ثلاث رؤى للعولمة
مرسل: السبت نوفمبر 29, 2008 9:31 pm
بقلم الأستاذ الدكتور/ محمد السيد سليم
لا توجد رؤية واحدة لمفهوم العولمة سواء على مستوى الأدبيات العالمية، أو أدبيات الدول الإسلامية، أو حتى المفكرين في الدول الإسلامية. فالعالم الإسلامي هو جزء من المنظومة الفكرية العالمية تنتشر فيه مختلف الرؤى والمفاهيم المطروحة حول العولمة.
ويمكننا استخلاص ثلاث رؤى رئيسية للعولمة نستعرضها بإيجاز، مع محاولة تلمس أبعاد رؤى إسلامية للعولمة بداخل كل منها:
رؤية "الليبرالية الجديدة" للعولمة: الرؤية الاندماجية
نقد العولمة: مفهوم "الاستعمار الجديد"
الرؤية "التفاعلية" للعولمة
رؤية "الليبرالية الجديدة" للعولمة: الرؤية الاندماجية
تتمثل الرؤية الأولى للعولمة فيما تطرحه المدرسة "الليبرالية الجديدة" من أفكار بخصوص التحولات في النسق العالمي بعد نهاية الحرب الباردة. وجوهر هذه الرؤية هو الاعتقاد الصارم بأن العولمة ظاهرة إيجابية ينبغي على الجميع التكامل معها واللحاق بها لأنها عملية "حتمية" لا فكاك منها، مما جعل بعض الدارسين يطلق على تلك الرؤية "الهوس بالعولمة"، وطبقا لهذه الرؤية، فإن العولمة تعني ظهور اقتصاد عالمي مفتوح ومتكامل، ونشأة نسق عالمي جديد يتخطى نسق الدولة القومية ويفوض السلطة إلى الشركات متعددة الجنسية وغيرها من المؤسسات عابرة القوميات.
كذلك تفترض تلك الرؤية أن المتغيرات الاقتصادية في ظل العولمة قد أصبح لها الأولوية على المتغيرات السياسية والثقافية، كما أن المتغيرات الاقتصادية قد أنشأت شبكة من المصالح الاقتصادية العالمية المتكاملة جعلت بدورها من المتغيرات الأخرى أقل شأنا من ذي قبل.
من ناحية أخرى فإن هذه الرؤية والتي يعد الباحث الأمريكي "توماس فريدمان" من أبرز المدافعين عنها، تؤكد أن العولمة هي "نظام دولي جديد يعتمد على التكامل بين رأس المال والتكنولوجيا والمعلومات التي تتخطى الحدود القومية للدول بطريقة نشأ عنها سوق عالمية واحدة. ومن ثم فإن العولمة ظاهرة اقتصادية - تكنولوجية بالأساس.
وفي هذه الظاهرة التي تجسد طبيعة النظام الدولي في حقبة ما بعد الحرب الباردة، فإن قوة الدول لا تقاس بمتوسط الدخل الفردي، وإنما بعدد خطوط شبكة الإنترنت التي تستخدم في الدولة، وكيفية استخدام وفهم وتوجيه تلك المعلومات. كذلك فإن العولمة ظاهرة إيجابية تؤدي إلى ارتقاء الدول التي ترتبط بها، وانحطاط الدول التي قد تحاول الانفصال عنها.
وعلى أي حال فإن العولمة أمر واقع وحتمي فسواء أعجبتنا العولمة أم لم تعجبنا، فهذا لن يغير من الأمر شيئا، فأنا لم أبدأ العولمة، ولا أستطيع في الوقت ذاته إيقافها. فالعولمة صارت حتمية ينبغي على الجميع الارتباط بها، وإلا حكم على المعارضين بالفناء.
وأخيرا فإن العولمة ظاهرة تلقائية نشأت نتيجة الثورة الصناعية الثالثة وما أثمرته من تقدم تكنولوجي، وهى ليست بالضرورة ظاهرة مقصودة تدفعها قوى دولية معينة. كذلك فإن الحل أمام دول الجنوب، ومنها الدول الإسلامية، هو الاندماج الكامل مع قوى العولمة. وكلما زادت سرعة هذا الاندماج زادت المكاسب المحتملة أمام تلك الدول، وإلا فإن قوى العولمة ستسحق دول الجنوب.
وفي هذا الإطار فإنه لا ينبغي التردد طويلاً أمام الشروط التي تفرضها القوى الدافعة للعولمة.
ويمكن القول إن تركيا تعتبر من أبرز المدافعين عن تلك الرؤية للعولمة من بين الدول الإسلامية. وفي هذا الإطار يأتي سعيها الحثيث للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وقبول شروطه الاقتصادية والسياسية والثقافية لدخول الاتحاد، بل والتعاون معه عسكرياً كما حدث في المرحلة الأخيرة.
ويمكن القول إن هذه الرؤية هي التي تسود خطاب كثير من القيادات الرسمية في العالم الإسلامي عند تحليلهم للعولمة. وتجد هذه الرؤية تعبيراً عنها في فكر الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف.
نقد العولمة: مفهوم "الاستعمار الجديد"
ينتمي إلى هذه الرؤية عدد من المدارس الفكرية والتيارات السياسية الشعبية غير المتجانسة والتي تستمد أصولها من فلسفات متباينة، ولكنها تشترك في قاسم مشترك أعظم وهو انتقاد العولمة والتركيز على آثارها السلبية، وإن كان هذا التركيز يتم بدرجات متفاوتة.
ومن تلك المدارس الفكرية مدرسة "الواقعية الجديدة"، ومدرسة "نظرية التبعية"، والمدرسة الماركسية التقليدية بالإضافة إلى التيارات الشعبية الداعية إلى الحفاظ على البيئة، وانتقاد إهمال العولمة للبعد الاجتماعي لعملياتها الاقتصادية، وهي التيارات التي تندرج تحت مصطلح "شعب سياتل" إشارة إلى القوى الاجتماعية التي تظاهرت في مدينة سياتل بالولايات المتحدة احتجاجا على مؤتمر منظمة التجارة العالمية المنعقد في تلك المدينة نوفمبر عام 1999، ومن المعروف أن تلك المنظمة هي أبرز المحركات الاقتصادية لعملية العولمة.
ويرى أنصار الواقعية الجديدة أنه لا جديد تحت الشمس في ظل العولمة. فالنظام الدولي للعولمة لم يغير من واقع أن الدولة القومية ما زالت هي الفاعل الرئيس في الساحة الدولية، كما أن عدم التكافؤ الدولي في ظل العولمة لم يقل، إنما ازداد.
كذلك يرى أنصار مدرسة مقاومة "التبعية" أن العولمة عملية تشير إلى سعي القوى الرأسمالية إلى الهيمنة على أسواق الجنوب وإلحاق اقتصادات الجنوب باقتصادات قوى العولمة، وأن الحل لا يكون بالاندماج مع العولمة، وإنما بمحاولة الفكاك منها واللجوء إلى الاعتماد على الذات سواء على مستوى الدولة أو مستوى التعاون بين دول الجنوب.
ويعد محاضير محمد -رئيس وزراء ماليزيا- من أبرز المعبرين عن تلك الرؤية للعولمة. فالعولمة في تقديره واجهة لإعادة استعمار الدول النامية. ففي خطابه أمام مؤتمر قمة الدول النامية الخمس عشرة المنعقد في جامايكا فبراير 1999 أشار إلى أن الدول الرأسمالية تسعى في إطار العولمة إلى إنشاء نظام سياسي واقتصادي واحد هو الرأسمالية مهما كانت النتائج. كما أنه في ظل تيار العولمة فإن الحديث عن الاقتصاد العالمي المتكامل والقرية العالمية، وعصر المعلوماتية وسهولة الانتقال يجب ألا يخفي أن الشركاء لن يكونوا متساويين. ففي ظل إزالة الحدود وأمام حركة رؤوس الأموال لتنتقل دون قيود فإن فقراء العالم الثالث وتجارتهم ليس مسموحا لهم بعبور الحدود إلى الدول الغنية، وستظل الحدود مغلقة كما هي. وفي ظل العولمة يستمر سباق التسلح، والضغط على الدول الفقيرة لشراء المزيد من الأسلحة لكي تعوض الدول المتقدمة ما أنفقته على البحث والتطوير العسكري. وفي ظل العولمة هناك ضغوط إعلامية لرفض أي نقد للعولمة.
لهذا فقد طالب بمحاولة الفكاك من قبضة القوى الدافعة للعولمة من خلال التعاون بين الدول الآسيوية وإنشاء صندوق النقد الآسيوي، ومن خلال اتباع إستراتيجية انتقائية عبر عنها بقوله: "قد تسقط الحدود مع المضي قدماً في العولمة لكن يمكننا أن نكون انتقائيين فيما يتعلق بشروط التجارة، والتوقيتات والنطاق. وليس هناك حاجة حقيقية لأن تسقط جميع الحدود أمام كل شيء وكل الناس في وقت محدد".
وتسود هذه الرؤية في كتابات المفكرين الإسلاميين مثل محمد عمارة وجمال البنا، حيث العولمة هي الوجه الآخر للهيمنة الغربية.
الرؤية "التفاعلية" للعولمة
تتحصل هذه الرؤية في أن العولمة هي أمر واقع ينبغي "التعامل" معه، وليس قبوله بكافة عناصره. ويقصد بالتعامل في هذا السياق الدخول في حوار حقيقي مع قوى العولمة بهدف الإقلال من الخسائر وتعظيم المكاسب. تفترض تلك الرؤية أن رفض العولمة، أو الدخول في "مواجهة" مع القوى الدافعة لها إنما ينطوي على مخاطر جسيمة.
بعبارة أخرى تركز تلك الرؤية على أهمية التعامل المتوازن مع القضايا التي تطرحها العولمة من خلال إستراتيجية تقوم على التعامل التدريجي، والربط من مختلف القضايا المطروحة.
فهذه الرؤية تنزع إلى فهم العولمة على أنها ظاهرة مركبة تتضمن أبعادا إيجابية يجب الاستفادة منها وأخرى سلبية ينبغي تفاديها. ففي مقابل الفرص الإيجابية التي أتاحتها العولمة، ومنها التطور الهائل في التكنولوجيا، وخاصة تكنولوجيا المعلومات، وزيادة تدفقات رؤوس الأموال، وانفتاح الأسواق، فإن هناك جوانب سلبية لهذه الفرص تبعث على الكثير من القلق المتمثل في استمرار مشاكل الفقر والجهل والديون وانتشار الأوبئة التي تهدد أمما بأكملها وتفشي ظاهرة تهميش المجتمعات النامية وحرمانها من جني ثمار العولمة مع ما يقترن بذلك من اتساع الفجوة التي تفصلها عن الفئات الأوفر حظاً.
وهاتان الصورتان وجهان متلازمان للعولمة ينبغي التعامل معهما. فمن الممكن خلال الحوار الإيجابي مع الدول الصناعية المتقدمة والمؤسسات المالية الدولية التغلب على الآثار السلبية وتحقيق تكامل اقتصاديات الدول النامية مع الاقتصاد العالمي.
وفيما يتعلق بالقضايا الناجمة عن العولمة والتي يتعين على الدول النامية أن تتعامل معها، فإن هذه الرؤية تركز على صياغة أجندة جديدة للنظام الدولي من خلال الحوار الإيجابي المتوازن مع الدول المتقدمة والمؤسسات المالية الدولية والأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة على أن يكون على قمة تلك الأجندة معالجة مشكلة الفقر، وحرية التجارة بشكل متكافئ بحيث تفتح الأسواق بشكل متبادل، مع وضع نظام تجاري عالمي منصف والتطبيق الكامل لاتفاقيات جولة أورجواي، وجذب رؤوس الأموال العالمية والاستثمارات إلى الدول النامية من خلال التعاون مع المؤسسات المالية الدولية، وتطوير آليات لتمكين الدول النامية من مواجهة الأزمات المالية الدولية.
ومن ثم فإن القضايا الجوهرية المرتبطة بالعولمة في الرؤية المصرية على سبيل المثال هي بالأساس قضايا اقتصادية. وتجد هذه الرؤية تعبيرا لها في الخطاب السياسي الرسمي المصري حول العولمة.
وتتضح هذه الرؤية كذلك، وإن كان بشكل أكثر ميلاً إلى انتقاد العولمة، في الرؤى الإيرانية التي ترى أن العولمة أنتجت آثارا سلبية على إيران ليس فقط في المجال الاقتصادي، وإنما في المجالين الأمني والثقافي كذلك. فالعولمة كما يقول المفكر الإيراني سجاد بور: "خلقت تهديدات جديدة ليس فقط بالنسبة لإيران ولكن لكل دول المنطقة ولكل دول العالم أيضا". فالعولمة الاقتصادية وسيطرة أدوات الاتصال والتقدم المذهل في وسائل نقل المعلومات، كل هذا يمكن أن يخلق شروخا عميقة في محيط الأمن الخارجي لإيران، كما أن العولمة "خلقت قواعد جديدة للأمن الخارجي وهذا يعد سببا لنشوء تهديدات جديدة كاملة لإيران". ويضيف "أن العولمة الثقافية لو اعتبرت محاولة لتوحيد الثقافات فإنها تعد بذلك تهديدا مباشرا للهوية الإسلامية الإيرانية".
ولكن سجاد بور يرى أن للعولمة نتائج إيجابية بالنسبة لإيران تتمثل في إمكانية دخول إيران كفاعل جديد في مجال تكنولوجيا المعلومات، كما أنها خلقت فرصا ملائمة للتعاون الإقليمي الاقتصادي، وأدت إلى انتشار الدبلوماسية متعددة الأطراف مما جعل لإيران وأعضاء المجتمع الدولي دورا مؤثرا في تشكيل القواعد الدولية الجديدة من خلال المؤتمرات الدولية المتعددة، مما خلق بدوره فرصاً جديدة لإيران.
ولدينا وثيقة إيرانية تعبر عن تلك الرؤية للعولمة وهى خطاب كمال خرازي وزير خارجية إيران في المؤتمر السابع والعشرين لوزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في كوالالمبور في يونيو سنة 2000. في هذا الخطاب أشار خرازي إلى أن العولمة أتت بتطوير في وسائل الاتصال؛ وإزالة الموانع التجارية، والتنمية الاقتصادية السريعة، وكلها تطورات إيجابية، لكنه أشار إلى أن "العولمة غير مقبولة" لأنها "تقدم مكاسبها وفوائدها بشكل غير عادل وغير منصف". إن ذلك محاولة لتبديل وجه السيطرة والاستيلاء والعنصرية ومحو الثقافات المختلفة لصالح ثقافة واحدة مسيطرة مهما كان اسمها.
وقد عبر خرازي عن تلك الرؤية في خطاب أمام مؤتمر قمة مجموعة الدول الثماني المنعقد في القاهرة في فبراير سنة 2001 فأشار إلى أن "العولمة لديها إمكانات كبيرة للإسهام الإيجابي للتنمية المستديمة والشاملة للبلدان النامية" لكن عندما تطبق على نحو أحادي فإن بوسعها أن تؤدي إلى مزيد من التهميش للبلدان النامية وتفاقم الفقر والجوع في الجنوب، وتوسيع الفجوة بين الغني والفقير، وأيضاً قد تزيد معاناة الكثير من مناطق هذا الكوكب ومواردها القليلة ونصيبها في التجارة العالمية.
من ناحية أخرى فالعولمة لا بد أن تثير قضايا اقتصادية مثل إصلاح النظام الاقتصادي الدولي بما يضمن مشاركة الدول النامية في اتخاذ القرار وتفادي الأزمات المالية والمشاركة الفعالة للدول النامية في المنتديات ومراكز تخطيط الاقتصاد العالمي بهذه المشاركة في البناء التجاري والمالي الدولي، وقضايا ثقافية مثل الحوار الحضاري العالمي لرفض الهيمنة الثقافية وبناء مجتمع مدني عالمي وهو ما عبر عنه خرازي في خطابه في كوالالمبور في يونيو سنة 2000 ثم في القاهرة في فبراير سنة 2001.
من الواضح إذن أنه لا توجد رؤية واحدة تسود دول الجنوب ولا الدول الإسلامية للعولمة، بل إن هذا التباين يمتد ليشمل مختلف الجماعات الثقافية ومؤسسات المجتمعين المدني وغير المدني. ويعكس ذلك اختلاف في ملامح التطور السياسي والاقتصادي للدول الإسلامية، ودرجات ارتباطها بالقوى الرأسمالية العالمية، والمشروعات الداخلية والإقليمية للنخبة السياسية الحاكمة، ومدى شعور تلك النخب والجماعات بالآثار المتباينة للعولمة. وهو ما يجعل من مهمة صياغة إستراتيجية إسلامية للتعامل مع العولمة مهمة معقدة.
لا توجد رؤية واحدة لمفهوم العولمة سواء على مستوى الأدبيات العالمية، أو أدبيات الدول الإسلامية، أو حتى المفكرين في الدول الإسلامية. فالعالم الإسلامي هو جزء من المنظومة الفكرية العالمية تنتشر فيه مختلف الرؤى والمفاهيم المطروحة حول العولمة.
ويمكننا استخلاص ثلاث رؤى رئيسية للعولمة نستعرضها بإيجاز، مع محاولة تلمس أبعاد رؤى إسلامية للعولمة بداخل كل منها:
رؤية "الليبرالية الجديدة" للعولمة: الرؤية الاندماجية
نقد العولمة: مفهوم "الاستعمار الجديد"
الرؤية "التفاعلية" للعولمة
رؤية "الليبرالية الجديدة" للعولمة: الرؤية الاندماجية
تتمثل الرؤية الأولى للعولمة فيما تطرحه المدرسة "الليبرالية الجديدة" من أفكار بخصوص التحولات في النسق العالمي بعد نهاية الحرب الباردة. وجوهر هذه الرؤية هو الاعتقاد الصارم بأن العولمة ظاهرة إيجابية ينبغي على الجميع التكامل معها واللحاق بها لأنها عملية "حتمية" لا فكاك منها، مما جعل بعض الدارسين يطلق على تلك الرؤية "الهوس بالعولمة"، وطبقا لهذه الرؤية، فإن العولمة تعني ظهور اقتصاد عالمي مفتوح ومتكامل، ونشأة نسق عالمي جديد يتخطى نسق الدولة القومية ويفوض السلطة إلى الشركات متعددة الجنسية وغيرها من المؤسسات عابرة القوميات.
كذلك تفترض تلك الرؤية أن المتغيرات الاقتصادية في ظل العولمة قد أصبح لها الأولوية على المتغيرات السياسية والثقافية، كما أن المتغيرات الاقتصادية قد أنشأت شبكة من المصالح الاقتصادية العالمية المتكاملة جعلت بدورها من المتغيرات الأخرى أقل شأنا من ذي قبل.
من ناحية أخرى فإن هذه الرؤية والتي يعد الباحث الأمريكي "توماس فريدمان" من أبرز المدافعين عنها، تؤكد أن العولمة هي "نظام دولي جديد يعتمد على التكامل بين رأس المال والتكنولوجيا والمعلومات التي تتخطى الحدود القومية للدول بطريقة نشأ عنها سوق عالمية واحدة. ومن ثم فإن العولمة ظاهرة اقتصادية - تكنولوجية بالأساس.
وفي هذه الظاهرة التي تجسد طبيعة النظام الدولي في حقبة ما بعد الحرب الباردة، فإن قوة الدول لا تقاس بمتوسط الدخل الفردي، وإنما بعدد خطوط شبكة الإنترنت التي تستخدم في الدولة، وكيفية استخدام وفهم وتوجيه تلك المعلومات. كذلك فإن العولمة ظاهرة إيجابية تؤدي إلى ارتقاء الدول التي ترتبط بها، وانحطاط الدول التي قد تحاول الانفصال عنها.
وعلى أي حال فإن العولمة أمر واقع وحتمي فسواء أعجبتنا العولمة أم لم تعجبنا، فهذا لن يغير من الأمر شيئا، فأنا لم أبدأ العولمة، ولا أستطيع في الوقت ذاته إيقافها. فالعولمة صارت حتمية ينبغي على الجميع الارتباط بها، وإلا حكم على المعارضين بالفناء.
وأخيرا فإن العولمة ظاهرة تلقائية نشأت نتيجة الثورة الصناعية الثالثة وما أثمرته من تقدم تكنولوجي، وهى ليست بالضرورة ظاهرة مقصودة تدفعها قوى دولية معينة. كذلك فإن الحل أمام دول الجنوب، ومنها الدول الإسلامية، هو الاندماج الكامل مع قوى العولمة. وكلما زادت سرعة هذا الاندماج زادت المكاسب المحتملة أمام تلك الدول، وإلا فإن قوى العولمة ستسحق دول الجنوب.
وفي هذا الإطار فإنه لا ينبغي التردد طويلاً أمام الشروط التي تفرضها القوى الدافعة للعولمة.
ويمكن القول إن تركيا تعتبر من أبرز المدافعين عن تلك الرؤية للعولمة من بين الدول الإسلامية. وفي هذا الإطار يأتي سعيها الحثيث للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وقبول شروطه الاقتصادية والسياسية والثقافية لدخول الاتحاد، بل والتعاون معه عسكرياً كما حدث في المرحلة الأخيرة.
ويمكن القول إن هذه الرؤية هي التي تسود خطاب كثير من القيادات الرسمية في العالم الإسلامي عند تحليلهم للعولمة. وتجد هذه الرؤية تعبيراً عنها في فكر الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف.
نقد العولمة: مفهوم "الاستعمار الجديد"
ينتمي إلى هذه الرؤية عدد من المدارس الفكرية والتيارات السياسية الشعبية غير المتجانسة والتي تستمد أصولها من فلسفات متباينة، ولكنها تشترك في قاسم مشترك أعظم وهو انتقاد العولمة والتركيز على آثارها السلبية، وإن كان هذا التركيز يتم بدرجات متفاوتة.
ومن تلك المدارس الفكرية مدرسة "الواقعية الجديدة"، ومدرسة "نظرية التبعية"، والمدرسة الماركسية التقليدية بالإضافة إلى التيارات الشعبية الداعية إلى الحفاظ على البيئة، وانتقاد إهمال العولمة للبعد الاجتماعي لعملياتها الاقتصادية، وهي التيارات التي تندرج تحت مصطلح "شعب سياتل" إشارة إلى القوى الاجتماعية التي تظاهرت في مدينة سياتل بالولايات المتحدة احتجاجا على مؤتمر منظمة التجارة العالمية المنعقد في تلك المدينة نوفمبر عام 1999، ومن المعروف أن تلك المنظمة هي أبرز المحركات الاقتصادية لعملية العولمة.
ويرى أنصار الواقعية الجديدة أنه لا جديد تحت الشمس في ظل العولمة. فالنظام الدولي للعولمة لم يغير من واقع أن الدولة القومية ما زالت هي الفاعل الرئيس في الساحة الدولية، كما أن عدم التكافؤ الدولي في ظل العولمة لم يقل، إنما ازداد.
كذلك يرى أنصار مدرسة مقاومة "التبعية" أن العولمة عملية تشير إلى سعي القوى الرأسمالية إلى الهيمنة على أسواق الجنوب وإلحاق اقتصادات الجنوب باقتصادات قوى العولمة، وأن الحل لا يكون بالاندماج مع العولمة، وإنما بمحاولة الفكاك منها واللجوء إلى الاعتماد على الذات سواء على مستوى الدولة أو مستوى التعاون بين دول الجنوب.
ويعد محاضير محمد -رئيس وزراء ماليزيا- من أبرز المعبرين عن تلك الرؤية للعولمة. فالعولمة في تقديره واجهة لإعادة استعمار الدول النامية. ففي خطابه أمام مؤتمر قمة الدول النامية الخمس عشرة المنعقد في جامايكا فبراير 1999 أشار إلى أن الدول الرأسمالية تسعى في إطار العولمة إلى إنشاء نظام سياسي واقتصادي واحد هو الرأسمالية مهما كانت النتائج. كما أنه في ظل تيار العولمة فإن الحديث عن الاقتصاد العالمي المتكامل والقرية العالمية، وعصر المعلوماتية وسهولة الانتقال يجب ألا يخفي أن الشركاء لن يكونوا متساويين. ففي ظل إزالة الحدود وأمام حركة رؤوس الأموال لتنتقل دون قيود فإن فقراء العالم الثالث وتجارتهم ليس مسموحا لهم بعبور الحدود إلى الدول الغنية، وستظل الحدود مغلقة كما هي. وفي ظل العولمة يستمر سباق التسلح، والضغط على الدول الفقيرة لشراء المزيد من الأسلحة لكي تعوض الدول المتقدمة ما أنفقته على البحث والتطوير العسكري. وفي ظل العولمة هناك ضغوط إعلامية لرفض أي نقد للعولمة.
لهذا فقد طالب بمحاولة الفكاك من قبضة القوى الدافعة للعولمة من خلال التعاون بين الدول الآسيوية وإنشاء صندوق النقد الآسيوي، ومن خلال اتباع إستراتيجية انتقائية عبر عنها بقوله: "قد تسقط الحدود مع المضي قدماً في العولمة لكن يمكننا أن نكون انتقائيين فيما يتعلق بشروط التجارة، والتوقيتات والنطاق. وليس هناك حاجة حقيقية لأن تسقط جميع الحدود أمام كل شيء وكل الناس في وقت محدد".
وتسود هذه الرؤية في كتابات المفكرين الإسلاميين مثل محمد عمارة وجمال البنا، حيث العولمة هي الوجه الآخر للهيمنة الغربية.
الرؤية "التفاعلية" للعولمة
تتحصل هذه الرؤية في أن العولمة هي أمر واقع ينبغي "التعامل" معه، وليس قبوله بكافة عناصره. ويقصد بالتعامل في هذا السياق الدخول في حوار حقيقي مع قوى العولمة بهدف الإقلال من الخسائر وتعظيم المكاسب. تفترض تلك الرؤية أن رفض العولمة، أو الدخول في "مواجهة" مع القوى الدافعة لها إنما ينطوي على مخاطر جسيمة.
بعبارة أخرى تركز تلك الرؤية على أهمية التعامل المتوازن مع القضايا التي تطرحها العولمة من خلال إستراتيجية تقوم على التعامل التدريجي، والربط من مختلف القضايا المطروحة.
فهذه الرؤية تنزع إلى فهم العولمة على أنها ظاهرة مركبة تتضمن أبعادا إيجابية يجب الاستفادة منها وأخرى سلبية ينبغي تفاديها. ففي مقابل الفرص الإيجابية التي أتاحتها العولمة، ومنها التطور الهائل في التكنولوجيا، وخاصة تكنولوجيا المعلومات، وزيادة تدفقات رؤوس الأموال، وانفتاح الأسواق، فإن هناك جوانب سلبية لهذه الفرص تبعث على الكثير من القلق المتمثل في استمرار مشاكل الفقر والجهل والديون وانتشار الأوبئة التي تهدد أمما بأكملها وتفشي ظاهرة تهميش المجتمعات النامية وحرمانها من جني ثمار العولمة مع ما يقترن بذلك من اتساع الفجوة التي تفصلها عن الفئات الأوفر حظاً.
وهاتان الصورتان وجهان متلازمان للعولمة ينبغي التعامل معهما. فمن الممكن خلال الحوار الإيجابي مع الدول الصناعية المتقدمة والمؤسسات المالية الدولية التغلب على الآثار السلبية وتحقيق تكامل اقتصاديات الدول النامية مع الاقتصاد العالمي.
وفيما يتعلق بالقضايا الناجمة عن العولمة والتي يتعين على الدول النامية أن تتعامل معها، فإن هذه الرؤية تركز على صياغة أجندة جديدة للنظام الدولي من خلال الحوار الإيجابي المتوازن مع الدول المتقدمة والمؤسسات المالية الدولية والأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة على أن يكون على قمة تلك الأجندة معالجة مشكلة الفقر، وحرية التجارة بشكل متكافئ بحيث تفتح الأسواق بشكل متبادل، مع وضع نظام تجاري عالمي منصف والتطبيق الكامل لاتفاقيات جولة أورجواي، وجذب رؤوس الأموال العالمية والاستثمارات إلى الدول النامية من خلال التعاون مع المؤسسات المالية الدولية، وتطوير آليات لتمكين الدول النامية من مواجهة الأزمات المالية الدولية.
ومن ثم فإن القضايا الجوهرية المرتبطة بالعولمة في الرؤية المصرية على سبيل المثال هي بالأساس قضايا اقتصادية. وتجد هذه الرؤية تعبيرا لها في الخطاب السياسي الرسمي المصري حول العولمة.
وتتضح هذه الرؤية كذلك، وإن كان بشكل أكثر ميلاً إلى انتقاد العولمة، في الرؤى الإيرانية التي ترى أن العولمة أنتجت آثارا سلبية على إيران ليس فقط في المجال الاقتصادي، وإنما في المجالين الأمني والثقافي كذلك. فالعولمة كما يقول المفكر الإيراني سجاد بور: "خلقت تهديدات جديدة ليس فقط بالنسبة لإيران ولكن لكل دول المنطقة ولكل دول العالم أيضا". فالعولمة الاقتصادية وسيطرة أدوات الاتصال والتقدم المذهل في وسائل نقل المعلومات، كل هذا يمكن أن يخلق شروخا عميقة في محيط الأمن الخارجي لإيران، كما أن العولمة "خلقت قواعد جديدة للأمن الخارجي وهذا يعد سببا لنشوء تهديدات جديدة كاملة لإيران". ويضيف "أن العولمة الثقافية لو اعتبرت محاولة لتوحيد الثقافات فإنها تعد بذلك تهديدا مباشرا للهوية الإسلامية الإيرانية".
ولكن سجاد بور يرى أن للعولمة نتائج إيجابية بالنسبة لإيران تتمثل في إمكانية دخول إيران كفاعل جديد في مجال تكنولوجيا المعلومات، كما أنها خلقت فرصا ملائمة للتعاون الإقليمي الاقتصادي، وأدت إلى انتشار الدبلوماسية متعددة الأطراف مما جعل لإيران وأعضاء المجتمع الدولي دورا مؤثرا في تشكيل القواعد الدولية الجديدة من خلال المؤتمرات الدولية المتعددة، مما خلق بدوره فرصاً جديدة لإيران.
ولدينا وثيقة إيرانية تعبر عن تلك الرؤية للعولمة وهى خطاب كمال خرازي وزير خارجية إيران في المؤتمر السابع والعشرين لوزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في كوالالمبور في يونيو سنة 2000. في هذا الخطاب أشار خرازي إلى أن العولمة أتت بتطوير في وسائل الاتصال؛ وإزالة الموانع التجارية، والتنمية الاقتصادية السريعة، وكلها تطورات إيجابية، لكنه أشار إلى أن "العولمة غير مقبولة" لأنها "تقدم مكاسبها وفوائدها بشكل غير عادل وغير منصف". إن ذلك محاولة لتبديل وجه السيطرة والاستيلاء والعنصرية ومحو الثقافات المختلفة لصالح ثقافة واحدة مسيطرة مهما كان اسمها.
وقد عبر خرازي عن تلك الرؤية في خطاب أمام مؤتمر قمة مجموعة الدول الثماني المنعقد في القاهرة في فبراير سنة 2001 فأشار إلى أن "العولمة لديها إمكانات كبيرة للإسهام الإيجابي للتنمية المستديمة والشاملة للبلدان النامية" لكن عندما تطبق على نحو أحادي فإن بوسعها أن تؤدي إلى مزيد من التهميش للبلدان النامية وتفاقم الفقر والجوع في الجنوب، وتوسيع الفجوة بين الغني والفقير، وأيضاً قد تزيد معاناة الكثير من مناطق هذا الكوكب ومواردها القليلة ونصيبها في التجارة العالمية.
من ناحية أخرى فالعولمة لا بد أن تثير قضايا اقتصادية مثل إصلاح النظام الاقتصادي الدولي بما يضمن مشاركة الدول النامية في اتخاذ القرار وتفادي الأزمات المالية والمشاركة الفعالة للدول النامية في المنتديات ومراكز تخطيط الاقتصاد العالمي بهذه المشاركة في البناء التجاري والمالي الدولي، وقضايا ثقافية مثل الحوار الحضاري العالمي لرفض الهيمنة الثقافية وبناء مجتمع مدني عالمي وهو ما عبر عنه خرازي في خطابه في كوالالمبور في يونيو سنة 2000 ثم في القاهرة في فبراير سنة 2001.
من الواضح إذن أنه لا توجد رؤية واحدة تسود دول الجنوب ولا الدول الإسلامية للعولمة، بل إن هذا التباين يمتد ليشمل مختلف الجماعات الثقافية ومؤسسات المجتمعين المدني وغير المدني. ويعكس ذلك اختلاف في ملامح التطور السياسي والاقتصادي للدول الإسلامية، ودرجات ارتباطها بالقوى الرأسمالية العالمية، والمشروعات الداخلية والإقليمية للنخبة السياسية الحاكمة، ومدى شعور تلك النخب والجماعات بالآثار المتباينة للعولمة. وهو ما يجعل من مهمة صياغة إستراتيجية إسلامية للتعامل مع العولمة مهمة معقدة.