذت إثيوبيا مشروعًا واحدًا منها فقط (مشروع سَدِّ فينشا)؛ مِمَّا لم يُفْضِ إلى أيِّ نوع منَ الكوارث، أو العجز المائي لمصر.

وتنازع إثيوبيا مِصْرَ في كيفية استخدام مياه النيل بداخل الأراضي المصرية، على حين ترى مِصْرُ بأنَّه أمر طبيعي قيامُها بِمَدِّ تُرعة من مياه النيل إلى صحراء سيناء، خاصَّة أنَّ لها سابقةً فقد سبق لمصرَ أن قامت بشقِّ تُرعة الإسماعيلية شرقيَّ النيل، وحتى الحدود الشرقية دون اعتراض من الدول النِّيلِيَّة الأخرى، وتبرِّر مصرُ مشاريعها بأنها لا تعدو أن تكون تطويرًا مفيدًا للانتفاع بحِصَّتِها المائيَّةِ في حدود المتاح لها من الحصَّة المائية المستمدَّة من نهر النيل؛ خاصَّة أنَّها لا تسبب ضررًا لدول الحوض الأخرى.

والواقع أنه يوجد خلاف مصري - إثيوبي قديم، مرجعه أنَّ أباطرة الحبشة قد تَرَسَّخَ لديهم منذ عدة قرون فكرة مُؤدَّاها قدرتهم على تحويل مياه النيل عن مصر، وترتَّب على هذه الفكرة وجود نوع من المخاوف أن تكون إثيوبيا مصدرًا لتهديد مصر مائيًّا، أو أن تكون مصر مصدرًا لإثارة قلق إثيوبيا أَمْنِيًّا إذا ما سعتْ لتأمين منابع النيل.

وظلَّ الموقف الإثيوبي على هذا المنوال، الذي يشتد في فترة ويضعف في أخرى، وذلك لارتباطه بالحكومة التي تتولَّى حكم إثيوبيا وموقفها من مصر، ومدى خضوعها للضغط الصهيوني، إلى أن تَمَّ عقد اتّفاق القاهرة في يونية 1993م، والذي وضع حدًّا لهذا الخلاف.

الأطماع الإسرائيلية:
تستند الحركة الصهيونية منذ بازل 1898م إلى استراتيجية محدَّدة تضع المياه في رأس قائمة أولوياتها، باعتبار أهَمّيَّتها القصوى في هذه المنطقة من العالم المتَّسمة بالجفاف، فبدون المياه تستحيل الزراعة في مستوطناتها، ويتعذَّر تنفيذ برامج استيعاب المهاجرين إليها في الريف والحضر، عدا ما تتطلَّبُه الصناعة وخُطَط تَنْمِيَتِها؛ ووضعتْ إسرائيل خريطتها مبكرًا على أساس التحكُّم في مجمل المصادر الطبيعية للمياه في المنطقة؛ بل وتغيير خريطتها الطبيعية لحسابها، ووضعتِ النيل ضمن حساباتها، وهي لا تضع خُطَطَها على الورق؛ بل تَعْمِدُ فَورًا لتنفيذها بشتَّى الطرق، غير مبالية بالحقوق التاريخية، أو الاتفاقيات القانونية الدولية.

وهكذا إذا كانت استراتيجية إسرائيل ترتكز على التهجير، الزراعة، المستوطنات، فإنها تُوَظِّف سياستها المائية لتحقيق مجموعة من الأهداف، والمقاصد التي يمكن حصرها فيما يلي:
1 – التحكم في مصادر المياه.
2 – مضاعفة مواردها المائية بشتى الطرق.
3 – تنمية مواردها من المياه الجوفية.
4 – تدبير الموارد اللازمة لقنوات استهلاكها.
5 – تحقيق مشروعها بسحب مياه النيل إلى النقب.
6 – العمل على إنشاء سوق للمياه في المنطقة.
7 – الإدارة المركزية المشتركة لمياه المنطقة.

وفيما يتصل باستراتيجيتها الخاصَّة بمياه النيل، فهي تعود إلى عام 1903م أي إلى مشروع تأسيس الوطن القومي لليهود في سيناء، وتتبناه الآن في إطار فكرة محورية تستبدل بها برامجها لنقل السكان إلى المياه بأخرى هي "نقل المياه إلى السكان"، ويتحدَّد مشروعها بالنسبة للنيل في أنَّه يُمكِنُ لنسبة قليلة من مياهه (لا تتجاوز 1 % من جملتها في مصر؛ أي من أصل الـ 55.54 مليار م3) أن تحل مشاكل إسرائيل المائية ولفترة طويلة مقبلة، وأن ذلك مجدٍ من الناحية الاقتصادية للدولتين، حيث ستدفع إسرائيل ثمن ما تشتريه من مياه (مثلما تدفع هونج كونج للصين، أو سنغافورة لماليزيا)، وبالنسبة لما يمنحها ذلك المشروع مساحة مزروعة تناهز 20 مرة ما تزرعه الآن بما يستوعب المستعمرات، ويحول النقب إلى منطقة كثيفة السكان.

وقد برزتْ فكرة إنشاء سوق للمياه في المنطقة في ندوة عقدت في جامعة تل أبيب (إبريل - مايو 1994م)، وفيها طُرِحت أفكار متعددة حول تكلفة توفير المياه من مصادرها المختلفة، واستبعدت التحلية لارتفاع التكلفة، وطرح اقتراح شراء المياه بواسطة سوق للمناقصة، وتناولت الندوة موضوع جدوى جلب المياه من مصر أم تركيا؟ وحسبت تكلفتها من النيل حتَّى قطاع غزة والنقب، وتكلِفَتها من تركيا (الفرات) إلى طبرية، وتبيَّن أن جلبها من مصر أفضل اقتصاديًّا (مشروع ترعة السلام).

ولولا النقب لما كانتْ هناك – في الواقع – مشكلة مياه في إسرائيل بعدما وضعت يدها وسرقت ونهبت معظم مصادر المياه في المنطقة من حولها، والنقب صحراء تبلغ مساحتها نصف مساحة فلسطين تقريبًا، وتشكّل القسم الجنوبي منها، وهي في حاجة ماسة للماء ليس فقط لكونها صحراء جافة؛ بل أيضًا لملوحة تربتها.

وفي أثناء زيارته الشهيرة للقدس في سبتمبر 1979م، أعلن الرئيس المصري الرَّاحل محمد أنور السادات اعتزامه مد مياه النيل التي ستروي سيناء إلى صحراء النقب في إطار اتفاق عام للسلام بين إسرائيل والبلدان العربية، ومعلومٌ أنَّ الرئيس السادات كان قد استخدم فكرة مشروع "ترعة السلام" كورقة تفاوُضِيَّة لحثِّ إسرائيلَ على احترام حقوق العرب - المسلمين في مدينة القدس، ووقف النشاط الاستيطانيِّ في الضفة الغربية وغزة، والبدء في إزالة المستوطنات القائمة آنذاك، لكنَّ هذه الورقة احترقت تمامًا في لهيب الحسِّ الوطنيِّ المصريِّ قبل أن يموت الرئيس السادات.

وفي عهد الرئيس محمد حسني مبارك، تجدَّدت الخطة الرئيسة لمشروع ترعة السلام في إطار منظورٍ وطنيٍّ خالصٍ لتنمية متكاملة تربط بين غرب قناة السويس والساحل الشمالي في شرقها، وتقوم بري 600 ألف فدان في سيناء على مرحلتينِ تم بالفعل الانتهاء من المرحلة الأولى منها في نهاية العام 1997م، دون أيِّ إشارة إلى اشتراك إسرائيل في أيِّ حصَّةٍ منَ المياه المصريَّةِ، ونعتقد يقينًا أنَّ حصول إسرائيل على أدنى حِصَّةٍ من مياه النيل سوف يبقى كما بدأ، مجرَّدَ حُلْمٍ إسرائيليٍّ مستحيلٌ أن يتحقَّقَ تحت أيِّ ظرف، وفي ظلِّ أيِّ حاكم مصريٍّ أيًّا كان.