منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#43518
الصهيونية السياسية: Political Zionism
يستخدم للتفرقة بين الإرهاصات الصهيونية الأولى التي تتمثل في "جمعيات أحباء صهيون وبيلو" من جهة والحركة الصهيونية التي نظمها هرتزل من جهة أخرى. فالتنظيمات الأولى كانت عبارة عن جماعات ذات طابع محلي تهدف إلى الاستيطان في فلسطين معتمدة أساساً على المعونات التي يقدمها أثرياء اليهود، أما صهيونية هرتزل فهي تدعي أنها حولت المسألة اليهودية إلى مشكلة سياسية وأنها توجهت إلى الجماهير اليهودية متخطية الحاخامات اليهودية والمليونيرات أيضاً.
ويؤمن الصهاينة السياسيون أن المسألة اليهودية هي مشكلة الفائض السكاني اليهودي غير القادر على الاندماج، أما اليهودية ذاتها التي كانوا لا يعرفون عنها الكثير، فهي لم تكن مشكلة مطروحة بالنسبة لهم "على عكس موقف الصهيونية الدينية والصهيونية الثقافية" ولا يمكن حل المسألة اليهودية إلا بأن يصبح شعباً مثل كل الشعوب وقومية مثل كل القوميات. ولن يتأتى هذا إلا عن طريق تهجير اليهود إلى فلسطين أو أي بقعة في العالم يعيشون في وطن يهودي تحكمه دولة صهيونية تندمج في المجتمع الدولي، وتنجح في أن تحقق لليهود الشعب ما فشل الأفراد في تحقيقه.
لكن هذا البرنامج لا يمكن تنفيذه إلا تحت إشراف المجتمع الدولي، وبضمان منه. فالمسألة اليهودية مشكلة سياسية ذات طابع دولي وستقوم الدولة اليهودية باستيعاب فائض يهود العالم. أما الباقون الذين لا يرتضون الهجرة فإنهم سيندمجون في مجتمعاتهم، ومن اهم دعاة الصهيونية السياسية الكاتب الصهيوني الروسي "جاكوب كلاتزكين "1882 – 1948" و"نوردور".
متعلقات
دراسة في الصهيونية السياسية(1)
مقدمة
نعالج هنا موضوعاً "محرماً" يدور حول: الصهيونية ودولة إسرائيل.
ففي فرنسا يمكن توجيه انتقاد الكنيسة الكاثوليكية او الماركسية، كما يمكن مهاجمة الإلحاد والقومية، وشتم نظام الحكم في الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، والتبشير بالفوضوية او بعودة الملكية، دون التعرض لمخاطر تتعدى الجدل او التفنيد المألوفين. اما نقد الصهيونية فانه يفضي بصاحبه الى عالم آخر، ينقله من عالم الأدب والفكر الى عالم التحقيق والقضاء…. فبموجب القانون الصادر في 29/7/1981، بشأن ذم اي شخص بسبب انتمائه لجنس او لعرق او لأمة او لديانة، يعرض كل انتقاد لسياسة دولة إسرائيل وللصهيونية السياسية التي تقوم عليها هذه الدولة، للمساءلة القضائية وهو الأساس هنا لانه لا يطال تصرفاً معيناً يدعو لتجريم صاحبه الان بتناول نقد المنطق البنيوي لدولة أرسيت أسسها على مبادىء الصهيونية السياسية ويؤدي على الفور، الى معاملتك كـ"نازي"… او معادٍ للسامية ويجر عليك تهديداً بالموت! ويستطيع كاتب هذا البحث الادلاء بشهادته حول ذلك ولطالما قد تعرض، لهذا السبب، الى ملاحقات قضائية واتهام "بالنازية" وتهديدات بالقتل. فما هو المسار الذي اتبع من اجل دراسة الصهيونية السياسية على صعيد الحروب الدينية؟ لقد قام على سلسلة من المداخلات والمتداعيات والاشتقاق في المعاني، كان بيغن قد دلل عليها في الشعار القائل "باستحالة التفريق بين المناهضة لاسرائيل، والمناهضة للصهيونية، والمناهضة للسامية". وهو شعار، بادر زعماء "المنظمة الصهيونية العالمية" الى تلقفه وترديده على مسامع الدنيا جمعاء ! وقبل اي فحص للنواحي النظرية والعملية في الصهيونية السياسية، لا بد من التدقيق في تحديد مجال نقدنا، وذلك بالتعريف بالموضوعات والتمييز بينها وهي:
- الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية.
- الصهيونية واليهودية.
- إسرائيل التوراتية ودولة إسرائيل الصهيونية.
أ - الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية:
يصعب الخلط بين مشروعين متمايزين تماماً هما: مشروع الصهيونية الدينية ومشروع الصهيونية السياسية. فالصهيونية الدينية، غالباً ما انطلقت من خرافات اسرائيلية، اذ تتعلق بامل اليهودية الاكبر في انتظار مجيء مسيح آخر الزمان، حينما تدعى "جميع شعوب الارض" (سفر التكوين: 12/3) الى حكم الرب، الذي سيتحقق من اجل البشرية جمعاء، متوجهاً الى المواقع المعينة في التوراة لمآثر ابراهيم وموسى. وقد اوجدت هذه الصهيونية الدينية تقليداً يقضي بالحج الى "الارض المقدسة" بل ان قيام طوائف روحانية، وخاصة في صفد في وقت اشتداد حملات الاضطهاد التي كان يقوم بها في اسبانيا "ملوكها شديدو التمسك بكاثوليكيتهم"… (بعد طول التعايش الهانىء، في ذلك البلد، بين المسلمين واليهود).. دفع بعض الاتقياء الى العيش في فلسطين طبقاً لايمانهم. وحتى عهد قريب (في القرن 19 م.) كان هدف "عشاق صهيون" استحداث مركز روحي، في ارض صهيون هذه، يشع بالايمان وبالثقافة اليهودية. والملفت للنظر هو ان هذه الصهيونية الدينية (والتي لم تنتشر الا بين مجموعات يهودية محددة) لم تصطدم بمعارضة المسلمين الذين يعتبرون انفسهم منحدرين من ذرية ابراهيم، وينتمون لعقيدته. ثم ان هذه الصهيونية الروحانية، البعيدة كل البعد عن اي برنامج سياسي يهدف الى تكوين دولة، وعن فرض اي سيطرة على فلسطين، لم تثر مطلقاً مجابهات او منازعات بين الطوائف اليهودية وبين السكان العرب.. المسلمين والمسيحيين.
أ - الصهيونية السياسية:
وهذه ابتدعها تيودور هرتزل (1860-1904) وعكف في فيينا، منذ عام 1882 على تشكيل المذهب حتى انتهى من ارساء منهجه عام 1894 في كتابه عن "الدولة اليهودية" ثم وضعه موضع التنفيذ في المؤتمر الصهيوني العالمي الأول، بمدينة (بال) في سويسرا، عام 1897. هذه الصهيونية بالذات، بمبادئها ونتائجها، تشكل دون غيرها موضوع دراستنا… ومن المناسب هنا، ومنذ البداية، التعريف بها، بصورة دقيقة. ولكن وقبل ذلك نود ان نشير الى ان تيودور هرتزل يخالف الصهيونية الدينية في كونه، اصلاً، من دعاة "اللاادرية" ومعارضاً شديداً لاولئك الذين يعرفون اليهودية على انها ديانة. فاليهود، بنظر الصهيونية السياسية، "امة" قبل اي شيء آخر وعلى كل حال وعند دراسة القوانين الاساسية لدولة إسرائيل، سنلحظ الغموض في التعريف "اليهودي" والتذبذب المستمر بين التعريف المبني على العرق، وذلك المبني على الدين .
وتيودور هرتزل، الذي لم يكن شاغله الاساسي دينياً، بل سياسي، فقد طرح قضية الصهيونية بشكل جديد. وقال بانه - نتيجة لتأثره بقضية دريغوس - استخلص منها النتائج التالية:
1) اليهود عبر العالم، وفي اي بلد يقطنون، يشكلون شعباً واحداً.
2) وقد كانوا هدفاً للاضطهاد، في كل زمان ومكان.
3) وهم غير قابلين للاندماج في الأمم التي يعيشون بين ظهرانيها.
(وهذه من مسلمات العنصريين واللاساميين).
ويمكن تلخيص النتائج العملية التي استخلصها تيودور هرتزل، والحلول التي طالب بها لوضع حد نهائي لهذا العداء والتنافر - الذي هو كما رأى، تنافر دائم وقطعي - على النحو التالي:
1 - رفض الاندماج، الذي لم يكن مسموحاً به آنذاك في دول اوروبا الشرقية (وخاصة في الامبراطورية الروسية على الاخص)، تحقق على نطاق واسع وبصورة متزايدة في اوروبا الغربية (وخاصة في فرنسا، حيث كشفت اللاسامية عن وجهها القناع المخزي بعد قضية دريفوس).
2 - إنشاء "دولة يهودية" يتجمع فيها كل يهود العالم… وهي ليست "بؤرة" روحانية او مركز اشعاع للعقيدة وللثقافة اليهوديتين. وقد عرفت اوروبا في اواخر القرن التاسع عشر، عصر القوميات، قيام افكار جديدة، بأسلوب غربي خالص، تمثل في تلك القومية التي برزت بكل زخمها في المانيا، وكان تأثيرها على هرتزل عميقاً، لا سيما وان ثقافته كانت جرمانية.
3 - هذه الدولة، ينبغي اقامتها في مكان "خال" وهذا المفهوم المميز للاستعمار الذي كان سائداً في تلك الحقبة، كان يقضي بعدم الاخذ بعين الاعتبار وجود مواطنين اصليين. وقد اعتمد هرتزل وقادة الصهيونية السياسية من بعده، على هذه المسلمة الاستعمارية التي سوف تتحكم بمستقبل المشروع الصهيوني كله، ودولة إسرائيل التي انبثقت عنه. اما المكان فلم يكن له اية اهمية في نظر تيودور هرتزل، الذي كان، كما سنتبين فيما بعد، امام ان يختار مقراً لشركته الاستعمارية ذات الامتياز وجنين الدولة المقبلة، بين الارجنتين وفقاً لاقتراح البارون هيرش وبين اوغندا، التي اقترحتها بريطانيا. وانه لأمر ذو مغزى ان يقوم هرتزل باستشارة "سيسيل رودس" الذي كان ينفذ مشروعه طابعاً استعمارياً، على حد تعبير هرتزل نفسه. غير ان هرتزل فكر بإيلاء فلسطين الافضلية بين الاراضي المرشحة لغرس الدولة اليهودية فيها، من منطلق اهتمامه باجتذاب تيار "عشاق صهيون" وتقوية الحركة الناشئة عنه، واضعاً في خدمة اغراضه تراثاً دينياً لم يكن هو شخصياً ليؤمن به. وكان من صالحه، ولفائدة مخططاته، ان يظل الالتباس قائماً، وابلغ مثال على مدى استغلال هذا الغموض، فقد ظهر بعد وفاة هرتزل في "تصريح بلفور" عام 1917، حينما اعلنت الحكومة البريطانية انها تؤيد اقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين، لا يلحق الضرر بالسكان الاصليين، بينما استغل زعماء الصهيونية هذا التصريح في اتجاه انشاء "دولة فلسطين اليهودية" بإلغاء كل وجود للسكان الاصليين، تأميناً لبسط سيادة الدولة الصهيونية على فلسطين كلها. هذا الطابع الاستعماري للصهيونية السياسية، بالاضافة الى "اسسه الوهمية" وعواقبه الوخيمة المضرة بالشعب الذي قيده نير الاستعمار، المضرة ايضاً بالسلام العالمي، هو ما سيكون الموضوع الاساسي لتحليلنا الانتقادي.
ب - الصهيونية الدينية:
يتم الانتقال من ميدان الكتابة الى ساحة القضاء، ومن الجدل السياسي الى المحاربة بالدين، انطلاقاً من بلبلة ثانية ومزج آخر، لا يكتفي معهما بالتسلل خفية من الصهيونية السياسية (تسلل يسخر الدين لخدمة السياسة، ويتيح اضفاء القداسة على سياسة معينة بقصد اعتبارها من المحرمات التي لا يجوز المساس بها) بل تستغل القرابة القائمة بين الصهيونية السياسية وبين الديانة اليهودية، من اجل توجيه تهمة مناهضة السامية الى كل من ينتقد السياسة الصهيونية التي يتبعها القادة الاسرائيليون. وقد برزت افكار اساسية حول اللاسامية في كتاب برنار لازار "اللاسامية، تاريخها واسبابها" المنشور عام 1894 ، في اجواء مشبعة بأحداث قضية دريغوس، ونشوء الصهيونية السياسية على يد تيودور هرتزل. وكان كتاب "برنار لازار" هذا رداً على اوسع المؤلفات عن اللاسامية انتشاراً "فرنسا اليهودية" لكاتبه درومون (1886).
وخلافاً لرسالة الهجاء المقذع الجاهل من (درومون)، تبدو دراسة (برنار لازار) حتى بنظر من لا يشاطره الرأي (وما يطرحه من فرضيات على البحث) قائمة على تحليلات تاريخية متأنية داعية للتأمل، تأخذ بعين الاعتبار مدى مسؤولية الطوائف اليهودية عما كان ينزل بها من اضطهاد، من جهة واستغلال اللاساميين الدنيء لظواهر انكماش هذه الطوائف وتفردها من جهة اخرى.
ويميز "برناد لازار" النزعة المعادية لليهودية الصادرة عن المسيحية، بشكل عام، والمستمرة منذ القرن الرابع الميلادي حتى منتصف القرن التاسع عشر الاخير، عن ظاهرة مناهضة السامية، وقد ظهرت هذه التسمية لاول مرة، في كتاب صحفي من همبورغ هو "ولهلم مار" بعنوان "انتصار اليهودية على الجرمانية" عام 1873. كما ان معاداة المسيحية لليهودية هي من مخلفات الفكر القسطنطيني العقائدي والسياسي، الذي تبنته الكنيسة المنتصرة، الوارثة لتقاليد كهنة المعابد اليهودية، ولتقاليد الامبراطورية الرومانية، والتي تحولت، منذ امتلاكها للسلطة، من معاناة الاضطهاد، الى ايقاع الاضطهاد بغيرها من الديانات كالوثنية واليهودية، وقد وجدت في اليهودية - التي كان التبشير قد حقق لها سعة الانتشار - منافساً لا بد من دحره. وراحت تتهم بحماقة اليهود بانهم من ذاك الشعب الذي اصبح - برفضه الاعتراف بان يسوع هو نفسه المسيح المخلص - في عداد "قتلة" الرب… لان مجمع نيقيا اعتبر المسيح من "جوهر" الله ذاته. وبين برنار لازار كيف ان سخافة تقوقع الطوائف اليهودية وانغلاقها على اضيق وادق تفاسير الشريعة قد وفر خلال تعاقب القرون، معطيات قابلة للإتهام بيسر.. وحول هذا، يقول برنار لازا في كتابه المشار اليه اعلاه:
- "لقد انعزل اليهود وراء اسوار كان قد رفعها حول التوراة (اسدراس) والكتبة الاولون (دبر سوفريم) والفرنسيون والتلموديون.. ورثة اسدراس، ومشوهو الموسوية الاولى، واعداء الرسل" وهذا، خلافاً للموسوية الحقيقية، التي اصطفاها واكبرها ارميا، واشعيا. وحزقيال، والتي وسع اليهود اليونانيون ايضاً من نطاقها الشمولي" (ص 14 و16) ويضيف برنار لازار (ص 13) قوله بان خطورة هذه العزلة قد تفاقمت بسبب طبع فريد يتسم به اليهودي، ويدفعه الى التباهي بامتياز توراته، وبالتالي، الى اعتبار نفسه فوق البشر ومغايراً لباقي الشعوب وقد عمل على ترسيخ هذا المسلك، حدة القومية المنتشرة في اوروبا خلال القرن التاسع عشر، "اذ رأى اليهود في انفسهم الشعب المختار المتفوق على الأمم كافة. وهذه حالة الشعوب، المتطرفة في تعصبها القومي، كالألمان والفرنسيين والبريطانيين في وقتنا الحاضر" (ص 13).
هذا الانغلاق على الذات لم يكن جديداً.. فقد حارب الحاخامون، "بتلموديتهم المتصلبة" جميع محاولات الانفتاح عبر العصور المتعاقبة. وينوه برنار لازار بمسعى ابن ميمون ، اكبر فلاسفة اليهود في جميع العصور، في تبيان التوافق بين الايمان والعقل، مشيراً الى محاربة المتطرفين له بشراسة، واستنكار التلموديين والسبتيين لأهم مؤلفاته: "دلالة الحائرين" حتى ان الحاخام سليمان، من مدينة (مونبلييه) استنزل في عام 1232، التحريم ضد قراء هذا الكتاب، وحصل على الاذن بحرقه. "وعمل التلموديون على ان يحصر اليهود دراساتهم في شريعتهم دون غيرها" وفي نهاية القرن، وبإيعاز من الحاخام الالماني عشير بن يحيال، اتخذ مجمع سينودس وهو المكون من ثلاثين حاخاماً، وقد انعقد في برشلونة برئاسة بن عزرا) قراراً بتحريم كل يهودي دون الخامسة والعشرين من العمر، يقرأ كتباً غير التوراة والتلمود" (ص65). ويلخص برنار لازار، ما ادى اليه هذا التيار، فيقول: "لقد بلغوا هدفهم وعزلوا إسرائيل عن مجموع الشعوب".
وفي القرن السابع عشر، عادت النزعة نفسها، التي كانت قد حاولت خنق صوت ابن ميمون، الى الظهور مع من تصدى، من بين التلموديين، لقتل الفيلسوف سبينوزا. وكذلك مع اولئك الذين هاجموا (مندلسون) في القرن الثامن عشر، لان ترجمة هذا الاخير للتوراة الى اللغة الالمانية، جرت عليه عقاب الحاخامين الذين كانوا مصممين على احتكار التفسير التلمودي لشريعتهم، والحؤول دون افساح المجال امام الشعب للوصول الى التوراة. وسنرى ما عمدت اليه، حاخامية الاحزاب الدينية اليمينية المتطرفة اليوم في دولة إسرائيل، من حصر تلك القراءة "الانتقائية" المتعصبة للتوراة في النصوص التي تخدم غايات سياسية جديدة، ومن نجاحها في فرض توجيهاتها على الدولة. ويظهر برنار لازار صورة اخرى مزرية هي نتيجة للتقاليد الموروثة، فيقول: "من الحماقة جعل إسرائيل مركزاً للعالم وخميرة للشعوب، ومحركاً للأمم. ومع ذلك، فالى هذا يسعى اصدقاء اليهود واعداؤهم، اذ هم يسرفون ويغالون في تقدير اهمية إسرائيل، سواء كانوا من امثال (بوسويه) او (درومون) (ص 191). وفي "عرض تاريخ الكون" يشير بوسييه الى يهودا بأنها مركز العالم. لذا، فان لجميع احداث التاريخ ولقيام الممالك وسقوطها سبباً وحيداً محصوراً في ارادة رب وفيّ لأبناء إسرائيل، المكلفين بقيادة البشرية الى مبتغاه الاوحد: هو مجيء المسيح المخلص المنتظر؟!
ويكفي للحصول على "بروتوكولات حكماء صهيون" قلب هذه التطورات المزيفة التي وضعتها اجهزة البوليس الروسي السرية، عشية انعقاد المؤتمر الصهيوني العالمي في بال، عام 1897، بغية تعزيز الاعتقاد بوجود "تآمر" يهودي ماسوني، يرمي الى اقامة مملكة عالمية، تمثل انتصار الشر في دنيانا. وهذا يسير في خط مواز تماماً لمفاهيم بوسييه ونحن، حينما نتصدى مع برنار لازار للتيارات الفكرية اليهودية التي تبرز الاستثنائية اليهودية (وليس الشمولية)، وعقلية الفتح والسيطرة المستقاة من ملاحم يوشع وتمييز (اسدراس) العنصري، والميل لجعل إسرائيل مركزاً للعالم ولتاريخه… انما نقصد في تبديد الغموض الذي يعتمد اللاساميون بثه، عند محاولتهم استنتاج صدور الفساد الصهيوني عن آفة اساسية مزعومة، كامنة في صلب الديانة اليهودية. وتنطوي التقاليد الكثيرة في اليهودية كما هي الحال في المسيحية وفي الاسلام على تيارات متناقضة. وكما وجد في المسيحية "نزعة قسطنطينية" وتطرف، وفي الاسلام تطرف و"غلق باب الاجتهاد" فقد قامت عبر مسار اليهودية نزعات الى التطرف والانغلاق والاصولية يستغلها اليوم اشد الصهاينة تعصباً في يهودية لا يؤمن بها معظمهم. وما نشجبه ايضاً تلك القراءة الانتقائية للتوراة اليهودية، تلك القراءة التي تعزل اليهود عن بقية الشعوب. ولا ننسى ابداً ان هناك في الاصولية اليهودية ومساهماتها في اعلاء شأن الانسان مقابل نزعات الفناء تلك، بذور ازدهار الهي للحياة، عبر مسائل التحلف والوعد… المسائل التي يرى (سفر التكوين) ان جميع شعوب العالم مدعوة الى تبنيها، "فالتاريخ انما هو انبثاق دائم لكل جديد كل الجدة في حياة البشر، يضيئه الوعد بظهور المسيح في نهاية الزمان" . وكنت قد ذكرت في مكان آخر: "ان من كبريات مآسي الدولة الاسرائيلية الحالية خضوعها لاحكام الحاخامات المتطرفين، في وقت تحتاج فيه الى رسل" . فبذرة النبوة بقيت، طوال قرون بعد نزول الكتب السماوية على كبار الانبياء، حية في نفوس اولئك الذين يشير اليهم (جيرشون شولم) في كتابه المشهور عن: "كبرى تيارات الروحانية اليهودية" (نشر عام 1977 في باريس). كغنوصية "فيلون" اليهودي. اي نزعته الى كنه الاسرار الربانية، عرفت في الاسكندرية ملتقى افكار الشرق واليونان. وفي المانيا نحا الحاخام "يهودا" منحى معاصره القديس "فرنسوا دسيز" في الاحساس بحضور الله والمحبة. وهذا من المذاهب "الحسيدي" (نسبة الى حسيداي).
وفي اسبانيا، كان لقاء اليهودية بتصوف مسلمي الاندلس ومحاولاتهم الاتصال الذاتي والمباشر بالله… وهو ما يقربهم - كما يؤكد جيرشون شولم - من البوذية التبتية وروحانية الهندوس. وقد طرح هذا اللقاء انضر ثمار اليهودية، ممثلاً في اوسع عرض شامل للعقيدة اليهودية كتبه بالعربية ابن ميمون (ابو عمران موسى 1135-1204) صديق الفيلسوف المسلم ابن رشد وتلميذه.
- "الزهو" (كتاب الاشراق) الفه موسى الليوني في نهاية القرن الثالث عشر وجعل فيه حب الله محل الخشية من الله كما فعل معاصره قس كالبريا المسيحي يواكيم دي فلور. واخيراً آخر المذاهب "الحسيدية" الذي نشأ في بولونيا في القرن السادس عشر قريباً من روحنيات سكان نهر الرين والمعلم ايكهارت، والذي ازدهر كذلك خلال التاسع عشر عبر "رسائل الى اتباع حسيداي حول "نشوة الروح" مذكياً في كل انسان قبسه من الله" ثم شمولية الانبياء الواسعة، التي بعثت في كتاب "الاخلاق" لسبينوزا نفحة قوية رغم قيود الشكلية الرياضية الديكارتية، كما كان الوعد بانتظار المسيح "المخلص" دافعاً لكارل ماركس في شبابه، فجعل من تآليفه نواة للنزعات الثورية طوال قرن من الزمان. وحتى رسالة (مارتن بوبر) الروحانية، التي استمرت خمسة قرون من الفردية القاتلة، حثتنا على التذكير بان مركز "الانا" كائن في الآخر "في البداية تكون العلاقة، ونحن نعيش في سيل من المبادلة الشاملة" ، والروح بنظره، ليست في "الانا". بل في علاقتي بالآخر، وكذا الحال بالنسبة للحضارات فهي شبيهة بالحال لدى الافراد: فهي لا تحيا ولا تزدهر الا باخصاب متبادل بينها. ويجد الالهام الالهي محكماً له في العلاقة بالآخرين.

بالنسبة لهذه الاصولية الشاملة التي اتبعتها اليهودية منذ القدم، تشكل الصهيونية السياسية تعسفاً قومياً واستعمارياً يدين بالتوجيه للقومية والنزعة الاستعمارية المنتشرتين في اوروبا خلال القرن التاسع عشر، كما انها لا تستخدم القراءة الانتقائية والقبلية للتوراة، بتحول صريح عن صراط الله ، لتزوير مقاصدها السياسية وتمويهها.
ج - إسرائيل التوراتية واسرائيل الصهيونية الحالية..
يتخذ استخدام الحجج التوراتية ابعاداً جديدة في هذه المرحلة من تاريخ الدولة الصهيونية.. ويمكن تسمية هذه المرحلة بمرحلة الصهيونية العسكرية ففي الوقت الذي تنفق فيه إسرائيل ـ وفقاً لتقرير البنك الدولي ـ ثلاثين بالمئة من صافي ناتجها القومي، على جهازها العسكري (على سبيل المقارنة) فان معدل مثل هذا الانفاق لدى دولة حلف الاطلسي لا يتعدى 4 % … وفي وقت بات الهدف المعلن لهذه العسكرية الضاربة، ليس الدفاع عن إسرائيل، بل تفتيت جميع الدول العربية استناداً لتصريح آرييل شارون نفسه، وطبقاً لمشروع الحركة الصهيونية كما سنرى في الصحفات القادمة،… في هذا الوقت، يجري الاستناد الى نصوص توراتية لتبرير امرين في آن واحد:
- التوسع المستمر في الحدود.
- والطرق التي تتبعها الدولة في التقتيل والارهاب.
وهذه الواقعة في حد ذاتها، ليست جديدة . فقد سبق لبن غوريون في عام 1937.
ان رسم حدود إسرائيل مستنداً لنص "توراتي" يقضي بان تضم "ارض اسرائيل" خمس مناطق:
1 - جنوب لبنان، حتى نهر الليطاني، (او ما يسميه بالجزء الشمالي من إسرائيل الغربية).
2 - جنوب سوريا.
3 - شرقي الاردن (او ما يعرفه اليوم بالاردن).
4 - فلسطين (التي يدعوها بأرض الانتداب البريطاني).
5 - سيناء.
ووفقاً لهذا المخطط، يفترض ان تمر الحدود الشمالية بخط عرض مدينة حمص السورية، التي ماثلها بمدينة حماة، المشار اليها في (سفر الاعداد) كحد شمالي لأرض كنعان. وثمة صهاينة آخرون، "توراتيون" متحمسون ظاهرياً فقط، يطابقون بين حماه وحلب، بينما يجعلها غيرهم في تركيا.. اما الحاخام "أدين شتنسالز"، المقرب من حزب "شلي"، فقد طالب خلال ندوة كان "سارتر" قد عقدها في إسرائيل، "بحقوق تاريخية" لليهود في جزيرة قبرص - وفي عام 1956، اعلن بن غوريون، وسط تصفيق مجلس الكنيست وتهليله ان سيناء كانت تشكل جزءاً من مملكة داوود وسليمان. وبعد قيام الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتي، خلال الهجوم على قناة السويس، بعملية كبح الجماح، ارجىء البحث في تلك الجغرافية التوراتية الى ان طغت على سطح الاحداث عام 1967، وحيث حددت ارض الميعاد على الشكل التالي: نهر الفرات ونهر مصر (حسب سفر الاعداد) - وهو الاخير - بين ان يكون: نهر النيل (ولكن اي فرع منه؟) او وادي العريش ) وفي ظل هذا المفهوم المطاطي للحدود، يستعان دائماً بالتوراة لإضفاء الشرعية سلفاً على اي عدوان مبيت او لتبرير اي الحاق او ضم للاراضي. وفي المرحلة الراهنة من التوسع الصهيوني تم اشراك الخيال المريض المهيمن على حاخامات "الاحزاب الدينية" من غلاة المتعصبين للغزو نظراً لمساعدتهم في تبرير اشد مطالب المتطرفين تعسفاً واستبداداً. وليس من قبيل المصادفة ان يقرر بيغن خلال الحملة الدموية على لبنان، ايقاف رحلة شركة العال ايام السبت احتراماً للعطلة المقدسة. ومثل هذه الضمانات المقدمة للمتطرفين، تعوض بسخاء على صعيد المبررات الايديولوجية: فلا يكفي ما تم احتلال من لبنان كأرض "قبيلة آشور" بل اضفيت القداسة على المذابح من اجل ضرورات القضية. ولم يكن تدمير مدينتي صور وصيدا، ودك بيروت بالقنابل، ومجازر مخيمي صبرا وشاتيلا، امتداداً لمذابح دير ياسين، التي ارتكبتها عصابة السيد بيغن (ارغون) عام 1948، ولمذابح قبية، وكفر قاسم، وقتلة "الوحدة 101" بقيادة ارييل شارون، بل وجد ذلك كله نصيباً من اكاليل الغار… لان الدولة القائمة حالياً في إسرائيل برسالة إسرائيل التوراتية، انما تكرر الحركة المقدسة التي سبق لاسرائيل التوراتية ان قامت بها في استئصالها لشأفة الكنعانيين، بسلوكها اليوم مع العرب نفس السبيل الذي سلكته مع الكنعانيين وغيرهم من شاغلي هذه المنطقة السابقين: "ان مدن هذه الشعوب، الموروثة اليك من مولاك الرب، هي الوحيدة التي لن تدع مخلوقاً حياً يعيش فيها… بل ستجعلها محظورة على الحثيين، والعموريين، والكنعانيين، والفريزيين، كما امرك الرب مولاك". وفقاً لعزرا ونحميا وكما نصت عليه قوانين محكمة نورمبرغ العنصرية: يعتبر يهودياً من ولد من ام يهودية (برهان عنصري)، او من اعتنق الدين اليهودي (برهان لاهوتي) ولا يستطيع ان يفيد من "قانون العودة" ومن المزايا المترتبة عليه في دولة إسرائيل سوى من تنطبق عليه هذه المعايير. هذا اذن لا ينطبق فقط على مجرد تعريف عنصري، بل على تمييز عنصري لان الانتماء الى مجموعة عرقية معينة - كما سنرى فيما بعد - ينطوي اما على امتيازات او انتقاصات… والعنصرية لا تقوم على اي اساس علمي. فمن وجهة النظر البيولوجية، تبين عدم امكان تطبيق النظرية القديمة حول "الدليل الدماغي" وهي نظرية تميز بين ذوي الجماجم المستطيلة، وذوي الاحجام الاخرى. كما ان علم الوراثة الحديث الذي يرى ان لبعض "الجينات" او المورثات تأثيراً على خصائص الخليط الدموي، قد اظهر بطلان المدلول البيولوجي للجنس والسلالة. والاسطورة البالية في سفر التكوين (10/18/27) استخدمت، كغيرها من الاساطير العنصرية، "لتبرير" الطبقية والتسلط ايضاً: فأبناء نوح الثلاثة الذين "عمروا الارض بنسلهم"، بعد خروجهم من الفلك، كانوا اصلاً: اسيويين (من سام) واوروبيين (من يافث)، وافارقة (من حام). وجرى تكريس الاخرين للعبودية والعنف. ورأت العصور الوسطى الاقطاعية في (حام) جداً اعلى لعبيد الارض، وفي (يافت) جد الاسياد، وفي (سام) جد العلماء، وهو يقف على رأس جميع الطبقات. ويؤكد "ليون بولياكوف" في كتابه عن (الخرافة الأرية الصادر سنة 1971) انه "وتمشياً مع التقاليد العبرية (او بالأحرى الحاخامية) فان للحرب ذاتها قيمة، حتى ولو لم تقم صراحة كحرب دفاعية.. وفي مسالك "الخلاص" هذه بلغنا في لبنان مرحلة ارفع من مرحلة حرب الايام الستة بواسطة حرب لبنان هذه، كشفنا عن مدى قوتنا العسكرية… واننا مسؤولون عن النظام في الشرق الاوسط وفي العالم على السواء". وامام هذيان جنون العظمة هذا لدى قوميي إسرائيل وعسكرييها، نتبين صدق نبوءة ومخاوف احد اوائل الصهيونيين:
"مارتن بوبر" وهو احد كبار مفكري عصرنا، وصاحب مؤلفات مثل: "الايمان اليهودي" و"الديانة التوراتية" و"الانسانية العبرية" و "إسرائيل والعالم"، وقد اشار في سنة 1958، في رده على بن غوريون في القدس عام 1957، قائلاً:
- "حينما انخرطت في الحركة الصهيونية قبل ستين عاماً قال لنا بن غوريون: ان فكرة المسيح المخلص هي حية وستحيا حتى مجيء المسيح. اجبته قائلاً: كم قلباً من قلوب هذا الجيل سيحتفظ بهذه الفكرة حية ومغايرة لشكلها القومي الضيق المقتصر على "عودة المنفيين"؟… ذلك ان فكرة المخلص، عند افتقارنا للتطلع الى خلاص البشرية، والى الرغبة في المساهمة لتحقيقه، ليست اطلاقاً رؤيا الخلاص لدى انبياء اسرائيل". وبوبر لم يكف طوال حياته كداعية صهيوني وحتى وفاته في إسرائيل، عن فضح انحرافات الصهيونية الدينية في المجال السياسي والقومي ويقول:
- "نتحدث عن روح إسرائيل، ونعتقد اننا لسنا كباقي الأمم.. ولم تكن روح إسرائيل اكثر من بوتقة تنصهر فيها هويتنا القومية، ولا اكثر من تبرير جميل لأنانيتنا الجماعية فقد تحولت الى معبود لدينا نحن الذين رفضنا القبول بأي مولى غير سيد الكون، فنحن اذن كبقية الأمم نستقي معها من الكأس التي تنهل منها نشوتها".
- "الأمة ليست هي القيمة العليا. والايديولوجيا او الروح القومية، لن تكون مشروعة ما دامت تجعل من الامة غاية بذاتها. ان اليهود ابعد من ان يكونوا امة، انهم اعضاء جماعة عقيدة". وفي سعيه لتحديد السبب الجذري للانحراف في الصهيونية السياسية النابعة، بل من القومية الاوروبية في القرن التاسع عشر لا من اليهودية. والتي جعلت منها الصهيونية السياسية بديلاً للدين او مذهباً لعبادة الدولة - تلك المسماة: دولة إسرائيل. وحول هذا كتب بوبر:
- "لقد اقتلعت جذور اليهودية الدينية. وهذا هو جوهر الداء الذي ظهرت اعراضه في قيام قومية يهودية اواسط القرن التاسع عشر وهذا الشكل الجديد الذي اتخذته الرغبة في الارض، انما هو الخلفية البعيدة التي تخفي كل ما استقته اليهودية المعاصرة من قومية الغرب الحديثة. اذاً فما هو دور "اصطفاء إسرائيل في كل هذا الاصطفاء؟" اوليس هو نوعاً من الاستعلاء، بل احساساً بالقدر والمصير.. احساس لا ينشأ من مقارنة بالآخرين، بل من نداء داخلي يحثه على انجاز مهمة لم يكف الرسل عن التذكير بها: "فاذا تفاخرتم بأنكم المختارون المصطفون، بدلاً من ان تحيوا في ظل طاعة الله، فان ما تفعلونه انما هو الغدر والخيانة" ثم ختم بوبر مشيراً الى "ازمة القومية" في الصهيونية السياسية، الازمة المفسدة لروحانية اليهودية، فقال:
- "كنا نأمل ان ننقذ القومية اليهودية من خطأ تحويل الشعب الى معبود… فأخفقنا…"
و(مارتن بوبر) هو واحد ممن كان تعلقهم بأرض صهيون متقد الحماسة، وقد اوضح ذلك في رسالة كتبها عام 1939 الى غاندي، الذي كان قد تساءل عن سبب عدم شعور الصهيونيين بترابطهم من اجل محاربة الطغيان والاضطهاد مع اي شعب ينتمون اليه وفي اي موطن ولدوا فيه.. بدلاً من البحث عن "وطن قومي" آخر. اجاب (بوبر) بان العقيدة اليهودية لا تستطيع العيش الا في نطاق تجمع طائفي تطبق فيه احكامها الخاصة، فوق ارضها الخاصة: "الاساسي، بنظرنا، ليس وعداً بأرض، بل مطلباً يرتبط تحقيقه بالارض وبوجود مجتمع يهودي في هذه البلاد". كما اجاب هذا ما اجابه بوبر على غاندي القائل بان فلسطين تخص العرب، وبانه من "الظلم واللاإنسانية فرض سيطرة يهودية على العرب"، فقال: - لا نريد انتزاع ملكياتهم، بل العيش معهم". وحدد بحزم، في محاضرة في نيويورك عام 1958، موقفه الثابت من قضية العلاقات مع العرب. وحسب رأيه فان "بعث الشعب اليهودي" يجب ان يمضي بموازاة "الاندماج بعالم الشرق الادنى"، وبما يستبعد اللجوء الى القوة: "اشد النظريات خطأً وفساداً، هي تلك التي تزعم بان مسالك التاريخ انما تشقها القوة".. القوة التي هي دائماً: "تغليب لما هو دون الانساني على الانساني".. "وخيانة لعقيدة الايمان"… وافدح الاخطاء بنظر بوبر، كان اعتبار إسرائيل "قطعة من العالم الغربي". واشار في سنة 1958، الى انه قدم منذ سنة 1921 فكرة اقامة اتحاد فيديرالي في الشرق الادنى، يشارك فيه اليهود.
ولكن، "خلافاً لإقامة دولة ثنائية القومية او مشاركة اليهود في اتحاد للشرق الادنى، صدر القرار التعيس بتقسيم فلسطين.. وكانت القطيعة بين الشعبين، وبدايات الحروب". ويشير "بوبر" الى انه ليس ضد العنف، من حيث المبدأ، ولا يعارض قيام دولة إسرائيل، لكنه يشدد - بعدما شهد الحربين الاوليين بين إسرائيل والعرب - على ان السلام بين اليهود والعرب لا يمكن ان يحل بمجرد توقف الاعمال العدوانية. اذ لن يكون هناك سلام الا بتعاون فعلي بين الطرفين".. "واذا كان التفكير باشتراك إسرائيل في اتحاد فيدرالي في الشرق الادنى، يبدو اليوم للكثيرين محالاً وغير واقعي، وهناك في المستقبل امكانية لتحقيقه". واقوال كهذه كانت ستكفي اليوم لان يعتبر بيغن واعوانه مطلقو الصلاحية في المؤسسة الصهيونية صاحبها: بوبر، معادياً لاسرائيل ومعادياً للسامية.. "ومارتن بوبر" هو بحق اعظم نبي يهودي عاش في دولة إسرائيل منذ انشائها.. ومن حسن الحظ ان هذا المسلك، يثبت وجوده بين الحين والاخر، رغم نتيجة التحكم بالتوجيه الفكري لدى النشء الاسرائيلي منذ دخوله في المدرسة، ولدى الجنود بواسطة الحاخامية العسكرية، ولدى الشعب بواسطة الدعاية الرسمية. فقد امكن سماع صرخة صادقة، اثناء الهجوم الاسرائيلي الذي ارتكب المذابح في لبنان.. هي صرخة الاستاذ (بنيامين كوهين) من جامعة تل ابيب الى (فيدال ناكيه) يوم الثمن من حزيران 1982:
- اكتب اليك وانا استمع الى مذياعي الصغير يعلن باننا على وشك تحقيق هدفنا في لبنان.. الا وهو: توفير السلام لسكان الجليل.. ان هذه الاكاذيب الجديرة بغوبلز تكاد تذهب بعقلي… اذ من الواضح ان هذه الحرب الوحشية، والاشد وحشية من كل سابقاتها، لا علاقة لها البتة بمحاولة القتل في لندن، ولا بأمن الجليل. ترى، ايستطيع يهود من احفاد ابراهيم طالما كانوا ضحايا الجور الا ان يصلوا الى هذه الدرجة من الوحشية؟؟ الا يعني هذا ان اعظم انجازات الصهيونية انما هو نزع اليهودية من قلوب اليهود؟ إبذلوا ايها الاصدقاء، كل ما في وسعكم من اجل عدم تمكين البيغنيين والشارونيين من بلوغ غرضهم المزدوج: "التصفية النهائية (وهذه العبارة رائجة كثيراً هذه الايام..) للفلسطينيين كشعب. وللإسرائيليين ككائنات بشرية" .
ان هذه الادانة هي بعنف ادانات الرسل الغابرين.. كتلك التي لعن فيها (ارميا) اولئك "الذين يتحدثون زوراً باسمي لديك.. خطيئتهم انهم يجلبون العار لاسرائيل.." (ارميا: 29/21-23). او تلك التي ادان بها (ميخا) قادة إسرائيل بقوله: "اسمعوا اذن، يا قادة يعقوب، يا قضاة دار إسرائيل.. يا من تخشون الاستقامة، وتلوون كل مستقيم بتشييدكم كياناً لصهيون وسط الدماء، واشاعتكم الجرائم في وسط اورشليم.." (ميخا: 3/9-10).
ويعتبر في الوقت الحاضر، كل من يشكو من سياسة "قضاة الدار الاسرائيلية" وسياسة الدولة الصهيونية في اسرائيل معادياً للسامية. وعلى هذا القياس يصح التشهير بالرسل الكبار جميعاً: من عموس الى اشعيا، الى ميخا، الى ارميا.. كمعادين للسامية لم يصطف القادة الصهيونيون الحاليون سوى ما من شأنه تبرير سياستهم: كحكاية المذابح التي ارتكبها (اشعيا) بين الكنعانيين.. لما فيها من توقعات لما سيحدث من تقتيل للعرب في كل من فلسطين ولبنان. اما اللعنات التي استنزلها ارميا وميخا فيتم استبعادها وابراز احكام عزرا (اسدراس) في وجوب التمييز العنصري، مع تجاهل طموحات (حزقيال) و(اشعيا) نحو خلاص الكون على يد المسيح المنتظر. وبسبب اختيار "الاحبار الذين يقتلون رسل الرب" وبسبب هذا التضليل، الذي يرى في كل انتقاد لسياسة الدولة الصهيونية في إسرائيل فعلاً معادياً للسامية، يخشى ان تنطلق حملة فعلية ضد السامية. ومثلما يخشى اليوم ان يولد العداء للسامية، ولا يقتصر هذا عند شجب سياسة العدوان وسفك الدماء. بل يتعداه الى الدعم الاعمى واللامشروط لتلك السياسة. وباستطاعة مناحيم بيغن، او آرييل شارون، او اسحاق شامير، وحدهم، ابتعاث المعاداة للسامية كنتيجة لفظائعهم. علماً بانه لا يمكن، في الواقع، الجمع بين مجرمي الحرب هؤلاء ذوي التاريخ العريق في الاجرام ، وبين مجمل الشعب الاسرائيلي، بل وبين مواطنينا من معتنقي الديانة الاسرائيلية او المؤتمنين بالتراث اليهودي.. (علماً بان المذابح التي ارتكبها اولئك المجرمون في لبنان، هي النتيجة المنطقية والحتمية لمثلهم الفكرية، وميتولوجيتهم، ومخططاتهم الرامية الى التوسع الاستيطاني). ان الذين يقفون وراء خطر تغذية النزعة المعادية للسامية، هم موجهو بعض المنظمات، ذات الصفة التمثيلية، التي تتصرف كوكيل مطلق للحكومة الصهيونية في اسرائيل، وهم جاهزون لان يقر جرائمها واكاذيبها المشهورة.. وترديد شعاراتها.. وللزعم، فوق كل ذلك وخلافاً للحقيقة، بتحدثهم باسم مجموع "الطائفة اليهودية".. بينما يتبرأ الكثير من افراد هذه الطائفة على غرار مئات الآلاف من الاسرائيليين، داخل اسرائيل نفسها من تلك الجرائم وهؤلاء المجرمين.
لقد نشأت، دون ادنى شك، التباسات خطيرة، حينما عمد بيغن وزمرته - وبدعم من الحاخامات المتعصبين في "الاحزاب الدينية" الداعية "للحرب المقدسة" - الى الاقتباس القبلي من التوراة، والى الاستخدام الشاذ لفكرة "الشعب المختار" و"ارض الميعاد" لإفساد الوضع ما بين الاسرائيليين والمسيحيين، ولتبرير الاغتصاب الدموي للحقوق الانسانية، باسم حق الهي مزعوم. ان العمل في صالح اليهودية والمسيحية ينطلق من رفض الانخداع بذلك التلاعب بالمقدسات.. وعدم الخلط بين اليهودية، اي عقيدة ابراهيم وموسى وبقية الرسل، وبين تزمت الصهيونية العنصري. تماماً كإطلاق صفة "مسيحيي لبنان" على جلادي (سعد حداد) او امثالهم من منفذي الافعال المنحطة لحكومة تل ابيب. اننا نرمي الى محاربة هذه الالتباسات، والى التمييز بين دولة اسرائيل وسياستها وبين سواد الشعب الاسرائيلي الذي بدأ يعي الألاعيب التي اوقعه حكامها ضحية في براثنها. نرمي ايضاً الى التمييز بين اليهودية والميثولوجيا التي تحرفها الصهيونية من اجل اغراض سياسية. والى رفض الرضوخ للإرهاب الفكري الصادر عن عملاء التمييز العنصري الاسرائيليين، الساعين الى تقسيم العالم بين: صهاينة ومعادين للسامية.. كعنصريي الماضي الزاعمين بتقسيمه الى يهود وغير يهود! ونحن انما نحارب الصهيونية السياسية، لأننا ضد التمييز العنصري.. ومعاداة الصهيونية ليست هي السبب في نشوء العداء للسامية، بل ان السبب كامن في الصهيونية نفسها. ولهذا نحارب صهيونية تدعي بانها تستخدم الدين من اجل اضفاء هالة من القداسة على السياسة. وتجنباً للوقوع في هذه الالتباسات الخطيرة بين:
- الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية.
- اليهودية والصهيونية.
- اسرائيل التوراتية والدولة الصهيونية في اسرائيل.
سنحاول ازالة الوهم المحيط بالصهيونية السياسية، عبر تفحص الميثولوجيا التي تقوم عليها: كالأساطير المنسوبة زوراً الى التوراة.. ثم عبر الواقع السياسي الناشىء عن الحاجة الماسة، التي تشعر بها الصهيونية السياسية، لتوفير المسلمات الميثولوجية اللازمة مثل:
- السياسة الداخلية القائمة على التمييز العنصري.
- السياسة الخارجية المتمثلة في العدوان والتوسع من اجل فتح "مجال حيوي" لهجرة محتملة.
- العمل السياسي القائم على ارهاب الدولة.


الصهيونية السياسية..إحذروا تديين الصراع (2)
في كتابه (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) كتب روجيه جارودى قائلا ما هى الصهيونية التى أدينها فى كتابى دون أى إدانة للعقيد اليهودية؟ وأجاب أن الصهيونية هى:
أولا: مذهب سياسي فمنذ عام 1869 أصبح مصطلح الصهيونية مرادفا للحركة السياسية التي أسسها تيودر هيرتزل
ثانيا: مذهب قومي لم يولد من رحم الديانة اليهودية بل من النزعة القومية الأوربية في القرن التاسع عشر، فلم يكن مؤسس الصهيونية السياسية هيرتزل يعترف بالمرجعية الدينية حيث قال "أنني لا أخضع لأى وازع دينى"
ثالثا: مذهب استعماري حيث لا يخفى تيودر هيرتزل الواعي تماماً بحقيقة أهدافه بالمرحلة الأولى بالنسبة له وهى تأسيس شركة ذات امتيازات تحت حماية إنجلترا أو أي قوة استعمارية أخرى، وذلك إلى حين تحويلها إلى دولة صهيونية يهودية، وهذا هو السبب فى اتجاهه إلى من أثبت مهارة وحنكة في هذا النوع من الأعمال، ألا وهو التاجر البريطاني الاستعماري (سيسيل رودسى) الذي استطاع عن طريق شركته ذات الامتيازات أن يقيم دولة جنوب أفريقيا والذي تسمى أحد أجزائها باسمه وهو (روديسيا) ففي 11 يناير 1902 كتب هيرتزل لسيسيل رودسى يقول (أرجو أن تبعثوا لي بخطاب يقيد أنكم درستم مشروعي وأنكم توافقون عليه، وقد يثور لديكم تساؤل عن السبب في توجهي إليكم، والإجابة أن مشروعي مشروع استعماري) وهكذا بوضوح.
الصهيونية إذن مذهب سياسي قومي استعماري وهى الخصائص الثلاث الأساسية التى تحدد طبيعة الصهيونية السياسية.
ومنذ إنشاء دولة إسرائيل تصدت لها القوى الوطنية في المنطقة العربية، بل أن وجود إسرائيل واعتداءاتها المستمرة على الشعب الفلسطينى والدول العربية المجاورة كان الوقود الذى أشعل القومية العربية. وكان منطلق الصراع على إسرائيل منذ اليوم الأول منطلقاً قوميا أساسه أن اليهود الذين جاءوا من كل أنحاء العالم ليزرعوا دولة في قلب العالم العربي تكون رأس رمح للاستعمار العالمي، وتصفى الحركات الوطنية القومية لاستقلال شعوب دولها وتدريجيا بدأت صورة اسرائيل تتغير لدى الرأي العام خاصة مع الانتفاضة الباسلة للشعب الفلسطيني، وبدأ العالم يكتشف الوجه الحقيقي لإسرائيل كدولة مغتصبة ومعتدية، تقتل وتدمر وترفض الاعتراف بالشعب الفلسطيني وأمام هذا التحول النسبي يبدو أن تل أبيب أرادت تحويل معطيات الصراع العربي الإسرائيلي لصالحها مرة أخرى، وشهدت ثمانينات القرن الماضي مساندة الولايات المتحدة للقيادات المتطرفة التي تتشدق بالإسلام في أفغانستان بهدف الإجهاز على الاتحاد السوفيتي غريمها العنيد آنذاك، وكان من الطبيعي أن تقتدي إسرائيل بنموذج البيت الأبيض وبالفعل سعت لدق إلاسفين في صفوف المقاومة الفلسطينية، وأقتنعت بأن إضعاف ياسر عرفات والقوى الوطنية الفلسطينية لن يكون إلا بتقوية تيار لا يقوم على المنطلق القومي، منطق ثورة التحرر الوطني وإنما على أساس الدين. هدفها أن تجعل الصراع مع العرب صراعاً دينيا، وفى هذه الحالة لن يجد العرب من يقف إلى جوارهم ويتعاطف مع قضيتهم الوطنية التحريرية العادلة، فالعالم كله اليوم أصبحت له حساسية مفرطة إزاء التطرف باسم الدين واصبح ينظر للمقاومة الوطنية فى جوهرها المستندة إلى الدين (إرهاباً) وقد ساد المنطق الديني في مقاومة إسرائيل بعد سقوط المشروع الوطني القومي لجمال عبد الناصر وأمام هذا الواقع الجديد أصبحت النغمة السائدة في أمريكا اليوم هي أن إسرائيل تحمل لواء التصدى للإرهاب وأصبحت ذريعة مقاومة الإرهاب تمنح العدوان الإسرائيلي والتجبر الأمريكي نوعاً من المشروعية المزيفة في عيون قطاعات من الرأي العام العالمي الرافض للكفاح الديني، فما عاد العصر عصر صراعات دينية ولم يعد الدين هو أيديولوجيا المقاومة لتحرير الأوطان.
لقد نجحت إسرائيل إلى حد بعيد في إشاعة تديين الصراع الإسرائيلي يهود ضد مسلمين – بعد أن كان صراعاً قوميا وطنيا عرب وفلسطين ضد إسرائيل وإنزوت القوى الوطنية
أو انخرط بعضها تحت لواء القوى التي تواجه إسرائيل باسم الدين وهو تطور سلبى في غير صالح حركة المقاومة الفلسطينية والعربية، الإسرائيليون يسمون استعمارهم لفلسطين عودة إلى أرض الميعاد ونحن الآن نسمى حرب المقاومة الوطنية غزوة دينية تأسياً بغزوات المسلمين الأوائل مع أن الأخيرة كانت للتوسع وحرب المقاومة الوطنية الفلسطينية حرب وطنية لاستخلاص ما نهبه العدو. ولكن الذين يخلطون بين الدين والسياسة يمكنهم أن يخلطوا بين خيبر وقانا ودير ياسين وأن يروا ما يحدث اليوم بالعيون التي كانت لأسلافهم قبل 14 قرنا فإذا كنا سننقل صراعنا مع الصهيونية إلى الماضي ويعتبره حرباً دينيه وإذا كانت العصور الحديثة في نظر هؤلاء مجرد استمرار للعصور القديمة، فقد انطلت الأكاذيب الصهيونية علينا، وإسرائيل الحالية بهذا المنطق هي إسرائيل القديمة الممتدة منذ ما قبل الميلاد كما تزعم اليهودية والعرب بالتالي ليس لهم حق في فلسطين.
إن قوتنا في حقنا في أرضنا المغتصبة اغتصابا سياسياً استعمارياً وعودتها لابد أن تتم على النهج السياسي الوطني التحرري ابتعاداً عن أي تصورات دينية هنا أو هناك.
*المحامي وعضو اللجنة المصرية لمناهضة الاستعمار والصهيونية
هرتصل والحركة الصهيونية(3)
ُولد تيودور (بنيامين زئيف) هرتصل مؤسس الصهيونية السياسية المعاصرة في بودابست في العام 1860, وتلقى تعليمه بروح حركة التنوير اليهودية الألمانية حيث بلور موقفه الإيجابي من الثقافة العلمانية. في العام 1878 انتقلت عائلة هرتصل إلى فيينا. وفي العام 1884 حصل على درجة الدكتوراة في مجال القانون من جامعة فيينا. وأصبح هرتصل في ذلك الحين كاتبا روائيا وكاتبا مسرحيا وصحافيا حيث عمل مراسلا في باريس للصحيفة الليبرالية البارزة انذاك"Neue Freie Press" "
خلال تلقيه الدراسة في جامعة فيينا عام 1882 وقف هرتصل لأول مرة عن كثب على ظاهرة اللا- سامية الأمر الذي انعكس كثيرا على سيرة حياته وعلى مصير اليهود في القرن العشرين. وفي وقت لاحق خلال فترة إقامته في باريس تعرض هرتصل شخصيا لظاهرة معاداة السامية. وكان هرتصل في ذلك الوقت يعتبر المشكلة اليهودية قضية اجتماعية. وفي العام 1894 انتهى من كتابة مسرحية تحمل اسم : الغيتو ( حي اليهود) والتي عبر من خلالها رفضه لفكرة اندماج اليهود في الشعوب الأخرى أو اعتناقهم لديانات جديدة حلأ للقضية اليهودية. هرتصل كان يأمل في أن تؤدي مسرحية "غيتو" إلى إثارة نقاش مفتوح وبالتالي إلى حل يعتمد على التسامح والاحترام المتبادلين بين المسيحيين واليهود.
في العام 1894 وجه القضاء الفرنسي بصورة ليس لها ما يبررها تهمة الخيانة إلى النقيب ألفريد دريفوس (Alfred Dreyfus) الضابط اليهودي في الجيش الفرنسي, وذلك على خلفية أجواء اللا- سامية التي كانت سائدة في تلك الفترة. هرتصل الذي شاهد الجماهير في تلك الفترة وهم يصرخون: "الموت لليهود" استنتج أن الحل الوحيد او الطريقة الوحيدة لمواجهة الحملة اللا- سامية تتمثل بهجرة ضخمة لليهود إلى أرض يمكن لهم أن يعتبروها ملكا لهم. وهكذا أصبحت قضية دريفوس أحد العوامل الحاسمة في نشوء الصهيونية السياسية.
هرتصل استنتج أن معادة السامية عامل ثابت في المجتمع الإنساني لا يمكن لفكرة اندماج (اليهود) أن تحله. على هذا الأساس كان هرتصل يدرس فكرة السيادة اليهودية, وعلى الرغم من تعرضه لسخرية بعض القادة اليهود, نشر في العام 1896 الكتيب الذي يحمل العنوان "Der Judenstaat" , "دولة اليهود". هرتصل شدد على أن جوهر القضية اليهودية ليس فرديا وإنما قوميآ وصرح بأن الطريقة الوحيدة التي تمكّن اليهود من الحصول على القبول الدولي تتمثل في عدم استمرار كونهم ظاهرة قومية استثنائية. وقال إن اليهود شعب واحد يمكن تحويل مآزقه الى قوة إيجابية وذلك من خلال إقامة دولة يهودية بموافقة القوى العظمى. هرتصل كان ينظر الى القضية اليهودية كقضية سياسية دولية يجب التعامل معها في سياق السياسة الدولية.
وقدم هرتصل خطة عملية لجمع الأموال من اليهود في أنحاء العالم وذلك بواسطة منظمة تعمل من أجل تحقيق هذا الغرض ( وهذه المنظمة عندما تم تأسيسها سميت المنظمة الصهيونية). وتصور هرتصل الدولة اليهودية العتيدة كدولة اجتماعية نموذجية مستندًا في أفكاره إلى النموذج الأوروبي الذي كان سائدا في تلك الفترة والذي كان أساسه مجتمعا متنورا معاصرأ. مثل هذه الدولة ستكون محايدة ومحبة للسلام وعلمانية.
إن الأفكار التي عرضها هرتصل لاقت حماس الجماهير اليهودية في أوروبا الشرقية, رغم أن القادة اليهود كانوا أقل تحمسا إزاء تلك الأفكار.
ومع ذلك نظم هرتصل وترأس المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية بين 29 و-31 أغسطس آب 1897 والذي شكل أول اجتماع دولي لليهود ينعقد على أساس وطني وعلماني. وخلال المؤتمر تبنى الممثلون اليهود "خطة بازل" التي حددت أهداف الحركة الصهيونية. كما أعلن الممثلون في المؤتمر أن الصهيونية تستهدف إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين على أساس القانون العام. وتم خلال المؤتمر تأسيس المنظمة الصهيونية ذراعا سياسيا للشعب اليهودي, وتم انتخاب هرتصل اول رئيس له.
وفي العام ذاته أسّس هرتصل المجلة الأسبوعية الصهيونية Die Velt
وبدأ نشاطاته من أجل الحصول على وثيقة رسمية تسمح بتوطين اليهود في أرض إسرائيل.
وفي أعقاب المؤتمر الصهيوني الأول بدأت الحركة الصهيونية تلتئم سنويا في إطار المؤتمر الصهيوني الدولي. في العام 1936 نقل مركز الحركة الصهيونية إلى أورشليم القدس. في العام 1902 نشر هرتصل كتابه "الأرض القديمة الجديدة" Altneuland الذي وصف فيه الدولة اليهودية العتيدة كالمجتمع الأمثل. هرتصل تصور مجتمعا جديدا ينشأ في أرض إسرائيل على أساس تعاوني يستفيد من العلوم والتكنولوجيا لتطوير الدولة. وشمل هرتصل في كتابه أفكارا مفصلة حول رؤيته للدولة العتيدة من ناحية الهيكل السياسي والهجرة وجمع الأموال والعلاقات الدبلوماسية والقوانين الاجتماعية والعلاقة بين الدين ولدولة.
في كتابه Altneuland وصف هرتصل الدولة اليهودية كمجتمع تعددي وتقدمي, "النور الذي تهتدي به جميع الشعوب". وكان لهذا الكتاب صدى كبير جدًا لدى اليهود في تلك الفترة وأصبح رمزا للرؤية الصهيونية في أرض إسرائيل.
هرتصل شدد على ضرورة الحصول على الدعم والتشجيع من القوى العظمى للأهداف الوطنية للشعب اليهودي. لهذا الغرض قام هرتصل في العام 1898 بجولة في إسرائيل واسطنبول للقاء القيصر الألماني فيلهلم الثاني والسلطان العثماني. وعندما باءت جهوده بالفشل توجه هرتصل إلى بريطانيا حيث التقى جوزيف تشامبرلين وزير المستعمرات البريطاني وشخصيات أخرى. ولكن الاقتراح الحقيقي الوحيد الذي تلقاه من المسؤولين البريطانيين تمثل في فكرة إنشاء منطقة حكم ذاتي لليهود في شرق إفريقيا, في اوغندا.
زيارة هرتصل لروسيا في العام 1903 كانت فرصة له للوقوف عن كثب على مذبحة كيشينييف والظروف الصعبة التي كان يعيشها اليهود في روسيا آنذاك. وكان لتلك الزيارة تأثير كبير على هرتصل. وفي العام ذاته عرض على المؤتمر الصهيوني السادس المبادرة البريطانية لإنشاء منطقة حكم ذاتي لليهود في أوغندا ملجأً أو ملاذا ليهود روسيا الذين كانوا يتعرضون لخطر حقيقي. ورغم محاولات هرتصل لإقناع الحضور بأن المبادرة البريطانية لن تؤثر سلبًا على الهدف الرئيسي الذي حددته لها الحركة الصهيونية وهو إنشاء كيان يهودي في أرض إسرائيل, إلا أن المبادرة أثارت عاصفة في المؤتمر وكادت أن تقود إلى انقسامات وانشقاقات داخل الحركة الصهيونية. ولكن في نهاية المطاف رفضت الحركة الصهيونية خطة أوغندا في مؤتمرها السابع في العام 1905.
هرتصل توفي في العام 1904 بسبب التهاب رئوي بالإضافة إلى الإرهاق الذي كان يعاني منه نتيجة الجهود الحثيثة التي بذلها من أجل الصهيونية.
ولكنه نجح قبل رحيله في ترسيخ مكانة الحركة الصهيونية على الخارطة السياسية العالمية. وفي العام 1949 نُقل رفات هرتصل إلى إسرائيل حيث تم دفنه في الجبل الذي أُطلق عليه اسم " جبل هرتصل" في أورشليم القدس.
هرتصل هو الذي ابتكر عبارة "إذا صدق عزمكم فهي ليست اسطورة" التي تحولت إلى شعار الحركة الصهيوية. ورغم أن احدا في تلك الفترة لم يكن يتصور ذلك, غير ان الحركة الصهيونية وبعد مرور خمسين عاما فقط على المؤتمر الصهيوني الأول نجحت في إقامة دولة إسرائيل المستقلة.
المؤتمر الصهيوني : من الشتات إلى إسرائيل
الصهيونية
(تم أخذ هذا الفصل من كتاب "الصهيونية" (1995) للبروفسور بنيامين نويبرغير)
الصهيونية هي الحركة الوطنية التي تتمسك بفكرة استرداد الشعب اليهودي لوطنه- أرض إسرائيل- وعودة الحياة اليهودية السيادية فيه.
فقد استمر التطلع إلى عودة اليهود إلى صهيون خلال الفترة الطويلة التي أقام فيها اليهود في المهاجر, في أعقاب الاحتلال الروماني وخراب الهيكل الثاني بأيدي الرومان عام 70 ميلادية. وفي القرن التاسع عشر بدأ يأخذ التطلع الى صهيون شكلا جديدا مع ظهور الوطنية المعاصرة والليبرالية والانعتاق التي أدت باليهود إلى محاولات للتعامل مع تساؤلات ومشاكل جديدة.
كانت حركة "محبة صهيون" التي نشأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تنادي بعودة الحياة اليهودية في أرض إسرائيل وبدأت بإقامة تجمعات زراعية في إسرائيل. ولكن في فترة لاحقة بذل هرتصل جهودا لتحويل الصهيونية إلى حركة سياسية وبادر إلى انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في العام 1897. وكان هرتصل أول من نجح في استقطاب الاهتمام الدولي بالقضية اليهودية وحول الشعب اليهودي إلى لاعب على الساحة السياسية الدولية. والحركة الصهيونية التي نشأت على أساس المبادرات التي قدمها هرتصل أقامت لها هيئات وآليات تنظيمية وسياسية واقتصادية لتنفيذ رؤيتها وإيديولوجيتها.
الحركة الصهيونية حددت وأعلنت أهدافها الرئيسية : إقامة الوطن القومي للشعب اليهودي على أرض إسرائيل- على أساس "خطة بازل".
إلى جانب الحركات التي رفضت فكرة إحياء الوطنية اليهودية, انضوت تحت مظلة الصهيونية مجموعات مختلفة مثل الصهيونية الدينية أو الصهيونية الاشتراكية. كل هذه المجموعات كانت تسعى إلى تحقيق الهدف ذاته وهو إقامة موطن قومي لليهود وهي المبادرة التي توّجت بإقامة دولة إسرائيل عام 1948.
ترجمة معاصرة لفكرة قديمة
يشتق إسم "الصهيونية" من كلمة "صهيون" التوراتية وهو الاسم المرادف التقليدي لأورشليم القدس وأرض إسرائيل. والصهيونية هي أيديولوجية تمثل التطلع المستمر لليهود في أنحاء العالم الى استرداد وطنهم القومي التاريخي- صهيون, أرض إسرائيل.
ويعود الأمل اليهودي في العودة الى الوطن القومي الى اليهود الذين هجروا إلى بابل قبل حوالي 2500 سنة- وهو الأمل الذي تحول إلى حقيقة في نهاية المطاف. ("على أنهار بابل هناك جلسنا، فبكينا عندما تذكرنا صهيون". مزامير دؤود 137:1 ). هكذا لم تخترع الصهيونية التي نشأت في القرن التاسع عشر فكرة العودة ولا كيفية تطبيقها وإنما جمعت بين فكرة قديمة وحركة ناشطة وجعلتهما مؤهلتين معا لتلبية حاجات العهد وروحه.
إن جوهر فكرة الصهيونية يتمثل في "إعلان إقامة دولة إسرائيل" ("وثيقة الاسقلال") ( 14أيار/ مايو 1948 ) والتي تبدأ بهذه الكلمات :
" نشأ الشعب اليهودي في أرض إسرائيل, وفيها اكتملت هويته الروحانية والدينية والسياسية , وفيها عاش لأول مرة في دولة ذات سيادة , وفيها أنتج
قيمه الثقافية والقومية والانسانية وأورث العالم أجمع كتاب الكتب الخالد. وعندما أجلي الشعب اليهودي عن بلاده بالقوة, حافظ على عهده لها وهو في بلاد مهاجره بأسره ولم ينقطع عن الصلاة والتعلق بأمل العودة إلى بلاده واستئناف حريته السياسية فيها".
تقوم فكرة الصهيونية على أساس الرابطة الطويلة والمستمرة بين الشعب اليهودي وأرضه وهي العلاقة التي بدأت قبل 4000 عام تقريبا, عندما توطن إبراهيم الخليل في كنعان التي أصبحت معروفة في فترة لاحقة باسم أرض إسرائيل.
يتمثل جوهر التفكير الصهيوني في مبدأ كون أرض إسرائيل المنشأ التاريخي للشعب اليهودي والإيمان بأن تواجد الشعب اليهودي في أي مكان آخر يعني العيش في المنفى. وقد عبر عن هذه الفكرة موشيه هيس في كتابه : "روما وأورشليم القدس" (1884 ) :
" لقد تبلورت الحضارة اليهودية خلال عهدين رئيسيين : الأول, بعد التحرر وخروج الشعب اليهودي من مصر الفرعونية, والثاني, عودة اليهود من بابل.
وسيأتي العهد الثالث مع عودة اليهود إلى أرض إسرائيل من المهاجر".
خلال عقود من الزمن في المهاجر, حافظ اليهود على روابط فريدة من نوعها مع وطنهم التاريخي معبرين عن تطلعهم الى صهيون بالطقوس والشعائر والأدب.
معادة السامية : عامل في نشوء الصهيونية
رغم أن الصهيونية تعبر عن الرابطة التاريخية بين الشعب اليهودي وأرض إسرائيل, غير أن ظهور الصهيونية المعاصرة كحركة وطنية ناشطة في القرن التاسع عشر ليس من الواضح إن كان يتم دون ظاهرة معادة السامية المعاصرة وحالة الاضطهاد المستمر طوال قرون التي تعرض لها اليهود في المهاجر.
هُجر اليهود خلال قرون من معظم الدول الأوروبية - ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وويلس وإسبانيا والبترتغال. والحديث عن تجربة متراكمة كان لها صدى كبير خاصة في القرن التاسع عشر, تلك الفترة التي فقد فيها اليهود الآمال في احتمال حدوث تغيير جذري في حياتهم. هذه الأجواء كانت مصدر ظهور القادة اليهود الذين تبنوا الصهيونية نتيجة لخطورة ظاهرة معاداة السامية التي كانت سائدة في المجتمعات المحيطة بهم.
هكذا أصبح موشيه هيس الذي أصيب بصدمة من فرية الدم التي كانت تلفق ضد اليهود في دمشق (1844 ) أصبح مؤسس الصهيونية الاشتراكية. وليؤون بينسكير الذي هزته المجازر ضد اليهود (1881-1882) التي أعقبت اغتيال القيصر اسكندر الثاني, تولى قيادة حركة "محبة صهيون". وتيودور هرتصل كصحافي في باريس والذي تعرض بنفسه لحملة اللا - سامية التي نُظمت على خلفية قضية درايفوس هو الذي حوّل الصهيونية إلى حركة سياسية.
وسعت الحركة الصهيونية إلى حل "القضية اليهودية", مشكلة الأقلية الدائمة, مشكلة الشعب الذي يتعرض مرارا وتكرارا للمجازر والاضطهادات, ومشكلة المجتمع المشرد الذي تعزز شعوره بالاغتراب بسبب التمييز بمعاملة اليهود كلما هاجروا إلى مكان آخر. لقد سعت الصهيونية إلى مواجهة هذه الأوضاع من خلال تحريك عملية عودة اليهود إلى وطنهم التاريخي - أرض إسرائيل.
بالحقيقة, غالبية موجات هجرة اليهود الضخمة إلى إسرائيل في العهد المعاصر كانت بمثابة رد مباشر على أعمال القتل والتمييز التي استهدفت اليهود. كانت الهجرة الأولى ردأ على المجازر في روسيا خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر. فجاءت الهجرة الثانية ردا على مجزرة كيشينييف وموجة من المذابح ضد اليهود في أوكرانيا وروسيا البيضاء في مطلع القرن العشرين. أما بالنسبة للهجرة الثالثة فجاءت عقب المذابح التي استهدفت اليهود خلال الحرب الأهلية في روسيا. الهجرة الرابعة ومصدرها بولندا تمت خلال العشرينيات من القرن الماضي على خلفية القوانين التي بادر إليها غروسكي للحد من النشاطات الاقتصادية لليهود في بولندا. والهجرة الخامسة كانت خلفيتها فرار اليهود من النازية في ألمانيا والنمسا.
ولكن حتى بعد إقامة دولة إسرائيل في العام 1948 كانت الموجات الضخمة من الهجرة إلى إسرائيل مربوطة بظاهرة التمييز والقمع التي تعرض لها اليهود: الناجون من الكارثة التي حلت باليهود في أوروبا ولاجئون من الدول العربية فارين من الاضطهادات التي كانوا يتعرضون لها عقب إقامة دولة إسرائيل, وبقايا اليهود في بولندا الذين فروا من حملة المعادة للسامية في عهد غومولكا وموزكار, واليهود في روسيا ودول أخرى في الاتحاد السوفياتي سابقا الذين كانوا يخشون من حدوث موجات جديدة من اللا- سامية عقب انهيار الاتحاد السوفياتي.
إن تاريخ موجات الهجرة اليهودية إلى إسرائيل يوفر التأكيد الاقوى للموقف الصهيوني القائل بأن إقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل يتمتع فيها اليهود بالأغلبية هو الحل الوحيد "للقضية اليهودية".
نشوء الصهيونية السياسية
نشأت الصهيونية السياسية, الحركة الليبرالية القومية للشعب اليهودي في القرن التاسع عشر وسط موجة القومية الليبرالية التي اجتاحت أوروبا في تلك الفترة.
الصهيونية دمجت بين ركني القومية الليبرالية - التحرير والوحدة - وذلك من خلال سعيها الى تحرير اليهود من قبضة الأنظمة الأجنبية القمعية والمعادية من جهة ومن جهة أخرى إعادة الوحدة اليهودية من خلال تنظيم عملية قدوم اليهود في المهاجر, من أنحاء العالم الأربع, إلى الوطن اليهودي.
كان ظهور الصهيونية كحركة سياسية يشكل أيضًا ردًا على فشل حركة التنوير اليهودية في حل "القضية اليهودية". حسب مبادئ الصهيونية يعود هذا الفشل إلى كون الانعتاق الفردي والمساواة مستحيلا بالنسبة لليهود دون الانعتاق والمساوة على المستوى القومي, ذلك لأن القضايا القومية تتطلب حلولا قومية.
والحل القومي الصهيوني تمثل في إقامة دولة قومية يهودية يتمتع فيها اليهود بالاغلبية في وطنهم التاريخي, مُنجزا بذلك حق الشعب اليهود في تقرير مصيره.
الصهيونية لم تعبتر "تطبيع" الظروف اليهيودية مخالفا للأهداف والقيم الإنسانية. كما تؤيد الصهيونية حق أي شعب في العالم بأسره في الحصول على وطنه قائلة إن الشعوب التي تتمتع بالسيادة والاستقلال فقط هي التي يمكن لها أن تتحول إلى عضو كباقي الأعضاء في الأسرة الدولية.
الصهيونية : حركة تعددية
رغم أن الصهيونية كانت في الأساس حركة سياسية تسعى إلى تحقيق عودة اليهود إلى وطنهم متمتعين بالحرية والاستقلال والأمن وإقامة الدولة, غير أنها سعت أيضأ إلى تطوير الثقافة اليهودية. وكان أحد العوامل الهامة في هذا السياق إحياء اللغة العبرية التي كان استخدامها يقتصر خلال سنوات طويلة على الطقوس والأدب. وقد سعت الصهيونية إلى تحويل اللغة العبرية إلى لغة قومية فعالة ليتم استخدامها في المحافل الحكومية والجيش والتربية والعلوم والأسواق وفي الشارع.
ومثلما كان الوضع بالنسبة إلى قوميات أخرى كانت للصهيونية علاقات متبادلة مع أيديولوجيات أخرى مما أدى إلى نشوء تيارات ومجموعات صهيونية مختلفة.
فعلى سبيل المثال خلق الاندماج بين القومية والليبرالية تيار الصهيونية الليبرالية. فيما كانت نتيجة دمج الاشتراكية نشوء الصهيونية الاشتراكية. كما أن لقاء الصهيونية بالتيارات الدينية ولد الصهيونية الدينية. وتأثير القومية الأوروبية كان مصدر الإيحاء للمجموعات القومية اليمينية. في هذا السياق لم تختلف الصهيونية عن سائر القوميات التي تبنت هي الأخرى ميولا مختلفة, ليبرالية وتقليدية واشتراكية (يسارية) ومحافظة (يمينية).
الصهيونية والقومية العربية
كان معظم مؤسسي الصهيونية يعلمون حقيقة تواجد سكان عرب في فلسطين (أرض إسرائيل) (رغم أن بعضهم تحدثوا بسذاجة عن "أرض بلا شعب" او عن "شعب بلا أرض"). على أية حال القلائل منهم اعتبروا التواجد العربي عقبة أمام تحقيق أهداف الصهيونية. في تلك الفترة في نهاية القرن التاسع عشر لم تكن القومية العربية قائمة في أي شكل وكان عدد السكان العرب في فلسطين ضئيلا ولم يكونوا مهتمين بالسياسة. لذلك كان العديد من القادة الصهاينة يميلون إلى الاعتقاد بأن حقيقة تواجد عدد قليل نسبيا من السكان العرب في فلسطين قد تمنع مشاكل بينهم وبين اليهود العائدين إلى أرض إسرائيل.
وكان القادة اليهود مقتنعين أيضا بأن التطورات المستقبلية بعد إقامة دولة إسرائيل قد يستفيد منها الشعبان مما يقنع العرب بالتعاون. على أية حال هذه الآمال لم تتحقق.
في مقابل المواقف والتوقعات المعلنة التي أبداها المفكرون الصهاينة والذين كانوا يسعون إلى تحقيق أهدافهم بالطرق السلمية وبالتعاون مع العرب, اصطدم التواجد اليهودي المتجدد في أرض إسرائيل بمعارضة عربية مناضلة. لفترة ما وجد العديد من الصهاينة صعوبة في لإدراك وقبول عمق الخلاف, الذي تحول بالفعل إلى مواجهة بين شعبين يعتبر كل منهما الأرض ملكا له - اليهود على خلفية روابطهم التاريخية والروحية, والعرب بسبب التواجد المستمر للدول العربية في الأرض.
بين الأعوام 1936-1947 تصاعد الصراع بين الجانبين على أرض إسرائيل. فقد أصبحت المعارضة العربية اكثر تطرفا بالتزامن مع زيادة عدد السكان اليهود وتطور المجتمع اليهودي في البلاد. وفي الوقت ذاته رأت الحركة الصهيونية انه بات من الضروري زيادة الهجرة اليهودية إلى إسرائيل وتطوير البنى التحتية الاقتصادية للبلاد وذلك من أجل إنقاذ اكبر عدد ممكن من اليهود من الجحيم النازي في أوروبا.
وأدت المواجهة بين اليهود والعرب التي كان يبدو انه لا يمكن تجنبها , أدت بالأمم المتحدة إلى إصدار القرار في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 الذي ينص على إقامة دولتين في المناطق الواقعة غربي نهر الأردن- إحداهما يهودية والثانية عربية. وقبل اليهود القرار في حين رفضه العرب.
في 14 أيار/ مايو, 1948, بموجب قرار الأمم المتحدة الصادر في نوفمبر 1947, أُعلن رسميا عن إقامة دولة إسرائيل.
الصهيونية في القرن الحادي والعشرين
شكلت إقامة دولة إسرائيل تحقق الهدف الصهيوني المتمثل في الحصول على وطن معترف به دوليا وقانونيا للشعب اليهودي في أرضه التاريخية, حيث يعيش اليهود دون اضطهاد وحيث يستطيعون تطوير حياتهم وهويتهم.
منذ العام 1948 حددت الصهيونية مهمتها الأولى بالاستمرار في دفع عملية "جمع الشتات" التي دعت في حينه إلى بذل جهود حثيثة لإنقاذ الجاليات اليهودية التي كانت تتعرض جسديا وروحيا للخطر. كما سعت الصهيونية بعد 1948 إلى الحفاظ على وحدة الشعب اليهودي واستمراريته وركزت على مركزية إسرائيل في حياة اليهودية في كل مكان.
خلال القرون الماضية شكل التطلع إلى استرداد الشعب اليهودي لأرض إسرائيل الرابطة التي وحّدت الشعب اليهودي في الشتات. اليهود في أنحاء العالم قبلوا الصهيونية عقيدة يهودية ويدعمون دولة إسرائيل معتبرين إياها تطبيقا أساسيا للصهيونية ومقدرين مساهمة دولة إسرائيل ثقافيا واجتماعيا وروحيا بصفتها عضوا في الأسرى الدولية وتطبيقا حيويا وإبداعيا للروح اليهودية.