منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
By عبدالعزيز العمر
#45122
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تبلبلت صفوف الشيوعيين وباتوا في حيرة وارتباك. فجعلت الدعاية البرجوازية في الحال من هذه الهزيمة المؤقتة للاشتراكية سلاحاً إيديولوجياً ضد الاشتراكية وراحت تروج لكونها فكرة باطلة طوباوية رجعية إلخ. هذا بينما أعلِنت الرأسمالية المتخفية وراء شتى الأسماء والألقاب كمثل "المجتمع المنفتح" و"المجتمع ما بعد الصناعي" وغيره كأفضل نظام وأعدل نظام في العالم يجلب للناس الثروة والرخاء والوفرة والهناء. ومن البديهي أن وضعاً كهذا ما كان من شأنه إلا أن ينعكس على الحركة الشيوعية سلباً، وأن يؤدي إلى انزلاق جزء من الأحزاب الشيوعية إلى مستنقع التحريفية والانتهازية، وجزء آخر منها إلى التقوقع والتطيف والانعزال والنقابية الفوضوية.
ومن أسطع الشواهد على وجود أزمة في الحركة الشيوعية تعدد الأحزاب الشيوعية الذي يؤدي رأساً إلى الانتهازية والتطيّف والتقوقع والضعف والعجز. فثمة في روسيا إلى جانب الحزب الشيوعي الروسي (حزب زوغانوف) ما بين خمسة وستة أحزاب شيوعية أخرى ذات شأن إلى حد ما هي "الحزب الشيوعي البلشفي لعموم روسيا" و"حزب العمال الشيوعي الروسي- حزب الشيوعيين الروسي" و"الحزب الشيوعي السوفياتي" المؤلف بدوره من ثلاثة أحزاب، و"الحزب الشيوعي الروسي- الحزب الشيوعي السوفياتي" وبضعة أحزاب شيوعية أخرى قليلة العدد جداً وقرابة عشر منظمات شعبية ذات منحى شيوعي.
إذا قلنا اليوم إن الحركة الشيوعية هي في أزمة، فكأننا ما قلنا شيئا. فهي في أزمة خانقة وعميقة جداً. فالأحزاب الشيوعية الصغيرة تتنازع فيما بينها، والحزب الشيوعي الروسي انزلق إلى أسوإ النزعات التحريفية والقومية والوطنية والانتهازية، وكل هذا يدعم في خاتمة المطاف دكتاتورية البرجوازية ويشدد من استغلالها للعمال.
بعد مضي ثلاث سنوات ستجري في روسيا الانتخابات الرئاسية. ورب سائل، أيعني هذا أن علينا أن نقلق ونهتم؟
قد لا يهتم للأمر مواطن جاهل، ولكن هذا غير مسموح به لحزب عمالي. فصحيح أن ثلاث سنوات لا تزال تفصلنا عن انتخاب رئيس جديد، لكن هذا لا يعني أن على الشيوعيين أن يقعدوا مرتاحي البال وينتظروا الفرج. وهذا ما يفعله للأسف الآن قادة الحزب الشيوعي الروسي الذين خانوا منذ زمن بعيد الماركسية والاشتراكية وانحدروا إلى مستوى الاشتراكيين الديمقراطيين الأقحاح الذين ينادون بالسلم الطبقي وبتعاون الطبقات، وهو ما لا يجب أبداً أن يفعله الشيوعيون الحقيقيون الحريصون على مستقبل روسيا والعالم ككل. فهذه السنوات الثلاث الآتية ينبغي تكريسها للعمل المضني بين الجماهير والدعاية للاشتراكية والماركسية. وهذا العمل لا يحسن قصره على مسيرات حملة الأعلام الحمراء عبر الساحة الحمراء، فالفائدة من هذا ضئيلة جداً. يجب العمل داخل النقابات، وإصدار الجرائد والنشرات وإنشاء المواقع على الإنترنت، وبالأخص يجب أن ننظم صفوفنا الداخلية. فما دامت الحركة الشيوعية مفرقة الصفوف فهي ليست بشيء، وما إن تنتظم وترص صفوفها حتى تضحي كل شيء. وهذا الأمر صحيح أيضا بالنسبة إلى الطبقة العاملة ككل. فما دامت هذه الطبقة مشرذمة وضعيفة تتسلط على عقول أبنائها الأوهام البرجوازية فهي لن تشكل أي خطر على راس المال وسلطته. أما حين تنتظم الطبقة العاملة وحين تشكل طليعتها حزباً عمالياً متسلحاً بالنظرية الماركسية اللينينية فهي ستستحيل قوة قادرة على أي شيء لن تصمد بوجهها البرجوازية.
التجمع البيروقراطي البرجوازي الحاكم "روسيا الموحدة" لن يبقى على الأرجح موحدا مع حلول الانتخابات. فهو سينقسم إلى مجموعات متعادية يقترح كل منها مرشحه ويصب القاذورات على كل الآخرين. وفي ما يتعلق باحتمال أن يمدد للرئيس الحالي بوتين يمكن القول إن هذا يتطلب تعديل الدستور، الأمر غير المخطط له بعد إذ من الضروري لتعديل الدستور إجراء استفتاء عام، وهو ما تخشاه السلطة خشيتها من نار حارقة.
ولكن ليس عندنا وحسب تجمع "روسيا الموحدة". لا، نحن لا نعني هنا أحزابا دمى من مثل الحزب الليبرالي الديموقراطي الروسي (حزب جيرينوفسكي) وحزب "الوطن" ("رودينا") (روغوزين) إلخ لأنها لا تمثل سوى معارضة مصطنعة ضرورية للمحافظة على مظاهر الديمقراطية وحسب. المقصود هنا هو "لجنة الـ2008" "البرتقالية"- لجنة رئيس الحكومة السابق ميخائيل كاسيانوف الذي قالت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس دون مواربة إن واشنطن ترى في شخصه الرئيس المقبل لروسيا. ولذا لا أحد يكفل أن لا يصلب عود هذه القوى فتبادر إلى "ثورة برتقالية" (على غرار ما حدث في أوكرانيا) بإعلانها انتخابات الرئيس الجديد "غير شرعية" (بدعم أميركي طبعاً).
ففي أوكرانيا أنشئ قبل الانتخابات ببضع سنوات تنظيم يهيمن عليه الأميركيون هو "بيت الحرية" «Freedom House». وهذا التنظيم إياه كان هو الذي مول الثورة في قرغيزيا. وبإمكان "البرتقاليين" الروس يدعمهم الكونغرس الأميركي والرجالات المغضوب عليهم من قبل السلطة الروسية الحالية أمثال نفزلين وبيريزوفسكي وغوسينسكي أن يضحوا ذات يوم أيضا مثابة عتلات لممارسة نفوذ الإمبريالية على روسيا. ما عواقب هذا؟ لننظر إلى جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا. فهي باتت بقضها وقضيضها بين براثن الإمبريالية الأميركية التي سوف تمتص منها كل ماء الحياة. فلا ديموقراطية هناك البتة على الرغم من أن ثوراتها المخملية حصلت على أساس شعارات الديمقراطية، وهي لن تجد مكاناً لها هناك أصلا (برسم دعاة "الديموقراطية والسيادة والاستقلال والحقيقة" في "ثورة الأرز" من اللاهثين وراء الاحتلال الأميركي والراكبين مركبه الاستعماري في المشرق العربي، بعد أن تغنوا طويلا بالعروبة وغيرها من الشعارات الشعبوية- المحرر). بل الذي حصل كان إيجاد الممهدات للإبقاء على التبلبل وعدم الاستقرار ما أمكن، وهذا ليس إلا لمصلحة الولايات المتحدة.
ولذا على الشيوعيين أن يكونوا جاهزين لمثل هذا الانعطاف في الأحداث. فسيكون عليهم أن يشكلوا المعارضة الحقيقية سواء لبيروقراطية "روسيا الموحدة" أو لليبراليين الراديكاليين من "لجنة الـ2008" "البرتقالية" وغيرها المستعدين بغية ملء جيوبهم على حساب الشعب لإخضاع روسيا للولايات المتحدة الأميركية (أوليس يفعل هذا الشيء أيضا جماعة "14 آذار" وتجمع البريستول المستعدون لجعل لبنان معبراً للسيطرة على الشرق الأوسط الكبير باستغلال قضية اغتيال الحريري إلى أقصى الحدود والسير في ركاب المطالب الأميركية المتزايدة لأجل تطويع النظام السوري الممانع وإخضاعه على حساب نسيان هموم الشعب اللبناني المعيشية والوطنية؟- المحرر). ولكن إذا ما استمرت الحركة الشيوعية في التفكك والانحطاط والتشرذم والانقسام وفي الابتعاد أكثر فأكثر عن الطبقة العاملة (السقوط في متاهات الانتهازية وممالأة البرجوازية والمؤسسة الدينية)، فسوف نضحي في وضع مأساوي مبكٍ، وسنضطر إلى الاستسلام من دون عراك، بل لن نستطيع حتى أن نقاوم.
فما هي، يا ترى، منابع التعددية الحزبية الشيوعية؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من القيام بجولة قصيرة في أرجاء التاريخ.
لقد نشأت كثرة من التنظيمات الشيوعية عندنا في ظل الفوضى التي نشأت مع تدمير القيادة الحزبية على مستوى الاتحاد السوفياتي ككل وعلى مستوى الجمهوريات السوفياتية من قبل من خانوا الحزب والاشتراكية. تلك الفترة يمكن وصفها بنفس الكلمات التي قالها إنجلس في الحركة الاشتراكية في الربع الأول من القرن التاسع عشر: إن "التخبط" المميز للحركة الاشتراكية في مرحلتها المبكرة... "يتبدى في نشوء العديد من الشيع المنعزلة التي يحارب بعضها بعضاً أقلّه بالضراوة نفسها التي تحارب بها العدو الخارجي المشترك".
فالتعددية الحزبية في الحركة الشيوعية انعكاس للتخبط الفكري والتحريفية.
وهذه التحريفية هي مرض أصاب الحركة الشيوعية ليس أبداً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بل منذ عهد ستالين حين بدأت تتكون عبادة الفرد التي هي مضادة كليا لروح دكتاتورية البروليتاريا (دكتاتورية الطبقة العاملة أو الديمقراطية البروليتارية كما يسميها لينين في كتابه "الدولة والثورة" معربا عن جوهرها الحقيقي بوصفها ديموقراطية الأغلبية الشعبية المظلومة)، ويظهر الجمود العقائدي، إذ كان يكفي صدور مؤلف هزيل لستالين "حول المادية الديالكتيكية والتاريخية" ليقال فيه إنه "قمة الفكر الفلسفي"، وحين بدأت ترتكب أعمال قمع أعدم في خلالها أو غيِّب السجون إلى جانب أعداء السلطة السوفياتية الفعليين بلاشفة قدامى وقادة عسكريون وكذلك عدد هائل من الناس البعيدين كل البعد عن السياسة. غير أن النهج السياسي للحزب الشيوعي كان عموماً نهجاً ماركسياً.
غير أن التحريفية بدت بأبهى مظاهرها حقاً في عهد خروشوف، وهو ما بات في نهاية المطاف سبب انهيار الحزب الشيوعي السوفياتي. فخلال تلك الفترة بالذات بدأت تنشأ داخل الحزب تيارات أيديولوجية مختلفة. فالفرقة مع الماركسية اللينينية تبدت أكثر ما تبدت ابتداء من الستينات.
فمع إعلان القيادة السوفياتية ابتداء من عهد خروشوف التعاون والتعايش السلميين مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الإمبريالية مثابة نهج عام للاتحاد السوفياتي، بدأت هذه القيادة تتجاوز باستمرار حدود المسموح به في العلاقات الدولية بين الاشتراكية العالمية والإمبريالية العالمية. وكانت النتيجة أن نشأ في السياسة الخارجية السوفياتية، بدلا من الجمع الديالكتيكي المدروس بين مبدأين أساسيين عظيمين هما الأممية البروليتارية والتعايش السلمي، انحياز غير مبرر إلى جهة الأخير مع فهمه فهما يخرج عن موجبات الارتباط بالنضال الطبقي. فإبراز وتعظيم مبدأ التعايش السلمي ولجم وتناسي مبدإ الأممية البروليتارية انعكسا تنازلات غير مبررة للإمبريالية في مسائل نزع السلاح وتشجيعاً عملياً لتدخل الغرب في شؤون البلدان الاشتراكية بحجة احترام "حقوق الإنسان" هناك والبلدان النامية بحجج أخرى. كل هذا ساعد طبعاً على تشكل "طابور خامس" داخل الدول الاشتراكية تابعٍ للإمبريالية راح يزرع الأوهام حول القيم "الديمقراطية" الغربية ويملي على الشبيبة أيديولوجيته حول إمكان "تقارب" النظامين convergence وما شابه.
في هذا القوت بالذات بدأت تتسارع عجلة تحريف الاقتصاد السياسي الماركسي.
فبالنسبة مثلا إلى قانون التراكم الرأسمالي المؤدي إلى الإفقار المطلق للجماهير نجد أن فعله ليس يظهر إلا على مستوى الاقتصاد العالمي ككل، وليس ضمن نطاق بلد واحد مأخوذ على حدة. ولذا ليس من العلم بشيء ولا هو صحيح جدلياً انتزاع بلد ما على حدة من جملة البلدان، كالولايات المتحدة أو بريطانيا، على سبيل المثال، والبحث فيه عن تجلي ما قاله ماركس من إفقار مطلق للطبقة العاملة. فيمكن إلى حد ما القول إن سكان بلدان كالولايات المتحدة أو بريطانيا، بما فيهم الطبقة العاملة، يبدون مثابة الرأسمالي الإجمالي إزاء الأغلبية الهائلة من كادحي البلدان النامية.
أما بالنسبة إلى التخبط والتشرذم في مجال الأيديولوجيا فيمكننا هنا رؤية جملة من "البدع" البعيدة كل البعد عن الماركسية اللينينية.
فمما أضر كل الإضرار بالحزب الشيوعي السوفياتي في الستينات التذبذب في مجال تطبيق مبدإ تعارض الإيديولوجيات. فالتجربة تدل على أن أي مسايرة لجهل الجماهير، أي أيّ تبسيط أو تسطيح للنظرية، من شأنه أن يفضي لا محالة إلى إخفاقات في الممارسة العملية، إلى تخبط وتشوش وضياع. من هذا مثلا زعم خروشوف بأن الشيوعية حالّة قريباً. فليس يمكن هنا أن نرى سوى نزعة إرادية فاضحة وقفز فوق المراحل وتجاهل لكل القوانين الاقتصادية.
ولا بد من أن نثني في الوقت نفسه على ما عرفه عهد غورباتشوف من نهوض اجتماعي وغزو للفضاء واستصلاح لسهوب الجوع وبزوغ لأولى براعم الشيوعية بعد حرب منهكة هي الحرب العالمية الثانية، غير أن كل هذا قضت عليه تحريفية المحاسيب النافذين في صفوف الحزب.
فالبرنامج الذي أقر عام 1961 أسقط في يد الحزب والطبقة العاملة والكادحين وشرذم قواهم. فهو أعلن التخلي عن دكتاتورية البروليتاريا، وهو من الخطإ بمكان، وتحدث عن الطابع الشعبي العام لمؤسسات طبقية مائة في المائة مثل الحزب والدولة. وهذا كان مثابة تستير أيديولوجي للانحلال الفكري والتوجه نحو الفكر البرجوازي الصغير. ونزع سلاح الحزب والكادحين بهذه الطريقة كان يبرَّر بإعلان رسمي لانتصار الاشتراكية "نهائياً" في الاتحاد السوفياتي، غير أنه كان يخدم، شاؤوا هم أم أبوا، الإمبريالية العالمية والعناصر البرجوازية الصغيرة في قلب الحزب.
وماذا نقوله أيضا في تضخيم أهمية قانون القيمة والعلاقات النقدية- البضاعية الذي بدأ حينذاك ولم يتوقف، بل نما وازداد إلى أن قضى على الاشتراكية في نهاية المطاف وبعث الرأسمالية مجددا، وفي بدء الترويج في مجال الاقتصاد للمبادئ البرجوازية في الحساب الاقتصادي لكل شاردة وواردة وتعظيم دور مبدإ القيمة في تقييم نشاط المؤسسات، وفي البدء باعتماد الأسعار والكتلة النقدية بصورة مصطنعة، وكل هذا من خلال الاستفادة من القصور النظري للجمهور الأعظم من "الشيوعيين العاديين"؟. وقد صار الاقتصاد السوفياتي يتجه أكثر فأكثر وجهة المؤشرات الكمية، دون أن تقدر حق قدرها إمكانيات ومطالبات الجهاز الهندسي العامل في شأن ضرورة تطوير القوى المنتجة تطويرا جذرياً. فنجم عن هذا أن نشأ مجددا تخلف نوعي في الاقتصاد السوفياتي عن اقتصاد البلدان الرأسمالية المتقدمة في الستينات والسبعينات خلال المرحلة الجديدة من تطور الإنتاج بعد أن كان هذا التخلف قد أزيل تقريبا بين الثلاثينات والخمسينات من القرن العشرين بفضل جهود مضنية وضحايا بشرية لا تصدق.
وإذا كان من الخطل القول أن الاشتراكية كانت قد دمِّرت بعد الخمسينات رأساً، بينما هي كانت انتصرت وازدهرت في عهد ستالين، إذ إن المعتقلات وعبادة الفرد والسيطرة كليا على مصائر الناس (التي استشرت في ذلك العهد) لا يجمعها جامع بالاشتراكية، كما لا يجمعها جامع في الوقت نفسه بتعظيم وتضخيم قانون القيمة وإنماء الكتلة النقدية (وهو ما حصل بعد ستالين)، فإن الانتقال نهائيا من سياسة اشتراكية على وجه العموم إلى سياسة تحريفية بدأت تشق الطريق مجددا نحو الرأسمالية على الرغم من مقاومة جزء من أعضاء الحزب من ذوي النزعة الماركسية لهذا التوجه، قد حصل في تلك المرحلة من الزمن بالذات.
صحيح أنه لا يجوز تدمير العلاقات البضاعية النقدية فوراً بعد قيام الثورة الاشتراكية أو بعد مضي وقت ما عليها إذ إن هذا يتطلب بلوغ مستوى رفيع من تطور القوى المنتجة لم يستطع الاتحاد السوفياتي بلوغه أصلاً. غير أن تضخيم أهمية قانون القيمة تضخيماً مصطنعاً ليس يعني سوى بعث العناصر الرأسمالية من جديد وتصفية العناصر الاشتراكية.
أما حقبة بريجنيف فاعتمدت كلياً على التحريفية في الاقتصاد وفي السياسة. فالجهاز البيروقراطي تعاظم إلى أبعد الحدود، وفعل قانون القيمة اتسع مئات الأضعاف، وبات الحزب الشيوعي ينقطع أكثر فأكثر عن الشعب ويمسي أبعد فأبعد عن مراقبة الكادحين. وأثار تنامي الامتيازات والرشوة والفساد نقمة الناس وقوض إيمانهم بإمكان تحقيق العدالة على يد النظام القائم. وبات البلد يعيش أكثر فأكثر بفضل تصدير الخامات إلى الدول الرأسمالية المتطورة.
أما "البريسترويكا" التي بدأت عام 1986 فجاءت مثابة قمة احتدام كل تناقضات السياسة التحريفية خلال العقود المنصرمة، والدليل على فساد وتعفن الشكل الاشتراكي الكاذب وذي المضمون الرأسمالي عملياً، وخطوة نحو إزالة القشرة القديمة، أي الاشتراكية، والاستعاضة عنها بالغلاف الرأسمالي للمضمون الرأسمالي الجديد فعلاً والذي هو الأنسب لهيمنة العناصر البرجوازية الصغيرة في داخل الحزب الشيوعي السوفياتي. وهنا بذل محولو الاقتصاد السوفياتي إلى اقتصاد رأسمالي جلّ جهودهم وسعوا أيما مسعى. وهم إذ استمالهم واستعملهم إمبرياليو الولايات المتحدة الأميركية لم يعودوا يفكرون في شيء سوى منافعهم الشخصية. فبلغت التحريفية أوجها: في الاقتصاد السياسي والفلسفة ونظرية الاشتراكية. كل هذا أعيد النظر فيه بداية، ثم ما عتم أن صار هدفا للتشهير والتسويد. وما كان استخدام مصطلح "البيريسترويكا" (إعادة البناء) نفسه ليعني شيئا سوى النهج المعادي للينينية ينهجه أعضاء الحزب من ذوي التفكير البرجوازي الصغير الضيق. وكان لينين قد حذر في تبصر للمستقبل من أنه "لا يجوز لنا أن نعيد البناء، بل علينا، على عكس ذلك، أن نساعد على إزالة تلك النواقص الكثيرة القائمة في النظام السوفياتي وفي كل منظومة الإدارة بغية مساعدة العشرات والملايين من الناس". وهذا كان يعني جهلا كليا للمبادئ الماركسية اللينينية من قبل جزء من أعضاء الحزب الشيوعي السوفياتي وتوجهاً معاديا للشيوعية من قبل الجزء الآخر. فلم يعد هناك عمليا من يساعد على التخلص من الأخطاء التحريفية للعقود السابقة. وضلِّل الشعب بالأيديولوجية البرجوازية. لنأخذ مثلا ما سمي بـ"الغلاسنوست" أي الانفتاح والشفافية في التعاطي مع الأمور والإجهار بها. فهي لم تكن سوى أداة بيد الاستخبارات الغربية استخدمتها لأجل الاندساس والتخريب الأيديولوجي غير المستتر. وهي لم تمر من دون مقاومة. ففي المؤتمر الثامن والعشرين للحزب واجهت القوى الشيوعية "الإصلاحيين" محذرة في "بيان الأقلية" (1259 صوتاً) الحزب والشعب من أن "معالجة الاشتراكية بالرأسمالية عنوة وبعكس ما يتطلبه التطور الموضوعي لن تفضي إلى زيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة، بل ستفضي إلى تدنيهما حتماً... وستؤدي إلى مآس فظيعة سيعاني منها الشعب". غير أن "الإصلاحيين" بدعم من التحريفيين باتوا يشكلون الأغلبية.
وليس عبثا أن صرح غورباتشوف في أحد آخر اجتماعات اللجنة المركزية بأن القاعة تشهد حضور حزبين أو ثلاثة على الأقل. في هذه الأثناء كانت المجموعات الباقية على تمسكها بالماركسية اللينينية الكلاسيكية (أي الحية المتطورة باستمرار، ليس في اتجاه الانتهازية، بل في اتجاه تجذير وعصرنة المقولات والمفاهيم والظواهر والتعاليم) تزداد ضعفاً.
ومع حلول العام 1990 أخذت التيارات الأيديولوجية المتكونة تتخذ أشكالا تنظيمية كالمنابر والحركات والنوادي. فحركة "المبادرة الشيوعية"، في الجانب اليساري من حطام الحزب الشيوعي السوفياتي، تحولت رأسا بعد انقلاب عام 1991 عملياً إلى حزب العمال الشيوعي الروسي الذي انبثقت منه لاحقا حركة "روسيا العاملة"، وصار "المنبر الماركسي في الحزب الشيوعي السوفياتي" أساساً لثلاث تنظيمات هي "اتحاد الشيوعيين" الذي تحول لاحقاً إلى "الحزب الشيوعي الروسي- الحزب الشيوعي السوفياتي، و"حزب الشيوعيين الروسي" الذي انضم لاحقا إلى حزب العمال الشيوعي الروسي، وحركة "البديل". وتحول "المنبر البلشفي في الحزب الشيوعي السوفياتي" إلى "الحزب الشيوعي البلشفي لعموم روسيا"، و"المنبر الديموقراطي في الحزب الشيوعي السوفياتي" إلى "الحزب الجمهوري". أما الهيئات الرسمية للحزب الشيوعي في جمهورية روسيا الاتحادية السوفياتية فشكلت بعد أن اجتازت مرحلة انتقالية في صورة "حزب الشغيلة الاشتراكي" "الحزب الشيوعي الروسي".
كل هذه الأحزاب (باستثناء الحزب الجمهوري) تعتمد في الغالب على قاعدة اجتماعية واحدة هي الطبقة العاملة الجديدة التي تضم ذوي الأجر. غير أن هذه الطبقة العاملة الجديدة غير متجانسة البتة، ففيها عناصر تتراوح بين المنفصلين عن طبقتهم وما يسمى "الارستقراطية العمالية". واليوم بإمكاننا أن نفرز خمس مجموعات داخل الطبقة العاملة. الأولى تتألف من العمال الطليعيين الواعين الذين يرون كل كذب ورياء الدعاية البرجوازية حول الحرية والديمقراطية وتكافؤ الفرص. والثانية تتألف من جمهور الكادحين المقهورين المحرومين القادرين ليس فقط على الذود عن مصالحهم، بل أيضا على فهم تناقض العمل ورأس المال. والثالثة تتألف من عمال سممتهم الروايات البرجوازية عن التشارك الاجتماعي وعن أن بالإمكان التوصل إلى الرفاهية والوفرة بواسطة النضال الاقتصادي دون غيره، فهم بوجيز العبارة موبوءون بالأيديولوجية الانتهازية. والرابعة تتألف من الفئات الدنيا من العاملين الأقل تطوراً من ذوي الوعي الرجعي الذي يوحي لهم بأن العامل يجب ألا يهتم بشيء سوى زيادة الأجر. وأخيرا المجموعة الخامسة وهي الأرستقراطية العمالية التي تعطيها البرجوازية جزءا من أرباحها. هذه الأرستقراطية هي الدعامة الاجتماعية الرئيسية للبرجوازية في كل بلدان رأس المال. وتولد الرأسمالية الاحتكارية المعاصرة باستمرار الميل إلى شق صفوف العمال وتعزيز النزعة الانتهازية بينهم وخنق الحركة العمالية. ولذا ليس من يقاوم هذا سوى حزب شيوعي موحد متراص الصفوف يبني سياسته على مبادئ الماركسية اللينينية.
نحن نفخر بحق بإنجازات الاتحاد السوفياتي من الكهربة الشاملة إلى محو الأمية إلى تطوير العلوم والفنون إلى انطلاق الإنسان إلى رحاب الفضاء. فكل هذا صنعته بلادنا بقيادة الحزب الشيوعي السوفياتي. بيد أن المأساة التاريخية تكمن في أن الحزب بانفصاله عن الشعب العامل أبعد هذا الشعب عنه فأوصله وأوصل نفسه إلى مستنقع الأزمة. رب قائل هنا: الاتحاد السوفياتي فككه الأميركيون. غير أن هناك أزمة داخلية كانت قائمة. وهذا أمر لا يسعنا إلا الإقرار به. والغلطة الأساسية التي ترتكبها كل الأحزاب الشيوعية في روسيا هي أنها لا تقدم تحليلا صارماً للأسباب التي أوصلتنا إلى مأساة عام 1991. الأسباب التي دفعت أغلبية المثقفين إلى الانتقال إلى صفوف الأعداء. الأسباب التي تجعلنا الآن، بعد 15 سنة من "العبر البيّنات" التي تركتها لنا الرأسمالية مضطرين إلى إدخال الوعي الاشتراكي من جديد عمليا في الحركة العمالية.
إن دراسة الأحداث التي ابتدأت مع العام 1985 من شأنها تبيان نواقص وسلبيات المجتمع الذي كنا نعيش فيه. فمن شأن الإقرار الصريح والصادق بكل الهفوات والأخطاء السياسية والاقتصادية أن يعيد إلى الشيوعيين ثقة الشعب بهم. غير أن تحليل الماضي دون انحياز أو مواربة يعتبره الكثيرون من الشيوعيين اليوم مثابة انضمام إلى جوقة المفترين النمامين المسوّدين لصفحات التاريخ السوفياتي. لكن يختلف تحليل عن تحليل. فـ"تحليل" كذاك الذي رأيناه طبعاً في أحد الكتب التعليمية حول علم الاجتماع والذي يقول أن الاتحاد السوفياتي لم تكن فيه ثقافة وعلوم وهلم جراً ما هو إلا تجريح وتسويد برجوازي أخرق. فثمة تحليل موضوعي مبني على الديالكتيك وآخذ في الحسبان كل جوانب هذه أو تلك من الظواهر أو الأحداث. لنتذكر لينين حين لم يخش حتى في السنوات العجاف من القول إن عندنا "دولة عمالية ذات تشويهات بيروقراطية" وشتم "الأوغاد الشيوعيين" و"المكابرين الشيوعيين". فعدم الرغبة في رؤية أخطاء الماضي والحاضر على السواء والإقرار بها هو "المكابرة الشيوعية" عينها. وبدون تحليل نقدي لتجربة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي لا يمكن أن نصوغ برنامجاً لاشتراكية القرن الحادي والعشرين تدعمه وتسير وراءه جماهير الكادحين. ومن دون برنامج كهذا لن يكون من الحركة الشيوعية سوى الحنين إلى عهد ستالين أو عهد بريجنيف.

**************
وضع الحركة الشيوعية في روسيا ومهام الشيوعيين المعاصرين (الجزء الثاني والأخير) -
والآن لنحلل جوهر أهم التيارات داخل الحركة الشيوعية.
من المعلوم أن أكبر حزب شيوعي عندنا اليوم هو الحزب الشيوعي الروسي. لكن السؤال يطرح: وهل هذا الحزب هو حقا حزب شيوعي؟ إن تحليل السياسة التي ينتهجها والأيديولوجية التي يدعو إليها ليدل بوضوح على أن الحزب الشيوعي الروسي قطع منذ زمن بعيد مع الماركسية وسار في طريق التوفيقية والانتهازية. فمطلب "شيوعيي" الحزب الشيوعي الروسي الأول هو تحويل الحزب الشيوعي من حزب الثورة الاجتماعية إلى حزب الإصلاحات الاجتماعية. (أوليست هذه هي حال الكثير من الأحزاب الشيوعية العربية الرسمية؟- المحرر). هذا المطلب السياسي دعمه زعيم الحزب زوغانوف بمجموعة من الحجج والذرائع التي تتلخص بالآتي: أولا، الاشتراكية اليوم ليست إلا "أفقاً مستقبلياً"، أي أن من غير الممكن علمياً وبمنتهى الوضوح تعليل ضرورتها وحتميتها؛ ثانياً، إن التحرك في اتجاه تروست (اتحاد احتكاري) عالمي شامل أوحد، وهو الفكرة التي ينضح بها من كل الجوانب مؤلف زوغانوف "العولمة: مأزق أو مخرج؟"، يتيح عمليا القول بإمكان تغلب الرأسمالية على تناقضاتها؛ ثالثا، زعم زوغانوف: "استنفدت روسيا القدرة على إشعال الثورات"؛ رابعاً، ليست دكتاتورية البروليتاريا، برأي زوغانوف، (وما أكثر أمثال زوغانوف في أوروبا وفي العالم العربي- المحرر) بأكثر من تدمير لأسس الدولة (بديهي أن يكون تحطيم آلة الدولة البرجوازية بالنسبة إلى التحريفيين عملاً مرعباً وإرهابياً لا جدوى منه)؛ خامساً، إنكار تناقض الليبرالية والاشتراكية، إنكار الصراع الطبقي الذي حسب زعمه لا يمكن أن ينسحب على مجتمعات الغرب الديمقراطية.
من هنا مفهوم أن مثل هذا الانعطاف في النظرية من الماركسية إلى التحريفية لا يعني إلا خيانة الاشتراكية.
أما بالنسبة إلى حزب زوغانوف فعلى الرغم من أنه لا يزال يضم في قاعدته ماركسيين مخلصين، فهو بات موبوءاً بالنزعة الانتهازية من رأسه حتى أخمص قدميه، ولا شفاء له منها. وهذا المرض فيه خِلقي رافقه منذ ولادته، ومع مرور الزمن سيتحول هذا الحزب "الشيوعي" أكثر فأكثر إلى حزب اشتراكي ديمقراطي توفيقي. وثمة غزارة من الأمثلة على تحريفية الحزب الشيوعي الروسي: فكل برنامج الحزب مشبع بالتحريف، وآراء زوغانوف في ما يتعلق بالعولمة والتطورات العالمية ووضع روسيا حاليا ونفي ضرورة الثورة الاشتراكية ونظرية تحول الرأسمالية إلى اشتراكية تحولا سلمياً إلخ تكتنفها جميعا نزعة انتهازية ولا أتفه.
يقول زوغانوف: "إن روسيا بجمعها بين مثل العدالة "الحمراء" التي هي كناية عن تجسد أرضي لحقيقة "سماوية" (قارن هذا بمثالية هيغل حول الفكرة المطلقة وانعكاسها على الأرض- المحرر) تقول "إن الجميع متساوون أمام الرب" (لقد بارى رجال الدين في موعظته)، ومثل الإخلاص الواعي للدولة والوطن والمفهوم كشكل من أشكال وجود المقدسات الشعبية المتجذرة عبر العصور، ستحقق أخيراً الوفاق الاجتماعي المأمول بين الطبقات وجبروت الدولة الذي ائتمنتنا عليه عشرات الأجيال ممن سبقونا..".
إننا هنا حقاً أمام أسوإ خيانة حاقدة ومتعمدة للماركسية يمكن أن يفكر بها المرء. فبدلا من الأممية يأتينا بالوطنية (التي هي كما قال أحدهم آخر ملاذ للسفلاء حين تضحي شعارا يحمله من أفلس من الزعماء البرجوازيين) ، وبدلا من النضال الطبقي يأتينا بوفاق الطبقات، وبدلا من المادية الديالكتيكية بمثالية ولا أتعس.
عن أية شيوعية يمكن للمرء أن يتحدث، في خاتمة المطاف، وزعماء الحزب الشيوعي الروسي يتداولون ملايين الدولارات يغدقها عليهم الكرملين والطغمة المالية (الأوليغارشيا)؟ وليس عبثا ما قاله بوتين مؤخراً من أن الحزب الشيوعي الروسي "إن هو إلا جزء ضروري من النظام السياسي في روسيا المعاصرة".
الحزب الشيوعي الروسي لن يتسلم السلطة أبدا، فكيف له بالأحرى أن يوجه ضربة قاضية إلى البرجوازية والبيروقراطية. فليس من أجل هذا الهدف أنشأه وسانده النظام الحالي (المعارضة من داخل النظام هي جزء ضروري من "النظام الديموقراطي" اليوم). والسلطة مسؤولية ضخمة لا يقوى على تحملها حزب دمية. أما خداع الشعب حين تكون أبداً في "المعارضة" (تارة المعارضة "البناءة" وأخرى المعارضة "التي لا تلين") فأمر مغاير. زد على ذلك أن الثورة هي بالنسبة إلى "شيوعيي" الحزب المذكور أفظع الأمور. إنها العنف والهزات الاجتماعية. هاكم ما قاله ملنيكوف، الشخص الثاني في الحزب، في تقريره إلى الاجتماع الخامس عشر للجنة المركزية (آذار 2004): "لقد اضطررنا فعلا لأجل الحفاظ على النفوذ السياسي الهام بالنسبة إلى أي معارضة ولمنع وقوع أزمة اجتماعية في البلد أن نساوم السلطة". نكرر: " لمنع وقوع أزمة اجتماعية...". أوليس هذا هو الانتهازية والتوفيقية بعينهما؟!!! ومما قاله أيضا: "علينا اليوم أن نعترف صراحة بأننا إذ نفتقر إلى شروط تحقيق سياستنا الاقتصادية والاجتماعية، ساعدنا إلى حد ما بإبعادنا شبح إصلاحات النهب المغامرة عن المجتمع حتى ذلك الوقت على جعل النظام مستقراً وعلى لجم الاحتجاج الشعبي بصورة غير مباشرة".
الكل يعلم مدى الصدق في إبعاد الحزب الشيوعي الروسي شبح إصلاحات النهب المغامرة عن المجتمع، لكن للأمر هنا دلالات أخرى. فالشيوعيون الذين "يساعدون على لجم الاحتجاج الشعبي" هل هم حقاً شيوعيون؟!
"الشيوعيون" الذين يتخذون شعاراً لهم كذاك الذي يقول بأن "روسيا استنفدت قدرتها على الثورة" هل يمكن اعتبارهم شيوعيين؟! إنه لواضح لكل شيوعي حق أنه يجب لا " لجم الاحتجاج الشعبي" (والأدق القول النضال الطبقي)، بل قيادة هذا الاحتجاج والعمل في السر وفي إطار البرلمان البرجوازي، شرعاً وفي ظروف غير شرعية. هذا هو ما علمنا إياه ماركس وإنجلس ولينين.
"الهدف النهائي لا شيء، والحركة كل شيء". هذا ما كان يقوله التحريفيون لـ120 سنة خلت، وهذا هو ما يقوله اليوم التحريفيون المعاصرون. وهو يعني وحسب التأقلم دائما وأبداً مع الظرف الحاضر، مع انعطافات السياسة والتفافاتها، ونسيان المصالح الجذرية للطبقة العاملة لأجل أهداف شخصية أنانية، وتزيين النظام الرأسمالي وتلميع صورته. وإن هذا إلا خيانة للقضية العظمى، قضية تحرير البشرية من براثن رأس المال بمقابل تأمين مصالح آنية.
وإذا كان الشيوعيون الوطنيون يدعون اليوم للعودة إلى قيم الأجداد والتوافق مع السلطة الحاضرة، فالستالينيون وإن بقوا أمناء في معظم مواقفهم لمثل الاشتراكية يحنون إلى الحقبة الستالينية. ولكن حنين الكبار في السن إلى زمن الستالينية شيء، والستالينية كتيار في الحركة الشيوعية المعاصرة شيء آخر.
فما هي الستالينية اليوم؟ إنها تيار يعتبر كل الأحكام النظرية والأفعال السياسية لستالين لا خطأ فيها، حتى عندما استشرت محاربة علم الوراثة واصطنعت "محاكمة الأطباء" ومورست أعمال القمع إلخ. وهو ينظر إلى كل نقد للحقبة الستالينية على أنه افتراء ومعاداة للشيوعية، ويدعو إلى العودة إلى السياسة الستالينية وإلى أساليب ستالين في الإدارة. هذه المبادئ الأيديولوجية تفترض سلفاً إنكار تطور الماركسية اللينينية والديالكتيك والرغبة في التطرف والانعزال والبدائية، إذ إن كل محاولة لتشويه التاريخ ورؤية ما نريد أن نراه فيه وليس ما كانه حقاً ليست سوى قطع مع الماركسية في الواقع. زد على ذلك أن ملايين الناس يرون في هذا مخالفة للحقيقة فيتعاملون تالياً مع الحركة الشيوعية في أحسن الأحوال بتهكم، وفي أسوئها تعاملهم مع عدو. والأهم من هذا كله أن أغلبية الكادحين إذ تؤيد كل القيم الأساسية للاشتراكية لا تريد العودة إلى زمن الرقابة الكلية على المواطنين وتحطيم المعارضة جسدياً وعبادة القادة، وكل هذا كان جزءا من نظام الإدارة الستاليني. ولذا تؤذي الستالينية المبتذلة الحركة الشيوعية ككل فتعزلها عن الناس.
أما بالنسبة إلى حزب العمال الشيوعي الروسي- حزب الشيوعيين الروسي فهو اليوم واحد بين قلائل يقتربون عموما أكثر من غيرهم من مبادئ الماركسية الثورية، وقد رسم على الرغم من بعض مظاهر تلميع صورة الحقبة الستالينية والنقابية الفوضوية والتحريفية، برنامجا لتحطيم آلة الدولة البرجوازية وتأميم البنوك والأرض والمصانع والانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية في ظل دكتاتورية البروليتاريا، وأوجد شبكة من النقابات الطبقية الفاعلة هي نقابات "زاشيتا" ("الدفاع").
وهناك أيضا بعض الأحزاب والتنظيمات الصغيرة الشيوعية الراديكالية الأقرب إلى الفوضوية و"الثوروية" المفرطة، غير أن تأثيرها في الحركة الشيوعية عموما ضئيل جداً.
علام ينبغي أن ترتكز الحركة الشيوعية المعاصرة لتنتصر فعلا؟ على التعاليم الماركسية اللينينية الحية المبدعة، غير المشوبة بالنزعة الوطنية والقومية والنزعة الإيمانية (تغليب الإيمان على العقل، وهي ضد العقلانية) والحنين إلى الماضي. فالنظرية المادية الديالكتيكية التي أنشأها ماركس وطورها من بعده لينين ليست بالعلم الجامد ذي الأحكام والاستنتاجات الأبدية السرمدية، بل هي علم حي متطور باستمرار مع تطور وتغير العالم المحيط بنا وتغير معرفتنا له. غير أن التطوير لا يعني أن ندخل إلى الماركسية عناصر الانتهازية وأن نستبدل بالديالكتيك الماورائيات، وبالمادية المثاليةَ، وبنظرية الصراع الطبقي مفهومَ "السلام الطبقي". إنه يعني استخدام الديالكتيك الماركسي لتحليل الماضي والواقع المعاصر وفهم تعقيدات وتناقضات المسيرة التاريخية. فإذا شئنا أن نحرز انتصارا فعليا وأن نحرر العالم من ربقة رأس المال الذي يولد الحروب والنزاعات والإرهاب والمجاعة، علينا أن نواجه كل محاولات العناصر الانتهازية لتخبيل الجماهير وخداعها، علينا أن نفضح الأحزاب المتلبسة برداء الشيوعية والمدافعة في الواقع والحقيقة عن مصالح البرجوازية.
لماذا نحن نصر هكذا على ضرورة وضع الحركة الشيوعية على الأساس الماركسي؟ لأننا نعرف أن "دور المناضل الطليعي، كما قال لينين، لا يمكن أن يلعبه إلا حزب يسترشد نظرية طليعية". والنظرية الماركسية هي بالذات تلك النظرية الطليعية. فهي استوعبت كل منجزات الفكر الإنساني في ميدان الاقتصاد السياسي والفلسفة والاشتراكية استيعاباً نقدياً ودلت الطبقة العاملة على طريق تحررها الحقيقي.
والعمل النظري يجب أن يتم على جبهة عريضة. فعلينا أن نهتم اهتماماً خاصا بموضوع فضح الأيديولوجية البرجوازية وشتى ضروب "النظريات" التي تقول ببطلان الاشتراكية وسرمدية الرأسمالية، وعلينا أن نفضح الكذبة الزاعمة أن الملكية الخاصة هي أساس الحرية، بينما الملكية الاجتماعية أساس التوتاليتارية، وأن نفهم فهماً نقدياً أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي. علينا أن نعير قضايا تطور الرأسمالية العالمية المعاصرة والقضية القومية في حقبة العولمة وكيفية إقامة دكتاتورية البروليتاريا وتحطيم آلة الدولة البرجوازية القديمة كأساس لسلطة الشعب الاشتراكية الحقيقية كل اهتمام. كذلك ثمة عدد من القضايا تتسم معالجتها بأهمية كبيرة من الناحيتين السياسية والأيديولوجية في سياق الصراع مع البرجوازية. إنها قضايا إزالة استبعاد الفرد من تملك وسائل الإنتاج الاجتماعية وإيجادِ حوافز للعمل في ظل الاشتراكية واقتصادِ وسياسة مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية ودور العلاقات النقدية البضاعية في ظل الرأسمالية والنسبة المباحة بين رأسمالية الدولة والاشتراكية.
وهكذا يجب أن يكون واضحا لقادة الأحزاب الشيوعية (فقط للذين لم يقطعوا بعد كليا مع الماركسية في كل بنودها) أن من الضروري الاستنارة أكثر فأكثر بالقضايا النظرية وتعريف الجماهير بمضمونها، والتحرر أكثر فأكثر من تأثير العبارات والشعارات القديمة التقليدية الجامدة وفهم أن "الاشتراكية مذ صارت علماً تستدعي أن تعامَل كعلم، أي أن تُدرَس" (لينين). زد على ذلك أنها تستدعي أن تطوَّر، وإلا فإنها تتحول من علم إلى دين، إلى نوع من دوغماتية (جمود عقائدي). وهنا لا بد لنا من الإقرار بأن الدين نفسه يغير مع مر الزمن عقائده الجامدة ويكيفها مع الظروف المستجدة.
في ما يلي إيجاز للمبادئ التي يجب أن تبنى عليها الحركة الشيوعية إذا ما أرادت هذه الحركة أن تكون حقاً كذلك:
1) النضال ضد كل أشكال استغلال الإنسان للإنسان.
2) الثورة الاشتراكية هي السبيل الوحيد لقلب سلطة البرجوازية وبدء تغيير المجتمع في اتجاه الشيوعية. فهذا يميز الماركسيين اللينينيين عن الإصلاحيين الزاعمين أن الاشتراكية يمكن "تطبيقها" عبر تغييرات وإصلاحات وئيدة.
3) الأممية ورص صفوف الكادحين من كل البلدان على قاعدة طبقية أحد أعظم مبادئ الشيوعية. وهذا يميز الماركسيين اللينينيين عن كل صنوف القوميين الذين يسعرون العداء والحقد بين كادحي مختلف البلدان، وهذا يصب في طاحونة البرجوازية ويضعف الحركة العمالية.
4) هدف الشيوعيين هو تصفية الظلم الطبقي وجعل كل وسائل الإنتاج ملكية جماعية وضمان الحقوق السياسية للعاملين أفراداً وجماعات، وإيجاد الظروف المؤاتية لإطلاق حرية الإبداع في كل ميادين النشاط الإنساني.
5) تستند الماركسية اللينينية إلى منجزات العلم والتكنولوجيا. وهي لذلك لا يجمعها جامع بأي شكل من أشكال المثالية والدين. ولذا تكمن مهمة الماركسيين اللينينيين في تبديد الأوهام الدينية وفي فصل الدين عن الدولة والمدرسة.
6) المثل الخلقية للماركسيين اللينينيين هي مبدأ الجماعية والمساواة الاجتماعية وعلاقات التعاضد الرفاقية والنزعة الإنسانية. رب قائل لنا: "أنتم طوباويون! فالإنسان لا يغيَّر!". ولكننا نحن نعلم أن الواقع الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي. فحتى الأمس القريب لم يكن في مجتمعنا مثل ما نراه اليوم، بعد انتصار "الثورة البرجوازية" عام 1991، من تعبّد وتمجيد مخيف للمال والعنف والنزعة الفردية الأنانية والسلطة واللاأخلاقية. فتغير النظام السياسي والاجتماعي يغير إذاً نفسية الناس.
إن مهمة الشيوعيين الرئيسية اليوم هي التوحد على أساس الماركسية اللينينية وطرد الانتهازيين من صفوفنا والتغلب على نزعة التقوقع والانعزال من جهة وعلى تعدد الأحزاب الشيوعية من جهة أخرى. هذا هو أساس انبعاثنا وانتصارنا.
والاشتراكية في المرحلة الجديدة هي مجتمع يجمع بين إنجازات وقيم المرحلة الأولى من البناء الاشتراكي بما ميزها من خصائص أساسية لم يكن لها أن تبرز بعد بوضوح كامل في العقود الأولى بعد ثورة أكتوبر. إنها مجتمع يدير فيه الكادحون شؤونهم بأنفسهم بحيث تجمع هذه الإدارة الذاتية بين الملكية الاجتماعية والديمقراطية السياسية البروليتارية، فتؤمن بذلك الارتقاء إلى مستوى جديد من حيث المبدأ وتطوير القوى المنتجة والعدالة الاجتماعية. وإن علينا أن نتغلب على الرأي الذي تجهد لفرضه الدعاية البرجوازية، وهو أن الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج (أي الاشتراكية) هي دوماً أساس التوتاليتارية وأن الملكية الخاصة (أي الرأسمالية) هي دوماً أساس الحرية.
الحركة الشيوعية سوف تنبعث من بين الرماد، وهذا أمر لا شك فيه. والمهم اليوم أن نتغلب على التشرذم والجمود العقائدي في مجال الدعاية والتحريض، في شعاراتنا وأقوالنا. على الشيوعيين أن يتحرروا من قوالب الماضي الجامدة في السياسة وأن يمتلكوا التقنيات المعاصرة في مجال خوض الصراع السياسي. فهذا من الأمور الهامة جداً، إذ ما لم ندرس تكتيك خصومنا الطبقيين فلسوف نخسر دائما، ولسوف نبقى دائما في مؤخرة الركب.
لبضعة أشهر خلت قرأت مؤلفاً لأحد الرفاق زعم فيه أن انتشار الرؤى الشيوعية نتيجةٌ لحاجة المجتمع إليها. وهو بذلك يكون قد استنتج أن الحركة الشيوعية والأفكار الشيوعية لا حاجة إليها اليوم، أما عندما تعود الحاجة إليها، فإن الشعب سيأتي بنفسه إليها. هذا الرأي ليس أمراً نادراً في الحركة الشيوعية. فهل من لا "يعرف" أن الثورات لا تتحقق "حين الطلب"، بل إن كل ثورة تحتاج لتقوم إلى وضع ثوري؟
وهنا لا يسعنا إلا أن نرى أن التخبط النظري هو الذي يعيق نضال الطبقة العاملة، ويخدم بذلك البرجوازية.
العاملون يناضلون في سبيل حقوقهم، ويخوضون المعارك القاسية مع رأس المال. وفي خضم هذه المعارك يصلب عودهم ويبدأون يشعرون بضرورة التصدي الجماعي لرأس المال، ويبدأون يعون تدريجاً جوهر الرأسمالية الاستغلالي، ويتخلصون من نفسية العبد الخانع أمام الرؤساء. غير أن الجماهير العاملة لن تأتي بنفسها إلى الاشتراكية من دون أن تكون لها طليعة تتسلح بنظرية طليعية مبنية على التحليل العلمي للواقع، بل ستبقى دوماً لواحيق للبرجوازية تقنع باستمرار بما تتصدق به عليها هذه من برّ وإحسان. فعن أي نضال سياسي يمكن أن يدور الحديث في حال كهذه؟ ستكون هناك تحركات عفوية وسيكون هناك إهراق للدماء، بيد أن أي نضال من دون طليعة مكتوب له الفشل مسبقاً. زد على ذلك أن التقليل من دور العنصر الشيوعي الواعي في الحركة العمالية لا يعني سوى تقوية نفوذ الأيديولوجية البرجوازية على العمال. ولذا رأى ماركس ولينين كلاهما أن أهم مهمات الشيوعيين هي نشر الأفكار الاشتراكية بين العمال وقيادة النضال الطبقي لهؤلاء وتنظيم نضالهم هذا بالجمع بين أشكال النضال من سياسية واقتصادية ونظرية ضد النظام القائم. ففيم يكمن هذا التنظيم للحركة العمالية؟
1) في الدعاية للاشتراكية العلمية وصياغة العمال فهماً صحيحاً للنظام الاقتصادي والاجتماعي المعاصر، أسسه وقواعد تطوره، ولمختلف الطبقات الاجتماعية وصراعاتها.
2) في التحريض من خلال مشاركة الشيوعيين في كل التحركات العفوية التي يظهر فيها نضال الطبقة العاملة، في كل تصادمات العمال مع الرأسماليين في شأن ساعات العمل والأجر وشروط العمل وهلم جرا.
3) في اندماج نشاط الشيوعيين بالمسائل العملية للحياة العمالية، وفي مساعدة العمال على صوغ ما يريدونه من البرجوازية صوغا أدق، وفي تطوير وعي العمال لضرورة تضامنهم ووعي المصالح المشتركة لكل العاملين في روسيا وأن قضيتهم مشتركة، وأنهم جزء من جيش البروليتاريا (الطبقة العاملة) العالمية.
4) في تنظيم اللجان الحزبية والنقابات والعمل في النقابات البرجوازية القائمة وفي البرلمان البرجوازي والتحضير للقيام بنضال الطبقة العاملة السياسي.
هذا الأمر الأخير يميز الموقف التريديونيوني trade-unionist (النقابي البحت) عن الموقف الشيوعي، التحريفي عن الماركسي. فالحزب الشيوعي، طليعة الطبقة العاملة، يقود نضال العاملين ليس فقط من أجل تحسين شروط بيعهم قدرتهم على العمل كما يعتقد ويفعل الإصلاحيون (غير الثوريين)، بل أيضا من أجل القضاء على النظام الذي يرغم العاملين على بيع أنفسهم جملة وتفصيلاً لرأس المال أصلاً. الحزب الشيوعي يمثل الطبقة العاملة ليس في موقفها من مجموعة معينة من البرجوازيين، بل في موقفها من كل طبقات المجتمع الرأسمالي، من الدولة البرجوازية كقوة سياسية منظمة.
قال لينين إن الثورة تحتاج إلى وضع ثوري ينشأ حين "لا تعود القاعدة الشعبية تريد القديم ولا تقدر القمة على الحكم بالأسلوب القديم". وهذا أمر صحيح تماماً. فنحن الماركسيين، بخلاف الفوضويين، لا نقول بأن الثورة يمكن بدؤها وإن غداً إذا ما تسلحنا بالفؤوس والهراوات. فلنتصور مثلا أن أزمة سياسية عميقة الجذور بدأت بحيث لا يستطيع من هم فوق في قمة السلطة الحكم بالأسلوب القديم، ولا يريد من هم تحت الاستمرار في العيش بالطريقة القديمة. ولكن إذا لم تكن لمن هم تحت، أي لجماهير المستغَلين والمحرومين، طليعتهم الواعية، حزبهم العمالي، فإن كل تحركاتهم لن تكون أكثر من انتفاضة غير واعية ستُقهر عاجلا أم آجلا، بينما يبقى البرجوازيون المستغِلون في السلطة. ولذا على الشيوعيين أن يعدوا العدة للثورة الاشتراكية، أن يدربوا الجماهير ويتدربوا هم ويستعدوا لكي يبدأوا حين تأتي اللحظة التي تبلغ فيها أزمة من هم فوق ومن هم تحت أوجها هجوماً حاسما وكاسحاً تسانده فئات السكان العمالية وشبه العمالية. وكل من يقول إن الثورات تنشأ بنفسها عفو الخاطر ومن دون إعداد بيّن أنه لم يدرس تاريخ أي من الثورات. صحيح أن ضرورة الثورة تنشأ في مرحلة معينة من تطور المجتمع بفعل أن التراكمات الكمية لا بد من أن تنقل هذا المجتمع إلى حالة نوعية جديدة، غير أن من المنافي تماما للعلم ومن غير السليم تكتيكياً أن ننفي في كل ثورة من الثورات دور الأفكار والمؤسسات السياسية والشعبية. إن تاريخ كل الثورات ليعطينا أمثلة على هذا. فعلى قاعدة النزاع بين القوى المنتجة (أي العاملين) وعلاقات الإنتاج (أي اغتراب هؤلاء العاملين عن امتلاك وسائل الإنتاج وثماره)، وعلى قاعدة حاجات المجتمع الاقتصادية المستجدة تنشأ أفكار ونظريات اجتماعية وتنظيمات وأحزاب سياسية وشعبية جديدة تحشد قوى الجماهير، فتتراص صفوف الجماهير في جيش سياسي وتنشئ سلطة ثورية تستخدمها لإطاحة النظام القديم وإقامة غيره جديد. وهكذا يستبدل بعفوية التطور نشاط واع يقوم به الناس، ويولد التطور الثورة.
وبعكس ذلك لا يعني نفي ضرورة إعداد الثورة والعمل بين الجماهير إلا المضي في استحمار الجماهير وتخبيل عقولها وإفسادها بالأيديولوجية البرجوازية. قد يعترض بعضهم فيقول إن على العمال أن يصوغوا بأنفسهم أيديولوجيتهم ولا داعي لـ"يفرض" عليهم أمر ما. لكن هذا عين الخطإ. فالمسألة هنا محسومة: فإما الأيديولوجية البرجوازية تفرض فرضاً على الجماهير العاملة ليل نهار من خلال وسائل الإعلام (قل أصح التزوير الإعلامي!) التابعة لها في أغلبيتها الساحقة، وإما الأيديولوجية الاشتراكية التي تفسح المجال أمام التحرر من البؤس والظلم والذل. فليس هنا من حل وسط، إذ إن المجتمع المنقسم إلى طبقات متناحرة لا يمكن أن يكون فيه حل وسط أو أيديولوجية "ثالثة" أو طريق "ثالث". فهذا الطريق الثالث الذي يتحدث عنه الإصلاحيون ليس إلا طريق استعباد البرجوازية للعمال استعباداً فكرياً. ولذلك تكمن أهم مهمات الشيوعيين الفعليين في محاربة النزعة الإصلاحية، في مقارعة النزعات العفوية، في إعداد العمال وتدريبهم، في وضع الحركة العمالية على السكة الماركسية، السكة الاشتراكية.
قد يسأل القارئ: ولماذا ترون أن الحركة العمالية العفوية وغير المنظمة ستتجه حتما نحو استعباد الأيديولوجية البرجوازية للطبقة العاملة؟ أما قال كلاسيكيو الماركسية إن العمال يأتون عفواً إلى الاشتراكية؟ والجواب أنه ما دامت الأيديولوجية البرجوازية أقدم كثيرا في الزمن من الأيديولوجية الاشتراكية وما دامت تمتلك من وسائل الانتشار قدراً أكبر، فهي لها حظ أكبر بكثير لأن تستقوي عليها. والقول بأن العمال يأتون عفوا إلى الاشتراكية قول صحيح، ولكن هذا في معنى مغاير تماما، أي في أن النظرية الشيوعية تظهِر بصورة أعمق وأصح مما باقي النظريات تعاسةَ الطبقة العاملة وتحدد أسباب هذه التعاسة والسبل المؤدية إلى التغلب عليها، وهي لذلك تستحوذ بسرعة عقول الجماهير المحرومة والمظلومة.
تلك هي صورة الوضع الحالي للحركة الشيوعية المعاصرة في روسيا إذا ما نظرنا إليها نظرة متكاملة. وتلك هي المهام الأساسية للشيوعيين الروس.