صفحة 1 من 1

كوسوفا جرح ينزف

مرسل: الأربعاء ديسمبر 21, 2011 5:20 am
بواسطة عبد المجيد الراجحي
روجوفا.. غاندي البلقان
سادت كوسوفو حالة من الحزن عقب وفاة الرئيس إبراهيم روجوفا، قائد حركة تحرير ألبان كوسوفو، الذي يلقبه البعض بـغاندي البلقان، في يوم السبت الموافق 21 يناير 2006م، عن عمر يناهز الـ62 سنة، وكان قد أصيب بسرطان الرئة في سبتمبر 2005م.



كان قدر روجوفا أن يولد سنة 1944م، والحرب العالمية الثانية على وشك الانتهاء، لتتشكل بعد الحرب الإمبراطورية السوفيتية والبلدان التي تدور في فلكها، ومن بينها الاتحاد اليوغوسلافي السابق.



ولا يذكر روجوفا من تلك المرحلة إلا ما قرأه عنها بعد ذلك، لكنه عاش وترعرع في ظل نظام الرئيس اليوغوسلافي الأسبق جوزيف بروز تيتو، الذي تولى الحكم في يوغوسلافيا على رقعة جغرافية واسعة ضمت صربيا، والجبل الأسود، والبوسنة، وكرواتيا، وسلوفينيا، ومقدونيا، بالإضافة إلى كوسوفو.



وفي فترة الخمسينيات والستينيات كانت الأشواق القومية لا تزال متأججة، رغم سقوط النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، واستسلام اليابان بعد ناجازاكي وهيروشيما، وأثار ذلك شغف إبراهيم روجوفا، ولامس شيئا في نفسه، تجاه وطنه الأم ألبانيا، وعلى الأقل كوسوفو، وكان ذلك بعد إنهائه التعليم الابتدائي والثانوي في مسقط رأسه، وتحوله للدراسة في جامعة السوربون بـفرنسا، حيث درس اللسانيات وعلوم اللغة.



ورغم أنه قرأ لأنصار الحريات العامة من المنظرين الفرنسيين، أمثال مونتسكيو وروسو وفولتير، ورموز الثورة الفرنسية، إلا أن هواه كان شرقيًّا، متأثرًا بـالمهاتما غاندي، إلى جانب تأثره برموز حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية، مثل مارتن لوثر كنغ، ثم مالكوم إكس. وفي العالم العربي قرأ روجوفا لـجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، كما كان يبدي اهتماما خاصا بفلسفة محمد إقبال.



ورغم اهتمام روجوفا بالتجارب الفكرية والتحررية في العالم، وإعجابه ونقده لها، إلا أنه ركز جل اهتمامه على بلده كوسوفو الذي عانى منذ عدة قرون من الصقالبة الجنوبيين، وما يعرف في المنطقة باسم السلاف القادمين لمنطقة البلقان، من جبال شمال آسيا في القرن التاسع، الذين عكروا صفو حياة الأرناؤوطيين الألبان سكان المنطقة الأصليين.



وقد توسع السلاف في المنطقة واستوطنوا عدة مناطق، ولاسيما ما يعرف اليوم باسم صربيا والجبل الأسود، والبوسنة، وجزء من مقدونيا، وكرواتيا، وكوسوفو. ولم يندحر الصرب عسكريًّا إلا بعد وصول العثمانيين إلى المنطقة، ومثلت معركة كوسوفو الحاسمة في سنة 938 هـ= 1389م منعرجًا تاريخيًّا مُهِمًّا في تاريخ البلقان وكوسوفو، حيث انهزم الصرب أمام العثمانيين، وقتل ملكهم لازار.



لكن ضعف العثمانيين وانحسار ظلهم عن المنطقة، عقب حرب البلقان 1912، 1913م- مكّن الصرب من احتلال كوسوفو مرة أخرى. وقد استمرت المقاومة الألبانية للاحتلال الصربي متقطعة على مر العصور، واشتعلت بعد الحرب العالمية الثانية. ففي عام 1945م جرت مصادمات مسلحة بين الألبان والصرب، أعقبها موجة من القمع المنظم مارسها نظام تيتو ضد الألبان في كوسوفو، وأجبر آلاف الشبان على الهجرة إلى تركيا.



واستمر التململ الشعبي لعدة سنوات، وأخذ أشكالاً مختلفة من التعبير، لاسيما مظاهرات الطلبة الألبان، واحتجاجات سنة 1968م التي تعتبر من المحطات المهمة في تاريخ حركة التحرر الألباني، وهو ما دفع السلطات الشيوعية منح كوسوفو حكما ذاتيا. إلا أن تلك الإصلاحات لم تكن عميقة بدرجة تلبي مطالب الألبان؛ فعادت الاضطرابات مجددًا عام 1981م، وجوبهت الاحتجاجات السلمية بإطلاق الرصاص؛ فسقط العشرات منهم مضرجين بالدماء بين قتيل وجريح في ساحات بريشتينا، وبريزرن، وكوسفيسكا ميتروفيتسا، وغيرها.



وبعد بضع سنين، تغيرت المعادلة؛ حيث عمد الألبان لأسلوب آخر، هو النيل من المستوطنين الصرب، الذين جيء بهم من كرواتيا والبوسنة وصربيا والجبل الأسود، لتحقيق توازن ديمغرافي مع الألبان في كوسوفو. ففي 1988م تظاهر نحو 6 آلاف من المستوطنين الصرب ضد ما وصفوه بالمضايقات الألبانية. ولم يتأخر رد ديكتاتور صربيا الجديد آنذاك سلوبودان ميلوسيفيتش، فأعلن في سنة 1989م إلغاء الحكم الذاتي لـكوسوفو، مُظهرًا وجهًا قوميًّا عنصريًّا سافرًا، مُعلنًا حمايته للصرب.



وقد كان خطاب ميلوسيفيتش نقطة تحول، ليس على مستوى الأوضاع في كوسوفو فحسب، بل يوغوسلافيا السابقة برمتها، وكان قرار إلغاء الحكم الذاتي في كوسوفو بمثابة إلغاء لـيوغوسلافيا السابقة، وإعادة ترسيم الخارطة الجغرافية بـالبلقان، بعد انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي، وظهور ما سمي في ذلك الوقت بالنظام العالمي الجديد. وبعد ذلك تطورت الأوضاع وظهرت حركات تطالب بالاستقلال التام عن يوغوسلافيا، في كل من كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا والبوسنة وكوسوفو، فقد جرت مصادمات جديدة بين الصرب والألبان في سنة 1990م وأعلنت كرواتيا وسلوفينيا الاستقلال عن يوغوسلافيا، وطالبت ألبانيا باستقلال كوسوفو.



لم يكن إبراهيم روجوفا غائبا عن تلك الأحداث فعندما أعلن ميلوسيفيتش إلغاء الحكم الذاتي في كوسوفو كان روجوفا رئيسا لاتحاد الكتاب الألبان. وفي 1990م طالب بإعادة الحكم الذاتي لـكوسوفو وأعلن عن تشكيل حزب الرابطة الديمقراطية.



وفي 1992م انتخب من قبل شعبه رئيسًا لجمهورية كوسوفو التي لم تعترف بها بلغراد، وتصاعد الغليان في كوسوفو باعتقال عشرات الألبان. ولاحقًا تم التوصل إلى اتفاقية ذايتون بين الفرقاء في قاعدة دايتون العسكرية بولاية أوهايو الأمريكية في 21 نوفمبر 1995م، وتوقيعها بضمانات دولية في 14 ديسمبر من نفس العام في باريس، مصدر إلهام كبيراً للألبان في كوسوفو، وشجعت الألبان على المطالبة بالاستقلال.



كما غير روجوفا رأيه من المطالبة بحكم ذاتي إلى الدعوة إلى استقلال كوسوفو، وطرأ على الساحة الألبانية في منتصف تسعينيات القرن الماضي تغيير كبير على صعيد الأفكار، ولم تعد توجهات روجوفا السلمية، المستندة إلى مبادئ المهاتما غاندي، تقنع الكثير من الشباب الألباني في كوسوفو، لاسيما أن جمهوريات سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة تمكنت من تحقيق الاستقلال، باستخدام النضال المسلح، بينما ظلت كوسوفو أسيرة الهيمنة الصربية، ولم تسعفها طريقة غاندي في الحصول على الاستقلال، وبدا روجوفا في نظر الكثير من الشباب مؤمنًا بنظرية تناسخ الحلول والتجارب التي أثبتت عقمها في كوسوفو على الأقل.



وقد أدى ذلك التقييم إلى ظهور قيادات جديدة تدعو للكفاح المسلح، وظهر جيش تحرير كوسوفو، ليس كتهديد للاحتلال الصربي فحسب، بل لزعامة روجوفا ذاته. إلا أن روجوفا عبر عن ارتياحه بعد صدور قرار مجلس الأمن في 24 أكتوبر 2005م، القاضي ببدء محادثات الوضع النهائي في كوسوفو، وتعيين مارتي أهتساري مبعوثًا خاصًّا للأمين العام للأمم المتحدة لمباحثات الوضع النهائي، ورحب روجوفا بذلك واعتبره خطوة على الطريق الصحيح، وقال: "هذا القرار انتظرناه طويلا، وعندما تصبح كوسوفو دولة مستقلة ستكون بلغراد وبريشتينا شريكتين ضمن العائلة الأوربية والمجتمع الدولي".