صفحة 1 من 1

الديمقراطية في فرنسا

مرسل: الخميس ديسمبر 22, 2011 12:57 pm
بواسطة عبدالعزيز العمر
من المؤكد أن تطبيق حرية التعبير والمعتقد والانتماء والسفر والعمل وتحديد الأسعار والمنافسة التجارية، وكذلك الزواج والطلاق وغيرها من الحريات، أمر مُسَلّم به في فرنسا... من المؤكد كذلك أن الحرية الانتخابية الديمقراطية مطبقة في كل نشاطات العمل الفرنسية، حرية تتيح انتخاب مسؤولي نقابات وممثلي عمال في كل شركة ومصنع ومؤسسة عامة أو خاصة.

لكن، من المؤكد أيضاً أن هؤلاء المنتخبين يمثلون ويدافعون عن حقوق العاملين، كوادر وموظفين ومستخدمين وعمال، يقترحون بمشاركة فعلية بكل أنواع التفاوض مع رؤساء المؤسسات، يحتجون، يعتصمون ويتظاهرون... بيد أن هذه الحرية ليست معطاءة دائماً لثمارها، فبالنهاية، يبقى صنع واتخاذ القرار النهائي بيد (القوي المُهيْمن)، نعم... حتى في فرنسا.

[على سبيل المثال، لم تحصل المرأة العاملة في القطاع الخاص حتى يومنا هذا، بمرتبٍ متساوٍ مع مرتب الرجل الذي يحمل نفس شهادتها وله نفس تجربتها ونفس مدة خبرتها ويشغل منصباً مماثلاً لمنصبها... عدم المساواة هذه ليست غائبة في القطاع العام بل محدودة، وتبقى المساواة التامة بين الجنسيْن محصورة بالموظفين الفائزين والمُعيّنين بمسابقات حكومية].

في هذا القطاع العام، مهما كان نفوذ النقابات كبيراً، تبقى كذلك مسؤولية تنفيذ القرار الحكومي بيد من يرتقون ويصلون للمناصب العليا، أي بيد من يملكون (قوة المُتسلّط)، لكن بفضل الإضراب والاعتصام، تحقق النقابات الكثير من مطالبها، وأحياناً كلها، إن كان الأمر يتعلّق بوسائل النقل، وبالسكك الحديدية خصوصاً، أو في مجال التعليم الثانوي والجامعي الذي أسقط حكومات لعدة مرات، في ماض قريب، وهذه [ قوة عُمّالية لا يُستهان بها] في فرنسا.

[إنّ خصخصة الغالبية العظمى من المؤسسات ساهمت بالتزام العاملين بالحد الأدنى من المطالب، فأصحاب المؤسسات، ليسوا مُلزمين دائماً بتنفيذ كل مطالب عمالهم ومستخدميهم، لكنهم مجبرون على التفاوض معهم!].

لا يتمّ تطبيق الديمقراطية الأسرية على أفضل ما يرام، فالأب الفرنسي يبقى "نظرياً"، (صاحب الحلّ والرّبط النهائي)، خاصة ذلك الذي يحتكر (قوّة المصادر) المادية أو الفكرية أو الاجتماعية أو كلها مجتمعة. إنّ الحكمة هنا، هي أن: [مالك القوة، أيّاً كانت، هو صاحب القرار]... وحين ينشأ خلاف بين مُشاركَيْن أو زوجيْن، فالانفصال أو الطلاق يبقى الحل الطبيعي غير المرفوض مُجتمعياً.

يكمن مبرر غياب الديمقراطية الأسرية برأيي وحسب خبرتي، بأنّ المرأة الفرنسية قنعت بما حققته نظيراتها منذ عقود طويلة من الكفاح، ولا ترى ضرورة لتحقيق إنجازات أكبر، فحقها بالترشّح الانتخابي التمثيلي (مُناصفةً مع الرجل) حصلت عليه، وحقها بالعمل مُصان، وحقها بتسيير عائلتها أو المشاركة به مضمون، وحريتها باختيار أو بتغيير بعلها بمن تشاء، حيثما تشاء، كيفما تشاء، بالقانون الذي تهوى، بات أمراً مقبولاً.

[بسبب هذه العوامل وبسبب البطالة، لم تَعُد المرأة الفرنسية ترى مُبرّراً، للمُطالبة بأكثر من مساواة مُرتّبها مع مُرتّب الرجل في العمل].

أما [الديمقراطية السياسية] فتطبيقها يتم على أفضل الوجوه، وفق معايير الحريات الآتية:

(1) حرية ترشّح أي مواطن أو مواطنة، بجنسية فرنسية، في الـ23 من العمر، لأيّ استحقاق انتخابي.
(2) حرية انتخاب المواطن للمرشح الذي يراه الأجدر، أو حرية عدم المشاركة بالانتخاب.
(3) حرية الطعن بأي نتيجة مشكوك بها من أي مواطن، كفارق بسيط بنسبة الفوز بين مُتنافسيْن، مثلاً.
(4) وجوب تمثيل الفائز لكل المواطنين، وفق الوعود التي قطعها على نفسه، كمرشح خلال حملته الانتخابية.

[لا بأس من التذكير بأن نظام الحكم في فرنسا منذ دستور الجمهورية الخامسة، التي وضعه ديغول في العام 1958، هو رئاسي – برلماني – تنفيذي].

[المجلس الدستوري]

إنه أحد (ضوابط تطبيق الديمقراطية)، إنه هيئة عليا تسهر على حسن وشرعية وشفافية كل الانتخابات والطعن بها، تقوم بتنصيب رئيس الجمهورية الفائز وتُنصّبه دستورياً، من الدورة الأولى، إن حاز على 50 % من أصوات الشعب + صوت، وإلاّ، فدورة ثانية يتنافس فيها الفائزان الحاصلان على أعلى نسبة. الحاصل منهما على أكثر من 50 %، يُنصّب من قبل المجلس الدستوري، ويبدأ المُنتخَب حكم فرنسا، بعد فترة انتقالية قصيرة "استلام وتسليم"، لولاية مدتها 5 سنوات، بلا حدود لعدد الولايات.

[رئيس الجمهورية]

للمرشح على هذه المهمة أن تتوفر لديه شروط بديهية: الجنسية الفرنسية، العمر 23 عاماً أو أكثر، شهادة حسن سلوك، حصوله على 500 توقيع من كبار المُنتخَبين، برلمانيين ورؤساء مجالس أقاليم ومناطق وبلديات... لرئيس الجمهورية الفرنسية حصانة،

(حصانة لا تمنع من نقده والتهجم على مواقفه ورفع دعاوى ضده واستدعائه للمثول أمام المحاكم بعد انتهاء ولايته)، بيد أنّ (كل تهجم على شخصه كإنسان يُعتبر "تشنيعاً"، يُعاقَب عليه مرتكبُه قانونياً).

لرئيس الجمهورية الفرنسية صلاحيات كبيرة، ككل رؤساء العالم،

* السهر على حسن سير السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، دون أي تدخّل بالسلطة الرابعة "الإعلام".
* الحرص على استمرارية سير مؤسسات الدولة.
* تعيين الوزير الأول والوزراء، وترؤس اجتماعات الحكومة.
* قيادة القوات المسلحة، إبرام الاتفاقيات الدولية وتمثيل فرنسا دولياً، مستعيناً بمستشارين وبوزير الخارجية.

[إنّ تعدّدية المُرشحين المتنافسين على الرئاسة أمر قانوني، فلا اقتراع ولا استفتاء لمرشح وحيد... يتم الاقتراع على رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب].

[السلطة التنفيذية]

تتألف من رئيس حكومة، ومن وزراء سياديين أو بتفويض أو بلا حقيبة، إنها السلطة الحقيقية التي تحكم فرنسا مباشرة، بعد تعيينها من رئيس الجمهورية وحصولها على ثقة البرلمان، يترأس رئيس الجمهورية اجتماعات هذه السلطة.

[يُمنَع على الوزير، الجمعُ بين منصبه كوزير، وولايته كمُنتَخَب برلماني أو رئيس إقليم أو منطقة، أو رئيس بلدية إحدى كبريات المدن الفرنسية].

السلطة التشريعية أو البرلمانية، هيئة برلمانية مؤلفة من مجلسيْن:

(أ) مجلس الشيوخ Le Sénat"":

أعضاؤه منتخبون لمدة 6 سنوات (تُجدد كل 3 سنوات)، عن طريق اقتراع غير مباشر من قبل مُنتخَبي الأمة، برلمانيين ورؤساء محليات وبلديات... يمارس مجلس الشورى عمله التشريعي، لكن رأيه يبقى استشارياً بدون سلطة، فحين يكون رأيُه مخالفاً للجمعية العامة، لا يُتّخذ به.

[كانت وما زالت استمرارية وجود مجلس الشيوخ محط نقد ومطالبة بإلغائه، لكونه لا يمثل إرادة الشعب، ولا يملك قرار التشريع الحاسم].

(ب) الجمعية الوطنية Nationale L’Assemblée"":

ما يعادل (مجلس الشعب أو مجلس الأمة في بلادنا)، إنها السلطة التشريعية الحقيقية، نظراً لانتخاب أعضائها مباشرة من الشعب، ويعود لها سن القوانين وتغييرها... يُسمّى عُضوُها (نائباً)، يترشح بهدف خدمة دائرة ما، إن كان يحمل الجنسية الفرنسية، إن كان عمره 23 سنة أو أكثر، إن كان يحظى بشهادة حسن سلوك، إن قام بحملة انتخابية شفافة لا طعن فيها، إن توفرت تعدّدية المُرشحين المتنافسين، وإن اختار لنفسه (نائباً احتياطياً) يحل مكانه في حالة ما إذا دُعي النائب لشغل منصب وزير أو سفير أو مستشار في الرئاسة... مدة ولاية النائب 5 سنوات، بدون تحديد لعددها.

[كل مرشح يحلم بضمان "نسبي" لانتخابه أو إعادة انتخابه، يترشّح باسم حزب أو باسم تحالف أحزاب... قلة من المستقلين يفوزون].

- إنّ سلطة رئيس الجمهورية المُنتخَب رهينة بأغلبيته البرلمانية، فإن أفرزت الانتخابات النيابية أغلبية من حزبه أو من تآلفه، يصبح رئيس الدولة الحاكم الآمر الناهي (شبه الديكتاتور، لمدة رئاسته، لا لما هو أبعد)، بدعم من أغلبيته النيابية... يُعيّن الأكثر قرباً منه للسلطة التنفيذية (الوزير الأول والوزراء)، ويتخذ القرارات التي تناسب مشربه السياسي، تعتبر هذه الحالة في فرنسا، كـ(وضع ديمقراطي طبيعي لا يسبّب شللاً للمؤسسات).

- إن حصلت الجهة المُعارضة لرئيس الجمهورية على أغلبية نيابية، تعود ممارسة السلطة لرئيس الحكومة، بينما رئيس الدولة لا يفعل أكثر من ترؤس الحكومة (مُتعايشاً مع الوضع)، تحمل هذه الحالة اسماً سياسياً فريداً التعايش أو المُساكنة (La Cohabitation)، وقد حصلت (3 مرات):

1- فترة 1986/ 1988: عايش فرانسوا ميتران كرئيس بلا سلطة، جاك شيراك كرئيس حكومة مدعوم من أغلبيته النيابة التي فازت على يسارٍ حكم 5 سنوات، من 1981 إلى 1986... كانت التجربة قاسية والمعركة بين الرئيس والوزير الأول حادة، فخسر شيراك الانتخابات الرئاسية والنيابية التي تَبِعَت، وفاز ميتران بولاية سباعية ثانية، حكم خلالها أيضاً لمدة 5 سنوات بأغلبية يسارية (1988- 1993).

2- فترة 1993/ 1995: عايش ميتران للمرة الثانية كرئيس بلا سلطة، السيد إدوار بلادور كرئيس حكومة يحكم فعلاً... كانت التجربة أقل تصادماً من الأولى، بسبب مرض ميتران وقرب نهاية ولايته الثانية (7 + 7 وقتها).

فاز جاك شيراك برئاسة الجمهورية في العام 1995 مقابل منافسه الاشتراكي ليونيل جوسبان. لكن رئيس الجمهورية شيراك اضطر لحلّ مجلس نوابه، بسبب فشل تجربة رئيس وزرائه ألان جوبيه 1995/ 1997، مقتنعاً بفوزه بمجلس مماثل للذي تمّ حلّه، لكنه خسر الرهان وفازت أكثرية نيابية يسارية.

3- فترة 1997/ 2002: بقي شيراك رئيس دولة بلا سلطة، وحكم البلاد الاشتراكي ليونيل جوسبان بمشاركة وزراء شيوعيين لمدة 5 سنوات.

خلال السنوات الثلاثة الأولى، حكم التآلف اليساري بشكل مقبول مع بعض التعثرات: شارك بحرب ضروس ضد الصرب وكان المساهم الأول بتحرير كوسوفو، أقام أفضل العلاقات مع عرفات، ولم يُظهر عداءً للعرب برغم زوجته اليهودية.

أما في سياسته الداخلية، فحقق جوسبان إنجازات اجتماعية كبيرة: حافظ على ما كان مهدّداً (الأسابيع الخمسة مدفوعة الأجر سنوياً لكل العاملين)، وضع نظام الـ(35 ساعة كعمل أسبوعي بدلاً من 39)، خفّض (مدة رئاسة الجمهورية من 7 إلى 5 سنوات)، أصدر (قانون المظلة الصحية المجانية للجميع - La CMU)، و( قانون الدخل الأدنى للاندماج - Le RMI)، لكل عاطل عن العمل بدون دخل، كما أتاح التصويت على (قانون التوافق المدني للمَثليين - Le PACS ) الذي لم يُرض الفرنسيين.

في السنتين الأخيرتين من ترؤسه الحكومة، تفاقم الخلاف بين جوسبان ووزير خارجيته شوفنمه بسبب سوء إدارة محافظ منطقة كورسيكا، وقام جوسبان بتهجم أعمى يُمنة ويُسرة على معارضي قانون الـ(PACS)، وحين ترشح لانتخابات 2002 الرئاسية، حاز شيراك على المرتبة الأولى، ولوبن اليميني المتطرف على الثانية، وخسر جوسبان المعركة والحرب، وتنحى عن العمل السياسي، وانتهت تجارب المساكنة، وبدأت رحلة الصراع على الكرسي بين زعماء اليمين في الحكم، مع لفتة كل منهم لانتخابات 2007 الرئاسية.

انتهت ولاية شيراك بصعوبة بالغة، وفتح باب الترشح، وكان الاقتراع محصوراً بين مرشحيْن: اليميني شبه المتطرف (نيكولا ساركوزي) والاشتراكية المعتدلة (سِغولين رْوَيّال)... فاز ساركوزي بتحالف يشمل يمين شبه متطرف، وسط يميني، يمين مستقل، ويساريّ متهود متصهين كبرنار كوشنير وغيره، كما تم تعيين نساء وعرب وأفارقة واشتراكيين ومستقلين في الحكومة.

[وعادت أمور الديمقراطية لتسير على هوى من فاز بذكاء وحنكة، ومن يحكم بـ(ديكتاتورية شبه فردية)، بلا خوف على مستقبله، قبل انتخابات 2012 التي وحدها ستجدد له أو ستلفظه].

من أسرار نجاح الديمقراطية في فرنسا يمكن التطرق لـ:

* [قبول تبادل السلطة من قبل المرشحين أنفسهم كأمر سياسي صحّي "لا استحقاق أبدي"] فباليوم التالي لانتخابه، يُنظّم الفائز حملته الانتخابية القادمة، لكنه يعرف ويقبل أنه قد يُعاد انتخابه وقد يخسر الرهان، وحين يخسر، يُحافظ على أمله وتفاؤله بالفوز بالانتخابات القادمة، فرئيس البلدية أو رئيس الإقليم أو رئيس المنطقة كمنتخبين، قد يتغيرون بعد (مدة الاستحقاق) في بلدات ومناطق ودوائر، وقد يُعاد انتخابهم عدة مرات في أخرى.

* [تقسيم فرنسا إلى 5 تجمعات إدارية، مما يُسهّل نجاح العملية الديمقراطية وتطبيقها بمشاركة قريبة من الشعب] ففي فرنسا السداسية L'Hexagone"" بحدودها مع أوربا إضافة إلى جزيرة كورسيكا، تُسَيّر هذه التجمعات سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً بشكل لا مركزي من مُنتخبي الشعب، لكنها تُحكم أمنياً وإدارياً وقانونياً من قبل موظفين ساميين يتم تعيينهم من الحكومة، ها هي هذه التجمعات: (22) إقليم ""Région، 96 منطقة ""Département، 36000 بلدية "Commune"، ثم الدائرة l'Arrondissement""، والناحية "Le Canton".

تضمّ فرنسا 5 مناطق انتخابية أخرى، تُسمّى (أقاليم وأراضي ما وراء البحار DOM-TOM" )... تُسيّر بحكم لا مركزي يمارس من المُنتخبين ومن كبار الموظفين، كبقية الأقاليم، لكن باحترام خصوصيات تلك الجزر البعيدة جداً عن فرنسا.

إنّ تسيير وإدارة هذه التجمعات من الجميع، يتمّ باحترام دستور وقوانين ومراسيم الدولة الفرنسية التي قد تتغيّر وتتبدل وفق مستجدات العصر، بدون رجوع لنصوص موروثة، فـ[فرنسا جمهورية مدنية علمانية ديمقراطية].