By عبدالله البقمي - الأربعاء ديسمبر 21, 2011 2:52 pm
- الأربعاء ديسمبر 21, 2011 2:52 pm
#44978
--------------------------------------------------------------------------------
المسألة التربوية في الوطن العربي وتحديات عصر العولمة :مصاعب الحاضر و مطالب المستقبل
تمهيد: التربية ومتغيرات مناخ العصر: في الحاجة إلى التشخيص والفهم والاستشراف.
لم يسبق للنظام التربوي أن واجه، على المستوى الكوني، مصاعب وتحديات أعمق وأخطر مما أصبح يواجهه حاليا في زمن العولمة الموسوم بالكثير من التحولات والمستجدات المعرفية والتقنية والقيمية والسوسيوحضارية المختلفة الأبعاد والدلالات والمستتبعات.
في ظل هذا النظام العالمي الجديد المعولَم، غدا لِزاما، وأكثر من أي وقت مضى، البحث عن وسائل منهجية لمقاربات تشخيصية لمشهدية الوضع التربوي الراهن، محليا وكونيا، كخطوة أُولى ضرورية للتوصيف والتعرية والفهم. ثم البحث، ثانيا، عن تحديد واضح الرؤى للأُطر المرجعية والنماذج الإرشادية: Paradigmes الموجهة لمنطلقات الإصلاح والتجاوز. وثالثا، وضع الخطط والاستراتيجيات والبرامج والسيناريوهات المتعلقة بما ينبغي أن يكون عليه » تعليم المستقبــل« أو » مدرسة المستقبل«، مما هو قابل للتنفيذ والتطبيق و»الإخراج « في إطار نموذج تربوي جديد. ثم رابعا، تعيين الأدوات ووسائل العمل والأجهزة والفاعلين والعمليات... أي كل ما هو كفيل بمسائل التدبير العملي لمسلسلات التجديد والإصلاح، ووضع مشاريعها وبرامجها موضع الإنجاز المتعين على أرضية الواقع الفعلي(1).
وإذا كانت هذه العلميات الآنفة، من تشخيص وتصور وتخطيط وتدبير، قضايا يختلف الاهتمام بها والتعامل معها من سياق مجتمعي إلى آخر، وإذا كانت قد عقدت من أجل تدارسها لقاءات وندوات ومؤتمرات ... ووضعت ، من أجل التحكم فيها، محاولات هامة من البرامج والمشاريع ومواثيق الإصلاح، عالميا وقوميا ووطنيا، فإننا نريد أن نؤكد على أننا لا نستهدف هنا ـ نظرا لمحدودية المقام ـ إنجاز مقاربة تحليلية ونقدية مفصلة لكل أبعاد ومكونات العمليات الآنفة،وإنما نريد، فقط ، تسجيل بعض الملاحظات النقدية التي يمكن أن تشكل مقدمات منهجية لبعض جوانب هذه المقاربة، والتي قد تتعدد إشكالاتها وأطرها التخصصية ومداخلها النظرية والتطبيقية (2) .
إن أهم ما نراهن عليه هنا بالذات هو أن نستحضر في هذه الملاحظات» مناخ العصر« وآثار عولمته الزاحفة على تبدلاته وأحواله. وخاصة ما يرتبط منها بمجالات التربية والتعليم والتكوين وإعداد البشر: مشكلات وتحديات وأساليب مواجهة وإصلاح وتجديد ... (3) وما لهذا الزخم الكوني كله من ارتباط وثيق أيضا بتطور أنساق القيم والمعرفة والاقتصاد والاجتماع والثقافة في سياق عولمة سريعة الوتائر والذيوع والتغلغل في مفاصل الحياة الفردية والجماعية محليا وكونيا (4).
أولا: راهن المشهد التربوي في الوطن العربي: نحو مقاربة سوسيو تاريخيةبنائية لمفهوم الأزمة القائمة
تجمع نتائج وخلاصات العديد من البحوث والدراسات والمؤتمرات على أن الوضع البشري يجتاز في زمن العولمة، وعلى المستوى الكوني العام، منعطفا تحوليا حاسما في جميع المجالات، ومن بين أهمها حقل التربية والتعليم، الذي تأزم على أكثر من صعيد. غير أنه إذا كان هناك إجماع شبه عام على كونية هذه الأزمة وشموليتها ، فإن التشخيص العلمي الدقيق لعواملها وأبعادها ومكوناتها وامتداداتها وتمظهراتها... مسألة تتطلب، في إطار التحوط المنهجي، أن تؤخذ في الاعتبار مجموعة من الحيثيات، أهمها:
1ـ إن تشخيص أزمة نظام التربية والتعليم والتكوين في كل مكوناتها السالفة الذكر، يجب أن يقوم، ضرورة، على ربطها بالسياقات والشروط الاجتماعية المتمايزة التي كان لها دور ما في إفرازها، إنتاجها وإعادة إنتاج شروط إنتاجها في أوضاع محددة في الزمان والمكان. وذلك هو واقع النظم التربوية في الوطن العربي، رغم ما بينها من قواسم مشتركة.
2 ـ تحديد الأهمية النسبية لدور ومكانة كل من هذه الشروط والعوامل: سياسية، إقتصادية، ثقافية، إجتماعية ... الخ، والتمييز فيها بين الأسباب والنتائج، والسوابق واللواحق.
3 ـ يجب الا يمنع هذا التحديد بلورة منظور شمولي للأزمة التربوية يتجاوز المقاربة الاختزالية التبسيطية لها، والتي تفسرها بأحد جوانبها أو أبعادها، والنظر إليه كما لو كان محددا ومفسرا لكل مكوناتها المتشابكة التعقيد والتركيب ...
4 ـ تقتضي هذه الحيثيات كلها اعتبار هذه الأزمة ظاهرة بنيوية مركبة، وأنها، على مستوى خلفيتها السوسيولوجية، جزء من أوضاع اجتماعية شمولية، أي من كل مجتمعي هيكلي مأزوم، سواء على المستوى القطري أو على المستوى القومي العربي العام.
5 ـ وبناء على ذلك فإن الأزمات التربوية تختلف، من حيث عوامل إنتاجها ومن حيث حدتها وعمقها ومظاهرها وامتداداتها...، من وضع مجتمعي إلى آخر. وذلك بما يتسم به كل وضع من خصوصيات، ومن شروط ترتبط بمستوى تقدمه الاقتصادي والاجتماعي الخاص، وبطبيعة اشتغال بنياته ومؤسساته وأجهزته السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية والاجتماعية المتعددة. ولنستحضر هنا راهن» المسألة التربوية« في مجتمعاتنا العربية بما لها من دلالات وجوانب وأبعاد ...
6 ـ إن أزمة النظم التربوية، سواء في المجتمعات المتقدمة أو في مجتمعات العالم الثالث، كما هو وضع الوطن العربي، ليست ناجمة فقط عن عوامل أو مفعولات محض عولمية رغم خطورة وثقل التحديات والإكراهات التي أصبحت تطرحها التحولات الراهنة للعولمة على نظم وسياسات التربية والتعليم والتكوين في كافة المجتمعات ، وإنما هي منتوج لتفاعل العديد من الشروط والعوامل البالغة التشابك والتعقيد(5).
وباعتماد تحليل سوسيو بنائي وتاريخي، لهذه الأزمة المعنية هنا، يمكن القول: إنها منتوج مجموعتين متناظمتين ومتداخلتين من العوامل والأسباب: عوامل ذاتية خاصة ترتبط بخصوصية الفضاء المجتمعي المحدد في الزمان والمكان، وبالكيفية المحددة لآليات اشتغال بنياته وهياكله الذاتية: الدولة، نسق الاقتصاد، المنظومات القيمية، ونماذج السلوك... وما يرتبط بكل ذلك من تراتبات فئوية أو طبقية، ونخب سائدة، ومصالح ورهانات، وسلط متنفذة... الخ. وهي خصوصيات تشرط تفاعل كل مجتمع مع مشكلاته وأزماته، بل ومع مختلف أساليب فهمها والتعامل معها والعمل على تخطيها وتجاوزها… مما يختلف من مجتمع إلى آخر. ثم هناك عوامل سوسيوتاريخية موضوعية تعود، بالأساس، إلى طبيعة علاقات مجتمع ما بأوضاع وشروط تاريخية معينة تحددها ارتباطاتها مع معطيات الظرفية، وكذا علاقات المجتمع ذاته مع غيره من المجتمعا ت في سياق حضاري محلي، أو إقليمي، أو كوني عام. إنها، إذن، عوامل موضوعية لا ترجع إلى الشروط الذاتية الخاصة بالمجتمع المعني، بل إلى حيثيات » خارجيــة« تحيـل إلى» المجال الحيوي« التاريخي الذي ارتبط به تفاعل وتطور المجتمع ذاك (6).
وفي هذا الإطار، بالذات، يمكن أن نذكر بما كان للاستعمار كظاهرة كونية متميزة، وبأشكاله القديمة والجديدة، والكلاسيكية والمتطورة، من آثار ـ سلبية في مجملها ـ على نظمنا التربوية والاجتماعية بشكل عام. وفي ذات الإطار أيضا يمكن استحضار ظاهرة العولمة كواقعة كونية جديدة معممة وشاملة، بما أصبح لها من آثار على المنتظم الكوني بكل سياقاته الاجتماعية المختلفة، وبما غدت تثيره من ردات فعل ومن تصورات ومواقف ومخاوف … ومن أنماط متباينة في فهمها واستيعاب متغيراتها ومحمولاتها ومضامينها الفكرية والقيمية والاجتماعية والحضارية … وأيضا في أشكال التعامل معها رفضا أو قبولا أو لامبالاة أو دعوة إلى الانخراط في كوكبة الأنصار المبشرين بخيراتها وفوائدها ووعودها الوردية الجميلة. وذلك استناداً إلى بعض المبررات أحيانا، وبدون أي مبررات في كثير من حالات المناصرة والتبشير، أو حالات النقد أو النقض والتفنيد ...
وإذا كنا قد عالجنا، في غيرهذا المقام، أهم عوامل وأبعاد وتمظهرات هذه الأزمة التربوية في مجتمعاتنا الثالثية والعربية، وببعض التوسع المقبول، فإن ما يهمنا هنا هو رصد بعض آثار العولمة على نظم التربية والتعليم والتكوين في مجتمعاتنا، والتي، بدون الإلمام بأهمها، لن يكتمل تشخيص واقعنا التربوي المأزوم، ولو ضمن مستوى الحدود الأولية لهذا التشخيص (7). فما هي، إذاً، تأثيرات العولمة هذه على أنساق التربية خاصة، وعلى الثقافة والمجتمع بشكل عام؟ وما هي الأدوار والمهام الممكنة أو المفترضة، التي يجب أن تناط بالتربية ضمن متغيرات هذا الزمن العولمي الجديد؟ .
ثانيا: المسألة التربوية في الوطن العربي وتحديات عصرالعولمة: التعليم في
مواجهة آثار ومخاطر» ثقافة السوق« في النظام العالمي الجديد
ليس يسيرا، ولا من بين أهدافنا الآن، أن نلم بكل مستتبعات وآثار العولمة ولو على الحقل التروي فقط، فضلا عن امتدادها إلى الحقل الاجتماعي برمته. وإنما نستهدف، بالأساس، ما هو أهم وأكثر حضورا وفاعلية منها. ولا سيما في علاقتها بتفاعلات النظم التربوية مع متغيرات النظام الكوني الجديد. هكذا يمكن القول، إذن، إن من بين أبرز آثار العولمة على هذه النظم ما يلي:
1 ـ إذا كانت ليبرالية النصف الأول من القرن العشرين الفائت ذات بعد فكري ثقافي وفلسفي، أولا، ثم سوسيواقتصادي، ثانيا، فإن الليبرالية الجديدة Néoliberalisme التي تعد الإطار المرجعي لظاهرة العولمة، والتي أفرزتها معطيات أواخر القرن المذكور، قد كانت ذات مضمون اقتصادي، بالأساس، ثم طورت وتائرها وامتداداتها منظومة فكرية وقيمية وسياسية... وسمت بكونها قد أصبحت تشكل ما يعرف ب »ثقافة النظام الكوني الجديد«.
لقد كان الانقلاب الكبير، الذي أحدثته العولمة في مجال الاقتصاد بالذات، متمثلا في كونها قد عملت ـ تحت إكراهات مجموعة من إملاءات وشروط بعض المنظمات الدولية والمؤسسات المالية والشركات المتعددة الجنسية … ـ على نقل الاقتصادات الوطنية من مجال تبادلاتها المحلية أو الدولية، ولو كان ذلك في إطار علاقات تبعية غير متكافئة أحيانا، إلى نطاق عالمي أوسع، مفككة بذلك بنى هذه الاقتصادات وآليات اشتغاليها وتمحورها على نفسها أو تحركها في إطار محيط وطني أو إقليمي أو جهوي... وهكذا غذت العولمة، بذلك، موجة سوسيواقتصادية قائمة على تسريع حركية التبادلات الاقتصادية التجارية والمالية والخدماتية، وكذلك على التحرير المتزايد للأسواق والفضاءات... وعلى تكسير الحواجز والحدود والمساطر الجمركية والقانونية والبيروقراطية تسهيلا لتناقل وتبادل وترويج حُرٍّ للأموال والبضائع والرساميل ومختلف المنتوجات المادية منها والخدماتية والثقافية والفنية وغيرها...
2 ـ عززت العولمة توجهها هذا بمنظومة مفاهيمية وُصفت بأنها جديدة، وأنها تشكل » نسق القيمة المحوري« في » الثقافة السياسية الجديدة« للنظام العالمي القائم، الذي ما يفتأ يواصل تبلوره وتطوره وتكون معالمه باستمرار. ومن أبرز هذه المفاهيم العولمية» المستحدثة« يمكن أن نذكر، على سبيل التمثيل لا الحصر، مفاهيم التنافسية، والشراكة ، والخوصصة (أوالخصخصة أو التخصيص)، والتبادل الحر، والاندماج، والسوق الكونية...الخ، وما يرتبط بذلك أيضا من مفاهيم مثل: الحوار، والتواصل، والتعاون، واحترام الديمقراطية والاستحقاقية وحقوق الإنسان: ( الأفراد والجماعات والأقليات والشعوب والأمم والمجتمعات...) ...الخ. وهي قيم ومفاهيم قد أمست، رغم مضمونها الظاهري الإيجابي، مثار جدل فكري وسياسي وحضاري عميق المدلولات والأبعاد، مما ليس هذا مقاما مناسبا للتوسع في إعمال النظر فيه.
3 ـ لعل مما هو مفيد أن نشسير إليه في هذا السياق هو أن العدة أو الجهاز المفاهيمي السالف الذكر لا يؤشر دوما على مضامين وقيم سلبية هي من أخطر شرور العولمة وموبقاتها ومآزقها الاقتصادية والخلقية والإنسانية ... وإنما لهذه العدة أيضا محمولات إيجابية. غير أن قدرة المجتمعات على الإفادة منهــــا والاتكاء عليها في محا ولات التموقع والتبادل وتحقيق مكتسبات أفضل ضمن صراعات وتفاعلات وأحلاف وقيم واشتراطات... هذه الكونية العولمية الجديدة مسألة تختلف من مجتمع إلى آخر، كما أسلفنا، وحسب امتلاكه لمقومات ومؤهلات» الاندماج« في نسق هذا المشهد الكوني الحديث التشكل، مما ما يزال غير متوفر في مجتمعاتنا العربية وفي الكثير من مجتمعات العالم الثالث على العموم (9).
وهكذا، فلو أردنا أن نركز على ما له ارتباط وثيق بموضوع هذه الورقة: »علاقة التربية بالعولمة« فإننا يجدر بنا أن نؤكد على مقومين أساسيين من مقومات هذه الكونية الجديدة لهما صلة وثيقة بتطور ومآل مستقبل التعليم والتربية والتكوين في هذا العالم المتغير، ولا سيما بالنسبة لمجتمعاتنا» النامية«. أما المقوم أو العامل الأول فهو ما أصبح يصطلــح عليه ب » ثقافة السوق« في أبعادها الكونية الشمولية، وأمـا الثاني فهـو » الثورة المعرفية والتقانية الجديدة«، التي أصبحت السمة المميزة للعصر، وغدت فيه أساس السلطة والقوة والثروة والمكانة الدولية في آن. وسنبرز، فيما يلي، بعض أهم آثار ومفاعيل هذين المعطيين على الأنساق التربوية والثقافية بشكل خاص (10):
4 ـ ففيما يتعلق ب » ثقافة السوق«، والتي يتصاعد طابعها الكوني باستمرار، فإن من بين أهم تأثيراتها على أنساق التربية والتعليم والتكوين في المجتمع المعاصر: مضامين وتبادلات وممارسات وتوجهات وآليات اشتغال ... تجدر الإشارة إلى ما يلي:
أ ـ إذا كان من بين المهام والوظائف الأساسية للتربية والتكوين الاستثمار الرشيد للموارد البشرية وتنميتها، فإن الخلفية الاقتصادية لثقافة العولمة في بعدها السوقي لم تعد تنظر إلى الرأسمال البشري، موضوع العملية الاستثمارية للتربية، سوى في مضمونه الاقتصادي البحت وقيمته البضاعية والتبادلية. وذلك على حساب أبعاده ومقوماته الثقافية والروحية والحضارية ... مما ساهم، في إطار هذا المناخ الفكري والاقتصادي، في تبلور منظور قائم على» تسليع المعرفة وتبضيع البشر«، واعتبار مدخلات ومخرجات عملية التعليم والتكوين مجرد » قوى بشرية« مؤهلة، في أحسن الظروف، تنحصر قيمتها في تلبيتها لقوانين العرض والطلب في أسواق الشغل والاستخدام والاندماج الاجتماعي العام .
ب ـ ضمن هذه الشروط يصبح المنظور المقاولاتي أكثر بروزا وتصدرا وملحاحية وهيمنة، وتتحول المؤسسة التربوية، بكافــة أشكالهـا ومستوياتها، إلى مجرد» مقاولة أو مصنع« لإنتاج وتوفير شروط إعادة إنتاج البضائع »البشرية« الصالحة للتسويق والاتجار وتلبية مطالب السوق، والتي هي، بالأساس، مطالب الباطرونا ورجال المال والأعمال والشركات المساهمة وغيرها من قوى الاقتصاد والتجارة…مما قد لا يستجيب، بل قد يتناقض في أحيان كثيرة مـع التوجهات الفكرية والسياسية للمجتمع/الدولة ولأولوياتهما في تكوين » مواطنيــن« حاملين لقيم واتجاهات ومواقف معينة، متوفرين على أهم مقومات ومواصفات الاندماج الإيجابي في محيطهم السوسيواقتصادي والثقافي الخاص، فضلا عن محيطهم الكوني العام.(11).
ج ـ يتعزز هذا المنظور باستمرار بما أصبحت تدعو إليه »ثقافة السو ق« هذه من ضرورة استيعاب حقل التعليم والتكوين لمفاهيم وآليات الخوصصة والتمهين وتنويع مسارات وتخصصات كل منهما ( التعليم والتكوين). وذلك تلبية لما يعرفه المجتمع المعاصر من » طلب اجتماعي« متنام ومتجدد لأنماط حديثة أو مستحدثة من التربية والتعليم والتكوين وإعداد الكفاءات البشرية اللازمة لمواكبة التغير الاجتماعي والاقتصادي والتقاني والثقافي العام. غير أنه إذا كان لهذا التوجه إيجابيات لا تنكر، وخاصة إذا تم اعتماده ضمن سياسة تربوية وتكوينية موجهة وهادفة ومتماسكة المشروع والأركان، فإنه قد ساهم، في العديد من مجتمعات العالم الثالث، في إفراز منظور اقتصادوي اختزالي لوظائف ومهام التربية والتكوين، وفي خلق فوضى تنظيمية أدت إلى تشتيت النظام التربوي وخلخلة وحدته وتماسكه. وربما كان هذا المآل الذي انتهت إليه التربية في عهد ثقافة العولمة من بين مبررات الخطابات المبشرة / أو المنـذرة ب » نهاية التربية« أو » موت المدرسة الوطينة« أو »خاتمة المدرسة« بشكل عـام، سيرا على ما دأب عليه » خطاب النهايات« الذي أمسى، بدءًا من فوكو ياما ومن معه أو بعده، موضة ثقافية ذائعة الانتشار والاستهلاك، فقيرة المضامين، ضعيفة المرجعية والسند النظري والمنهجي في الكثير من نماذج الأقوال والخطابات (12).
وفق هذا التصور التبسيطي، ستكف المؤسسة التربوية عن أن تظل مرتبطة بوظائفها وأدوارها التقليدية، بل و» رسالتها« التربوية والسوسيوثقافية والأخلاقية المتعلقة مثلا بنشر المعرفة، وبث قيم » المواطنة« وتنشئة المواطن...الخ. وستتحول، استجابة لإكراهات الظرفية وانسجاما مع منطق وثقافة العصر، إلى ما يشبه المصنع/ المقاولة، تعلم وتكون وتنظم برامجها » الاستثمارية« وتعد » منتوجات« تحت الطلب، تماما كما تنتج المؤسسة الصناعية أو الخدماتية منتوجات وخدمات قابلة للترويج والتسويق، وفق الدورة الاقتصادية المتنفذة في المجتمع المعني.
د ـ ومع تنامي مد هذه » الليبرالية الجديدة المتوحشة«، » أصبح شعار الكونية السوقية (هو) التأكيد على قيم السلع والربح، وفتح الشهية لاستهلاك السلع الأجنبية، »وتسليع« كثير من قيم الحياة، متجاوزا بذلك قيم المعـاني الدينية والخلقية والإنسانية. والمهم في جميع الأحوال هـو السعي إلى تشكيل نمـط»الشخصيـة الكـونية« منفصلة عن جذورها وهمومها ومصالحـها الوطنية التي قـد تتعارض مــع خصائص ذلك النمط« (13) .
وفي إطار تصدر ثقافة السوق هذه، وتعاظم الرغبة في الاستهلاك والمتعة وتملك العديد من رموز نمط الحياة العصرية ... تتحول قيم التنافسية الشريفة والعمل الجاد المنتج والنجاح المستحق إلى أنانية مغالية تتوخى المصلحة المباشرة والربح السريع وجني الفوائد والمتع بلا صبر ولا جهد ولا تدافع معقول ومقبول... وهكذا أصبح يطغى على العلاقات والتبادلات الاجتماعية ما يقترب من شرعة الغاب، وقانون » الحيتان الكبيرة« ومسلكيات » القطط السمان« ...، وما يشبه ذلك من الكائنات والرموز والممارسات الغريبة والمنحرفة التي أنتجتها ثقافة السوق والانفتاح الاقتصادي والثقافي... وفي هذا السياق أمست ثقافة المؤسسة التربوية، بقيمها ونماذجها السلوكية والإنسانية والاجتماعية وأطرها المرجعية المختلفة، متراجعة، بل » متخلفـة« أمام هذه القيم العولمية الجدية، التي لا تكرس في العمق سوى »ثقافة الرداء ة« بما هي ترويج لمعايير وتصرفات ورموز وأنماط في العيش والتفكير والفعل....مظهرها حداثي تقدمي، وباطنها منحل المعنى، متهافت الأسس القيمية والثقافية والحضارية. مما تسقط معه، جملة، مجموعة من قيم الخير والمحبة والتسامح والتعاون والنضال والتحمل واحترام الغير ونبذ الفردانية وتقديس الإيثار والمصلحة العامة، وطنية كانت أو قومية أو إنسانية... وعديد من القيم الأصيلة التي تدعو إليها ثقافة العولمة خطابا، وتكرس ما يناقضها على مستوى الممارسة والواقع العيني الناجز (14).
هـ ـ من المخاطر والمخاوف التي تثيرها ثقافة العولمة هذه كونها حاملة با لذات للقيم الغربية، والأمريكية تحديدا. مما يصعب معه امتلاكها ـ على مستوى الاقتناع المبدئي بها لا على مستوى التقليد والاستهلاك الموضوي والشعاري لها ـ لأية شرعية أو مصداقية كونية شاملة، وذلك حتى بالنسبة لبعض المجتمعات الغربية ذاتها، التي أصبحت احتجاجاتها على سياسات الأمركة والاستحواذ والالتفاف الأيديولوجي والتنميط الاجتماعي والتغريب الثقافي احتجاجات تتعاظم باستمرار، رافضة بذلك لأية » قطبية كونية أُحادية« تسعى بكل الآليات والأساليب الماكرة إلى فرض نسقها القيمي ونماذجها الاستهلاكية وموضاتها السلوكية على كافة المجتمعات، محولة العالم بذلك التي مـا يشبه» ضيعتها« الخاصة، ومتخذة من وكلائها ودهاقنتها ومبشريها من الدول والهيئات والأشخاص والمؤسسات دعائم وإمدادات ومرتكزات لتأبيد وعولمة مشروعها الكوني الهيمني الجديد(15).
والمؤسسة التربوية، بحكم طابعها الاجتماعي وتفاعلها العلائقي الدائم مع شروط ومقومات ومجالات المجتمع، لم تنج، بدورها، من هجمة هذه الأمركة على فضائها وممارساتها. وذلك إلى الحد الذي أمست فيه قيم » الكوكاكولا، والهمبورغر وأفلام الكوبوي...الخ« مسيطرة على عقول وقلوب فاعليها، ولاسيما الأجيال الشابة منهم، أكثر من سيطرة ما كان يفترض أن تعمل المدرسة على نشره من معرفة ومن قيم دينية وأخلاقية ووطنية وقومية وإنسانية...، مدعمة بذلك بناء » مواطنة« متسمة بالمواصفات التي يحددها لها النظام السياسي والسوسيوثقافي القائم (16) .
وـ وبفعل توفرالمجتمعات الغربية المتقدمة، وخاصة أمريكا، على الكثير من إمكانات ومقومات النفوذ التقني والاقتصادي والغلبة السياسية والثقافية وعلى آليات التمكن والسيطرة… فقد استطاعت، عبر وسائل الاتصال والمواصلات والتواصل والإعلام، أن تجعل ثقافتها السوقية المعولمة قادرة على اختراق الفضاءات والحدود والحواجز الجغرافية والكيانات السوسيوثقافية الحضارية مهددة بذلك هوياتها وخصوصياتها المتميزة. وهو واقع أصبح يتعرض للكثير من الانتقاد، بل النقض والتفنيد. وذلك على اعتبار أنه غزو فكري وإيديولوجي وقيمي مغرض وممنهج، يراد منه مسخ الشعوب والثقافات وتغريبها والزج بها في شرنقة تبعية معقدة، متعددة الأنواع والأنحاء، للقوى الغربية المتنفذة والمهيمنة على المستوى العالي، والتي تتولى أمريكا قيادة جوقتها المتغنية بالفتوحات الرائدة والكشوفات الواعدة لقيم العولمة وللثقافة السياسية الكونية للنظام العالمي الجديد. مما لم يجن منه ضعاف المجتمعات حتى الآن، وعلى مستوى الواقع لا خطاب التمنيات والآمال، سوى المزيد من التخلف، والذيلية، والهامشية الفكرية والحضارية، وتضارب وتناقض وغموض الأطر المرجعية والنماذج الإرشادية الموجهة. ويرتبط بهذا الواقع الكوني الراهن ما سبق أن أشرنا إليه من بروز خطابات، منذرة أو مبشـرة، ب » نهاية التربية« أو» نهاية المدرسة الوطنية«، وبداية تشكـل » مدرسة جديدة للمستقبل« مندرجة في إطار»نظام تربوي جديد« منسجم مع متطلبات ومتغيرات واشتراطات العصر، مما ما يزال موضوع جدل وخلاف، كل يتصوره وفق فهمه الخاص للماضي والحاضر والمستقبل، ووفق إطاره المرجعي الفكري والقيمي، ومصالحه ورهاناته وتموضعه في نسق علاقات وتبادلات النظام الدولي القائم...(17) .
ز ـ وقد أدت هذه الهيمنة القطبية الأُحادية، التي استفردت بها الولايات المتحدة الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار معسكره الشرقي(الاشتراكي/ الشيوعي)، إلى المزيد من تأجج النزعات القومية مثيرة معها كثيرا مما كان مسكوتا عنه في إطار الدول الوطنية، ولا سيما منها ذات الطابع الشمولي في الحكم وإدارة المجتمع. وذلك مثل مشكلات الأقليات والإثنيات ذات البعد اللغوي أو العقدي أو الثقافي أو العرقي…الخ. وإذا كان الانتعاش الجديد لهذه النزعات القومية قد أثار، بالفعل ، ما كانت تعيشه بعض القوميات والشعوب والأقليات والإثنيات… من أوضاع لا ديمقراطية تفتقد، في بعض نماذجها ، إلى احترام أبسط حقوق الإنسان وإلى قيم العدالة والمساواة في المشاركة الاجتماعية والسياسية، والاستفادة من توزيع عادل للثروات والخيرات المادية والرمزية، وللمواقع والسلط والمهام والأدوار…الخ، فإن هذا الانتعاش قد عبر، في بعض جوانبه أيضا، عن استثمار سياسي وإيديولوجي لهذه النزعات في مجمل الصراعات المحلية والدولية باسم الدفاع عن الهوية العرقية أو الثقافية أو الدينية . مما كرس قيم وممارسات » ثقافة الحرب« والتمترس الموقفي المتطرف ، وطنيا وكونيا. الأمر الذي جعل بعض المفكرين المهتمين بهذه القضية يؤكدون على مشروعية طرح ومعالجة السؤال المحوري الهام: هل » القومية مرض العصر أم خلاصه؟.«. والواقع أن هذه المسألة تحتاج بمفردها إلى دراسات معمقة. وهي تشكل، بالنسبة لنا بالفعل، أحد المحاور التي نشتغل عليها حاليا، والمرتبطة، أساســـا، بقضايا الديمقراطية، والمجتمـع المدني، والتنمية، والحداثة، والعولمة (18).
5 ـ أما فيما يتعلق بآثار »الثورة التكنولوجية والمعرفية والمعلوماتية« الجديدة المعولمة على التربية خاصة، والمجتمع بشكل عام، فإننا يمكن أن نجمل هذه الآثار فيما يلي:
أ ـ إن هذه الثورة قد عملت على تحويل السلطة من الاعتماد على القوة الاقتصادية والمالية والعسكرية….إلى مجال المعرفة ومنتجاتها التقانية ، ولاسيما المبتكرات المرتبطة بميدان الإعلام والاتصال والتواصل كالمعلوميات من أنترنيت وأنظمة رقمية…الخ. فأصبح من يمتلك هذه المعرفة قادرا على التحكم، بالنتيجة، في امتلاك الثروة الاقتصادية، بل ومختلف القيم والخيرات المادية والرمزية. ويتجلى أثر هذا التحول الكبير على التربية في كونه قد طرح على المؤسسة التربوية، في مختلف مستوياتها، تحديات كبيرة تتعلق بضرورة تطوير وتجديد ذاتها، مضامين وعلاقات وممارسات وتبادلات مع المحيط المحلي والعالمي. وذلك حتى تتمكن من أن تكون، بالفعل،» مدرسة للمستقبـل« منسجمة مع تطوره المعرفي والتكنولوجي، مستجيبة لمطالبه وحاجاته ورهاناته المتجددة باستمرار.
ب ـ خلقت هذه الثورة أيضا » فجوة معرفية وتقانية « بين من يملك هذه المعرفة ومؤهلات إنمائها وتطويرها واستثمارها والإفادة منها وبين من لا يملك ذلك، وخاصة بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات» النامية أو المتخلــفـة« ، كما هي حال مجتمعاتنا العربية. وحتى نبرز بعض جوانب هذه الفجوة، نقدم لاحقا بعض المعطيات الرقمية المستخرجة من » تقرير التنتمية البشريــة« الذي أعده » برنامج الأمم المتحدة للتنمية PNUD « برسم سنة 1999 ، وذلك بهدف الاستئناس بها ليس إلا:
ـ تنفق عشر دول غنية على البحث العلمي حوالي 84%من الإنفاق العالمي في هذا المجال، وتستحوذ أمريكا بمفردها على حوالي 92% من الاختراعات العلمية.
ـ 20% من الدول الغنية توفر لسكانها حوالي 3،93% من خدمات الأنترنيت، بينما لا تستطيع أن توفر الدول الفقيرة لسكانها سوى حوالي 6،7% من نفس الخدمات.
بما أن حوالي 80% من مواقع الأنترنيت باللغة الإنجليزية، فلا يستفيد منها إلا حوالي 10% من سكان العالم ممن يتقنون هذه اللغة، علما بأن حوالي 30% من مستخدمي الأنترنيت هم ذوو مستوى جامعي(19) .
وبما أن مستوى التعليم والتكوين لدى ساكنة كل مجتمع هو الذي يشرط، أساسا، مستوى استفادتها من هذه الثروة المعرفية ومن لواحقها وعوائدها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن الفوارق تبدو، في هذا المضمار، صارخة ومعبرة، وخاصة بالنسبة لمجتمعات الوطن العربي. والمؤشرات الكمية المقارنة التي سنعرضها لاحقا تقدم بعض جوانب » مشهد التدهور« التربوي في مجتمعاتنا تحديدا:
+ فبالنسبة لمعدل الأمية، في المجموعات الإقليمية الدولية الأساسية، نلاحظ أنه:
ـ للمزيد ارجع للمصدر
وإذا كانتت لغة الأرقام ـ كما يقال ـ نسبية في صدقها وتعبيرها عن الواقع الفعلي دائما، فإنها، في بعض الحالات، تكون، رغم نسبيتها هذه، مفيدة ودالة، كما هي حال المعطيات الرقمية الآنفة. ولعل من أهم ما يمكن استخلاصه مما سبق هو أن مجتمعاتنا ما تزال بعيدة كل البعد ـ بحكم أوضاعها التربوية المتدهورة ـ عن امتلاك الاقتدار الذي يمكنها من المشاركة الإيجابية الفاعلة في مواكبة تطورات ومتغيرات »الثورة المعرفية« التي يشهدها العالم الآن في عصر العولمة، والذي تتصاعد إيقاعات ووثائر تناميها وتجددها باستمرار.
ج ـ ساهمت هذه الثورة كذلك في تعميق » فجوة اقتصادية واجتماعية«، أفقيا، بين الدول والمجتمعات عالميا، وعموديا، أي بين الأفراد والجماعات والفئات…داخل المجتمع الواحد.وليس أكثر تعبيرا عن هذا الوضع اللامتكافئ، على المستوى العالمي، من كون 358 ملياديرا في العالم يستفردون بمـا يضاهي حـوالي ثروة مليارين ونصف (5،2%) من ساكنة العالم ، وتستحوذ 20% من دول العالم على حوالي 85% من الناتج الإجمالي العالمي، وعلى حوالي 84% من التجارة العالمية، وعلى حوالي 85% من الاذخار العالمي(21). ولا يقتصر دور هذه الثروة على توفير شروط الغلبة والسيادة الكونية للدول الغنية بل تمكنها أيضا من التطوير المتواصل لرصيدها العلمي والمعرفي والتكنولوجي... عبر دعمها المادي واللوجستيكي والمعنوي لبرامج النشر والبحث العلمي والعمل الثقافي. وهكذا تشير بعض الإحصائيات المتعلقة بالنشر في المجتمع الأمريكي إلى أن أمريكا وحدها ينشر فيها حوالي 000،45 كتاب سنويا، و1500 جريدة يومية، و3700 مجلة متخصصة في حقول معرفية وفنية مختلفة، و250 مجلة خاصة بالمهندسين(22). وعبر تكامل وترافد كل من الثروة المعرفية والثروة المادية يتوافر للدول الغنية كثير من شروط وإمكانات السلطة والتمكن والتحكم والهيمنة على مستوى المنتظم الكوني، فارضة بذلك قيمها وثقافتها، بل ومواقفها ومصالحها على الدول الضعيفة، ولا سيما بعد أن تعاظم انحسار دور ومكانة » الدولة الوطنية« في هذا الوضع الكوني المعولم. وذلك نظرا لما قامت به »ثقافة السوق« من اختراقات متنوعة الأشكال للعديد من الحدود والحواجز والفضاءات الجغرافية والسياسية والثقافية، مقلصة بذلك من سيادة هذه الدولة، ومن مستوى سيطرتها على شؤونها الداخلية، وتحكمها أيضا في ضبط وتوجيه علاقتها وتبادلاتها المتعددة مع محيطها الإقليمي والجهوي والعالمي. وتلك مسألة أخرى ليست موضوع اهتمامنا في هذا العرض بالذات (23).
د ـ ونظرا لكل المعطيات الآنفة، فقد كان للثورة المعرفية أعظم الآثار على التربية بشكل خاص. ففي الوقت الذي أصبح مطلوبا فيه من نظم ومؤسسات وسياسات التربية والتعليم والتكوين أن تعمل على مراجعة شاملة لشروط اشتغالها، وعلى تجديد وتطوير ذاتها، كما أسلفنا، نجد أنها قد أمست ـ تحت وطأة هذه الثورة المعرفية، وما نجم عنها من حوسبة وعولمة لثقافة الصورة وللقيم والموضات الفكرية والاجتماعية الجديدة... ـ متخلفة على أكثر من صعيد، وذلك قياسا إلى ما كان لها من قيمة ومكانة ونفوذ فيما سبق، وخاصة بالنسبة لمجتمعاتنا الثالثية.
ولذا فقد أصبح العديد من المجتمعات، حتى المتقدمة منها، يدعو إلى إصلاح شامل لنظم التربية والتكوين، ونهج سياسات جديدة ومتجددة لتأسيس» مدرسة المستقبل« وإقامة » نظام تربوي جديد« : بنيات ومضامين وقيما وآليات اشتغال وتدبير... نظام لا يلغي المدرسة (بمفهومها العام)، كلية، وإنما يعمل على إصلاحها وتحديث شروط الممارسة التربوية وتدبيرعمليات التعليم والتكوين بها...
المصدرhttp://absecope.rab7net.org/senhaji/...php?storyid=36
الكاتب : سنهجي
رقم المقال : 36
المستوى : جميع القراء
الإصدار 1.00.02
تاريخ النشر: 2008/6/3 22:18:46
عدد مرات القراءة : 287
بقلم: ذ. مصطفى محسن
المسألة التربوية في الوطن العربي وتحديات عصر العولمة :مصاعب الحاضر و مطالب المستقبل
تمهيد: التربية ومتغيرات مناخ العصر: في الحاجة إلى التشخيص والفهم والاستشراف.
لم يسبق للنظام التربوي أن واجه، على المستوى الكوني، مصاعب وتحديات أعمق وأخطر مما أصبح يواجهه حاليا في زمن العولمة الموسوم بالكثير من التحولات والمستجدات المعرفية والتقنية والقيمية والسوسيوحضارية المختلفة الأبعاد والدلالات والمستتبعات.
في ظل هذا النظام العالمي الجديد المعولَم، غدا لِزاما، وأكثر من أي وقت مضى، البحث عن وسائل منهجية لمقاربات تشخيصية لمشهدية الوضع التربوي الراهن، محليا وكونيا، كخطوة أُولى ضرورية للتوصيف والتعرية والفهم. ثم البحث، ثانيا، عن تحديد واضح الرؤى للأُطر المرجعية والنماذج الإرشادية: Paradigmes الموجهة لمنطلقات الإصلاح والتجاوز. وثالثا، وضع الخطط والاستراتيجيات والبرامج والسيناريوهات المتعلقة بما ينبغي أن يكون عليه » تعليم المستقبــل« أو » مدرسة المستقبل«، مما هو قابل للتنفيذ والتطبيق و»الإخراج « في إطار نموذج تربوي جديد. ثم رابعا، تعيين الأدوات ووسائل العمل والأجهزة والفاعلين والعمليات... أي كل ما هو كفيل بمسائل التدبير العملي لمسلسلات التجديد والإصلاح، ووضع مشاريعها وبرامجها موضع الإنجاز المتعين على أرضية الواقع الفعلي(1).
وإذا كانت هذه العلميات الآنفة، من تشخيص وتصور وتخطيط وتدبير، قضايا يختلف الاهتمام بها والتعامل معها من سياق مجتمعي إلى آخر، وإذا كانت قد عقدت من أجل تدارسها لقاءات وندوات ومؤتمرات ... ووضعت ، من أجل التحكم فيها، محاولات هامة من البرامج والمشاريع ومواثيق الإصلاح، عالميا وقوميا ووطنيا، فإننا نريد أن نؤكد على أننا لا نستهدف هنا ـ نظرا لمحدودية المقام ـ إنجاز مقاربة تحليلية ونقدية مفصلة لكل أبعاد ومكونات العمليات الآنفة،وإنما نريد، فقط ، تسجيل بعض الملاحظات النقدية التي يمكن أن تشكل مقدمات منهجية لبعض جوانب هذه المقاربة، والتي قد تتعدد إشكالاتها وأطرها التخصصية ومداخلها النظرية والتطبيقية (2) .
إن أهم ما نراهن عليه هنا بالذات هو أن نستحضر في هذه الملاحظات» مناخ العصر« وآثار عولمته الزاحفة على تبدلاته وأحواله. وخاصة ما يرتبط منها بمجالات التربية والتعليم والتكوين وإعداد البشر: مشكلات وتحديات وأساليب مواجهة وإصلاح وتجديد ... (3) وما لهذا الزخم الكوني كله من ارتباط وثيق أيضا بتطور أنساق القيم والمعرفة والاقتصاد والاجتماع والثقافة في سياق عولمة سريعة الوتائر والذيوع والتغلغل في مفاصل الحياة الفردية والجماعية محليا وكونيا (4).
أولا: راهن المشهد التربوي في الوطن العربي: نحو مقاربة سوسيو تاريخيةبنائية لمفهوم الأزمة القائمة
تجمع نتائج وخلاصات العديد من البحوث والدراسات والمؤتمرات على أن الوضع البشري يجتاز في زمن العولمة، وعلى المستوى الكوني العام، منعطفا تحوليا حاسما في جميع المجالات، ومن بين أهمها حقل التربية والتعليم، الذي تأزم على أكثر من صعيد. غير أنه إذا كان هناك إجماع شبه عام على كونية هذه الأزمة وشموليتها ، فإن التشخيص العلمي الدقيق لعواملها وأبعادها ومكوناتها وامتداداتها وتمظهراتها... مسألة تتطلب، في إطار التحوط المنهجي، أن تؤخذ في الاعتبار مجموعة من الحيثيات، أهمها:
1ـ إن تشخيص أزمة نظام التربية والتعليم والتكوين في كل مكوناتها السالفة الذكر، يجب أن يقوم، ضرورة، على ربطها بالسياقات والشروط الاجتماعية المتمايزة التي كان لها دور ما في إفرازها، إنتاجها وإعادة إنتاج شروط إنتاجها في أوضاع محددة في الزمان والمكان. وذلك هو واقع النظم التربوية في الوطن العربي، رغم ما بينها من قواسم مشتركة.
2 ـ تحديد الأهمية النسبية لدور ومكانة كل من هذه الشروط والعوامل: سياسية، إقتصادية، ثقافية، إجتماعية ... الخ، والتمييز فيها بين الأسباب والنتائج، والسوابق واللواحق.
3 ـ يجب الا يمنع هذا التحديد بلورة منظور شمولي للأزمة التربوية يتجاوز المقاربة الاختزالية التبسيطية لها، والتي تفسرها بأحد جوانبها أو أبعادها، والنظر إليه كما لو كان محددا ومفسرا لكل مكوناتها المتشابكة التعقيد والتركيب ...
4 ـ تقتضي هذه الحيثيات كلها اعتبار هذه الأزمة ظاهرة بنيوية مركبة، وأنها، على مستوى خلفيتها السوسيولوجية، جزء من أوضاع اجتماعية شمولية، أي من كل مجتمعي هيكلي مأزوم، سواء على المستوى القطري أو على المستوى القومي العربي العام.
5 ـ وبناء على ذلك فإن الأزمات التربوية تختلف، من حيث عوامل إنتاجها ومن حيث حدتها وعمقها ومظاهرها وامتداداتها...، من وضع مجتمعي إلى آخر. وذلك بما يتسم به كل وضع من خصوصيات، ومن شروط ترتبط بمستوى تقدمه الاقتصادي والاجتماعي الخاص، وبطبيعة اشتغال بنياته ومؤسساته وأجهزته السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية والاجتماعية المتعددة. ولنستحضر هنا راهن» المسألة التربوية« في مجتمعاتنا العربية بما لها من دلالات وجوانب وأبعاد ...
6 ـ إن أزمة النظم التربوية، سواء في المجتمعات المتقدمة أو في مجتمعات العالم الثالث، كما هو وضع الوطن العربي، ليست ناجمة فقط عن عوامل أو مفعولات محض عولمية رغم خطورة وثقل التحديات والإكراهات التي أصبحت تطرحها التحولات الراهنة للعولمة على نظم وسياسات التربية والتعليم والتكوين في كافة المجتمعات ، وإنما هي منتوج لتفاعل العديد من الشروط والعوامل البالغة التشابك والتعقيد(5).
وباعتماد تحليل سوسيو بنائي وتاريخي، لهذه الأزمة المعنية هنا، يمكن القول: إنها منتوج مجموعتين متناظمتين ومتداخلتين من العوامل والأسباب: عوامل ذاتية خاصة ترتبط بخصوصية الفضاء المجتمعي المحدد في الزمان والمكان، وبالكيفية المحددة لآليات اشتغال بنياته وهياكله الذاتية: الدولة، نسق الاقتصاد، المنظومات القيمية، ونماذج السلوك... وما يرتبط بكل ذلك من تراتبات فئوية أو طبقية، ونخب سائدة، ومصالح ورهانات، وسلط متنفذة... الخ. وهي خصوصيات تشرط تفاعل كل مجتمع مع مشكلاته وأزماته، بل ومع مختلف أساليب فهمها والتعامل معها والعمل على تخطيها وتجاوزها… مما يختلف من مجتمع إلى آخر. ثم هناك عوامل سوسيوتاريخية موضوعية تعود، بالأساس، إلى طبيعة علاقات مجتمع ما بأوضاع وشروط تاريخية معينة تحددها ارتباطاتها مع معطيات الظرفية، وكذا علاقات المجتمع ذاته مع غيره من المجتمعا ت في سياق حضاري محلي، أو إقليمي، أو كوني عام. إنها، إذن، عوامل موضوعية لا ترجع إلى الشروط الذاتية الخاصة بالمجتمع المعني، بل إلى حيثيات » خارجيــة« تحيـل إلى» المجال الحيوي« التاريخي الذي ارتبط به تفاعل وتطور المجتمع ذاك (6).
وفي هذا الإطار، بالذات، يمكن أن نذكر بما كان للاستعمار كظاهرة كونية متميزة، وبأشكاله القديمة والجديدة، والكلاسيكية والمتطورة، من آثار ـ سلبية في مجملها ـ على نظمنا التربوية والاجتماعية بشكل عام. وفي ذات الإطار أيضا يمكن استحضار ظاهرة العولمة كواقعة كونية جديدة معممة وشاملة، بما أصبح لها من آثار على المنتظم الكوني بكل سياقاته الاجتماعية المختلفة، وبما غدت تثيره من ردات فعل ومن تصورات ومواقف ومخاوف … ومن أنماط متباينة في فهمها واستيعاب متغيراتها ومحمولاتها ومضامينها الفكرية والقيمية والاجتماعية والحضارية … وأيضا في أشكال التعامل معها رفضا أو قبولا أو لامبالاة أو دعوة إلى الانخراط في كوكبة الأنصار المبشرين بخيراتها وفوائدها ووعودها الوردية الجميلة. وذلك استناداً إلى بعض المبررات أحيانا، وبدون أي مبررات في كثير من حالات المناصرة والتبشير، أو حالات النقد أو النقض والتفنيد ...
وإذا كنا قد عالجنا، في غيرهذا المقام، أهم عوامل وأبعاد وتمظهرات هذه الأزمة التربوية في مجتمعاتنا الثالثية والعربية، وببعض التوسع المقبول، فإن ما يهمنا هنا هو رصد بعض آثار العولمة على نظم التربية والتعليم والتكوين في مجتمعاتنا، والتي، بدون الإلمام بأهمها، لن يكتمل تشخيص واقعنا التربوي المأزوم، ولو ضمن مستوى الحدود الأولية لهذا التشخيص (7). فما هي، إذاً، تأثيرات العولمة هذه على أنساق التربية خاصة، وعلى الثقافة والمجتمع بشكل عام؟ وما هي الأدوار والمهام الممكنة أو المفترضة، التي يجب أن تناط بالتربية ضمن متغيرات هذا الزمن العولمي الجديد؟ .
ثانيا: المسألة التربوية في الوطن العربي وتحديات عصرالعولمة: التعليم في
مواجهة آثار ومخاطر» ثقافة السوق« في النظام العالمي الجديد
ليس يسيرا، ولا من بين أهدافنا الآن، أن نلم بكل مستتبعات وآثار العولمة ولو على الحقل التروي فقط، فضلا عن امتدادها إلى الحقل الاجتماعي برمته. وإنما نستهدف، بالأساس، ما هو أهم وأكثر حضورا وفاعلية منها. ولا سيما في علاقتها بتفاعلات النظم التربوية مع متغيرات النظام الكوني الجديد. هكذا يمكن القول، إذن، إن من بين أبرز آثار العولمة على هذه النظم ما يلي:
1 ـ إذا كانت ليبرالية النصف الأول من القرن العشرين الفائت ذات بعد فكري ثقافي وفلسفي، أولا، ثم سوسيواقتصادي، ثانيا، فإن الليبرالية الجديدة Néoliberalisme التي تعد الإطار المرجعي لظاهرة العولمة، والتي أفرزتها معطيات أواخر القرن المذكور، قد كانت ذات مضمون اقتصادي، بالأساس، ثم طورت وتائرها وامتداداتها منظومة فكرية وقيمية وسياسية... وسمت بكونها قد أصبحت تشكل ما يعرف ب »ثقافة النظام الكوني الجديد«.
لقد كان الانقلاب الكبير، الذي أحدثته العولمة في مجال الاقتصاد بالذات، متمثلا في كونها قد عملت ـ تحت إكراهات مجموعة من إملاءات وشروط بعض المنظمات الدولية والمؤسسات المالية والشركات المتعددة الجنسية … ـ على نقل الاقتصادات الوطنية من مجال تبادلاتها المحلية أو الدولية، ولو كان ذلك في إطار علاقات تبعية غير متكافئة أحيانا، إلى نطاق عالمي أوسع، مفككة بذلك بنى هذه الاقتصادات وآليات اشتغاليها وتمحورها على نفسها أو تحركها في إطار محيط وطني أو إقليمي أو جهوي... وهكذا غذت العولمة، بذلك، موجة سوسيواقتصادية قائمة على تسريع حركية التبادلات الاقتصادية التجارية والمالية والخدماتية، وكذلك على التحرير المتزايد للأسواق والفضاءات... وعلى تكسير الحواجز والحدود والمساطر الجمركية والقانونية والبيروقراطية تسهيلا لتناقل وتبادل وترويج حُرٍّ للأموال والبضائع والرساميل ومختلف المنتوجات المادية منها والخدماتية والثقافية والفنية وغيرها...
2 ـ عززت العولمة توجهها هذا بمنظومة مفاهيمية وُصفت بأنها جديدة، وأنها تشكل » نسق القيمة المحوري« في » الثقافة السياسية الجديدة« للنظام العالمي القائم، الذي ما يفتأ يواصل تبلوره وتطوره وتكون معالمه باستمرار. ومن أبرز هذه المفاهيم العولمية» المستحدثة« يمكن أن نذكر، على سبيل التمثيل لا الحصر، مفاهيم التنافسية، والشراكة ، والخوصصة (أوالخصخصة أو التخصيص)، والتبادل الحر، والاندماج، والسوق الكونية...الخ، وما يرتبط بذلك أيضا من مفاهيم مثل: الحوار، والتواصل، والتعاون، واحترام الديمقراطية والاستحقاقية وحقوق الإنسان: ( الأفراد والجماعات والأقليات والشعوب والأمم والمجتمعات...) ...الخ. وهي قيم ومفاهيم قد أمست، رغم مضمونها الظاهري الإيجابي، مثار جدل فكري وسياسي وحضاري عميق المدلولات والأبعاد، مما ليس هذا مقاما مناسبا للتوسع في إعمال النظر فيه.
3 ـ لعل مما هو مفيد أن نشسير إليه في هذا السياق هو أن العدة أو الجهاز المفاهيمي السالف الذكر لا يؤشر دوما على مضامين وقيم سلبية هي من أخطر شرور العولمة وموبقاتها ومآزقها الاقتصادية والخلقية والإنسانية ... وإنما لهذه العدة أيضا محمولات إيجابية. غير أن قدرة المجتمعات على الإفادة منهــــا والاتكاء عليها في محا ولات التموقع والتبادل وتحقيق مكتسبات أفضل ضمن صراعات وتفاعلات وأحلاف وقيم واشتراطات... هذه الكونية العولمية الجديدة مسألة تختلف من مجتمع إلى آخر، كما أسلفنا، وحسب امتلاكه لمقومات ومؤهلات» الاندماج« في نسق هذا المشهد الكوني الحديث التشكل، مما ما يزال غير متوفر في مجتمعاتنا العربية وفي الكثير من مجتمعات العالم الثالث على العموم (9).
وهكذا، فلو أردنا أن نركز على ما له ارتباط وثيق بموضوع هذه الورقة: »علاقة التربية بالعولمة« فإننا يجدر بنا أن نؤكد على مقومين أساسيين من مقومات هذه الكونية الجديدة لهما صلة وثيقة بتطور ومآل مستقبل التعليم والتربية والتكوين في هذا العالم المتغير، ولا سيما بالنسبة لمجتمعاتنا» النامية«. أما المقوم أو العامل الأول فهو ما أصبح يصطلــح عليه ب » ثقافة السوق« في أبعادها الكونية الشمولية، وأمـا الثاني فهـو » الثورة المعرفية والتقانية الجديدة«، التي أصبحت السمة المميزة للعصر، وغدت فيه أساس السلطة والقوة والثروة والمكانة الدولية في آن. وسنبرز، فيما يلي، بعض أهم آثار ومفاعيل هذين المعطيين على الأنساق التربوية والثقافية بشكل خاص (10):
4 ـ ففيما يتعلق ب » ثقافة السوق«، والتي يتصاعد طابعها الكوني باستمرار، فإن من بين أهم تأثيراتها على أنساق التربية والتعليم والتكوين في المجتمع المعاصر: مضامين وتبادلات وممارسات وتوجهات وآليات اشتغال ... تجدر الإشارة إلى ما يلي:
أ ـ إذا كان من بين المهام والوظائف الأساسية للتربية والتكوين الاستثمار الرشيد للموارد البشرية وتنميتها، فإن الخلفية الاقتصادية لثقافة العولمة في بعدها السوقي لم تعد تنظر إلى الرأسمال البشري، موضوع العملية الاستثمارية للتربية، سوى في مضمونه الاقتصادي البحت وقيمته البضاعية والتبادلية. وذلك على حساب أبعاده ومقوماته الثقافية والروحية والحضارية ... مما ساهم، في إطار هذا المناخ الفكري والاقتصادي، في تبلور منظور قائم على» تسليع المعرفة وتبضيع البشر«، واعتبار مدخلات ومخرجات عملية التعليم والتكوين مجرد » قوى بشرية« مؤهلة، في أحسن الظروف، تنحصر قيمتها في تلبيتها لقوانين العرض والطلب في أسواق الشغل والاستخدام والاندماج الاجتماعي العام .
ب ـ ضمن هذه الشروط يصبح المنظور المقاولاتي أكثر بروزا وتصدرا وملحاحية وهيمنة، وتتحول المؤسسة التربوية، بكافــة أشكالهـا ومستوياتها، إلى مجرد» مقاولة أو مصنع« لإنتاج وتوفير شروط إعادة إنتاج البضائع »البشرية« الصالحة للتسويق والاتجار وتلبية مطالب السوق، والتي هي، بالأساس، مطالب الباطرونا ورجال المال والأعمال والشركات المساهمة وغيرها من قوى الاقتصاد والتجارة…مما قد لا يستجيب، بل قد يتناقض في أحيان كثيرة مـع التوجهات الفكرية والسياسية للمجتمع/الدولة ولأولوياتهما في تكوين » مواطنيــن« حاملين لقيم واتجاهات ومواقف معينة، متوفرين على أهم مقومات ومواصفات الاندماج الإيجابي في محيطهم السوسيواقتصادي والثقافي الخاص، فضلا عن محيطهم الكوني العام.(11).
ج ـ يتعزز هذا المنظور باستمرار بما أصبحت تدعو إليه »ثقافة السو ق« هذه من ضرورة استيعاب حقل التعليم والتكوين لمفاهيم وآليات الخوصصة والتمهين وتنويع مسارات وتخصصات كل منهما ( التعليم والتكوين). وذلك تلبية لما يعرفه المجتمع المعاصر من » طلب اجتماعي« متنام ومتجدد لأنماط حديثة أو مستحدثة من التربية والتعليم والتكوين وإعداد الكفاءات البشرية اللازمة لمواكبة التغير الاجتماعي والاقتصادي والتقاني والثقافي العام. غير أنه إذا كان لهذا التوجه إيجابيات لا تنكر، وخاصة إذا تم اعتماده ضمن سياسة تربوية وتكوينية موجهة وهادفة ومتماسكة المشروع والأركان، فإنه قد ساهم، في العديد من مجتمعات العالم الثالث، في إفراز منظور اقتصادوي اختزالي لوظائف ومهام التربية والتكوين، وفي خلق فوضى تنظيمية أدت إلى تشتيت النظام التربوي وخلخلة وحدته وتماسكه. وربما كان هذا المآل الذي انتهت إليه التربية في عهد ثقافة العولمة من بين مبررات الخطابات المبشرة / أو المنـذرة ب » نهاية التربية« أو » موت المدرسة الوطينة« أو »خاتمة المدرسة« بشكل عـام، سيرا على ما دأب عليه » خطاب النهايات« الذي أمسى، بدءًا من فوكو ياما ومن معه أو بعده، موضة ثقافية ذائعة الانتشار والاستهلاك، فقيرة المضامين، ضعيفة المرجعية والسند النظري والمنهجي في الكثير من نماذج الأقوال والخطابات (12).
وفق هذا التصور التبسيطي، ستكف المؤسسة التربوية عن أن تظل مرتبطة بوظائفها وأدوارها التقليدية، بل و» رسالتها« التربوية والسوسيوثقافية والأخلاقية المتعلقة مثلا بنشر المعرفة، وبث قيم » المواطنة« وتنشئة المواطن...الخ. وستتحول، استجابة لإكراهات الظرفية وانسجاما مع منطق وثقافة العصر، إلى ما يشبه المصنع/ المقاولة، تعلم وتكون وتنظم برامجها » الاستثمارية« وتعد » منتوجات« تحت الطلب، تماما كما تنتج المؤسسة الصناعية أو الخدماتية منتوجات وخدمات قابلة للترويج والتسويق، وفق الدورة الاقتصادية المتنفذة في المجتمع المعني.
د ـ ومع تنامي مد هذه » الليبرالية الجديدة المتوحشة«، » أصبح شعار الكونية السوقية (هو) التأكيد على قيم السلع والربح، وفتح الشهية لاستهلاك السلع الأجنبية، »وتسليع« كثير من قيم الحياة، متجاوزا بذلك قيم المعـاني الدينية والخلقية والإنسانية. والمهم في جميع الأحوال هـو السعي إلى تشكيل نمـط»الشخصيـة الكـونية« منفصلة عن جذورها وهمومها ومصالحـها الوطنية التي قـد تتعارض مــع خصائص ذلك النمط« (13) .
وفي إطار تصدر ثقافة السوق هذه، وتعاظم الرغبة في الاستهلاك والمتعة وتملك العديد من رموز نمط الحياة العصرية ... تتحول قيم التنافسية الشريفة والعمل الجاد المنتج والنجاح المستحق إلى أنانية مغالية تتوخى المصلحة المباشرة والربح السريع وجني الفوائد والمتع بلا صبر ولا جهد ولا تدافع معقول ومقبول... وهكذا أصبح يطغى على العلاقات والتبادلات الاجتماعية ما يقترب من شرعة الغاب، وقانون » الحيتان الكبيرة« ومسلكيات » القطط السمان« ...، وما يشبه ذلك من الكائنات والرموز والممارسات الغريبة والمنحرفة التي أنتجتها ثقافة السوق والانفتاح الاقتصادي والثقافي... وفي هذا السياق أمست ثقافة المؤسسة التربوية، بقيمها ونماذجها السلوكية والإنسانية والاجتماعية وأطرها المرجعية المختلفة، متراجعة، بل » متخلفـة« أمام هذه القيم العولمية الجدية، التي لا تكرس في العمق سوى »ثقافة الرداء ة« بما هي ترويج لمعايير وتصرفات ورموز وأنماط في العيش والتفكير والفعل....مظهرها حداثي تقدمي، وباطنها منحل المعنى، متهافت الأسس القيمية والثقافية والحضارية. مما تسقط معه، جملة، مجموعة من قيم الخير والمحبة والتسامح والتعاون والنضال والتحمل واحترام الغير ونبذ الفردانية وتقديس الإيثار والمصلحة العامة، وطنية كانت أو قومية أو إنسانية... وعديد من القيم الأصيلة التي تدعو إليها ثقافة العولمة خطابا، وتكرس ما يناقضها على مستوى الممارسة والواقع العيني الناجز (14).
هـ ـ من المخاطر والمخاوف التي تثيرها ثقافة العولمة هذه كونها حاملة با لذات للقيم الغربية، والأمريكية تحديدا. مما يصعب معه امتلاكها ـ على مستوى الاقتناع المبدئي بها لا على مستوى التقليد والاستهلاك الموضوي والشعاري لها ـ لأية شرعية أو مصداقية كونية شاملة، وذلك حتى بالنسبة لبعض المجتمعات الغربية ذاتها، التي أصبحت احتجاجاتها على سياسات الأمركة والاستحواذ والالتفاف الأيديولوجي والتنميط الاجتماعي والتغريب الثقافي احتجاجات تتعاظم باستمرار، رافضة بذلك لأية » قطبية كونية أُحادية« تسعى بكل الآليات والأساليب الماكرة إلى فرض نسقها القيمي ونماذجها الاستهلاكية وموضاتها السلوكية على كافة المجتمعات، محولة العالم بذلك التي مـا يشبه» ضيعتها« الخاصة، ومتخذة من وكلائها ودهاقنتها ومبشريها من الدول والهيئات والأشخاص والمؤسسات دعائم وإمدادات ومرتكزات لتأبيد وعولمة مشروعها الكوني الهيمني الجديد(15).
والمؤسسة التربوية، بحكم طابعها الاجتماعي وتفاعلها العلائقي الدائم مع شروط ومقومات ومجالات المجتمع، لم تنج، بدورها، من هجمة هذه الأمركة على فضائها وممارساتها. وذلك إلى الحد الذي أمست فيه قيم » الكوكاكولا، والهمبورغر وأفلام الكوبوي...الخ« مسيطرة على عقول وقلوب فاعليها، ولاسيما الأجيال الشابة منهم، أكثر من سيطرة ما كان يفترض أن تعمل المدرسة على نشره من معرفة ومن قيم دينية وأخلاقية ووطنية وقومية وإنسانية...، مدعمة بذلك بناء » مواطنة« متسمة بالمواصفات التي يحددها لها النظام السياسي والسوسيوثقافي القائم (16) .
وـ وبفعل توفرالمجتمعات الغربية المتقدمة، وخاصة أمريكا، على الكثير من إمكانات ومقومات النفوذ التقني والاقتصادي والغلبة السياسية والثقافية وعلى آليات التمكن والسيطرة… فقد استطاعت، عبر وسائل الاتصال والمواصلات والتواصل والإعلام، أن تجعل ثقافتها السوقية المعولمة قادرة على اختراق الفضاءات والحدود والحواجز الجغرافية والكيانات السوسيوثقافية الحضارية مهددة بذلك هوياتها وخصوصياتها المتميزة. وهو واقع أصبح يتعرض للكثير من الانتقاد، بل النقض والتفنيد. وذلك على اعتبار أنه غزو فكري وإيديولوجي وقيمي مغرض وممنهج، يراد منه مسخ الشعوب والثقافات وتغريبها والزج بها في شرنقة تبعية معقدة، متعددة الأنواع والأنحاء، للقوى الغربية المتنفذة والمهيمنة على المستوى العالي، والتي تتولى أمريكا قيادة جوقتها المتغنية بالفتوحات الرائدة والكشوفات الواعدة لقيم العولمة وللثقافة السياسية الكونية للنظام العالمي الجديد. مما لم يجن منه ضعاف المجتمعات حتى الآن، وعلى مستوى الواقع لا خطاب التمنيات والآمال، سوى المزيد من التخلف، والذيلية، والهامشية الفكرية والحضارية، وتضارب وتناقض وغموض الأطر المرجعية والنماذج الإرشادية الموجهة. ويرتبط بهذا الواقع الكوني الراهن ما سبق أن أشرنا إليه من بروز خطابات، منذرة أو مبشـرة، ب » نهاية التربية« أو» نهاية المدرسة الوطنية«، وبداية تشكـل » مدرسة جديدة للمستقبل« مندرجة في إطار»نظام تربوي جديد« منسجم مع متطلبات ومتغيرات واشتراطات العصر، مما ما يزال موضوع جدل وخلاف، كل يتصوره وفق فهمه الخاص للماضي والحاضر والمستقبل، ووفق إطاره المرجعي الفكري والقيمي، ومصالحه ورهاناته وتموضعه في نسق علاقات وتبادلات النظام الدولي القائم...(17) .
ز ـ وقد أدت هذه الهيمنة القطبية الأُحادية، التي استفردت بها الولايات المتحدة الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار معسكره الشرقي(الاشتراكي/ الشيوعي)، إلى المزيد من تأجج النزعات القومية مثيرة معها كثيرا مما كان مسكوتا عنه في إطار الدول الوطنية، ولا سيما منها ذات الطابع الشمولي في الحكم وإدارة المجتمع. وذلك مثل مشكلات الأقليات والإثنيات ذات البعد اللغوي أو العقدي أو الثقافي أو العرقي…الخ. وإذا كان الانتعاش الجديد لهذه النزعات القومية قد أثار، بالفعل ، ما كانت تعيشه بعض القوميات والشعوب والأقليات والإثنيات… من أوضاع لا ديمقراطية تفتقد، في بعض نماذجها ، إلى احترام أبسط حقوق الإنسان وإلى قيم العدالة والمساواة في المشاركة الاجتماعية والسياسية، والاستفادة من توزيع عادل للثروات والخيرات المادية والرمزية، وللمواقع والسلط والمهام والأدوار…الخ، فإن هذا الانتعاش قد عبر، في بعض جوانبه أيضا، عن استثمار سياسي وإيديولوجي لهذه النزعات في مجمل الصراعات المحلية والدولية باسم الدفاع عن الهوية العرقية أو الثقافية أو الدينية . مما كرس قيم وممارسات » ثقافة الحرب« والتمترس الموقفي المتطرف ، وطنيا وكونيا. الأمر الذي جعل بعض المفكرين المهتمين بهذه القضية يؤكدون على مشروعية طرح ومعالجة السؤال المحوري الهام: هل » القومية مرض العصر أم خلاصه؟.«. والواقع أن هذه المسألة تحتاج بمفردها إلى دراسات معمقة. وهي تشكل، بالنسبة لنا بالفعل، أحد المحاور التي نشتغل عليها حاليا، والمرتبطة، أساســـا، بقضايا الديمقراطية، والمجتمـع المدني، والتنمية، والحداثة، والعولمة (18).
5 ـ أما فيما يتعلق بآثار »الثورة التكنولوجية والمعرفية والمعلوماتية« الجديدة المعولمة على التربية خاصة، والمجتمع بشكل عام، فإننا يمكن أن نجمل هذه الآثار فيما يلي:
أ ـ إن هذه الثورة قد عملت على تحويل السلطة من الاعتماد على القوة الاقتصادية والمالية والعسكرية….إلى مجال المعرفة ومنتجاتها التقانية ، ولاسيما المبتكرات المرتبطة بميدان الإعلام والاتصال والتواصل كالمعلوميات من أنترنيت وأنظمة رقمية…الخ. فأصبح من يمتلك هذه المعرفة قادرا على التحكم، بالنتيجة، في امتلاك الثروة الاقتصادية، بل ومختلف القيم والخيرات المادية والرمزية. ويتجلى أثر هذا التحول الكبير على التربية في كونه قد طرح على المؤسسة التربوية، في مختلف مستوياتها، تحديات كبيرة تتعلق بضرورة تطوير وتجديد ذاتها، مضامين وعلاقات وممارسات وتبادلات مع المحيط المحلي والعالمي. وذلك حتى تتمكن من أن تكون، بالفعل،» مدرسة للمستقبـل« منسجمة مع تطوره المعرفي والتكنولوجي، مستجيبة لمطالبه وحاجاته ورهاناته المتجددة باستمرار.
ب ـ خلقت هذه الثورة أيضا » فجوة معرفية وتقانية « بين من يملك هذه المعرفة ومؤهلات إنمائها وتطويرها واستثمارها والإفادة منها وبين من لا يملك ذلك، وخاصة بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات» النامية أو المتخلــفـة« ، كما هي حال مجتمعاتنا العربية. وحتى نبرز بعض جوانب هذه الفجوة، نقدم لاحقا بعض المعطيات الرقمية المستخرجة من » تقرير التنتمية البشريــة« الذي أعده » برنامج الأمم المتحدة للتنمية PNUD « برسم سنة 1999 ، وذلك بهدف الاستئناس بها ليس إلا:
ـ تنفق عشر دول غنية على البحث العلمي حوالي 84%من الإنفاق العالمي في هذا المجال، وتستحوذ أمريكا بمفردها على حوالي 92% من الاختراعات العلمية.
ـ 20% من الدول الغنية توفر لسكانها حوالي 3،93% من خدمات الأنترنيت، بينما لا تستطيع أن توفر الدول الفقيرة لسكانها سوى حوالي 6،7% من نفس الخدمات.
بما أن حوالي 80% من مواقع الأنترنيت باللغة الإنجليزية، فلا يستفيد منها إلا حوالي 10% من سكان العالم ممن يتقنون هذه اللغة، علما بأن حوالي 30% من مستخدمي الأنترنيت هم ذوو مستوى جامعي(19) .
وبما أن مستوى التعليم والتكوين لدى ساكنة كل مجتمع هو الذي يشرط، أساسا، مستوى استفادتها من هذه الثروة المعرفية ومن لواحقها وعوائدها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن الفوارق تبدو، في هذا المضمار، صارخة ومعبرة، وخاصة بالنسبة لمجتمعات الوطن العربي. والمؤشرات الكمية المقارنة التي سنعرضها لاحقا تقدم بعض جوانب » مشهد التدهور« التربوي في مجتمعاتنا تحديدا:
+ فبالنسبة لمعدل الأمية، في المجموعات الإقليمية الدولية الأساسية، نلاحظ أنه:
ـ للمزيد ارجع للمصدر
وإذا كانتت لغة الأرقام ـ كما يقال ـ نسبية في صدقها وتعبيرها عن الواقع الفعلي دائما، فإنها، في بعض الحالات، تكون، رغم نسبيتها هذه، مفيدة ودالة، كما هي حال المعطيات الرقمية الآنفة. ولعل من أهم ما يمكن استخلاصه مما سبق هو أن مجتمعاتنا ما تزال بعيدة كل البعد ـ بحكم أوضاعها التربوية المتدهورة ـ عن امتلاك الاقتدار الذي يمكنها من المشاركة الإيجابية الفاعلة في مواكبة تطورات ومتغيرات »الثورة المعرفية« التي يشهدها العالم الآن في عصر العولمة، والذي تتصاعد إيقاعات ووثائر تناميها وتجددها باستمرار.
ج ـ ساهمت هذه الثورة كذلك في تعميق » فجوة اقتصادية واجتماعية«، أفقيا، بين الدول والمجتمعات عالميا، وعموديا، أي بين الأفراد والجماعات والفئات…داخل المجتمع الواحد.وليس أكثر تعبيرا عن هذا الوضع اللامتكافئ، على المستوى العالمي، من كون 358 ملياديرا في العالم يستفردون بمـا يضاهي حـوالي ثروة مليارين ونصف (5،2%) من ساكنة العالم ، وتستحوذ 20% من دول العالم على حوالي 85% من الناتج الإجمالي العالمي، وعلى حوالي 84% من التجارة العالمية، وعلى حوالي 85% من الاذخار العالمي(21). ولا يقتصر دور هذه الثروة على توفير شروط الغلبة والسيادة الكونية للدول الغنية بل تمكنها أيضا من التطوير المتواصل لرصيدها العلمي والمعرفي والتكنولوجي... عبر دعمها المادي واللوجستيكي والمعنوي لبرامج النشر والبحث العلمي والعمل الثقافي. وهكذا تشير بعض الإحصائيات المتعلقة بالنشر في المجتمع الأمريكي إلى أن أمريكا وحدها ينشر فيها حوالي 000،45 كتاب سنويا، و1500 جريدة يومية، و3700 مجلة متخصصة في حقول معرفية وفنية مختلفة، و250 مجلة خاصة بالمهندسين(22). وعبر تكامل وترافد كل من الثروة المعرفية والثروة المادية يتوافر للدول الغنية كثير من شروط وإمكانات السلطة والتمكن والتحكم والهيمنة على مستوى المنتظم الكوني، فارضة بذلك قيمها وثقافتها، بل ومواقفها ومصالحها على الدول الضعيفة، ولا سيما بعد أن تعاظم انحسار دور ومكانة » الدولة الوطنية« في هذا الوضع الكوني المعولم. وذلك نظرا لما قامت به »ثقافة السوق« من اختراقات متنوعة الأشكال للعديد من الحدود والحواجز والفضاءات الجغرافية والسياسية والثقافية، مقلصة بذلك من سيادة هذه الدولة، ومن مستوى سيطرتها على شؤونها الداخلية، وتحكمها أيضا في ضبط وتوجيه علاقتها وتبادلاتها المتعددة مع محيطها الإقليمي والجهوي والعالمي. وتلك مسألة أخرى ليست موضوع اهتمامنا في هذا العرض بالذات (23).
د ـ ونظرا لكل المعطيات الآنفة، فقد كان للثورة المعرفية أعظم الآثار على التربية بشكل خاص. ففي الوقت الذي أصبح مطلوبا فيه من نظم ومؤسسات وسياسات التربية والتعليم والتكوين أن تعمل على مراجعة شاملة لشروط اشتغالها، وعلى تجديد وتطوير ذاتها، كما أسلفنا، نجد أنها قد أمست ـ تحت وطأة هذه الثورة المعرفية، وما نجم عنها من حوسبة وعولمة لثقافة الصورة وللقيم والموضات الفكرية والاجتماعية الجديدة... ـ متخلفة على أكثر من صعيد، وذلك قياسا إلى ما كان لها من قيمة ومكانة ونفوذ فيما سبق، وخاصة بالنسبة لمجتمعاتنا الثالثية.
ولذا فقد أصبح العديد من المجتمعات، حتى المتقدمة منها، يدعو إلى إصلاح شامل لنظم التربية والتكوين، ونهج سياسات جديدة ومتجددة لتأسيس» مدرسة المستقبل« وإقامة » نظام تربوي جديد« : بنيات ومضامين وقيما وآليات اشتغال وتدبير... نظام لا يلغي المدرسة (بمفهومها العام)، كلية، وإنما يعمل على إصلاحها وتحديث شروط الممارسة التربوية وتدبيرعمليات التعليم والتكوين بها...
المصدرhttp://absecope.rab7net.org/senhaji/...php?storyid=36
الكاتب : سنهجي
رقم المقال : 36
المستوى : جميع القراء
الإصدار 1.00.02
تاريخ النشر: 2008/6/3 22:18:46
عدد مرات القراءة : 287
بقلم: ذ. مصطفى محسن