صفحة 1 من 1

مبدا ترومان

مرسل: الخميس ديسمبر 22, 2011 1:23 pm
بواسطة عبدالعزيز العمر
تشكل سياسة الرئيس الاميركي هاري ترومان (harry truman) البداية الفعلية لسياسة الولايات المتحدة الخارجية، ونقطة الانطلاق في استراتيجيتها العامة لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تمثل مرحلة جديدة في السياسة الدولية. وقد نظرت اليها الولايات المتحدة على انها بداية صراع استراتيجي مع السوفيت فيما عرف بالحرب الباردة. حيث كان اهم ما يشغل صانعي القرار الاميركي، منع انتشار الفكر الشيوعي في العالم، تحت شعار (الروس قادمون).
والى جانب ذلك فان سنوات الحرب العالمية كانت المجال العملي لانبثاق (مصالح الامن القومي) وهي القاعدة التي اصبحت المقياس النهائي في صياغة القرار الاميركي، وفي تحديد موقف الادارة الاميركية تجاه الاحداث والاطراف الدولية. وكانت دائرة هذه المصالح من السعة بحيث تشمل اي نقطة في العالم.
ان اهم ما تميزت به سياسة ترومان، هو التخلي العلني عن سياسة عدم التورط في القضايا الدولية، والتي كانت الادارات الاميركية السابقة تحاول اضفائها على سياساتها الخارجية، واستطاعت ان تقنع المجتمع الدولي بذلك الى حد بعيد.
ففي عهد ترومان بدأ التدخل الاميركي في الشؤون الاقليمية من خلال الهدف العريض الذي تبناه في مواجهة التوسع السوفيتي. وقد قادت تدخلات اميركا الى اعلان مبدأ ترومان الذي شكل نقطة تحول هامة في السياسة الدولية. بحيث يمكن القول ان آذار عام 1947 كان موعد الاعلان الرسمي للمبدأ، اما تطبيقاته العملية فقد كانت قبل هذا التاريخ.
تتلخص الاسس العامة لمبدأ ترومان بما يلي:
1. تحجيم الدور السوفيتي وحصر تحركه في نظاق الدائرة الجغرافية للكتلة الشيوعية.
2. ربط السياسة الاوروبية بسياسة واشنطن، واحتواء القرار الاوروبي في علاقة احادية التأثير، بحيث يكون الرأي الاميركي هو مصدر قرار السياسة الاوروبية.
3. فرض الهيمنة الاميركية على مناطق العالم من خلال استغلال الفجوات التي احدثتها ظروف الحرب العالمية في المجتمع الدولي.
وعلى هذه الاسس تحركت سياسة ترومان في الشرق، واوروبا، وكان مجال تحركها على وجه التحديد في ايران والقضية الفلسطينية وكوريا وتركيا واليونان. وذلك عن طريق تضخيم دور السوفيت في التوسع وتهديد مناطق العالم. حيث جعل ترومان شعار (الروس قادمون) بمثابة المدخل الكبير لتدخل اميركا في المناطق التي اهتمت بها، واتخذت قرار السيطرة عليها. وقد جاءت مصالح الامن القومي الاميركي لتشكل عامل تحفيز آخر للموقف الاميركي.
السيطرة على الشرق
كانت ايران نقطة البداية في محاولات السيطرة الاميركية على البلدان الشرقية. وقد استغلت ادارة ترومان اتفاقية التحالف الثلاثي في النفوذ الى ايران، ومزاحمة القوة السوفيتية. حيث نصت هذه الاتفاقية ان تسحب كل من بريطانيا واميركا والاتحاد السوفيتي، قواتها العسكرية من ايران خلال فترة اقصاها ستة اشهر بعد نهاية الحرب العالمية.
في صيف عام 1945 اندلعت احداث هامة في شمال ايران. حيث شكل الاكراد (جمهورية مهاباد)، وسعى (حزب تودة) الى تأسيس جمهورية مستقلة في أذربيجان بمساعدة الجيش الاحمر الذي احبط محاولات السلطة المركزية في انهاء حركات الانفصال.
لقد أثارت هذه الاحداث الخطيرة المخاوف الاميركية، مما دفع ادارة ترومان في تشرين الثاني 1945 الى الطلب من بريطانيا والاتحاد السوفيتي بسحب قواتهما العسكرية بكاملها من ايران. ثم عادت وقدمت احتجاجا ثانيا للاتحاد السوفيتي، حذرته بانه ما لم يطبق اتفاق التحالف الثلاثي، فانها ستلجأ الى دعم الموقف الايراني.
واستناداً الى موقف الحكومة الاميركية، فان ايران قدمت الى مجلس الامن احتجاجاً اتهمت فيه السوفيت بانتهاك سيادة اراضيها. كما واصلت واشنطن احتجاجاً على موسكو لسحب قواتها من اذربيجان.
وافق السوفيت على سحب قواتهم، ولكنهم ضغطوا على الايرانيين لقبول انشاء شركة نفط مشتركة، يحصل فيها الاتحاد السوفيتي على 51% من قيمة العقد، على ان تصل مدة العقد الى خمسين عاماً، حيث تحصل الشركة على امتيازات التنقيب في خمس مناطق شمالية من ايران(1).
في مايس 1946 سحب السوفيت قواتهم من شمال ايران، الا انهم ظلوا يمارسون ضغطهم لحمل الحكومة الايرانية على قبول اتفاقية النفط. وفيما كانت الحكومة الايرانية تناقش مسألة الاتفاقية، اعلن السفير الاميركي في طهران، ان الحكومة الاميركية تعتقد ان ايران حرة في قبول او رفض الاتفاقية، وانها اذا ما قررت الرفض فان اميركا ستقدم لها دعمها للوقوف ضد الابتزازات السوفيتية. الامر الذي شجع الحكومة الايرانية على رفض اتفاقية النفط في تشرين اول عام 1947.
ان الموقف الاميركي هو الذي جعل السوفيت ينسحبون من ايران، وهو نفسه الذي شجع حكومة الشاه على رفض اتفاقية النفط، وانهاء المصالح السوفيتية في ايران. كما ان المساعدات الاميركية هي التي مكنت ايران من اسقاط جمهورية مهاباد ومحاولة الانفصال الشيوعي في اذربيجان.
لقد استند الموقف الاميركي على اساس مواجهة التوسع السوفيتي، وان وحدة الاراضي الايرانية تعتبر شرطاً حيوياً لامن الولايات المتحدة، وهو الشعار الذي ظلت ترفعه واشنطن في كل منطقة تريد الهيمنة عليها.
الى جانب ايران، اقدمت ادارة ترومان على خطوة ثانية اخطر من الاولى في منطقة الشرق الاوسط، وذلك في دورها المؤثر الذي قاد الى اعلان قيام دولة اسرائيل.
كان ترومان على قناعة تامة بأهمية ايجاد دولة يهودية في فلسطين. باعتبار ان هذه الدولة ستكون ركيزة متقدمة للوجود الاميركي في الشرق الاوسط. لذلك اقدم ترومان على سلسلة من الاجراءات والمواقف كانت تقود نحو قيام الدولة اليهودية.
ففي نهاية آب 1945 طلب ترومان من الحكومة البريطانية ان تسمح بالهجرة اليهودية الى فلسطين، تمهيداً لقيام الدولة. لكن ترومان واجه معارضة من قبل مسؤولين كبار في حكومته، واعتبروا ان قيام دولة يهودية في فلسطين، سوف يحفز الاتحاد السوفيتي على ايجاد مركز نفوذ في البلاد العربية.
ورغم عقلانية هذا الرأي في ضوء التوتر الشديد بين العملاقين، الا ان ترومان كان يرى في الدولة اليهودية هدفاً يفوق آثار الفعل العكسي للسوفيت.
حاولت بعض الاوساط ان تقنع ترومان بانشاء دولة مشتركة في فلسطين، غير ان ترومان وبتأثير من الصهاينة رفض الاقتراح، كما رفض اقتراحاً آخر باقامة اتحاد فدرالي يضم دولتين


___________________________

1 ـ توماس بريسون، العلاقات الدبلوماسية الاميركية مع الشرق الاوسط، ص 333.احداهما عربية والاخرى يهودية، مع انشاء حكومة مركزية تشرف عليها بريطانيا. وبدل ذلك مارس ترومان ضغطه على البريطانيين وعلى الامم المتحدة للموافقة على قرار التقسيم. وقد نجح بهذا المسعى، حيث صدر قرار الامم المتحدة في تشرين الثاني 1947 بتقسيم فلسطين.
لم يقف ترومان عند هذا الحد، بل اعلن انه سيرسل قوات عسكرية اميركية الى فلسطين ما لم يتم تنفيذ قرار التقسيم، لكنه اضطر الى التخلي عن قراره هذا بعد ان اقنعه مستشاروه بان مثل هذه الخطوة تؤثر على المصالح النفطية الاميركية في الشرق الاوسط.
وعندما لم يعد بامكانه فرض التقسيم، فقد وافق ترومان على اقتراح فرض وصاية الامم المتحدة على فلسطين، لكنه تراجع عن رأيه عندما ادرك ان موافقته هذه سوف تكون سبب هزيمته في انتخابات عام 1948، مما جعله يرفض اقتراح الوصاية، ويؤيد قيام الدولة اليهودية.
في منتصف مارس 1948 اعلن عن قيام دولة اسرائيل، فاعترفت بها الادارة الاميركية فوراً وقبل ان تطلع ممثلها في الامم المتحدة(1).
التحرك نحو اوروبا
كابوسان ثقيلان ورثتهما اوروبا من الحرب.. ازمة اقتصادية خانقة، وخطر رابض على حدودها الشرقية، لا تمتلك لدرئه القوة الكافية، وخلفهما تقف الاحلام والتطلعات قاصرة عن التحقق.
لم يكن امام اوروبا خيار سوى اللجوء الى اميركا التي خرجت من الحرب لا تحمل جراحات بليغة كجراحاتها، بل نفضت غبار الحرب، واستوت عملاقاً يبحث عن مكاسب لا تنتهي، ويقف متربصاً لنده الشيوعي.
والحقيقة ان الدول الاوروبية لم تجد صعوبة في كسب الاميركان، فهم يشاطرونها الرأي في تقييم الخطر الشيوعي، ويزيدونه تضخيماً، وهكذا فان الغزل الاوروبي لواشنطن كانت نتائجه وصال سريع، تمثل في مساعدات اميركية ضخمة في المجالين الاقتصادي والعسكري.
اقتصادياً، قدمت الولايات المتحدة مشروع مارشال عام 1947 لانعاش الاقتصاد الاوروبي المنهار. وقد ساهم هذا المشروع في انقاذ اقتصاد الدول الغربية من مشاكله الخطيرة، الا انه في مقابل ذلك جعله تحت هيمنة الاقتصاد الاميركي(2).
وعكسرياً، اعلنت الحكومة الاميركية عن استعدادها لدعم الدول الاوروبية التي تتعرض لتهديد السوفيت. كما اعتبرت نفسها مسؤولة عن امن وسلامة هذه الدول.
وقد استند ترومان في مبدئه على المقولة التي اطلقها:
(نخدم انفسنا بخدمتنا للآخرين).


___________________________

1 ـ المصدر السابق، ص 415.

2 ـ يراجع: سرفان شرايبر، التحدي الاميركي.ان التجربة العملية التي خاضها ترومان في المجتمع الاوروبي تمثلت في قضيتي تركيا واليونان.
ففي عام 1945 اعلن الاتحاد السوفيتي خطته لانهاء معاهدة عام 1925 مع تركيا والتي تنص على الصداقة وعدم الاعتداء، واشترط على تركيا اذا ما ارادت تجديد الاتفاقية، فانه يتعين عليها منح الاتحاد السوفيتي قاعدة في مضائق الدرونيل، واعادة منطقتي (كارس)، و(اردهان).
كان رد الفعل الاميركي على موقف السوفيت من تركيا، يتمثل في تقديم مساعدة مالية على شكل قرض بقيمة (25) مليون دولار، اعقبه في نيسان 1946 تحذير صادر من الرئيس ترومان موجه للسوفيت، مفاده ان عملية اخضاع دول الشرق الاوسط واكراهها على الاستلام شيء لا يطاق(1) . يبدو ان التحذير الاميركي لم يسفر عن تراجع سوفيتي بشأن تركيا، اذ سارعت موسكو خلال نفس الشهر الى اخطار انقرة بضرورة اشراك الاتحاد السوفيتي في مراقبة المضائق.
اعتبرت ادارة ترومان ان القرار السوفيتي يشكل ضرراً بالمصالح القومية الاميركية، لذلك اعلنت للسوفيت ان الولايات المتحدة تدعم الاتراك، وان حراسة المضائق هي من مسؤولية تركيا وحدها. وبذلك تحدد الموقف النهائي لواشنطن من الاتراك، مما اجبر السوفيت الى التراجع عن ضغطهم على الحكومة التركية.
هذا فيما يتعلق بسياسة ترومان في تركيا.
اما اليونان فقد كانت مشكلتها اعقد من تركيا، اذ كان السوفيت يبذلون جهودهم من اجل اسقاط الحكومة الملكية فيها، الامر الذي اثار بريطانيا صاحبة النفوذ في اليونان. لذلك حاولت بريطانيا ان تتدخل بشكل فاعل لتمنع السيطرة الشيوعية على اليونان، لا سيما بعد ان اشتعلت الحرب الاهلية بين الحكومة الملكية وبين الشيوعيين. الا ان مشاكل بريطانيا كانت تحول دون تمكنها من حسم الاوضاع لصالحها. مما دفع تشرشل الى ان يتقدم لادارة ترومان يطلب منها التدخل في ازمة اليونان(2). وبالفعل تدخل ترومان في اليونان اقتصادياً وعسكرياً حتى تمكنت الحكومة اليونانية من هزيمة الشيوعيين بعد حرب اهلية استمرت بين عامي 1947 و1949.
لقد شجعت هذه التجارب، الرئيس الاميركي لان يتحدث بشكل صريح عن سياسته العامة، فأعلن في آذار 1947 ـ اي قبل حسم الموقف في اليونان ـ ان على الولايات المتحدة ان تدعم الشعوب الحرة في كل مكان، وان هذا الدعم يمثل الاتجاه الجديد في السياسة الخارجية الاميركية.
ان ترومان لكي يجعل سياسته اكثر تأثيراً وفاعليةً عمد الى تقوية اساليبها بمشاريع جديدة. فالمساعدات الاقتصادية التي قدمتها حكومته عن طريق مشروع مارشال، شفّعها ببرنامج المساعدات الفنية عام 1949. كما ان الدعم العسكري عززه من خلال دخوله وبالتالي سيطره على


___________________________

1 ـ توماس بريسون، المصدر السابق، ص 342.

2 ـ في مواجهة الحرب الباردة، ص 21.حلف شمال الاطلسي، ومن خلال برنامج الامن المتبادل عام 1951(1).
تحجيم الدور السوفيتي
لم يكن ترومان في حقيقته يريد من اوروبا ان تضطلع بمهمة مواجهة الاتحاد السوفيتي، خوفاً من استقلالها في القرار السياسي، ورغبة منه في تفرد واشنطن بمهمة التصدي للعملاق الآخر، ليضمن لاميركا موقعها المتقدم في ادارة الازمات الدولية.
كانت ادارة ترومان تفكر بطريقة تواجه بها السوفيت دون ان تحمل مظاهر العمل العسكري منذ البداية. فهي تريد ان تحرم السوفيت من اي مكسب دولي باسلوب سياسي او بوسيلة ذات صفة دولية اكثر مما هي اميركية خاصة. فأطلقت ادارته مقولة (استراتيجية الحصر والاحتواء).
تعني هذه الاستراتيجة حصر الاتحاد السوفيتي داخل مناطق نفوذه، وتشديد الضغط عليه للحيلولة دون توسع نفوذه الى البلاد الاخرى. وقد تحركت هذه الاستراتيجية على هدفين اساسيين:
الاول: تحديد النفوذ السوفيتي وجعله غير قادر على مد اذرعه في اوروبا الغربية.
الثاني: احباط المخططات السوفيتية الرامية الى السيطرة على دول العالم وادخالها ضمن الدائرة الشيوعية.
كان ترومان يعتقد ان القوة السوفيتية بعد ان تتحجم داخل حدودها وبعد ان تعجز عن تحقيق اغراضها السياسية، فأنها ستتخلى عن برامجها التوسعية وينهار بذلك النفوذ السوفيتي في شرق اوروبا(2).
لقد اعتمدت الولايات المتحدة في تطبيق هذه الاستراتيجية على عنصرين هما:
السلاح النووي
الاحلاف العسكرية
فيما يتعلق بالجانب النووي، كانت الولايات المتحدة مطمئنة الى تفوقها النووي على الاتحاد السوفيتي، وكانت ترى في هذا التفوق انه سيقف رادعاً لأي تحرك سوفيتي نحو الغرب، لان الحرب المقبلة فيما لو فكر السوفيت بشنها على اوروبا، لا بد ان تكون شاملة ـ في نظر الاميركان ـ وهذا يعني تدمير الاتحاد السوفيتي بالسلاح النووي.
وانطلاقاً من هذه القناعة، اعتبرت الولايات المتحدة ان سلاحها النووي يشكل اساس المواجهة الفاعل مع السوفيت، والعنصر الاكبر الذي يتوقف عليه نجاح استراتيجية الحصر. ولقد


___________________________

1 ـ معجم الدبلوماسية والشؤون السياسية، ص 141.

2 ـ د. محمد عزيز شكري، الاحلاف والتكتلات في السياسة الدولية، ص 207.استمرت هذه القناعة لدى الادارة الاميركية حتى بداية الخمسينات عندما امتلك الاتحاد السوفيتي السلاح النووي. حينذاك تراجعت قيمة العنصر الاساس في استراتيجية الحصر، الا ان الولايات المتحدة لم تتراجع عن نظرتها للسلاح النووي، اذ بقيت تنظر اليه على انه اداة الحسم في الحرب المقبلة.
اما في مجال الاحلاف العسكرية، فان حصر النفوذ السوفيتي داخل حدوده يتطلب اقامة حزام قوي من التحالفات والقواعد العسكرية التي تقف بوجه اية محاولة توسع شيوعي نحو البلدان الاخرى.
لقد كانت الظروف التي رافقت الحكومة الاميركية على تبني استراتيجية الحصر، مشجعة على هذا الاتجاه، حتى انه في بعض الحالات جاءت بمبادرة من الدول الغربية، ثم استجابت لها الولايات المتحدة، وادخلتها في برامجها الاستراتيجية.
ورغم الاهتمام الكبير الذي اولته ادارة ترومان لاستراتيجية الحصر والاحتواء، الا انها لم تحقق اغراض السياسة الاميركية التي تطلعت اليها، وذلك للاسباب التالية:
1ـ كانت الولايات المتحدة تعتمد على تفوقها النووي في ردع الاتحاد السوفيتي عن التعرض لمناطق النفوذ الاميركي، او تلك المتحالفة معها. غير ان عقد الخمسينات شهد في بدايته ظهور السلاح النووي السوفيتي، وبالشكل الذي يؤهله للوقوف بوجه القوة النووية الاميركية. وقد ترتب على هذا التقارب النووي، ظهور حالة جديدة لم تكن تشهدها السنوات السابقة، الا وهي (الردع المتبادل) وتخوف كل معسكر من الآخر، الامر الذي ادى الى فقدان استراتيجية الحصر عنصرها الاهم. حيث اصبح هذا العنصر غير قادر على ردع السوفيت، وهذا ما جعل اهمية السلاح النووي تتراجع في هذا المجال، وتفقد تأثيرها في التصدي للمشاريع السوفيتية.
2 ـ ان السلاح النووي ونتيجة النقلات السريعة التي حدثت في قدراته على التدمير الشامل، وما ترتب على ذلك من تطورات هامة على مستوى السياسة الدولية والعلاقة بين المعسكرين، جعل هذا السلاح يخرج من دائرة الاستراتيجية الخاصة، ليدخل دائرة السياسة العامة. وهذا ما فرض على الولايات المتحدة ان تغير من اسلوب استخدامها للسلاح النووي، اي انه اصبح غير متلائم مع طبيعة استراتيجية الحصر.
3 ـ حاولت الولايات المتحدة حصر الاتحاد السوفيتي بحزام من الاحلاف والتكتلات العسكرية، الا ان هذا المشروع لم يستكمل حلقاته بشكل سريع. فقد وضعت الحاجز القوي المتمثل بحلف شمال الاطلسي على الحدود الغربية للكتلة الشيوعية، فيما تركت الحدود الجنوبية والشرقية مفتوحة امام تحركها.
لقد ساهمت هذه العوامل في اخفاق استراتيجية الحصر والاحتواء، بعد ان فشل السلاح النووي في ردع السوفيت، وبعد ان عجز حزام الاحلاف عن تطويق المعسكر الشيوعي. وقد ايقنت الحكومة الاميركية ان استراتيجيتها قد فشلت في تحقيق اغراضها، لا سيما بعد خسارتها في الحرب الكورية. ورأت ان الاستمرار في هذا الاسلوب يعرضها الى خسائر جديدة، وقد يستنفد قدراتها العسكرية في مواقع ربما تكون ذات اهمية ثانوية.
وقد شعر الرئيس ترومان ان استمراره في تبني هذه الاستراتيجية، قد يثير سخط الاوروبيين، بعد ان يرون ان اميركا مشغولة بمناطق بعيدة، في حين ان السوفيت يتاخمون حدودهم. وقد احتمل ترومان ان هذه النظرة قد تدفع الاوروبيين الى عدم التعاون مع المشاريع الاميركية(1).
حلف شمال الاطلسي
بالرغم من ان فكرة انشاء حلف عسكري كانت تدور في ذهن ترومان الذي كان ينظر الى ان سياسته لا بد من تدعيمها بتحالف عسكرية لتحقيق مستلزمات استراتيجية في مواجهة السوفيت. وبالرغم من السيطرة الاميركية على حلف الاطلسي، الا ان انشاءه لم يكن بمبادرة اميركية، انما جاء بمبادرة الدول الاوروبية.
لقد كانت بريطانيا وفرنسا في طليعة الدول الغربية المتخوفة من الخطر السوفيتي، وقد عرضت هاتان الدولتان على دول بلجيكا وهولندا واللكسمبورغ فكرة عقد معاهدة سياسة فيما بينها. وقد تم ذلك في بروكسل في 17 آذار 1948 حيث عقد مؤتمر لهذه الدول ادخل التحالف العسكري ضمن المعاهدة باعتباره ضرورة ملحة لتحقيق اهدافه(2).
ثم بدأت هذه الدول مفاوضاتها مع الحكومة الاميركية بغية اشراكها في المعاهدة لتنظيم دفاعات عسكرية قوية لاوروبا الغربية، فوافقت ادارة ترومان على الدخول في صيغة المعاهدة.
بعد الموافقة الاميركية بدأت الدول الخمس المجتمعة في بروكسل تسعى لايجاد ميثاق عسكري يتولى مهمة حماية امن شمال الاطلسي، وقد عرضت هذه الفكرة على الدول الغربية الاخرى، فوافقت كندا في 29 تشرين الثاني 1948 على الانضمام الى هذا الميثاق. كما عرضت تلك الدول فكرة التحالف العسكري على كل من النرويج والدنمارك وآيسلنده والبرتغال وايطاليا، وذلك في 15 آذار 1949 وانتهت المفاوضات في النهاية بابرام معاهدة حلف الاطلسي في واشنطن في نيسان 1949.
في عام 1952 انضمت الى الحلف تركيا واليونان. ثم انضمت في عام 1955 المانيا الغربية، ليصبح عدد دول الحلف 14 دولة(3).
ان المنطقة العسكرية التي تخضع لحلف الاطلسي وتدخل ضمن ساحة عملياته الحربية تمتد من رأس (نورد كاب) حتى البحر المتوسط، ومن الاطلسي حتى حدود تركيا الشرقية، ويزيد الخط


___________________________

1 ـ د. اسماعيل صبري مقلد، قضايا دولية معاصرة، ص 17.

2 ـ ج. ب. دروزيك، التاريخ الدبلوماسي، ص 209.

3 ـ مجلة الجهاد للبحوث والدراسات، العدد الرابع.الجبهوي من الشمال الى الجنوب على خمسة آلاف كيلومتر، وهو مقسم الى ثلاث مناطق.
المنطقة الشمالية: وتضم دول السويد وهولندا والدنمارك.
المنطقة الوسطى: وتضم دول وسط اوروبا.
المنطقة الجنوبية: وتضم اليونان وتركيا وايطاليا.
وتعتبر جميع تلك الاراضي محمية من قبل الحلف بالاضافة الى اميركا الشمالية والبحر المتوسط وكافة الجزر الخاضعة للدول الاعضاء في الحلف.
اعتمد حلف الاطلسي في تقدير قوته العسكرية على نظام خاص به فهو لم يدخل القوات الوطنية لكل دولة من اعضائه ضمن قوة الحلف، في حين ان هذه القوى تضاف الى مجمل قواته في حالات الحرب(1).
اولى حلف الاطلسي اهتمامه للسلاحين التقليدي والنووي معاً، وسعى الى زيادة فاعلية هذين السلاحين، تمشياً مع رغبة الادارة الاميركية التي تسيطر على الحلف بشكل واضح. ونتيجة السيطرة الاميركية، اصبحت سياسة الحلف العامة وطبيعة المهام الموكلة اليه تسير حسب وجهات نظر البيت الابيض، وهذا ما يتضح من خلال آلية ادارة شؤون الحلف العسكرية والسياسية. فقد جعلت الادارة الاميركية قيادة الاسلحة النووية والتقليدية من اختصاصها لوحدها. فصار قرار الاستخدام الفعلي لقدرات الحلف بيد الادارة الاميركية. كما انها وزعت الاسلحة النووية والتقليدية على مناطق الحلف بالشكل الذي يتناسب مع استراتيجيتها في مواجهة الكتلة الشيوعية، وذلك حسب الاسلوبين التاليين:
الاول: اعطت الولايات المتحدة اهتماماً كبيراً من حيث القوة العسكرية (النووية والتقليدية. لوسط اوروبا وخصوصاً المانيا الغربية، باعتبارها اكثر المناطق حساسية في خط المواجهة مع السوفيت، لذلك فان دورها في مواجهة التوسع السوفيتي اكثر اهمية من غيرها.
الثاني: جعلت المنطقة الجنوبية من الحلف (تركيا واليونان) تتميز برجحان كفة الاسلحة التقليدية على النووية، لان دورها ينحصر بالدرجة الاولى في مواجهة الزحف البري السوفيتي، ولان خطر الاسلحة النووية على هذه المنطقة اقل من درجة الخطورة التي تهدد المنطقتين الشمالية والوسطى.
ان السيطرة الاميركية على حلف الاطلسي ادت الى تأزم العلاقة بين بعض الدول الاوروبية وبين الولايات المتحدة، فلم ترق هذه السياسة للاعضاء الاوروبيين الذي اثارت سخطهم طريقة تعامل واشنطن مع الحلف، والتي من ابرز مظاهرها:
* استغلت الولايات المتحدة وضعها العسكري وموقعها الجغرافي فرسمت على اساسهما استراتيجيتها في مواجهة السوفيت. فقد جعلت من اوروبا الغربية ساحة مواجهة متقدمة مع


___________________________

1 ـ المصدر السابق.الاتحاد السوفيتي في اية حرب محتملة الوقوع، سواء اكانت هذه الحرب تقليدية او نووية، وذلك بفضل القوات الهائلة المرابطة في اوروبا، والصواريخ النووية المنتشرة على اراضيها.
* جعلت الولايات المتحدة الاشراف على الصواريخ النووية من مسؤوليتها، لذلك فان المواجهة الفعلية بين الاتحاد السوفيتي وبينها سوف تنسحب آثارها مباشرة على اوروبا الغربية التي تشكل بموقعها الجغرافي جبهة امامية دفاعية لاميركا. وهذا يعني ان اوروبا ستلتهب ـ حسب التصور الاوروبي آنذاك ـ قبل ان تتدخل اميركا في المواجهة.
* كانت الولايات المتحدة تفرض قناعاتها على الدول الاعضاء في الحلف خصوصاً فيما يتعلق بالقضايا العسكرية. فهي كانت تطلب من اعضاء الحلف زيادة نفقاتهم العسكرية والسير معا في سباق التسلح، بحجة تحقيق التوازن العسكري بين حلف الاطلسي وبين حلف وارسو.
* وقفت الولايات المتحدة معارضة أية خطوة سياسية اوروبية لا تنسجم توجهاتها الخاصة، ولا تدعم مشاريعها في السياسة الخارجية. وفي مقابل ذلك كانت تطلب من الدول الاوروبية ان تستجيب لمشاريع سياستها الخارجية، وان تتخذ هذه الدول موقفاً مؤيداً للقرار الاميركي.
لقد خلقت سياسة واشنطن تجاه الحلف اجواء متشنجة بينها وبين الدول الاوروبية. حيث اتخذ بعضها مواقف متصلبة من الحكومة الاميركية بشكل خاص وحلف الاطلسي بشكل عام. فقد انسحبت فرنسا من الحلف عام 1966، وازدادت بعد ذلك مطالبة الدنمارك والنرويج بالانسحاب ايضاً، ورفضت اسبانيا الانضمام للحلف لنفس الدوافع.
لم تكن تشكيلة الحلف متماسكة بالشكل الذي يجعل الاعضاء يؤلفون وحدة سياسية وعسكرية تتعامل مع الاحداث بطريقة مركزية، فالاطلسي من خلال سياسته لم يجعل الاعضاء ملزمين بتنفيذ كل مقرراته، انما ترك لهم مساحة واسعة تتحرك عليها سياساتهم. وذلك يعود الى كونه تأسس على دوافع عسكرية بالدرجة الاولى. ولما كانت القرارات العسكرية خاضعة للقرارات السياسية، لذا فانها لم تتوحد بين الاعضاء، كما هو واضح من خلال تحديد كل عضو للاسلوب الذي يراه مناسباً لان يعتمده في حالة وقوع عدوان على منطقة الحلف.
كما ان اختلاف التوجهات السياسية بين اعضائه، جعل سياساتهم تتعارض في كثير من الاحيان داخل الحلف، وتنشأ نتيجة ذلك اختلافات فيما بينهم، دون ان يكون للحلف القدرة على حلها، او اتخاذ قرار حاسم بشأنها.
وكمثال على ذلك، عندما احتلت تركيا قسماً من جزيرة قبرص عام 1974، تقدمت اليونان بطلب الى قيادة الحلف يقضي بضرورة ردع الاعتداء التركي على قبرص، الا ان حلف الاطلسي لم يتخذ اي قرار ضد تركيا، فانسحبت اليونان اثر ذلك من الجناح العسكري للحلف، وتأزمت علاقتها بالولايات المتحدة. فقد طلبت اليونان من الحكومة الاميركية سحب قواعدها العسكرية من اراضيها. على اعتبار ان واشنطن لم تقدم دعمها لليونان، فلم تعترض مطلقاً على الحكومة التركية، بل ان علاقتها استمرت على نمطها الاعتيادي.
وبالرغم من كل السلبيات والثغرات الموجودة في حلف الاطلسي، الا انه ظل اقوى الاحلاف الاميركية التي اسستها او ساهمت في تأسيسها. فلقد حقق الاطلسي الى حد كبير العديد من المهام الموكلة اليه، حيث ساهم في التصدي للاتحاد السوفيتي، وشكّل عامل ردع قوي ومؤثر بوجه السوفيت.
ان حلف الاطلسي رغم كونه يُعبر عن اسلوب تطبيقي افرزه مبدأ ترومان، الا انه ظل واقعاً ثابتا في السياسة الاميركية حتى بعد ان تخلت الادارات الاميركية عن مبدأ ترومان. فلقد كان اسلوب التحالفات العسكرية احد الثوابت البارزة في الخط العام للسياسة الاميركية، وطريقة فهمها للسياسة الدولية ومعادلات الصراع في النظام العالمي.