اليمن الحزين
مرسل: الأربعاء ديسمبر 21, 2011 12:36 am
ما تمر به الجمهورية اليمنية في الفترة الراهنة من مخاض عسير يضعها سياسياً واقتصادياً وأمنياً واجتماعياً تحت رحمة رياح التغيرات باعتبارها طرفاً مؤثراً ومتأثراً بما يدور في الإقليم العربي وساحات التحرير المنتشرة على طوله وعرضه بعد البوعزيزي "المرحلة" أو "الحدث" وليس "الملف الجنائي".
العالم العربي الذي قرر دخول مرحلة زمنية جديدة على حين غرة، أفقد أعضاء النادي السياسي العالمي، ودوائر القرار في المنطقة على إثرها القدرة على التقاط أنفاسهم بتقديم المبادرات العاجلة، والحلول الناجعة لتجنيب المنطقة مخاطر التغيرات الخاطفة والمفاجئة، والمنعطفات السياسية الحادة التي قد تأتي بما لا تحمد عقباه، وفقاً لحسابات ومؤشرات التاريخ التقليدية، التي لم تعد تجدي نفعاً في ظل ظروف فتحت باب الاحتمالات على مصراعيه، وسمحت لرياح عاتية من المفاجآت أن تدير بوصلة المصالح السياسية إلى غير جهة.
لم يعد عائق الأمس عائقاً اليوم، ولم تعد جغرافيا المصالح والمكتسبات والضمانات بذات التضاريس التي كانت عليها من قبل. بل ولم تعد محرمات الأمس، ومقدساته تتمتع بالحصانة ذاتها التي فرضتها أو رسختها سنين من التفرد في البقاء في سدة الحكم، خصوصاً في ظل طابور طويل من وسائل الإعلام والتواصل التي تنقل لحظة بلحظة تطورات محاكمات واستصدار قوائم طويلة بأسماء مطلوبين للعدالة الدولية ومحكمة الجنايات لأعضاء حكومات عربية مختلفة ورؤساء كانوا لفترة وجيزة يملكون زمام الأمر والنهي بداية من العراق إلى تونس ومصر وغيرها من الأنظمة القائمة التي قدمت نفسها نموذجاً لحكم الحديد والنار والأجهزة الأمنية.
وكنتيجة للكثير من المعطيات الأخرى تشكلت المرحلة الجديدة بملامح متغيرة تفتقد للثبات، وحولت العديد من المفاهيم المشتركة بالسليقة التقليدية، إلى حالات متشظية من الخصوص والتفرد، وأفرزت أشكالاً جديدة من الحماس، والتطرف في الطرح، والمطالبة بالتغيير بأي شكل من الأشكال وبكل الأثمان، إلى درجة فرضت شكلاً جديداً من المصالح على دول صناعة القرار دفع بها لإعادة النظر بموازين القوى، وتغير خارطة الأولويات والتعاطي معها بشكل مختلف عن ما قبل على اعتبارها المحرك الرئيس والمحدد لجرعة الحلول كما ونوعاً، وبما يضمن الحد الأدنى من الديمومة لتلك المصالح في ظل تصاعد حجم المخاوف بكل اتجاه.
مرحلة الطفرة الجينية هذه - إن صح التعبير- لم تتنبأ بها المشاريع السياسية الضخمة والحتمية لمفكري المنطقة الذين أثقلوا كاهل أرفف المكتبات وشاشات التلفزة ببنودها على مدى عقود، لأن هذه المرحلة حملت من الملامح والتفاصيل ما يجعلها أكثر تعقيداً من ذهنية التنبؤ والتحليل التقليدية. والواقع اليمني هنا نموذج حي لهذه التغيرات من خلال مجرى أحداثه السياسية ومصيره المنقسم بين ساحات التغيير وساحات الوفاء، وهو الواقع الذي أفرز حالة من الجموح السياسي المستاء والرافض لأن يلجم بأي نموذج سياسي تقليدي أو بخيار متعارف عليه كما هو الحال في كل التغيرات الجذرية التي مرت بها البلدان العربية خلال السنوات العشر الأخيرة. وفي مقدمتها الحركات الاحتجاجية التي مرت بها كل من تونس ومصر ولا زالتا تدوران بفلك تداعياتها ومخاضها حتى بعد هبوط رموز الحكم عن عروشهم، والمخاض العسير الذي تمر به سوريا وليبيا وغيرها من البلدان العربية التي لم تحسم مخاضها السياسي بعد.
أبيض وأسود
لم تعد البدائل تدور ضمن سياق وحدود الأبيض والأسود. بل أصبحت مساحة اللون الرمادي للأحداث تتسع لما هو أكبر وأعقد. وتضع وجوهاً مختلفة وجديدة على طاولة القرار السياسي بجهتيه الحاكم والمعارض. وقد تزكي في المرحلة القادمة أو ربما تفسح المجال لقفز أسماء لم تكن ضمن قائمة الخيارات والبدائل السياسية التقليدية أصلاً كما يحصل عادة في المراحل التي تعقب الحركات الثورية، كتلك التي أتت بعد نهاية حكم ال حميد الدين، الذي انتهى عام 1962 حين فتحت الثورة الباب لما لم يعتد عليه أبناء اليمن من أسماء، ثم أخذت الثورة تأكل أبناءها سريعاً وأصبح الشعب اليمني أمام مسلسل من الانقلابات والاغتيالات للرؤساء استمر بين عامي 1962 و1978 حيث انتهت تلك الفصول بنظام يعتمد سياسة الحديد والنار وحكم الفرد الواحد المتمثل بـ "علي عبدالله صالح" الذي لم يكن يحلم حين خرج فقيراً من قريته "بيت الأحمر" 1958 بأن يتولى سدة الحكم عام 1978 ويبقى لفترة تزيد على الثلاثين عاماً دون أن تخضع رئاسته لقانون التغيير.
خيار صياغة هذه الأحداث لطبقة سياسية جديدة كلياً هو من الخيارات الأخطر في ظل تغيرات حادة كالتي تمر بها المنطقة، وليس اليمن فحسب. بالرغم من الجانب الإيجابي أو النظرة المتفائلة التي تؤمن بالتغيير الجذري الذي قد يجلب الأفضل لسدة الحكم. غير أن التجربة تقول بعكس ذلك وأن حجم التغيير في أعقاب الحركات الثورية، يتعدى عادة سقف المتوقع ليطول الثوابت الوطنية بجريرة إزالة مواقع الفساد والأسماء والمفاهيم التي ارتبطت به وتمتعت بهالة من القدسية السياسية ضمنت لها وجوداً غير قابل للنقاش ضمن دائرة الطبقة السياسية الاقتصادية. هذا المخاض لا يعفي البلاد من الدخول بمرحلة من الاهتزازات العنيفة، جراء سيطرة معادلة النفي والإثبات ونفي النفي على المخرجات السياسية الجديدة إلى الحد الذي قد يفتح المجال لنسف كل ملامح الدولة وتشكل طبقة سياسية ذات طابع ديني أو عقلية عسكرية ينتمي أعضاؤها إلى الطبقة الوسطى اجتماعياً أو ربما للطبقة المعدومة كما هو الحال بالنسبة لصالح الذي ينتمي لطبقة فقيرة ومعدومة اجتماعياً لم تكن تحلم بالوصول لسدة الحكم وفقاً للظروف الطبيعية أو هيكلية النظام الحاكم سواء كان شمولياً أم ديمقراطياً. ومن ثم التعاطي مع الدولة كملك خالص.
المرحلة التي أعقبت حكم ال حميد الدين قدمت لصالح ولغيره من العسكر فرصة اعتلاء سدة الرئاسة، دون أن يكون هناك نظام يسمح بتقييم حقيقي وواضح لطبقة الحكم الجديدة، وما إذا كانت قادرة على إدارة شؤون بلدان تعاني من الكثير من المشاكل والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية وغيرها. ولم توفر تلك المرحلة وسائل محاسبة الوافدين الجدد لسدة الحكم في حالة إخلالهم ببنود العقد الاجتماعي والسياسي بين الحاكم والمحكوم، ودون أن توفر البدائل الكافية لتلك الطبقة. مما وضع البلاد والعباد تحت رحمة الفتاوى والتكهنات والارتجال السياسي الذي يفتقر للتخطيط والوضوح.
بناء على فرضية نجاح الثورة، فإن المرحلة القادمة في اليمن ستفسح المجال لطبقة سياسية جديدة لأن تصبح شريكاً سياسياً فاعلاً بعد أن كانت لعقود طويلة ترزح تحت سقف التلقي والتلقين دون أن تحرك ساكناً. وهو الأمر الذي سيفرض أدوات عمل سياسية جديدة داخلياً وخارجياً لم تكن ضمن قائمة الإنتاج السياسي من قبل، ودون أن تؤكد وبالحد الأدنى على نوعية هذه الطبقة، ومدى قدرتها على سد الفراغ السياسي الذي يأتي في أعقاب الحركات الثورية عادة. وعليه فإن وقاية البلاد من الوقوع فريسة للتفتت والتناحر والعجز عن الإنجاز، احتمال قائم لا يسقط عن قائمة السيناريوهات الطويلة التي قد تعيد الى الذاكرة المشهد العراقي في أعقاب إزالة حكم الحديد والنار عن سدة الحكم في بغداد، وسقوط البلاد فريسة عجز الطبقة السياسية الجديدة عن الإنجاز. أو ربما إعادة إنتاج ذات الأنظمة دون أن يكون للتغيير الحقيقي فرصة للوجود.
وفقاً لهذه الحالة التي تسود المنطقة، تقطع الأحداث في اليمن شهرها الرابع نحو المزيد من التصعيد وتعدد السيناريوهات والتكهنات التي تضع الجمل بما حمل على مفترق طرق يشكل اختيار السير في أحدها دون الآخر تحدياً خطيراً قد ينسف الحد الأدنى لمفهوم الدولة بمعناها المدني والمؤسساتي الأبسط، والتي تعتمد الأحزاب السياسية كخيار آخر وبديل أقل وعورة في إدارة الدولة من العامل القبلي والعشائري المسيطر على ذهنية العمل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في المنطقة العربية ككل ، وليس في اليمن فحسب، مع اختلاف النسب بين دولة وأخرى. ومما يزيد من صعوبة الوضع اليمني في المرحلة القادمة هو كونها الدولة القبلية بامتياز على مستوى المحيط الجغرافي دون أن تكون هي الوحيدة التي يتمتع بها العامل القبلي بقانون أكثر نفاذاً وسطوة على الفرد من غيره من القوانين إلى الحد الذي قد يصل إلى إلغاء قانون الدولة واستبداله بقانون العرف الاجتماعي، بداية من الرئيس ولغاية أحزاب المعارضة. وبالتالي يضع البلاد أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يكون عامل ضبط حقيقي، وصمام أمان يمنح الحكومة فرصة للتغيير والبناء وذلك بالاعتماد على أقطاب ومشايخ القبائل لضبط أفراد قبائلهم. وإما أن يحول الساحة إلى حلبة صراع وتناحر لا يمكن الخروج منها بسهولة ما إن تبدأ رحى تصفية الحسابات القبلية والثارات بالدوران.
عزف على الأوتار
الرئيس اليمني علي عبدالله صالح يمتلك قدرة فائقة في العزف على وتر القبيلة، كما هي قدرته على العزف على وتر تنظيم القاعدة. فقد استطاع استغلال التوزيع القبلي والقوى الإجتماعية والعشائرية بنجاح على مدى عقود حكمه، واعتبارها عاملاً استراتيجياً مهماً مكنه من تجاوز العديد من المآزق والمنعطفات الخطرة التي شكلت عامل تهديد له ولنظام حكمه. فالرئيس صالح استوعب الدرس منذ اليوم الأول حين أعلن الشيخ عبدالله الأحمر دعمه لتولي صالح سدة الحكم اعتماداً على أنه أحد أبناء قبائل "حاشد" وليس غيرها من القبائل، وظل محافظاً على العامل القبلي كسند له وعامل قوة يلجأ إليه حين تشتد عليه العواصف السياسية ليجد نفسه محاطاً بالدعم القبلي الذي يحمي كرسيه من الاهتزازات ويرجح كفته أمام كفة الطرف الآخر.
كان هذا الخيار هو الخيار الاستراتيجي الذي مكن الرئيس صالح من إنهاء محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها عدد من القيادات الناصرية في شهر أكتوبر عام 1978 بالاعتماد على دعم الشيخ الأحمر له. بالإضافة إلى تجاوز مأزق المواجهات مع الجيش الجنوبي في نهاية السبعينيات ولغاية أول الثمانينات حين تم وقف الحرب عام 1982 قبل تجددها في التسعينيات، ولغاية الوحدة الكاملة، وبسط نفوذه على اليمن بجناحيه الشمالي والجنوبي، اعتماداً على دعم القبائل اليمنية وفي مقدمتها قبيلته.
صالح الذي يؤكد على العامل القبلي كاستراتيجية حكم بصفته رئيساً، وقانون طوارئ يلجأ لتطبيقه، ويرتدي خلاله زيه الشعبي و"جنبّيته اليمنية" للإعلان بأن "القبيلة أولاً وقبل كل شيء في مثل تلك الظروف". لم يغير استراتيجيته في ظل الأزمة السياسية اليمنية الحالية حتى حين دخل في مواجهات عسكرية مع أبناء حليفه الاستراتيجي عبدالله الأحمر، وقصفه للبيت الذي كان على مدى عقود حكمه الأكثر حصانة من غيره من الملاجئ، ومخزن سلاحه في معترك سياسي متقلب كاليمن، بقدر تغييره لقائمة الأولويات والتحالفات، اعتماداً على معرفة فائقة بخبايا التوازنات القبلية، والصراعات التي يمتلك مفاتيحها الأهم، والتي أعطته فرصة البقاء على سدة الحكم، بالرغم من وجوده تحت مشرط العمليات الجراحية في الرياض، بعد عملية الاغتيال التي تعرض لها، بالرغم من استمرار الاحتجاجات المطالبة بسقوط نظام حكمه.
الانقسام في قبائل حاشد الذي اتضحت معالمه خلال المداولات التي دارت حول مبايعة من سيخلف حليفه الاستراتيجي عبدالله الأحمر شيخ قبائل حاشد الذي توفي عام 2007 في إمارة القبيلة، وظهور اعتراضات من بعض شيوخ وكبار أعيان القبيلة حول ذلك، اعطى "صالح" مؤشراً واضحاً على أن القادم ومهما تكن قوته، لن يكون حليفاً لا يمكن استبداله. ما دام هو لا يتمتع برضى الأغلبية الساحقة للقبيلة، وبالتالي فإن الفرصة أصبحت سانحة لتغيير اتجاه بوصلة التحالفات، لتشير إلى رموز قبلية أخرى اعتماداً على الانقسامات في صفوف القبائل ووجود طبقة من الساعين إلى الاستفادة من النظام القائم ونيل رضاه وتحقيق مكاسب مادية من خلاله.
استراتيجية صالح وإيمانه بالمسألة القبيلة والعائلية لم تقف عند حد الاعتماد على التحالفات الخارجية، والبقاء ضمن حيز حلفه مع آل الأحمر قبل أن يتحول إلى غيرها من القبائل التي يشكل أغلب أبنائها أعضاء في السلك العسكري والأجهزة الأمنية المختلفة، بل اعتمد سياسة تقليدية تلجأ إليها كل الأنظمة التي تعاني من أزمة الشرعية في المنطقة العربية وهي سياسة "الأقربون" كصمام أمان أخير يتم الاعتماد عليه في مجابهة الأخطار الأكثر قرباً من غيرها. وقد اعتمد صالح هذه السياسة بتوزيع مجموعة من أقربائه على مفاصل حيوية في الدولة تقارب الأربعة والثلاثين منصباً مختلفاً بين مؤسسات أمنية واقتصادية ومدنية تضمن له الحد الأدنى من القدرة على الدفاع عن نظامه، وتجاوز التقلبات السياسية التي قد تعصف به حتى وإن أتت من أقرب حلفاء الأمس. ويعتبر الدور الذي يقوم به نجله الأكبر "أحمد" في قيادة العمليات العسكرية للحرس الجمهوري والقوات الخاصة في ظل غياب صالح نفسه عن البلاد مثالاً على فاعلية تلك السياسة في مجتمع تقليدي كالمجتمع اليمني، وبنفس الوقت دليل قوة قد تصل إلى خوض الأول معارك ضارية ضد أبناء الأحمر وقواتهم دون أن يفقد الرئيس من حكمه ما يشعره بالقلق وهو في المشفى.
العامل القبلي
على الجهة الأخرى من الصراع يلعب العامل القبلي دوراً لا يقل أهمية في اللعبة السياسية اليمنية مع إدراك الرئيس له إلى الحد الذي قد يصل في مرحلة من المراحل إلى صبغ العمل والتنسيق السياسي فيما بين الأحزاب السياسية على اختلاف مناهجها بما فيها المعارض، إلى نوع من المعاهدات القيمية، والأعراف العشائرية، والتكتيك الانتخابي أكثر من كونها عملاً سياسياً ذا طابع استراتيجي يقوم على وضع الأحداث ونموها في سياق زمني مرن، يزن التقاطعات فيما بين القوى السياسية المتصارعة بميزان الواقعية وليس بميزان الأحلام. فالرئيس صالح الذي يواجه الاحتجاجات باللعب على العامل القبلي، والمراوغة لإطالة أمد بقائه على سدة الحكم، أملاً بحدوث ما يكفي من التغيرات التي تبقيه الخيار الأفضل والأوحد داخلياً وخارجياً.
يقابله على الجهة الأخرى طابور طويل من المعارضة التي تعتمد على المسألة القبلية أيضاً كملجأ لها للخلاص من الرئيس صالح ونظامه، وتأجيج المتظاهرين في ساحات التغيير وشحذ الهمم لمزيد من الإصرار على استمرار الاحتجاجات والتمسك بخيار "إرحل".
الشيخ صادق الأحمر أبرز المعارضين للرئيس صالح لم يخرج بأجندته السياسية بصفته قائداً سياسياً أو عسكرياً بالدرجة الأولى أو صاحب مشروع وطني للإنقاذ بقدر خروجه كشيخ القبيلة اليمنية الأكبر، والتي منحت حكم علي عبدالله صالح غطاء الشرعية على مدى عقود، وبالتالي فهي قادرة على نزعه منه متى شاءت.
شيخ قبيلة حاشد الذي أعلن أنه لن يسع للحكم وأن الأمر سيترك للمتظاهرين في ساحة التغيير بعد رحيل صالح ليقرروا مصيرهم، نزل لساحة المواجهة معتمداً على إرث اجتماعي طويل، ووجه خطابه الأول لصالح بلغة القبيلة، ثم التفت للجماهير ومشايخ القبائل لحشدها وكسب تأييدها بلغة القبيلة، وحين اشتدت المواجهة بينه وبين الرئيس اليمني وتحولت إلى صدام عسكري، أصبح الخطاب يدور حول اهدار دم الرئيس، والمطالبة بخروجه من اليمن "حافياً" هو المشهد الذي ينطوي بدلالاته الاجتماعية والقبلية على الإهانة لشخص الرئيس من جهة، والتأكيد على حقوق غير قابلة للسلب تؤكد على تقرير مصير البلاد في المرحلة القادمة بناء على المشيخة.
المسألة القبلية لم تطرأ على الساحة السياسية في الأحداث الأخيرة لدى المعارضة، وإنما لعبت على مدى سنوات طويلة دور العامل الحاسم والأقوى في تحريك الأمور وفرض النتائج، وطرحه في أحيان كثيرة كخطة عمل تجابه من خلالها المعارضة نظام صالح. وكان "اتفاق المبادئ" الذي أعلنت عنه أحزاب المعارضة بعد تشكيل تكتل اللقاء المشترك لأحزاب المعارضة اليمنية عام 2003 خير معبر عن التأثر بالعامل القبلي الذي نفخ من روحه في صيغة البيان، فجاءت وثيقة العمل والتنسيق للانتخابات، نموذجاً للحلف القبلي القائم على الأعراف والقيم المحركة للمجتمع العشائري أكثر منها وثيقة للعمل المدني القائم على الأحزاب والتنظيمات السياسية. فجاء البيان ببنود سبعة ركزت في معظمها على العامل الأخلاقي والقيمي واعتماد منطق "أنا وأخي على ابن عمي.." من جهة، بالإضافة إلى الحالة الوعظية والدعوية التي انطوت عليها أغلب بنود البيان دون أن توضح كيفية إنجار هذه المبادئ من جهة أخرى، كالتأكيد على ضرورة التنسيق فيما بين المرشحين من مختلف أحزاب اللقاء لضمان زيادة عدد مقاعد هذه الأحزاب في البرلمان. وعدم التنافس في الدوائر الانتخابية الواحدة، بشكل قد يفسح المجال لفوز أحد مرشحي الأحزاب الأخرى من غير اللقاء، وعدم التنسيق مع أي طرف آخر على حساب أي حزب من أحزاب اللقاء المشترك.
القدرة على المناورة
هذا الحضور الكثيف للمسألة القبلية في بلد يعاني ما يعاني من أزمات طائفية، واقتصادية، وعرقية، وصحية وتعليمية يضع مستقبل اليمن كدولة على كفي عفريت الغيب، بشكل قد ينعكس على المحيط الجغرافي بشكل كبير. فالقبائل اليمنية التي تمتد كغيرها من القبائل العربية عبر الحدود السياسية، ستجد نفسها كياناً مستقلاً يعمل وفق أجندته القبلية أكثر من أية أجندة أخرى، وبشكل سيدفع من هو خارج الحدود إلى التورط بما هو داخل الحدود، ومن هو داخل الحدود إلى التورط بما هو خارج الحدود، خصوصاً وأن الطبيعة الجغرافية لليمن سوف تمنح تلك القبائل وأية قوى خارجة عن إطار الدولة القانوني القدرة على المناورة العسكرية، والتحصين أمام أي هجوم قد تتعرض له من قبل أي طرف، مهما تفوقت آلته العسكرية. بالإضافة إلى أن سيناريوهات إنفلات زمام الأمور باليمن سيحول الجهة الأخرى من مضيق "باب المندب" إلى صومال جديدة، وسيجعل مياه المضيق الرابط فيما بين أوروبا والمحيط الهادئ وقارتي آسيا وأفريقيا إلى مياه مليئة بالقراصنة والمختطفين الذين يهددون حركة التجارة الدولية العابرة من خلال البحر الأحمر، والتي يقدر عدد سفنها وناقلاتها النفطية التي تمر خلال المضيق في الاتجاهين، بأكثر من عشرين ألف قطعة بحرية سنوياً أي بما يوازي 7.5 في المائة من كل ناقلات النفط في العالم. وهو الأمر الذي إن حدث فإنه سيشكل تهديداً فعلياً للمصالح الحيوية في المنطقة تعيد إلى الذاكرة العالمية حدث استخدام المضيق كسلاح في حرب 1973 حين تم إغلاقه في وجه اسرائيل تضامناً مع الموقف العربي آنذاك. ما يجعل طريق رأس الرجاء الصالح هو البديل الأمثل، والأكثر أمناً بشكل يعيد حركة الملاحة العالمية إلى ما قبل افتتاح قناة السويس. أو قد يدفع القوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة لأن تكون أكثر حزماً في التعامل مع ملف احتمالات الانفلات الأمني في المنطقة وإن أدى ذلك إلى تدخل مباشر أكثر شدة وقسوة من أي تدخل آخر أو سابق من اجل اعادة الامن والاستقرار الى أكثر المناطق الجغرافية غنى بمصادر الطاقة عالمياً.
العالم العربي الذي قرر دخول مرحلة زمنية جديدة على حين غرة، أفقد أعضاء النادي السياسي العالمي، ودوائر القرار في المنطقة على إثرها القدرة على التقاط أنفاسهم بتقديم المبادرات العاجلة، والحلول الناجعة لتجنيب المنطقة مخاطر التغيرات الخاطفة والمفاجئة، والمنعطفات السياسية الحادة التي قد تأتي بما لا تحمد عقباه، وفقاً لحسابات ومؤشرات التاريخ التقليدية، التي لم تعد تجدي نفعاً في ظل ظروف فتحت باب الاحتمالات على مصراعيه، وسمحت لرياح عاتية من المفاجآت أن تدير بوصلة المصالح السياسية إلى غير جهة.
لم يعد عائق الأمس عائقاً اليوم، ولم تعد جغرافيا المصالح والمكتسبات والضمانات بذات التضاريس التي كانت عليها من قبل. بل ولم تعد محرمات الأمس، ومقدساته تتمتع بالحصانة ذاتها التي فرضتها أو رسختها سنين من التفرد في البقاء في سدة الحكم، خصوصاً في ظل طابور طويل من وسائل الإعلام والتواصل التي تنقل لحظة بلحظة تطورات محاكمات واستصدار قوائم طويلة بأسماء مطلوبين للعدالة الدولية ومحكمة الجنايات لأعضاء حكومات عربية مختلفة ورؤساء كانوا لفترة وجيزة يملكون زمام الأمر والنهي بداية من العراق إلى تونس ومصر وغيرها من الأنظمة القائمة التي قدمت نفسها نموذجاً لحكم الحديد والنار والأجهزة الأمنية.
وكنتيجة للكثير من المعطيات الأخرى تشكلت المرحلة الجديدة بملامح متغيرة تفتقد للثبات، وحولت العديد من المفاهيم المشتركة بالسليقة التقليدية، إلى حالات متشظية من الخصوص والتفرد، وأفرزت أشكالاً جديدة من الحماس، والتطرف في الطرح، والمطالبة بالتغيير بأي شكل من الأشكال وبكل الأثمان، إلى درجة فرضت شكلاً جديداً من المصالح على دول صناعة القرار دفع بها لإعادة النظر بموازين القوى، وتغير خارطة الأولويات والتعاطي معها بشكل مختلف عن ما قبل على اعتبارها المحرك الرئيس والمحدد لجرعة الحلول كما ونوعاً، وبما يضمن الحد الأدنى من الديمومة لتلك المصالح في ظل تصاعد حجم المخاوف بكل اتجاه.
مرحلة الطفرة الجينية هذه - إن صح التعبير- لم تتنبأ بها المشاريع السياسية الضخمة والحتمية لمفكري المنطقة الذين أثقلوا كاهل أرفف المكتبات وشاشات التلفزة ببنودها على مدى عقود، لأن هذه المرحلة حملت من الملامح والتفاصيل ما يجعلها أكثر تعقيداً من ذهنية التنبؤ والتحليل التقليدية. والواقع اليمني هنا نموذج حي لهذه التغيرات من خلال مجرى أحداثه السياسية ومصيره المنقسم بين ساحات التغيير وساحات الوفاء، وهو الواقع الذي أفرز حالة من الجموح السياسي المستاء والرافض لأن يلجم بأي نموذج سياسي تقليدي أو بخيار متعارف عليه كما هو الحال في كل التغيرات الجذرية التي مرت بها البلدان العربية خلال السنوات العشر الأخيرة. وفي مقدمتها الحركات الاحتجاجية التي مرت بها كل من تونس ومصر ولا زالتا تدوران بفلك تداعياتها ومخاضها حتى بعد هبوط رموز الحكم عن عروشهم، والمخاض العسير الذي تمر به سوريا وليبيا وغيرها من البلدان العربية التي لم تحسم مخاضها السياسي بعد.
أبيض وأسود
لم تعد البدائل تدور ضمن سياق وحدود الأبيض والأسود. بل أصبحت مساحة اللون الرمادي للأحداث تتسع لما هو أكبر وأعقد. وتضع وجوهاً مختلفة وجديدة على طاولة القرار السياسي بجهتيه الحاكم والمعارض. وقد تزكي في المرحلة القادمة أو ربما تفسح المجال لقفز أسماء لم تكن ضمن قائمة الخيارات والبدائل السياسية التقليدية أصلاً كما يحصل عادة في المراحل التي تعقب الحركات الثورية، كتلك التي أتت بعد نهاية حكم ال حميد الدين، الذي انتهى عام 1962 حين فتحت الثورة الباب لما لم يعتد عليه أبناء اليمن من أسماء، ثم أخذت الثورة تأكل أبناءها سريعاً وأصبح الشعب اليمني أمام مسلسل من الانقلابات والاغتيالات للرؤساء استمر بين عامي 1962 و1978 حيث انتهت تلك الفصول بنظام يعتمد سياسة الحديد والنار وحكم الفرد الواحد المتمثل بـ "علي عبدالله صالح" الذي لم يكن يحلم حين خرج فقيراً من قريته "بيت الأحمر" 1958 بأن يتولى سدة الحكم عام 1978 ويبقى لفترة تزيد على الثلاثين عاماً دون أن تخضع رئاسته لقانون التغيير.
خيار صياغة هذه الأحداث لطبقة سياسية جديدة كلياً هو من الخيارات الأخطر في ظل تغيرات حادة كالتي تمر بها المنطقة، وليس اليمن فحسب. بالرغم من الجانب الإيجابي أو النظرة المتفائلة التي تؤمن بالتغيير الجذري الذي قد يجلب الأفضل لسدة الحكم. غير أن التجربة تقول بعكس ذلك وأن حجم التغيير في أعقاب الحركات الثورية، يتعدى عادة سقف المتوقع ليطول الثوابت الوطنية بجريرة إزالة مواقع الفساد والأسماء والمفاهيم التي ارتبطت به وتمتعت بهالة من القدسية السياسية ضمنت لها وجوداً غير قابل للنقاش ضمن دائرة الطبقة السياسية الاقتصادية. هذا المخاض لا يعفي البلاد من الدخول بمرحلة من الاهتزازات العنيفة، جراء سيطرة معادلة النفي والإثبات ونفي النفي على المخرجات السياسية الجديدة إلى الحد الذي قد يفتح المجال لنسف كل ملامح الدولة وتشكل طبقة سياسية ذات طابع ديني أو عقلية عسكرية ينتمي أعضاؤها إلى الطبقة الوسطى اجتماعياً أو ربما للطبقة المعدومة كما هو الحال بالنسبة لصالح الذي ينتمي لطبقة فقيرة ومعدومة اجتماعياً لم تكن تحلم بالوصول لسدة الحكم وفقاً للظروف الطبيعية أو هيكلية النظام الحاكم سواء كان شمولياً أم ديمقراطياً. ومن ثم التعاطي مع الدولة كملك خالص.
المرحلة التي أعقبت حكم ال حميد الدين قدمت لصالح ولغيره من العسكر فرصة اعتلاء سدة الرئاسة، دون أن يكون هناك نظام يسمح بتقييم حقيقي وواضح لطبقة الحكم الجديدة، وما إذا كانت قادرة على إدارة شؤون بلدان تعاني من الكثير من المشاكل والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية وغيرها. ولم توفر تلك المرحلة وسائل محاسبة الوافدين الجدد لسدة الحكم في حالة إخلالهم ببنود العقد الاجتماعي والسياسي بين الحاكم والمحكوم، ودون أن توفر البدائل الكافية لتلك الطبقة. مما وضع البلاد والعباد تحت رحمة الفتاوى والتكهنات والارتجال السياسي الذي يفتقر للتخطيط والوضوح.
بناء على فرضية نجاح الثورة، فإن المرحلة القادمة في اليمن ستفسح المجال لطبقة سياسية جديدة لأن تصبح شريكاً سياسياً فاعلاً بعد أن كانت لعقود طويلة ترزح تحت سقف التلقي والتلقين دون أن تحرك ساكناً. وهو الأمر الذي سيفرض أدوات عمل سياسية جديدة داخلياً وخارجياً لم تكن ضمن قائمة الإنتاج السياسي من قبل، ودون أن تؤكد وبالحد الأدنى على نوعية هذه الطبقة، ومدى قدرتها على سد الفراغ السياسي الذي يأتي في أعقاب الحركات الثورية عادة. وعليه فإن وقاية البلاد من الوقوع فريسة للتفتت والتناحر والعجز عن الإنجاز، احتمال قائم لا يسقط عن قائمة السيناريوهات الطويلة التي قد تعيد الى الذاكرة المشهد العراقي في أعقاب إزالة حكم الحديد والنار عن سدة الحكم في بغداد، وسقوط البلاد فريسة عجز الطبقة السياسية الجديدة عن الإنجاز. أو ربما إعادة إنتاج ذات الأنظمة دون أن يكون للتغيير الحقيقي فرصة للوجود.
وفقاً لهذه الحالة التي تسود المنطقة، تقطع الأحداث في اليمن شهرها الرابع نحو المزيد من التصعيد وتعدد السيناريوهات والتكهنات التي تضع الجمل بما حمل على مفترق طرق يشكل اختيار السير في أحدها دون الآخر تحدياً خطيراً قد ينسف الحد الأدنى لمفهوم الدولة بمعناها المدني والمؤسساتي الأبسط، والتي تعتمد الأحزاب السياسية كخيار آخر وبديل أقل وعورة في إدارة الدولة من العامل القبلي والعشائري المسيطر على ذهنية العمل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في المنطقة العربية ككل ، وليس في اليمن فحسب، مع اختلاف النسب بين دولة وأخرى. ومما يزيد من صعوبة الوضع اليمني في المرحلة القادمة هو كونها الدولة القبلية بامتياز على مستوى المحيط الجغرافي دون أن تكون هي الوحيدة التي يتمتع بها العامل القبلي بقانون أكثر نفاذاً وسطوة على الفرد من غيره من القوانين إلى الحد الذي قد يصل إلى إلغاء قانون الدولة واستبداله بقانون العرف الاجتماعي، بداية من الرئيس ولغاية أحزاب المعارضة. وبالتالي يضع البلاد أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يكون عامل ضبط حقيقي، وصمام أمان يمنح الحكومة فرصة للتغيير والبناء وذلك بالاعتماد على أقطاب ومشايخ القبائل لضبط أفراد قبائلهم. وإما أن يحول الساحة إلى حلبة صراع وتناحر لا يمكن الخروج منها بسهولة ما إن تبدأ رحى تصفية الحسابات القبلية والثارات بالدوران.
عزف على الأوتار
الرئيس اليمني علي عبدالله صالح يمتلك قدرة فائقة في العزف على وتر القبيلة، كما هي قدرته على العزف على وتر تنظيم القاعدة. فقد استطاع استغلال التوزيع القبلي والقوى الإجتماعية والعشائرية بنجاح على مدى عقود حكمه، واعتبارها عاملاً استراتيجياً مهماً مكنه من تجاوز العديد من المآزق والمنعطفات الخطرة التي شكلت عامل تهديد له ولنظام حكمه. فالرئيس صالح استوعب الدرس منذ اليوم الأول حين أعلن الشيخ عبدالله الأحمر دعمه لتولي صالح سدة الحكم اعتماداً على أنه أحد أبناء قبائل "حاشد" وليس غيرها من القبائل، وظل محافظاً على العامل القبلي كسند له وعامل قوة يلجأ إليه حين تشتد عليه العواصف السياسية ليجد نفسه محاطاً بالدعم القبلي الذي يحمي كرسيه من الاهتزازات ويرجح كفته أمام كفة الطرف الآخر.
كان هذا الخيار هو الخيار الاستراتيجي الذي مكن الرئيس صالح من إنهاء محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها عدد من القيادات الناصرية في شهر أكتوبر عام 1978 بالاعتماد على دعم الشيخ الأحمر له. بالإضافة إلى تجاوز مأزق المواجهات مع الجيش الجنوبي في نهاية السبعينيات ولغاية أول الثمانينات حين تم وقف الحرب عام 1982 قبل تجددها في التسعينيات، ولغاية الوحدة الكاملة، وبسط نفوذه على اليمن بجناحيه الشمالي والجنوبي، اعتماداً على دعم القبائل اليمنية وفي مقدمتها قبيلته.
صالح الذي يؤكد على العامل القبلي كاستراتيجية حكم بصفته رئيساً، وقانون طوارئ يلجأ لتطبيقه، ويرتدي خلاله زيه الشعبي و"جنبّيته اليمنية" للإعلان بأن "القبيلة أولاً وقبل كل شيء في مثل تلك الظروف". لم يغير استراتيجيته في ظل الأزمة السياسية اليمنية الحالية حتى حين دخل في مواجهات عسكرية مع أبناء حليفه الاستراتيجي عبدالله الأحمر، وقصفه للبيت الذي كان على مدى عقود حكمه الأكثر حصانة من غيره من الملاجئ، ومخزن سلاحه في معترك سياسي متقلب كاليمن، بقدر تغييره لقائمة الأولويات والتحالفات، اعتماداً على معرفة فائقة بخبايا التوازنات القبلية، والصراعات التي يمتلك مفاتيحها الأهم، والتي أعطته فرصة البقاء على سدة الحكم، بالرغم من وجوده تحت مشرط العمليات الجراحية في الرياض، بعد عملية الاغتيال التي تعرض لها، بالرغم من استمرار الاحتجاجات المطالبة بسقوط نظام حكمه.
الانقسام في قبائل حاشد الذي اتضحت معالمه خلال المداولات التي دارت حول مبايعة من سيخلف حليفه الاستراتيجي عبدالله الأحمر شيخ قبائل حاشد الذي توفي عام 2007 في إمارة القبيلة، وظهور اعتراضات من بعض شيوخ وكبار أعيان القبيلة حول ذلك، اعطى "صالح" مؤشراً واضحاً على أن القادم ومهما تكن قوته، لن يكون حليفاً لا يمكن استبداله. ما دام هو لا يتمتع برضى الأغلبية الساحقة للقبيلة، وبالتالي فإن الفرصة أصبحت سانحة لتغيير اتجاه بوصلة التحالفات، لتشير إلى رموز قبلية أخرى اعتماداً على الانقسامات في صفوف القبائل ووجود طبقة من الساعين إلى الاستفادة من النظام القائم ونيل رضاه وتحقيق مكاسب مادية من خلاله.
استراتيجية صالح وإيمانه بالمسألة القبيلة والعائلية لم تقف عند حد الاعتماد على التحالفات الخارجية، والبقاء ضمن حيز حلفه مع آل الأحمر قبل أن يتحول إلى غيرها من القبائل التي يشكل أغلب أبنائها أعضاء في السلك العسكري والأجهزة الأمنية المختلفة، بل اعتمد سياسة تقليدية تلجأ إليها كل الأنظمة التي تعاني من أزمة الشرعية في المنطقة العربية وهي سياسة "الأقربون" كصمام أمان أخير يتم الاعتماد عليه في مجابهة الأخطار الأكثر قرباً من غيرها. وقد اعتمد صالح هذه السياسة بتوزيع مجموعة من أقربائه على مفاصل حيوية في الدولة تقارب الأربعة والثلاثين منصباً مختلفاً بين مؤسسات أمنية واقتصادية ومدنية تضمن له الحد الأدنى من القدرة على الدفاع عن نظامه، وتجاوز التقلبات السياسية التي قد تعصف به حتى وإن أتت من أقرب حلفاء الأمس. ويعتبر الدور الذي يقوم به نجله الأكبر "أحمد" في قيادة العمليات العسكرية للحرس الجمهوري والقوات الخاصة في ظل غياب صالح نفسه عن البلاد مثالاً على فاعلية تلك السياسة في مجتمع تقليدي كالمجتمع اليمني، وبنفس الوقت دليل قوة قد تصل إلى خوض الأول معارك ضارية ضد أبناء الأحمر وقواتهم دون أن يفقد الرئيس من حكمه ما يشعره بالقلق وهو في المشفى.
العامل القبلي
على الجهة الأخرى من الصراع يلعب العامل القبلي دوراً لا يقل أهمية في اللعبة السياسية اليمنية مع إدراك الرئيس له إلى الحد الذي قد يصل في مرحلة من المراحل إلى صبغ العمل والتنسيق السياسي فيما بين الأحزاب السياسية على اختلاف مناهجها بما فيها المعارض، إلى نوع من المعاهدات القيمية، والأعراف العشائرية، والتكتيك الانتخابي أكثر من كونها عملاً سياسياً ذا طابع استراتيجي يقوم على وضع الأحداث ونموها في سياق زمني مرن، يزن التقاطعات فيما بين القوى السياسية المتصارعة بميزان الواقعية وليس بميزان الأحلام. فالرئيس صالح الذي يواجه الاحتجاجات باللعب على العامل القبلي، والمراوغة لإطالة أمد بقائه على سدة الحكم، أملاً بحدوث ما يكفي من التغيرات التي تبقيه الخيار الأفضل والأوحد داخلياً وخارجياً.
يقابله على الجهة الأخرى طابور طويل من المعارضة التي تعتمد على المسألة القبلية أيضاً كملجأ لها للخلاص من الرئيس صالح ونظامه، وتأجيج المتظاهرين في ساحات التغيير وشحذ الهمم لمزيد من الإصرار على استمرار الاحتجاجات والتمسك بخيار "إرحل".
الشيخ صادق الأحمر أبرز المعارضين للرئيس صالح لم يخرج بأجندته السياسية بصفته قائداً سياسياً أو عسكرياً بالدرجة الأولى أو صاحب مشروع وطني للإنقاذ بقدر خروجه كشيخ القبيلة اليمنية الأكبر، والتي منحت حكم علي عبدالله صالح غطاء الشرعية على مدى عقود، وبالتالي فهي قادرة على نزعه منه متى شاءت.
شيخ قبيلة حاشد الذي أعلن أنه لن يسع للحكم وأن الأمر سيترك للمتظاهرين في ساحة التغيير بعد رحيل صالح ليقرروا مصيرهم، نزل لساحة المواجهة معتمداً على إرث اجتماعي طويل، ووجه خطابه الأول لصالح بلغة القبيلة، ثم التفت للجماهير ومشايخ القبائل لحشدها وكسب تأييدها بلغة القبيلة، وحين اشتدت المواجهة بينه وبين الرئيس اليمني وتحولت إلى صدام عسكري، أصبح الخطاب يدور حول اهدار دم الرئيس، والمطالبة بخروجه من اليمن "حافياً" هو المشهد الذي ينطوي بدلالاته الاجتماعية والقبلية على الإهانة لشخص الرئيس من جهة، والتأكيد على حقوق غير قابلة للسلب تؤكد على تقرير مصير البلاد في المرحلة القادمة بناء على المشيخة.
المسألة القبلية لم تطرأ على الساحة السياسية في الأحداث الأخيرة لدى المعارضة، وإنما لعبت على مدى سنوات طويلة دور العامل الحاسم والأقوى في تحريك الأمور وفرض النتائج، وطرحه في أحيان كثيرة كخطة عمل تجابه من خلالها المعارضة نظام صالح. وكان "اتفاق المبادئ" الذي أعلنت عنه أحزاب المعارضة بعد تشكيل تكتل اللقاء المشترك لأحزاب المعارضة اليمنية عام 2003 خير معبر عن التأثر بالعامل القبلي الذي نفخ من روحه في صيغة البيان، فجاءت وثيقة العمل والتنسيق للانتخابات، نموذجاً للحلف القبلي القائم على الأعراف والقيم المحركة للمجتمع العشائري أكثر منها وثيقة للعمل المدني القائم على الأحزاب والتنظيمات السياسية. فجاء البيان ببنود سبعة ركزت في معظمها على العامل الأخلاقي والقيمي واعتماد منطق "أنا وأخي على ابن عمي.." من جهة، بالإضافة إلى الحالة الوعظية والدعوية التي انطوت عليها أغلب بنود البيان دون أن توضح كيفية إنجار هذه المبادئ من جهة أخرى، كالتأكيد على ضرورة التنسيق فيما بين المرشحين من مختلف أحزاب اللقاء لضمان زيادة عدد مقاعد هذه الأحزاب في البرلمان. وعدم التنافس في الدوائر الانتخابية الواحدة، بشكل قد يفسح المجال لفوز أحد مرشحي الأحزاب الأخرى من غير اللقاء، وعدم التنسيق مع أي طرف آخر على حساب أي حزب من أحزاب اللقاء المشترك.
القدرة على المناورة
هذا الحضور الكثيف للمسألة القبلية في بلد يعاني ما يعاني من أزمات طائفية، واقتصادية، وعرقية، وصحية وتعليمية يضع مستقبل اليمن كدولة على كفي عفريت الغيب، بشكل قد ينعكس على المحيط الجغرافي بشكل كبير. فالقبائل اليمنية التي تمتد كغيرها من القبائل العربية عبر الحدود السياسية، ستجد نفسها كياناً مستقلاً يعمل وفق أجندته القبلية أكثر من أية أجندة أخرى، وبشكل سيدفع من هو خارج الحدود إلى التورط بما هو داخل الحدود، ومن هو داخل الحدود إلى التورط بما هو خارج الحدود، خصوصاً وأن الطبيعة الجغرافية لليمن سوف تمنح تلك القبائل وأية قوى خارجة عن إطار الدولة القانوني القدرة على المناورة العسكرية، والتحصين أمام أي هجوم قد تتعرض له من قبل أي طرف، مهما تفوقت آلته العسكرية. بالإضافة إلى أن سيناريوهات إنفلات زمام الأمور باليمن سيحول الجهة الأخرى من مضيق "باب المندب" إلى صومال جديدة، وسيجعل مياه المضيق الرابط فيما بين أوروبا والمحيط الهادئ وقارتي آسيا وأفريقيا إلى مياه مليئة بالقراصنة والمختطفين الذين يهددون حركة التجارة الدولية العابرة من خلال البحر الأحمر، والتي يقدر عدد سفنها وناقلاتها النفطية التي تمر خلال المضيق في الاتجاهين، بأكثر من عشرين ألف قطعة بحرية سنوياً أي بما يوازي 7.5 في المائة من كل ناقلات النفط في العالم. وهو الأمر الذي إن حدث فإنه سيشكل تهديداً فعلياً للمصالح الحيوية في المنطقة تعيد إلى الذاكرة العالمية حدث استخدام المضيق كسلاح في حرب 1973 حين تم إغلاقه في وجه اسرائيل تضامناً مع الموقف العربي آنذاك. ما يجعل طريق رأس الرجاء الصالح هو البديل الأمثل، والأكثر أمناً بشكل يعيد حركة الملاحة العالمية إلى ما قبل افتتاح قناة السويس. أو قد يدفع القوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة لأن تكون أكثر حزماً في التعامل مع ملف احتمالات الانفلات الأمني في المنطقة وإن أدى ذلك إلى تدخل مباشر أكثر شدة وقسوة من أي تدخل آخر أو سابق من اجل اعادة الامن والاستقرار الى أكثر المناطق الجغرافية غنى بمصادر الطاقة عالمياً.