منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
By عبدالعزيز العمر
#45153
«لماذا تطلقون علينا اسم الهنود؟» قالها مشتكياً أحد أفراد شعب الماساتشوسِتْ للمبشر البيوريتاني جون إليوت في عام 1646م.

لقد أطلق كريستوفر كولومبس اسم «الهنود» Indios على شعب «التايْنو» Taino الكاريبي ظناً منه أنهم من الهنود الشرقيين. وفي منتصف القرن السادس عشر وصلت هذه الكلمة الإسبانية (إنديوس) إلى الإنجليز بلفظة «إنديانس Indians»، واستُعملت عموماً للدلالة على السكان الأصليين للأمريكيتين؛ وغالباً ما يطلق علماءُ الأنثروبولوجيا عليهم اليوم مصطلح «Amerindians» أي الهنود الأمريكيون، وكثير من الناس يستعمل مصطلح «الأمريكيون الأصليون Native American»، لكن معظم سكان أمريكا الأصليين يدعون أنفسهم بالشعب الهندي «Indian People».

من هم «الهنود»؟

عند اتصالهم لأول مرة بالأوروبيين في بداية القرن السادس عشر، كان السكان الأصليون للنصف الغربي من الكرة الأرضية يشكلون أكثر من 200 ثقافة ، ويتكلمون المئات من اللغات، ويكتسبون معيشتهم في بيئات مختلفة تماماً عن بعضها البعض. وكما أن مصطلح «الأوروبيون» يحتوي على الإنجليز والفرنسيين والإسبان، كذلك الأمر بالنسبة لمصطلح «الهنود» فإنه يندرج تحته تنوع واختلاف كبيران بين السكان الأصليين للأمريكيتين.

لا يوجد هناك شكل معين يميز السكان الأصليين في الأمريكيتين، ومع ذلك فإن أكثر السكان الأصليين ذوو شعور سوداء منسدلة، وعيونهم تتميز بالشكل اللوزي، وألوان بشرتهم تتراوح ما بين اللون الماهوغاني[1] إلى السمرة، وقليل منهم ما تتوفر فيه صفات البشرة الحمراء التي كان يطلقها عليهم المستعمرون الأوروبيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

عندما أدرك الأوروبيون أن الأمريكيتين هما في الحقيقة «العالم الجديد» بدلاً من أن تكونا جزءً من قارة آسيا، بدأ عندها جدالٌ حول كيفية ارتحال أناس من آسيا وأوروبا إلى العالم الجديد، في حين أن الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى يشير إلى أن الرب خلق أول رجل وامرأة فيهما. وقد اقترح الكُتاب الأوروبيون نظريات الهجرة عبر المحيط، لكن الاعتقاد المشترك بين كل هذه النظريات هو أن العالم الجديد كان مأهولاً بالسكان منذ عدة آلاف من السنين علىالأرجح، وأن الشعوب والمجتمعات فيه عبارة عن ذرية متخلفة من ثقافة متقدمة في العالم القديم. وقد دقق النظر عدد من الباحثين الإسبان بشكل أعمق فيما يتعلق بمسألة أصل الهنود. ففي عام 1590م، برر جوزيف دي أكوستا Joseph de Acosta أنه بما أن حيوانات العالم القديم موجودة أيضاً في الأمريكيتين فمن المؤكد أنهم قد عبروا جسراً أرضياً استطاع البشر استخدامه أيضاً.

الهجرة من قارة آسيا

كان جوزيف دي أكوستا أول من قال بفرضية «الهجرة الآسيوية» التي تدعمها اليوم البراهين العلمية. إن أقوى الأدلة التي تربط الهنود الأمريكيين بالسكان الآسيويين قد ظهرت في ثمانينات القرن الماضي (1980ت)، وهو اكتشاف أن الهنود والآسيويين في شمال شرق آسيا يشتركون بميزة شكل ترتيب أسنانهم. بل إن الدليل الأكثر إقناعاً لهذه الفرضية يأتي من الأبحاث الجينية، حيث الدراسات المقارنة للحمض النووي DNA لسكان العالم تثبت باستمرار العلاقات الجينية بين الشعبين. وحديثاً درس المتخصصون بعلم الجينات فيروساً معزولاً في كلى كل البشر فوجدوا أن أرومة هذا الفيروس التي يحملها شعب النافاهو[2] واليابانيون هي تقريباً نفسها، بينما الأرومة التي يحملها الأوروبيون والأفارقة مختلفة تماماً.

من الممكن أن تكون الهجرة إلى أمريكا الشمالية قد بدأت فوق الجسر الأرضي الرابط بينها وبين آسيا. في أثناء العصر الجليدي الأخير (التجلد الويسكانسي، من حوالي سبعين ألف سنة إلى عشرة آلاف سنة مضت، وهو الحقبة الأخيرة من الفترة المعروفة بالبليستوسين أو العصر الحديث) استطاعت جليديات ضخمة حجْز كميات كبيرة من الماء، وكان مستوى مياه البحار منخفضاً مما عليه الآن بحوالي 300 قدم. كانت قارتا آسيا وأمريكا الشمالية متصلتين بمنطقة ضخمة من الأرض العشبية خالية من الجليد والأشجار، يبلغ عرضها 750 ميلاً من الشمال إلى الجنوب. لقد أطلق علماء الأرض على هذه الأرض اسم «بيرنجيا Beringia» وهي مشتقة من اسم «ممرات بيرنج» Bering Straits التي تفصل حالياً بين القارتين. في هذه المنطقة، كانت فصول الصيف دافئة، بينما كانت فصول الشتاء باردة وجافة وغالباً بدون ثلوج. كانت هذه المنطقة بيئة ممتازة لثديات الحيوانات الكبيرة (كالفيل الجليدي –الماموث-، والماستدون، والجاموس الأمريكي، والحصان، والرندير، والجمل، والسايجا، وهو غزال شبيه بالماعز). وقد جذبت هذه الحيوانات مجموعات صغيرة من صيادي العصر الحجري. وبصحبة ما يشبه كلاب الهسكي، استطاعت هذه المجموعات البشرية التنقل تدريجياً شرقاً باتجاه نهر اليوكون في شمال كندا حيث كشفت الحفريات عن عظام لفكوك العديد من الكلاب وأدوات مصنوعة من العظم يصل عمرها إلى 27 ألف سنة. وتشير أدلة أخرى إلى أن الهجرة من آسيا قد بدأت من حوالي ثلاثين ألف سنة – في نفس الوقت الذي بدأ فيه البشر بالاستقرار في إسكندنافيا واليابان-. هذه الأدلة مبنية على الزمر الدموية. إن أغلبية سكان أمريكا الأصليين الحاليين هم من زمرة الدم (O)، وقليل منهم من زمرة (A)، ولكن ليس فيهم من لديه الزمرة (B). وبما أن سكان آسيا الحاليين فيهم كل هذه الزمر الدموية الثلاث، فإن الهجرة من آسيا لا بد أنها قد بدأت قبل تطور الزمرة (B) بين سكانها، والتي يعتقد علماء الجينات أنها بدأت بالظهور قبل حوالي ثلاثين ألف سنة.



إن دراسة تطور اللغة يزودنا بنوع آخر من الأدلة. فاللغويون يتجادلون بأن لغة عامة تحتاج على الأقل إلى 35 ألف سنة لتتطور عنها 500 لغة مختلفة انتشرت في الأمريكيتين.

قبل 25 ألف سنة، استقرت بعض المجموعات البشرية في غرب منطقة بيرنجيا، وهي حالياً منطقة ألاسكا، لكن الممر للجنوب كان مسدوداً بصفيحة جليدية ضخمة تغطي معظم ما يعرف الآن باسم كندا. لكن كيف استطاع الصيادون أن يعبروا مسافة ألفي ميل من الجليد العميق؟

الدليل هنا هو أن المناخ –في ذلك الوقت- قد بدأ بالدفئ عند نهاية العصر الجليدي، وفي حوالي 13 ألف سنة قبل الميلاد، شكّل ذوبان الجليد ممراً خالياً من الجليد على طول الجهة الشرقية لسلسلة جبال الروكي. وسريعاً ما وصل صيادو الثديات الكبيرة إلى السهول العظيمة.

لكن في السنوات الماضية ظهرت أدلة حفرية جديدة على طول ساحل المحيط الهادي للأمريكيتين مما جعل هذه النظرية في محل تساؤل. لقد خضعت المواقع البشرية القديمة المكتشفة حديثاً في ولايتي واشنطن وكاليفورنيا (في الولايات المتحدة) وفي بيرو في أمريكا الجنوبية – إلى عملية القياس الكربوني المشع الذي أدى إلى تحديد أعمارها من 11 إلى 12 ألف سنة. إن أروع اكتشاف في مونت فردي (الجبل الأخضر) في تشيلي دلّ على اختراع أدوات، وبناء بيوت، وطلي صخور، وأثار أقدام بشر، كلها ترجع إلى 12500 سنة، وذلك قبل انفتاح الممر الجليدي في أمريكا الشمالية بفترة طويلة.

يعتقد كثير من علماء الآثار حالياً أن المهاجرين قد اتجهوا جنوباً على متن قوارب على طول ساحل المحيط الهادي بدلاً من اليابسة. ومن المحتمل أن هؤلاء كانوا من صيادي الأسماك وليسوا من صيادي الثديات الكبيرة.

بعد ذلك حدثت هناك هجرتان إلى أمريكا الشمالية. ففي حوالي 5000 ق.م بدأ شعب «الأثاباسكان» Athapascan أو «نا-ديني» Na-Dene بالاستقرار في غابات الجهات الشمالية الغربية من القارة. ومع أن أفراد هذا الشعب قد حافظوا على هويتهم الثقافية واللغوية إلا أنهم استعاروا تقنية مشابهة لتقنية جيرانهم. وبالفعل، فإن الأثاباسكان –وهم أجداد شعبي النافاهو Navajo والأباتشي Apache- هاجروا عبر السهول العظمى إلى الجنوب الغربي للولايات المتحدة. أما الهجرة الأخيرة فقد بدأت في حوالي الألفية الثالثة قبل الميلاد بعد أن غمرت مياه البحر منطقة بيرنجيا، عندها عبر الصيادون ممرات بيرنج على متن قوارب صغيرة. استوطن «الإينوت» Inuit (ويدعون الإسكيمو أيضاً) السواحل القطبية للمناطق الجليدية، وأما «الألوت» Aleut فقد استوطنوا جزر الألوشيان التي نسبت إليهم.

بينما يخوض الباحثون نقاشهم حول تحديد زمن وطرق هجرات السكان الأصليين، تتمسك الشعوب الهندية بمروياتها الشفوية لتقاليدها التي تقول إنهم كانوا دائماً يقطنون في أمريكا الشمالية. إن لكل ثقافة قصصاً تتحدث على أصولها، حيث تتوفر من خلالها العادات والاعتقادات. لكن طائفة من علماء الأنثروبولوجيا يقولون بأن قصص ومرويات أصول هذه الشعوب ربما تلقي ضوءً على تاريخها القديم. إن شعب «الهايده» Haida الذي يسكن سواحل المحيط الهادي في الشمال الغربي يتحدث عن زمن قديم كانت فيه الجزر أكبر بكثير، لكن المحيطات ارتفعت –كما يقولون- وأجبرتهم «امرأة الفيضان» على الانتقال إلى أماكن مرتفعة. هل من الممكن أن تكون هذه القصص قد حفظت لنا ذكرى التغيرات التي حدثت في نهاية العصر الجليدي؟ من الملاحظ أن كثيراً من المرويات الهندية تحتوي على ذكر رحلة طويلة من مكان أصيل بعيد إلى وطن جديد.

كلوفيس: أول تقنية أمريكية

إن أول الأدوات التي وجدت في مواقع أثرية في أمريكا الشمالية كانت عبارة عن مفارم ومقاشط منحوتة من حجارة أو عظام، وهي مشابهة للأدوات المصنوعة في نفس الحقبة في أوروبا أو آسيا. في الألف العاشرة قبل الميلاد طوّر الأمريكيون القدماء نوعاً متقدماً من الأدوات يدعى كلوفيس Clovis، نسبة إلى موقع في ولاية نيومكسيكو اكتشفت فيه هذه الأدوات أول مرة. إن الصناعة الكلوفيسية كانت ذات تقنية قوية وجديدة ومعقدة، تختلف عن التقنية التي كانت موجودة في العالم القديم. وخلال السنوات التي تلت اكتشاف كلوفيس، استطاع علماء الآثار أن يجدوا آثارها في مواقع متنشرة ما بين مونتانا إلى المكسيك، ومن نوفا سكوتشيا (في كندا) إلى أريزونا، ترجع الفترة الزمنية بين هذه المواقع إلى ما بين ألف إلى ألفي سنة، مما يشير إلى الانتشار السريع لهذه التقنية عبر القارة.




تشير الأدلة أن مجموعات كلوفيس البشرية كانت مجموعات متنقلة من الرُّحَّل، يبلغ عدد المجموعة الواحدة من ثلاثين إلى خميس شخصاً من عائلات متصلة، وهم يعودون إلى مواقع الصيد نفسها كل عام، ويهاجرون موسمياً عبر مناطق تبلغ مساحتها مئات الأميال المربعة. وقد اكتشف علماء الآثار، قرب «ديلبرت Delbert» في نوفاسكوتشيا (كندا)، أرضية عشر خيام مرتبة على شكل أنصاف دوائر، تتجه أبوابها نحو الجنوب لتجنب الرياح الشمالية السائدة. إن هذا الموقع وغيره مما وجد عبر القارة يطل على أماكن ذات مياه حيث تستقطب حيوانات صيد كبيرة. وقد وجدت شفرات أو قاطعات كلوفيس بين بقايا حفريات الفيل الجليدي (الماموث) والجمل والخيل والأرماديلو العملاق وكذلك الكسلان (sloth).

طرق جديدة للعيش على الأرض

قبل حوالي 13 ألف سنة قبل الميلاد، بدأ اتجاه أرضي دافئ يغير مناخ أمريكا الشمالية. وعندما بدأت الجليديات الضخمة بالذوبان تغطت المناطق الشمالية بالنباتات والحيوانات والبشر. إن الماء المذاب شكل أنظمة البحيرات والأنهار في القارة اليوم، وتسبب في رفع مستوى البحار وانغمار منطقة بيرنجيا بالماء، وكذلك مناطق واسعة من سواحل الأطلسي وخليج المكسيك، مكوّنة بذلك بحيرات غنية (في منطقة المد والجزر)، ومناطق صيد الأسماك على السواحل. هذه التغيرات الضخمة أحدثت نظام رياح جديد وبالتالي تغيُّر هطول الأمطار ودرجة الحرارة، وأعادت تشكيل البيئة للقارة كلها محدثة بذلك المناطق المميزة في القارة الأمريكية الشمالية. إن القوة الضخمة المتكاملة لمناخ قاري واحد اضمحلت تدريجياً، وبذهابها تفتت ثقافة كلوفيس إلى عدة بيئات إقليمية مختلفة.