صفحة 1 من 1

ادموند بيرك

مرسل: الأربعاء ديسمبر 21, 2011 4:14 am
بواسطة خالد المطيري 411
إدموند بـِرك Edmund Burke (و.12 يناير 1729[1] – ت.9 يوليو 1797) كان رجل دولة أيرلندي ومؤلف وخطيب ومنظر سياسي، وفيلسوف، بعد أن انتقل إلى إنگلترة، خدم في مجلس عموم المملكة المتحدة كعضو في حزب الهويگ. ويـُذكر عموماً لمعارضته الثورة الفرنسية. وقد أدى ذلك لأن يصبح الشخصية الرئيسية في الجناح المحافظ في حزب الهويگ، والذي سماه "الهويگ القدامى Old Whigs"، اعتراضاً منه على أنصار الثورة الفرنسية "الهويگ الجدد" بقيادة تشارلز جيمس فوكس. ويـُنظر إليه عموماً على أنه المؤسس الفلسفي للمحافظة معاصرة.[2]

ويضارع تأثير بت في السياسة الإنجليزية تأثير إدموند بيرك في الفكر الإنجليزي. وقد اختفى بت من المسرح في 1778، وظهر عليه بيرك في 1761، وظل يشد انتباه المثقفين من الإنجليز في فترات متقطعة حتى عام 1794، وربما كان مولده في دبلن (1729) لأحد المحامين عقبة في طريق كفاحه للمنصب والسلطة السياسيين، فهو لم يكن إنجليزياً إلا بالتبني، ولا عضواً في أي أرستقراطية إلا أرستقراطية الذهن. ولا بد أن كثلكة أمه وأخته كان لها دخل في عطفه طوال حياته على كاثوليك إنجلترا وإيرلندة، وتأكيده الذي لا بنى على الدين بوصفه حصناً لا غنى عنه للأخلاق والدولة. وقد تلقى تعليمه المدرسي في مدرسة للكويكر في بلتيمور، وفي كلية ترنتي بدبلن. وتعلم من اللاتينية ما يكفي للإعجاب بخطب شيشرون ولجعلها الأساس لأسلوبه البلاغي.

وفي 1750 انتقل إلى إنجلترا ليدرس القانون في "مدل تميل". وقد امتدح القانون فيما بعد لأنه "علم يعين على شحذ الفهم وتنشيطه أكثر من جميع ألوان المعرفة مجتمعة" ولكنه ذهب إلى أنه "لا يصلح لفتح مغاليق العقل وتحريره بذات القدر بالضبط، اللهم إلا في أشخاص محظوظي المولد"(20) وحوالي 1775 قبض أبوه عنه الراتب الذي يمده به بحجة أنه يهمل دراسة القانون مؤثراً عليها هوايات أخرى. ويبدو أن أدموند كان قد هوى الأدب، وكان يختلف إلى مسارح لندن وأنديتها الخطابية. وسرت أسطورة زعمت أنه هام بالممثلة الشهيرة بيج ووفنجتن. وكتب إلى صديق في 1757 يقول: "لقد كسرت كل قاعدة، وأهملت كل لياقة"، ووصف "أسلوب حياته" بأنه تتنوع فيه مختلف الخطط، فأنا في لندن، وأنا في أنحاء نائية من الريف، وأنا آخر في فرنسا، وعما قريب في أمريكا أن استجاب لي الله". وفيما خلا هذا لا نعرف عن بيرك شيئاً في سني الاختبار والتجريب تلك، اللهم إلا أنه في 1756، في تعاقب غير مؤكد، نشر كتابين رائعين وتزوج.

وأحد الكتابين عنوانه "دفاع عن المجتمع الطبيعي، أو نظرة إلى ألوان الشقاء والشر التي يجرها على البشر كل نوع من أنواع المجتمع الاصطناعي، خطاب إلى اللورد-بقلم كاتب نبيل متوفي". والمقال الذي بلغت صفحاته نحو خمس وأربعين، هو في عنوانه إدانة قوية لكل أنواع الحكم. فيه من النزعة الفوضوية أكثر كثيراً مما في مقال روسو "الأصل في عدم المساواة" الذي ظهر قبل ذلك بسنة فقط. وقد عرف بيرك المجتمع الطبيعي بأنه " مجتمع أساسه الرغبات والغرائز الفطرية لا أي نظام وضعي"(21). "فتطور القوانين كان انحطاطاً"(22)، وما التاريخ إلا سجلاً للمجازر والغدر والحرب، والمجتمع السياسي متهم بحق بأكبر قسط من هذا الدمار". وكل الحكومات تتبع المبادئ المكيافيلية، وترفض كل الضوابط الأخلاقية، وتعطي المواطنين مثالاً مفسداً للجشع والخديعة واللصوصية والقتل. والديموقراطية في أثينا وروما لم تأت بعلاج لشرور الحكم، لأنها سرعان ما انقلبت دكتاتورية بفضل قدرة زعماء الدهماء على الظفر بإعجاب الأغلبيات الساذجة. أما القانون فهو الظلم مقنناً، فهو يحمي الأغنياء المتبطلين من الفقراء المستغلين، ويضيف إلى ذلك شراً جديداً-هو المحامون " لقد أحال المجتمع السياسي الكثرة ملكاً للقلة". فانظر إلى حال عمال المناجم في إنجلترا، وفكر ملياً أكان من الممكن لأن يوجد شقاء كشقائهم في مجتمع طبيعي-أي قبل وضع القوانين-أفينبغي رغم ذلك أن نقبل الدولة، كما نقبل الدين الذي يساندها، على أنها قد استلزمتها طبيعة الإنسان؟ كلا على الإطلاق.

" إن كانت نيتنا أن نخضع عقلنا وحريتنا للاغتصاب المدني، فإنه لا سبيل أمامنا إلا الامتثال بكل ما نستطيع من هدوء للأفكار والتصورات السوقية (الشعبية) المرتبطة بهذا، واعتناق لاهوت السوقة وسياستهم سواء بسواء أما إذا رأينا هذه الضرورة وهمية لا حقيقية، فإننا سننبذ أحلامهم عن المجتمع كما ننبذ رؤاهم عن الدين، ونحرر أنفسنا حرية كاملة".

وفي هذا رنين شجاع وإخلاص غاضب من راديكالي شاب، فتي متدين روحاً ولكنه يرفض اللاهوت المقرر، شديد الإحساس بما رأى في إنجلترا من فقر وانحطاط، وصاحب موهبة واعية بذاتها ولكنها لم تزل بغير مكان ولا مقام في خضم العالم. وكل فتى يقظ يمر بهذا الطور في طريقه إلى المنصب، والثراء ثم النزعة المحافظة المرتاعة التي سنجدها في كتاب بيرك "تأملات في الثورة الفرنسية". ونلاحظ أن مؤلف "الدفاع" تخفى وراء اسم مجهول، حتى إلى حد ادعاء الموت. وقد فهم كل القراء تقريباً، بما فيهم وليم وربرتن وايرل تشسترفيلد الكتيب على أنه هجوم صادق على الرذائل الشائعة، ونسبه الكثيرون إلى الفيكونت بولنجيروك، لأن عبارة "كاتب نبيل متوفي" تنطبق عليه إذ كان قد مات عام 1751. وبعد نشر المقال بتسع سنوات رشح بيرك نفسه للانتخاب في البرلمان. وخشي أن تؤخذ فورة أيام الشباب حجة عليه، فأعاد طبع المقال في 1765 بمقدمة جاء في قسم منها "أن الغرض من القطعة الصغيرة التالية كان أن تبين أن... الأدوات (الأدبية) ذاتها التي استخدمت لتدمير الدين قد تستخدم بنجاح مماثل لقلب الحكومة". وقد قبل معظم كتاب سيرة بيرك هذا التفسير على أنه تفسير صادق مخلص، ونحن لا نستطيع أن نوافقهم على رأيهم ولكن نستطيع أن نفهم جهد المرشح السياسي لحماية نفسه من تحامل الشعب، فمن منا يكون له مستقبل لو عرف ماضيه؟

ويعدل "الدفاع" بلاغة ويفوقه حذقاً وبراعة مؤلف بيرك الآخر الذي نشره في 1756 وعنوانه "تحقيق فلسفي في أصل الجليل والجميل"، وقد أضاف إليه في الطبعة الثانية "مقال في الذوق" ولسنا نملك إلا الإعجاب بشجاعة الشاب ذي السبعة والعشرين عاماً الذي عالج هذه الموضوعات المحيرة قبل "لاوكون" لسبنج بعقد كامل. ولعله استرشد باستهلال الجزء الثاني من كتاب لوكريتويس عن "الطبيعة" الذي نصه "يطيب لك حين تلطم الرياح الأمواج في خضم عجاج أن تشهد من البر ما يكابده إنسان آخر من عنت شديد، لا لأنه مبعث بهجة أن تشهد شدة أي إنسان، بل لأنه جميل أن ترى من أي الشرور أنت نفسك قد نجوت". ومن ثم يكتب بيرك: "أن العواطف المشبوبة التي تنتمي لحفظ الذات تدور حول الألم والخطر؛ فهي ببساطة عواطف مؤلمة حين تؤثر أسبابها فينا تأثيراً مباشراً، وهي مبهجة حين يكون لدينا فكرة عن الألم والخطر دون أن نكون فعلاً في ظروف كهذه... وكل ما يثير هذا الابتهاج أسميه جليلاً". ويلي ذلك أن "كل الأعمال المتسمة بالعظيم من الجهد والنفقة والبهاء جليلة.. وكذلك كل الصروح الفائقة الغنى والأبهة... لأن العقل وهو يتأملها يطبق أفكار عظم المجهود اللازم لإنتاج مثل هذه الأعمال على الأعمال ذاتها". والغموض والظلام والخفاء كلها تعين على انبعاث إحساس بالجلال، ومن هنا حرص معماريي العصر الوسيط على ألا يسمحوا إلا للضوء الخافت المصفى بالتسلل إلى كتدرائياتهم. وقد أفاد القصص الرومانتيكي من هذه الأفكار كما نرى في قصة هوراس ولبول قلعة أوترانتو (1764) أو قصة آن رادكلف "خفايا أودلفو" (1794). يقول بيرك "أن الجمال اسم سأطلقه على كل الصفات في الأشياء تثير فينا إحساساً بالمحبة والحنان، أو أي عاطفة حارة أخرى قريبة الشبه بهما(33). وقد رفض رد الكلاسيكيين هذه الصفات إلى الانسجام والوحدة والتناسب والتماثل؛ فكلنا نتفق على أن البجعة جميلة مع أن عنقها الطويل وذيلها القصير غير متناسبين مع جسمها. والجميل يكون عادة صغيراً (وبهذا يكون نقيضاً للجليل). "لست أتذكر الآن شيئاً جميلاً لا يتصف بالنعومة"(34)، فالسطح المكسر أو الخشن، والزاوية الحادة أو النتوء الفجائي، كلها تضايقنا وتحد من سرورنا حتى في أشياء تكون جميلة لولا هذا "ومظهر الغلظ والقوة مؤذ جداً للجمال. أما مظهر الرقة، لا بل الهشاشة، فيكاد يكون أساسياً للجمال"(35). واللون يزيد من الجمال لا سيما إذا كان متنوعاً مشوقاً، دون أن يكون وهاجاً أو قوياً... ولم يسأل بيرك هل المرأة الجميلة لأنها صغيرة الحجم ناعمة رقيقة مشرقة، أم أن هذه الصفات تبدو جميلة لأنها تذكرنا بالمرأة، التي هي جميلة لأنها تشتهى.

على أية حال كانت جون نوجنت مشتهاة، فتزوجها بيرك في سنة 1756 المثمرة هذه. وكانت ابنة طبيب إيرلندي. وكانت كاثوليكية، ولكنها لن تلبث أن ارتضت الإنجليكانية مذهباً. وقد لطف طبعها الدمث الرقيق من مزاج زوجها الغضوب