منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

By سلطان التمامي (3)(5)
#44535
نظرت في التقويم فوجدت أني أستكمل اليوم 23 - جمادى الأولى 1379هـ- اثنتين وخمسين سنة قمرية، فوقفت ساعة أنظر فيها في يومي وأمسي، أنظر من أمام لأرى ما هي نهاية المطاف، وأنظر من وراء لأرى ماذا أفدت من هذا المسير.

وقفت كما يقف التاجر في آخر السنة ليجرد دفاتره ويحرر حسابه، وينظر ماذا ربح وماذا خسر. وقفت كما تقف القافلة التي جُنّ أهلوها وأخذهم السُّعَار، فانطلقوا يركضون لا يعرفون من أين جاؤوا ولا إلى أين يذهبون، ولا يهدؤون إلاّ إذا هدّهم التعب فسقطوا نائمين كالقتلى!

وكذلك نحن إذ نعدو على طريق الحياة؛ نستبق كالمجانين ولكن لا ندري علامَ نتسابق، نعمل أبداً من اللحظة التي نفتح فيها عيوننا في الصباح إلى أن يغلقها النعاس في المساء، نعمل كل شيء إلا أن نفكر في أنفسنا أو ننظر من أين جئنا وإلى أين المصير!

وجردت دفاتري، أرى ماذا طلبت وماذا أُعطيت.

* * *

طلبت المجد الأدبي وسعيت له سعيه، وأذهبت في المطالعة حِدّة بصري وملأت بها ساعات عمري، وصرّمت الليالي الطِّوال أقرأ وأطالع، حتى لقد قرأت وأنا طالب كتباً من أدباء اليوم مَن لم يفتحها مرة لينظر فيها! وما كان لي أستاذ يبصرني طريقي ويأخذ بيدي، وما كان من أساتذتي مَن هو صاحب أسلوب في الكتابة يأخذني باتّباع أسلوبه، ولا كان فيهم مَن له قدم في الخطابة وطريقة في الإلقاء يسلكني مسلكه ويذهب بي مذهبه( ) . وما يسميه القراء أسلوبي في الكتابة ويدعوه المستمعون طريقتي في الإلقاء شيء مَنَّ الله به عليّ لا أعرفه لنفسي، لا أعرف إلاّ أني أكتب حين أكتب وأتكلم حين أتكلم منطلقاً على سجيتي وطبعي، لا أتعمد في الكتابة إثبات كلمة دون كلمة ولا سلوك طريق دون طريق، ولا أتكلف في الإلقاء رنّةً في صوتي ولا تصنّعاً في مخارج حروفي.

… وكنت أرجو أن أكون خطيباً يهز المنابر وكاتباً تمشي بآثاره البرد ، وكنت أحسب ذلك غاية المنى وأقصى المطالب، فلما نلته زهدت فيه وذهبت مني حلاوته، ولم أعد أجد فيه ما يُشتهى ويُتمنّى. وما المجد الأدبي؟ أهو أن يذكرك الناس في كل مكان وأن يتسابقوا إلى قراءة ما تكتب وسماع ما تذيع، وتتوارد عليك كتب الإعجاب وتقام لك حفلات التكريم؟ لقد رأيت ذلك كله، فهل تحبون أن أقول لكم ماذا رأيت فيه؟ رأيت سراباً… سراب خادع، قبض الريح!

وما أقول هذا مقالة أديب يبتغي الإغراب ويستثير الإعجاب، لا والله العظيم (أحلف لكم لتصدقوا) ما أقول إلاّ ما أشعر به. وأنا من ثلاثين سنة أعلو هذه المنابر وأحتل صدور المجلات والصحف، وأنا أكلم الناس في الإذاعة كل أسبوع مرة من سبع عشرة سنة إلى اليوم، ولطالما خطبت في الشام ومصر والعراق والحجاز والهند وأندونيسيا خطباً زلزلت القلوب، وكتبت مقالات كانت أحاديث الناس، ولطالما مرت أيام كان اسمي فيها على كل لسان في بلدي وفي كل بلد عشت فيه أو وصلت إليه مقالاتي، وسمعت تصفيق الإعجاب، وتلقيت خطب الثناء في حفلات التكريم، وقرأت في الكلام عني مقالات ورسائل، ودرَس أدبي ناقدون كبار ودُرّس ما قالوا في المدارس، وتُرجم كثير مما كتبت إلى أوسع لغتين انتشاراً في الدنيا: الإنكليزية والأردية، وإلى الفارسية والفرنسية… فما الذي بقى في يدي من ذلك كله؟ لا شيء. وإن لم يكتب لي الله على بعض هذا بعضَ الثواب أكُنْ قد خرجت صفر اليدين!

إني من سنين معتزل متفرد، تمر عليّ أسابيع وأسابيع لا أزور فيها ولا أزار، ولا أكاد أحدّث أحداً إلاّ حديث العمل في المحكمة أو حديث الأسرة في البيت. فماذا ينفعني وأنا في عزلتي إن كان في مراكش والهند وما بينهما مَن يتحدث عني ويمدحني، وماذا يضرني إن كان فيها من يذمني أو لم يكن فيها كلها مَن سمع باسمي؟

ولقد قرأت في المدح لي ما رفعني إلى مرتبة الخالدين، ومن القدح فيّ ما هبط بي إلى دركة الشياطين، وكُرِّمت تكريماً لا أستحقه وأُهملت حتى لقد دُعي إلى المؤتمرات الأدبية وإلى المجالس الأدبية الرسمية المبتدئون وما دُعيت منها إلى شيء، فألفت الحالين وتعوّدت الأمرين، وصرت لا يزدهيني ثناء ولا يهزّ السبُّ شعرةً واحدة في بدني.

أسقطت المجد الأدبي من الحساب لما رأيت أنه وهم وسراب.

* * *

وطلبت المناصب، ثم نظرت فإذا المناصب تكليف لا تشريف، وإذا هي مشقة وتعب لا لذّة وطرب، وإذا الموظف أسير مقيِّد بقيود الذهب، وإذا الجزع من عقوبة التقصير أكبر من الفرح بحلاوة السلطان، وإذا مرارة العزل أو الإعفاء من الولاية أكبر من حلاوة التولية. ورأيت أني مع ذلك كله قد اشتهيت في عمري وظيفة واحدة، سعيت لها وتحرّقت شوقاً إليها… هي أن أكون معلماً في المدرسة الأولية في قرية حرستا( ) وكان ذلك من أكثر من ثلاثين سنة، فلم أنلها فما اشتهيت بعدها غيرها.