قراءة في السياسة الخارجية الايرانية محدد القوه 2
مرسل: الجمعة ديسمبر 23, 2011 8:43 pm
وفي أعقاب إطلاق قمرها الاصطناعي أوميد، أشارت الصحافة الإيرانية إلى أمر حرصت على إظهاره وهو “أن الأمر يعود إلى الولايات المتحدة كي تندم على أخطاء الماضي، وأن تقبل الحقيقة أن إيران أصبحت قوة عظمى ذات تطور علمي عظيم دون مساعدة من الغرب” وأشارت أيضا: “إن إطلاق القمر الصناعي والبرنامج النووي الذي يثير قلق العالم، فكانا في نظرهم مصدر فخر، ورداً على العقوبات الدولية المفروضة على إيران لإرغامها على كبح طموحاتها النووية”. وفي زيارته الأخيرة إلى نيويورك ألقى احمدي نجاد كلمته أمام قمة قادة الدول على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، هاجم فيه الرأسمالية العالمية، وأننا “بحاجة إلى العودة إلى الخطة الإلهية وفطرتنا التي من أجلها خلق الإنسان والعودة إلى الحكم العادل والمنصف”، ” وان ثمة نوعين من الإدارة، الأولى أمريكية ثبت فشلها، والثانية إيرانية يمثلها ميثاق قورش والتعاليم الإسلامية السامية”، و”أن بلاده أصبحت القوة العالـمية الوحيدة إلى جانب الولايات الـمتحدة الأميركية، وأضاف: إن العالـم يدرك أن هناك قوتين فقط تتمتعان بأقوى نفوذ في العالـم، وهما الولايات الـمتحدة وإيران”.
من خلال ذلك يتجلى كثير من الأمور أهمها أن الصورة الذهنية الضخمة، التي تقترب إلى حد الأسطورة (أو الخرافة) منها إلى الحقيقة. والمهم هنا، بعد هذا الاستطراد، هو أن هناك فجوة بين هذه التصورات (الصور الذهنية عن الذات وبالتالي الدور) وبين موارد إيران. وهذا يترتب عليه كثير من المعضلات التي تؤثر سلبا على نظام سياستها الخارجية.
ولكن يمكن أن نفترض أن إيران لديها مقومات كثيرة، وتستثمر فعلا هذه المقومات والإمكانات، ولكن ثمة معيقات تواجهها، أهمها الفجوة بين تصورات الدور وإمكانات تنفيذه. فإيران قوية بالنسبة لمن ؟ فهل توازن إيران قوة الولايات المتحدة الأمريكية أو حتى فرنسا أو إسرائيل؟
رابعا، الهيبة والدور الإيراني:
بخصوص محدد الهيبة في السياسة الخارجية الإيرانية، نلاحظ أن موضوع التنمية في إيران، وسعيها الحثيث للحصول على الهيبة، تركز على التقنيات العسكرية والتقنية أكثر من تركيزها على تطوير مؤسساتها الدستورية والسياسية، واحترامها للديمقراطية، والتعددية السياسية، وحقوق الإنسان، واحترام الاتفاقيات الدولية. كل ذلك يضمن لها احترام المجتمع الدولي، فجميعها تشكل عناصر للهيبة والمكانة، التي تمثل قضية محورية في نظم السياسة الخارجية، فالاحترام الذي يمنحه المجتمع الدولي لدولة ما من الدول، لا يكون إلى باستدخال هذه العناصر في بنيتها الدستورية والسياسة. فمن خلال ذلك تحوز الدولة على السمعة الدولية والمكانة الحسنة والمرموقة. وهذا ما يجعل للدولة هيبة. وتركيا خير مثال على ذلك، من خلال الموقف الأمريكي والأوربي بخصوص الاستفتاء التركي. فالديمقراطية أصبحت أيقونة العصر، وبدونها لا يمكن لدولة ما أن تحوز على الهيبة والمكانة. فالتحول نحو الديمقراطية، لا يكفيه أصدر دستور وإجراء انتخابات. رغم أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في 12 حزيران- يونيو 2009، تعد العاشرة التي تجرى في إيران منذ قيام الثورة، هو دليل على حيوية النظام السياسي الإيراني، إلا أن ما جرى بعد الانتخابات افقد النظام هذه الحيوية، ونال من سمعة وهيبة إيران أمام العالم. فقد شكك في نتائجها ونزاهتها ليس من قبل خصوم إيران فحسب، بل من النخبة الإيرانية ذاتها، ومن أقطاب النظام أنفسهم، ومن داخل المؤسسة الدينية التي اعترتها الفرقة والانقسام. ناهيك عن تقريع النخب الإيرانية بعضها بعضا، والاتهامات المتبادلة بالغش والفساد والتزوير. فضلا عن الاعتقالات للمعارضين وتعذيبهم. فقد فضحت الانتخابات النخب الإيرانية أيما فضيحة، وكشفت عيوب النظام الإيراني، وهو ما شكل نقطة ضعف خطيرة مست هيبة الدولة ومكانتها الدولية، ونال من حيوية النظام السياسي الإيراني، وهو ما له تأثيرات جمة على سياسة إيران الخارجية. وهكذا، إذا كان للحالة الديمقراطية في إيران أوجه، فإن بها أيضا قسمات للدكتاتورية، مثل وضع المرشد صاحب الصلاحيات الواسعة جدا، وسيطرة وتحكم مجلس صيانة الدستور في العملية الانتخابية باختيار الشخصيات المرشحة للانتخابات الإيرانية البرلمانية والرئاسية. فضلا عن تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية. بلا شك كل ذلك ينقص كثيرا من الديمقراطية الإيرانية، والنموذج الإيراني.
كما أن المأزق الداخلي للنظام سيؤثر على أولوياته في الخارج، وسيجد النظام نفسه أمام صعوبات جمة في بلورة الإجماع الوطني حول سياسته الخارجية في الوقت الذي يحتاج إلى هذا الإجماع كمعين وسند قوي له في الدفاع عن سياسته، وبخاصة الملف النووي الإيراني، في ظل ما يحاك لإيران من تربص.
وبالتالي يمكن القول على رغم ثراء التجربة الإيرانية، إلا أن ما يمكن استخلاصه منها لا يصلح بالضرورة للتعميم خارج نطاقها، وبخاصة أن نظامها جاء طبقا لنظرية الإمامة في الفقه الشيعي، والتي تتلاءم مع الشخصية الشيعية وتراثها الفكري والحضاري وثقافتها السياسية، وهكذا فهي تعكس خصوصية الحالة الإيرانية فحسب. لذا فإن هذا النموذج لا يصلح للتطبيق خارج نطاق الخصوصية الإيرانية. وهذا يضعف من إمكانية أن تكون إيران كمركز للعالم الإسلامي أو “أم القرى” حسب التعبير الإيراني. وهذا بالتأكيد يشكل نقطة ضعف في النموذج الإيراني، ونقطة ضعف أخرى في سياستها الخارجية، ويجعل طموحها يستنزف مواردها في مشروع وهمي وحلم لا يمكن أن يطبق. منذ الثورة الإيرانية حتى الآن هل أنجز هذا الطموح؟ أما النجاحات الخارجية التي تحققت في هذا الجانب فقد تحققت بفعل ظروف طارئة وحالة الفراغ والإحباط اللتان تسودان في المحيط الجيوسياسي لإيران .
تكشف الحركة الخضراء عن تحديات مباشرة أمام هيمنة الطبقة الثيوقراطية، وتفسيرها لما هو مقبول أو غير مقبول من سلوك وحريات اجتماعية وحرية رأي وصحافة، وأنماط حياة مبتغاة، ناهيك عن العولمة وأثرها على النظام السياسي الإيراني. هذه المتغيرات والمتطلبات الموصوفة بالحداثية، هل ستخضع لتكييف إسلامي شيعي؟ خصوصا وأنها المرة الأولى التي تخضع فيها المسألة الدينية في إيران لإعادة نظر، بل التجرؤ على الإمام الخميني وحرق صوره ووسم خامنئي بالدكتاتور والمحفظين بالجمود والفساد، وهو ما يعني أن رياح التغيير أصابت العمق الإيراني في محاولة للتخلص من آثار الجمود والتشدد، والإفلات من الأصولية التي افتقرت إلى صياغة نموذج تنموي شامل ومستديم. تطالب الحركة الخضراء بالاهتمام بأولويات المجتمع المدني، والتنمية الداخلية على جميع المستويات، فهذه الاحتياجات التي كشفتها المعارضة الإيرانية، بحاجة من الطبقة الحاكمة أن تعطيها الأولوية القصوى من الدخل القومي والصادرات والواردات، كأحد مطالبها التي كُشف عنها النقاب. وعلى إيران أن تدرك الهيبة لا تتحقق في الحصول على السلاح النووي فقط، بل في تحقيق التنمية ودمقرطة النظام، ومواكبة العصر ومتطلبات الحداثة السياسية. عند ذلك ستحقق إيران بالفعل الهيبة والمكانة المرموقة، لا عن طريق تصريحات نجاد عن قيادة العالم والإدارة الإيرانية، أو تصدير النموذج الإيراني للخارج، فكل ذلك لا نفع من ورائه، بل يستنفذ القدرات والموارد الإيرانية. إن الانطلاق لا يتم مما يقوله نجاد والقيادات الإيرانية، وما يتوهمونه، ويتصورونه عن دور إيران في قيادة العالم الإسلامي، لا، بل يتم من الانطلاق من الفعل الواقعي، والعمل على تطوير نظام الحياة الواقعي. إن من الأجدى لإيران أن تبدأ من هنا أي من العالم الواقعي، الايجابي بتطوير النظام بما يتوافق مع حاجات العصر ومتطلبات الجماهير المحرومة. هذا الفعل الرشيد للنظام هو المادة هي التي تحقق لإيران الهيبة والمكانة، لا التصورات الوهمية. فلا يمكن أن يتعاطى العالم مع اللا موجود، ويتجاوز الوجود الكائن، وعلى إيران أن لا تخرج ذهنا عن هذا، إن أرادت التقدم.
الخاتــمة:
قدمنا، في هذه الثلاثية، قراءة في السياسة الخارجية الإيرانية مع تقييم هذه السياسة ومقارنتها بالدول العربية المركزية في المنطقة. وذلك من خلال منظور متكامل، بغية فحص كافة المحددات التي تلعب دورا في تسيير دفة السياسة الخارجية. ومن هنا يتبين أن إيران أصابت في الكثير من الجوانب، وحققت نجاحات لا يمكن إنكارها في ظل بيئة دولية شديدة التعقيد التي تقبع فوقها إيران. حيث ركزت سياستها الخارجية على مواجهة التحديات الخارجية عبر منظومة متكاملة من الإجراءات. ركزت على تطوير قدرات إيران، في مجال التسليح، فضلا عن تنشيط العمل في برنامجها النووي، وتنمية اقتصادها. من خلال سياسة خارجية قائمة على بناء شبكة من الروابط والتحالفات الإقليمية والدولية، مما حقق لها امتلاك قدرة أكبر في مواجهة التهديدات المختلفة. وهو ما عزز مكانتها الإقليمية، فضلا عن حماية مصالحها الإستراتيجية، واستقلالها على المستويين الإقليمي والدولي. وتتبع في ذلك سياسة تتسم بالهدوء والحذر وسياسة النفس الطويل، والعمل دون كلل بحيث تحافظ على الاستمرارية وعدم الانقطاع ومن ثم البدء من الصفر كما هو الحال في النظم العربية، بل بتراكم الانجازات ونقاط القوة، بحيث لا تغضب الولايات المتحدة الأمريكية، القطب المهيمن، إلى الحد الذي لا يمكن أن تطيقه هذه الأخيرة، من خلال الحيلولة دون وصول أو دفع التناقض معها إلى الذروة، طبقا لمبدأ إن شدت واشنطن رخت طهران. فضلا عن استغلال البيئة الدولية، والتراجع الأمريكي لطرح مشروعها ودفعه بخطوة إلى الإمام. وهكذا، أصحبت إيران على صعيد منطقة الشرق الأوسط قوة عسكرية واقتصادية وتقنية. ولكن كما قلنا سابقا فإن القوة في الكيف وليس في الكم فحسب. أي انه على الرغم أن إيران قوة إقليمية عسكرية واقتصادية وتقنية، إلا انه عند مقارنة ذلك بدول أخرى خارج منطقة الشرق الأوسط تفقد إيران قوتها، ويتجلى ضعفها. فمثلا، على صعيد القوة الاقتصادية، لا تقارن باليابان، أو الصين، أو نمور أسيا (من كوريا إلى تايوان) أو أوروبا بما فيها ألـمانيا، أو حتى تركيا. أما على صعيد القوة العسكرية، فإنها لا تقارن القوى بروسيا، أو بريطانيا، أو فرنسا. هذه الدول النووية، ذات المكانة الدولية، والتي تتمتع بحق الفيتو في الـمنظمة الدولية. وقس ذلك في موضوع التحول نحو الديمقراطية، ومفاهيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان، وغيرها من مفاهيم العصر.
إلى جانب ذلك ثمة إخفاقات تكتنف سياستها الخارجية أهمها التصورات الذهنية الكبرى التي تعتور الدور الإيراني. فلا تزال تهيمن على العقل السياسي الإيراني فكرة المركزية والشمولية، ففي الوقت الذي فيه تتفكك هذه المفاهيم، وتنتفي فيه فكرة المركز والحقيقة المكتملة، لا تزال إيران تؤمن بهما في عصر ما بعد الحداثة. ناهيك عن عجزها حتى الآن عن تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة للمجتمع الإيراني. وهو المحك الرئيسي في تقييمنا لنجاح أو فشل أية سياسة خارجية، هو نجاحها أو فشلها في تحقيق تنمية مستدامة لمجتمعها. وعليه فإن إيران بحاجة لإعادة صياغة سياستها الخارجية في تركيب خلاّق ومبدع يواكب مفاهيم العصر واحتياجات البناء في الداخل، وهي احتياجات كشفت عنها المعارضة الإيرانية مؤخرا. وعليه، إن البنية الدستورية والمؤسساتية لإيران تواجه تحديات كثيرة داخلية، أي من القوى المجتمعية والحراك الاجتماعي. ومن الخارج، أي من النظام العالمي سواء من جانب الدول أو المؤسسات الدولية، أو من قوى عولمية ومنظمات غير حكومة. وهو ما يشكل تحديات كبرى أمام إيران. هذه التحديدات تدفع –بالضرورة- البناء المؤسساتي والدستوري في إيران إلى اجتراح الوسائل الملائمة للتعامل معها، حتى يستطيع النظام الاستمرارية والتكيف مع هذه التحديات. هل ستنجح البنية الدستورية والمؤسساتية للنظام في التعامل مع هذه التحديات؟. يمثل الإجابة الحاسمة على هذه السؤال مستقبل الجمهورية
من خلال ذلك يتجلى كثير من الأمور أهمها أن الصورة الذهنية الضخمة، التي تقترب إلى حد الأسطورة (أو الخرافة) منها إلى الحقيقة. والمهم هنا، بعد هذا الاستطراد، هو أن هناك فجوة بين هذه التصورات (الصور الذهنية عن الذات وبالتالي الدور) وبين موارد إيران. وهذا يترتب عليه كثير من المعضلات التي تؤثر سلبا على نظام سياستها الخارجية.
ولكن يمكن أن نفترض أن إيران لديها مقومات كثيرة، وتستثمر فعلا هذه المقومات والإمكانات، ولكن ثمة معيقات تواجهها، أهمها الفجوة بين تصورات الدور وإمكانات تنفيذه. فإيران قوية بالنسبة لمن ؟ فهل توازن إيران قوة الولايات المتحدة الأمريكية أو حتى فرنسا أو إسرائيل؟
رابعا، الهيبة والدور الإيراني:
بخصوص محدد الهيبة في السياسة الخارجية الإيرانية، نلاحظ أن موضوع التنمية في إيران، وسعيها الحثيث للحصول على الهيبة، تركز على التقنيات العسكرية والتقنية أكثر من تركيزها على تطوير مؤسساتها الدستورية والسياسية، واحترامها للديمقراطية، والتعددية السياسية، وحقوق الإنسان، واحترام الاتفاقيات الدولية. كل ذلك يضمن لها احترام المجتمع الدولي، فجميعها تشكل عناصر للهيبة والمكانة، التي تمثل قضية محورية في نظم السياسة الخارجية، فالاحترام الذي يمنحه المجتمع الدولي لدولة ما من الدول، لا يكون إلى باستدخال هذه العناصر في بنيتها الدستورية والسياسة. فمن خلال ذلك تحوز الدولة على السمعة الدولية والمكانة الحسنة والمرموقة. وهذا ما يجعل للدولة هيبة. وتركيا خير مثال على ذلك، من خلال الموقف الأمريكي والأوربي بخصوص الاستفتاء التركي. فالديمقراطية أصبحت أيقونة العصر، وبدونها لا يمكن لدولة ما أن تحوز على الهيبة والمكانة. فالتحول نحو الديمقراطية، لا يكفيه أصدر دستور وإجراء انتخابات. رغم أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في 12 حزيران- يونيو 2009، تعد العاشرة التي تجرى في إيران منذ قيام الثورة، هو دليل على حيوية النظام السياسي الإيراني، إلا أن ما جرى بعد الانتخابات افقد النظام هذه الحيوية، ونال من سمعة وهيبة إيران أمام العالم. فقد شكك في نتائجها ونزاهتها ليس من قبل خصوم إيران فحسب، بل من النخبة الإيرانية ذاتها، ومن أقطاب النظام أنفسهم، ومن داخل المؤسسة الدينية التي اعترتها الفرقة والانقسام. ناهيك عن تقريع النخب الإيرانية بعضها بعضا، والاتهامات المتبادلة بالغش والفساد والتزوير. فضلا عن الاعتقالات للمعارضين وتعذيبهم. فقد فضحت الانتخابات النخب الإيرانية أيما فضيحة، وكشفت عيوب النظام الإيراني، وهو ما شكل نقطة ضعف خطيرة مست هيبة الدولة ومكانتها الدولية، ونال من حيوية النظام السياسي الإيراني، وهو ما له تأثيرات جمة على سياسة إيران الخارجية. وهكذا، إذا كان للحالة الديمقراطية في إيران أوجه، فإن بها أيضا قسمات للدكتاتورية، مثل وضع المرشد صاحب الصلاحيات الواسعة جدا، وسيطرة وتحكم مجلس صيانة الدستور في العملية الانتخابية باختيار الشخصيات المرشحة للانتخابات الإيرانية البرلمانية والرئاسية. فضلا عن تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية. بلا شك كل ذلك ينقص كثيرا من الديمقراطية الإيرانية، والنموذج الإيراني.
كما أن المأزق الداخلي للنظام سيؤثر على أولوياته في الخارج، وسيجد النظام نفسه أمام صعوبات جمة في بلورة الإجماع الوطني حول سياسته الخارجية في الوقت الذي يحتاج إلى هذا الإجماع كمعين وسند قوي له في الدفاع عن سياسته، وبخاصة الملف النووي الإيراني، في ظل ما يحاك لإيران من تربص.
وبالتالي يمكن القول على رغم ثراء التجربة الإيرانية، إلا أن ما يمكن استخلاصه منها لا يصلح بالضرورة للتعميم خارج نطاقها، وبخاصة أن نظامها جاء طبقا لنظرية الإمامة في الفقه الشيعي، والتي تتلاءم مع الشخصية الشيعية وتراثها الفكري والحضاري وثقافتها السياسية، وهكذا فهي تعكس خصوصية الحالة الإيرانية فحسب. لذا فإن هذا النموذج لا يصلح للتطبيق خارج نطاق الخصوصية الإيرانية. وهذا يضعف من إمكانية أن تكون إيران كمركز للعالم الإسلامي أو “أم القرى” حسب التعبير الإيراني. وهذا بالتأكيد يشكل نقطة ضعف في النموذج الإيراني، ونقطة ضعف أخرى في سياستها الخارجية، ويجعل طموحها يستنزف مواردها في مشروع وهمي وحلم لا يمكن أن يطبق. منذ الثورة الإيرانية حتى الآن هل أنجز هذا الطموح؟ أما النجاحات الخارجية التي تحققت في هذا الجانب فقد تحققت بفعل ظروف طارئة وحالة الفراغ والإحباط اللتان تسودان في المحيط الجيوسياسي لإيران .
تكشف الحركة الخضراء عن تحديات مباشرة أمام هيمنة الطبقة الثيوقراطية، وتفسيرها لما هو مقبول أو غير مقبول من سلوك وحريات اجتماعية وحرية رأي وصحافة، وأنماط حياة مبتغاة، ناهيك عن العولمة وأثرها على النظام السياسي الإيراني. هذه المتغيرات والمتطلبات الموصوفة بالحداثية، هل ستخضع لتكييف إسلامي شيعي؟ خصوصا وأنها المرة الأولى التي تخضع فيها المسألة الدينية في إيران لإعادة نظر، بل التجرؤ على الإمام الخميني وحرق صوره ووسم خامنئي بالدكتاتور والمحفظين بالجمود والفساد، وهو ما يعني أن رياح التغيير أصابت العمق الإيراني في محاولة للتخلص من آثار الجمود والتشدد، والإفلات من الأصولية التي افتقرت إلى صياغة نموذج تنموي شامل ومستديم. تطالب الحركة الخضراء بالاهتمام بأولويات المجتمع المدني، والتنمية الداخلية على جميع المستويات، فهذه الاحتياجات التي كشفتها المعارضة الإيرانية، بحاجة من الطبقة الحاكمة أن تعطيها الأولوية القصوى من الدخل القومي والصادرات والواردات، كأحد مطالبها التي كُشف عنها النقاب. وعلى إيران أن تدرك الهيبة لا تتحقق في الحصول على السلاح النووي فقط، بل في تحقيق التنمية ودمقرطة النظام، ومواكبة العصر ومتطلبات الحداثة السياسية. عند ذلك ستحقق إيران بالفعل الهيبة والمكانة المرموقة، لا عن طريق تصريحات نجاد عن قيادة العالم والإدارة الإيرانية، أو تصدير النموذج الإيراني للخارج، فكل ذلك لا نفع من ورائه، بل يستنفذ القدرات والموارد الإيرانية. إن الانطلاق لا يتم مما يقوله نجاد والقيادات الإيرانية، وما يتوهمونه، ويتصورونه عن دور إيران في قيادة العالم الإسلامي، لا، بل يتم من الانطلاق من الفعل الواقعي، والعمل على تطوير نظام الحياة الواقعي. إن من الأجدى لإيران أن تبدأ من هنا أي من العالم الواقعي، الايجابي بتطوير النظام بما يتوافق مع حاجات العصر ومتطلبات الجماهير المحرومة. هذا الفعل الرشيد للنظام هو المادة هي التي تحقق لإيران الهيبة والمكانة، لا التصورات الوهمية. فلا يمكن أن يتعاطى العالم مع اللا موجود، ويتجاوز الوجود الكائن، وعلى إيران أن لا تخرج ذهنا عن هذا، إن أرادت التقدم.
الخاتــمة:
قدمنا، في هذه الثلاثية، قراءة في السياسة الخارجية الإيرانية مع تقييم هذه السياسة ومقارنتها بالدول العربية المركزية في المنطقة. وذلك من خلال منظور متكامل، بغية فحص كافة المحددات التي تلعب دورا في تسيير دفة السياسة الخارجية. ومن هنا يتبين أن إيران أصابت في الكثير من الجوانب، وحققت نجاحات لا يمكن إنكارها في ظل بيئة دولية شديدة التعقيد التي تقبع فوقها إيران. حيث ركزت سياستها الخارجية على مواجهة التحديات الخارجية عبر منظومة متكاملة من الإجراءات. ركزت على تطوير قدرات إيران، في مجال التسليح، فضلا عن تنشيط العمل في برنامجها النووي، وتنمية اقتصادها. من خلال سياسة خارجية قائمة على بناء شبكة من الروابط والتحالفات الإقليمية والدولية، مما حقق لها امتلاك قدرة أكبر في مواجهة التهديدات المختلفة. وهو ما عزز مكانتها الإقليمية، فضلا عن حماية مصالحها الإستراتيجية، واستقلالها على المستويين الإقليمي والدولي. وتتبع في ذلك سياسة تتسم بالهدوء والحذر وسياسة النفس الطويل، والعمل دون كلل بحيث تحافظ على الاستمرارية وعدم الانقطاع ومن ثم البدء من الصفر كما هو الحال في النظم العربية، بل بتراكم الانجازات ونقاط القوة، بحيث لا تغضب الولايات المتحدة الأمريكية، القطب المهيمن، إلى الحد الذي لا يمكن أن تطيقه هذه الأخيرة، من خلال الحيلولة دون وصول أو دفع التناقض معها إلى الذروة، طبقا لمبدأ إن شدت واشنطن رخت طهران. فضلا عن استغلال البيئة الدولية، والتراجع الأمريكي لطرح مشروعها ودفعه بخطوة إلى الإمام. وهكذا، أصحبت إيران على صعيد منطقة الشرق الأوسط قوة عسكرية واقتصادية وتقنية. ولكن كما قلنا سابقا فإن القوة في الكيف وليس في الكم فحسب. أي انه على الرغم أن إيران قوة إقليمية عسكرية واقتصادية وتقنية، إلا انه عند مقارنة ذلك بدول أخرى خارج منطقة الشرق الأوسط تفقد إيران قوتها، ويتجلى ضعفها. فمثلا، على صعيد القوة الاقتصادية، لا تقارن باليابان، أو الصين، أو نمور أسيا (من كوريا إلى تايوان) أو أوروبا بما فيها ألـمانيا، أو حتى تركيا. أما على صعيد القوة العسكرية، فإنها لا تقارن القوى بروسيا، أو بريطانيا، أو فرنسا. هذه الدول النووية، ذات المكانة الدولية، والتي تتمتع بحق الفيتو في الـمنظمة الدولية. وقس ذلك في موضوع التحول نحو الديمقراطية، ومفاهيم المجتمع المدني وحقوق الإنسان، وغيرها من مفاهيم العصر.
إلى جانب ذلك ثمة إخفاقات تكتنف سياستها الخارجية أهمها التصورات الذهنية الكبرى التي تعتور الدور الإيراني. فلا تزال تهيمن على العقل السياسي الإيراني فكرة المركزية والشمولية، ففي الوقت الذي فيه تتفكك هذه المفاهيم، وتنتفي فيه فكرة المركز والحقيقة المكتملة، لا تزال إيران تؤمن بهما في عصر ما بعد الحداثة. ناهيك عن عجزها حتى الآن عن تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة للمجتمع الإيراني. وهو المحك الرئيسي في تقييمنا لنجاح أو فشل أية سياسة خارجية، هو نجاحها أو فشلها في تحقيق تنمية مستدامة لمجتمعها. وعليه فإن إيران بحاجة لإعادة صياغة سياستها الخارجية في تركيب خلاّق ومبدع يواكب مفاهيم العصر واحتياجات البناء في الداخل، وهي احتياجات كشفت عنها المعارضة الإيرانية مؤخرا. وعليه، إن البنية الدستورية والمؤسساتية لإيران تواجه تحديات كثيرة داخلية، أي من القوى المجتمعية والحراك الاجتماعي. ومن الخارج، أي من النظام العالمي سواء من جانب الدول أو المؤسسات الدولية، أو من قوى عولمية ومنظمات غير حكومة. وهو ما يشكل تحديات كبرى أمام إيران. هذه التحديدات تدفع –بالضرورة- البناء المؤسساتي والدستوري في إيران إلى اجتراح الوسائل الملائمة للتعامل معها، حتى يستطيع النظام الاستمرارية والتكيف مع هذه التحديات. هل ستنجح البنية الدستورية والمؤسساتية للنظام في التعامل مع هذه التحديات؟. يمثل الإجابة الحاسمة على هذه السؤال مستقبل الجمهورية