صفحة 1 من 1

الخصوصية الثقافية وحقوق الانسان

مرسل: السبت ديسمبر 24, 2011 1:34 pm
بواسطة وليد الربيعان 5
رؤية المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر



د/ أميمة عبود


http://www.hewaronline.net/Conferenc...ma%20Aboud.htm

تنطلق هذه الدراسة في تحليلها لمفهوم حقوق الإنسان ومسألة الجدال المستمر حول الخصوصية والعالمية بمسمياتهما المتعددة وعبر التخصصات المختلفة من منهاجية الاتجاه الفلسفي اللغوي لتحليل المفاهيم عند " فيتجنشتين Wittgenstein" وخاصة فيما يتعلق بالمفاهيم وتحليلها. وضرورة البحث في أي مفهوم عن الذات self التي اختارت هذا المفهوم rational chooser، واللغة المستخدمة فيه[1]language user وسياق الاستخدام context or environment of use. ومن ثم تفترض الدراسة أن مفهوم حقوق الإنسان لا يعبر عن قيم أخلاقية عالمية بل هو مجموعة من الإجراءات والاستخدامات لذات تسعى للعالمية ولها لغتها ومنطقها في التعبير عن حقوقها العملية والبراجماتية، فأصبح مفهوم حقوق الإنسان يربط باتساق مجموعة من الشروط والأفكار التي تتسم بالعقلانية. بدءا من استخدام فكرة التعاقدية contracting ثم فكرة المساومة وعوائقها barriers of bargaining وأخيرا فكرة الاعتراف confessionبالصفقة الرابحة في إطار سياق ثقافي استقرت فيه هذه المفاهيم واستخداماتها. مما يؤكد أنه ليس لمعنى أي مفهوم أي وجود مستقل ولكنه يعتمد بالأساس على التبريرات التي نستخدمها ونقوم ببنائها في أزمنة وأمكنة مختلفة.

بعبارة أخرى أن مفهوم حقوق الإنسان كما يتبادر إلى الذهن وبعيدا عن أي جذور فلسفية أو أخلاقية أو دينية هو المفهوم الذي تم صكه عام 1948 في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين التاليين عليه، هذا المفهوم هو وليد الممارسات السياسية والقانونية التي تحكمها مرجعية وذهنية الثقافة الغربية ومراحلها التاريخية المختلفة. وتتميز الذوات المنتمية لهذه الثقافة بخصوصية التضامن الإنساني في ظل الاستقلالية الفردية، من خلال الدخول في عمليات الانتاج والتبادل والمنافسة التي هي خاضعة ورهنا لقواعد السوق، ومن ثم تصبح الكفاءة والفعالية المادية والتداول المادي في حاجة إلى ذوات فردية وثنائية. وامتدت عمليتا الانتاج والتداول والربح من النطاق المحلي والإقليمي إلى النطاق العالمي والكوني، من خلال التقدم في وسائل الإعلام والالكترونيات والشركات العابرة للقوميات والاتفاقات والمعاهدات الدولية والحروب والعلوم والرياضة وفي ظل آليات الإنتاج وتبادل المعلومات والاتصالات لتحقيق الرغبة الشديدة في القوة والهيمنة بعيدا عن أية محاولة لتحقيق الفهم المشترك بين هؤلاء البشر والثقافات والأطر والسياقات الأخرى والمختلفة.

وقد ترتب على ذلك في إطار هذه الثقافة الغربية تكريس فكرة المنفعة أو النظرة النفعية للحقوق the utilitarianism of rights، وينطبق هذا على مبادئ حقوق الإنسان والزعم بأنها بنى أو هياكل للضبط يتم تبنيها من أجل منفعتها، ولكن إذا ما نظرنا إلى استخدامها تصبح منفعتها ذاتية وليست عامة، من أجل تعظيم المنفعة أو لتعظيم حماية الحقوقmaximize the protection of rights حتى ولو على حساب التضحية بحقوق أفراد آخرين[2]. ومن ثم تكرس حقوق الإنسان ثقافة الانتاج والتبادل وتتبنى معايير لتبادل السلوك وتحقيق المصالح، فحقوق الإنسان هو مفهوم تأسس على شروط للمساومة والتبادل وتجميع المصالح، وهو أحد المنتجات الثقافية في إطار الثقافة الغربية التي لها تاريخها وإرثها الممتد أو نمط حياتها على حد استخدام " فيتجنشتين " form of life وهي على الشكل المشار إليه هي محدودة بالحدود الثقافية والأخلاقية لعصر التنوير والحداثة ومفاهيمها أو ألعابها اللغوية language gameكالعقلانية والحرية والإرادة والاستقلالية الفردية ثم العدالة الإجرائية التي تجمع بين الحرية والمساواة في مرحلة لاحقة[3].

وتحدث الأزمة عندما تتلاشى الحدود السياقية لعمليات الانتاج والتبادل والربح لمنتج ثقافي مثل حقوق الإنسان، وتصبح السياقات الفكرية والواقعية بين ذوات الثقافات المختلفة ذات سيولة ومفتوحة على جميع الاحتمالات، وهنا يظهر نوع من الصراعات حول حدود المعاني والاختلاف مع الآخر والهوية الثقافية. وقد يحدث نوع من التشوش المفاهيميconceptual confusion عندما تحاول أحد الذوات الذهاب فيما بعد الحدود والضوابط واقتراح بدائل تحدد لباقي الأطراف كيفية التصرف والتعامل والاعتقاد. وتحدث مشكلة الهوية والخصوصية عندما تتعارض اللغة المستخدمة من قبل الذات الفردية أو ذات السيادة الفردية universalist self /individualist / individual sovereignty مع اللغة المستخدمة من قبل ثقافة الجماعات المختلفة cultural groups / cultural taboo /communitarian groups ، ومن ثم يصبح مفهوم مثل حقوق الإنسان موضع للتساؤل فاللغة المستخدمة ليست ثابتة وليست مطلقة ولكنها مفتوحة ومتنوعة.

ومن الجدير بالذكر أن مفهوم حقوق الإنسان بفلسفته وقواعده ومرجعيته الذهنية هو مفهوم ذو استخدام ناجح في سياق يتسم بالقلق والمنافسة والصراع وهو نظام علاقات السوق، حيث يعمل هذا المفهوم على التهدئة وتحقيق الاستقرار والحفاظ على الوضع القائم، كما تستمد منه مساحات شرعية للمقاومة فيما يتعلق بالإجراءات المؤسسية في سياق الثقافة الغربية. بل إنه حتى وفي نفس هذا الإطار هناك جدال دائر حول تلك المساحات الشرعية للمقاومة لمفهوم حقوق الإنسان بين انصار الاتجاه الليبرالي والاتجاه المجتمعي في الفكر الليبرالي الغربي الجديد[4].

وهكذا أصبح ما يحدث من تحول قوي في مفهوم مثل حقوق الإنسان لا يرتبط بتوصيف الذات الإنسانية موضع الاهتمام ورؤيتها لمعاني الحق والواجب والصواب والخطأ وإنما في قدرة ونفوذ أحد الذوات على تعدد الاستخدامات المختلفة في توظيف تلك المعاني سواء بالتجاهل أو بالحرفية والبراعة والمكر أو الحصافة والذكاء أو بالترحيب أو بالتألم والرفض... وغيرها من الآف الاستخدامات أو التلاعب اللغوي والتي تتعلق بمدى ملائمة القواعد الخاصة بحقوق الإنسان من عدمه دون النظر إلى السياقات الثقافية أخرى، والتي استتبعت بعدد لا يحصى من المعاهدات والمواثيق الدولية التي وقعت عليها العديد من الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية، بالرغم من ازدواجية المعايير الدولية مما يرتكب من وحشية وقسوة والتي أصبحت مظهرا من مظاهر الواقع الإنساني المعاصر .

مما يدفعنا للقول بأن خطاب حقوق الإنسان هو خطاب خاص بذات لها لغتها الخاصة linguistic self في سياق عالمي يهيمن عليه التوجه التعاقدي الليبرالي الديمقراطي، وباستخدام الاتجاه التحليلي " لفتجنشتين" يصبح جميع الأفراد في أي إطار ثقافي ما هم إلا منتجات ثقافية وكائنات لغوية cultural products linguistic beings لهذا الإطار أو هذا السياق فقط، وقد يكون لهم علاقات مع ذوات أو كائنات لغوية أخرى. ويتوقف معنى خطاب حقوق الإنسان على توصيف المعنى واستخدامه فقد يكون صرخة ضد الاضطهاد أو اعتراف بالمنطق العالمي للاستخدام universal reason أو اعتراف دولي أو تعبير أنثربولوجي لجماعة أو لثقافة معينة أو رمز للحرية الفردية والشخصية أو الحق في تكريس وضع ثقافي له خصوصيته. ويتوقف نظام انتاج المعنى واستخدامه أيضا على القدرة على نظام تبادله مما يترتب عليه تأمين هذا الاستخدام وتقويته وإعطاءه شرعية تمكنه من الاستمرار والاعتراف به وأحيانا فرضه كنموذج للقياس[5].

ومما سبق وفي إطار الاتجاه اللغوي " لفيتجنشتين" ستحاول الدراسة الإجابة على التساؤلات التالية: هل الجدال بين العالمية والخصوصية حول الأسس أو القواعد التي تقوم عليها الحقوق أم حول مضمون استخدام تلك الحقوق في الأطر الثقافية المختلفة؟ هل استخدام حقوق الإنسان في إطار مرجعية خطاب المجلس القومي لحقوق الإنسان يدعم ويؤكد الاعتراف بنظام الانتاج والتبادل القائم في الثقافة الغربية وتبعيته للنموذج الغربي أكثر من البحث عن خيارات جديدة أو أنظمة بديلة تمس واقعه وتهمه؟ هل يمكن لخطاب المجلس القومي لحقوق الإنسان صياغة حقوق أو تقديم معالجات لها خصوصيتها لحل مشكلات الواقع أم أنه يمثل نوعا من الديكور ومحاولة إضفاء نوعا من المشروعية الثقافية بعيدا عن الواقع وتجاربه وأولوياته التي تحدد الاحتياجات والحقوق والواجبات؟ هل انشغل خطاب المجلس القومي لحقوق الإنسان بالجدل الفكري المتعلق بثنائية الحقوق والثقافة أم يحاول تكريس الحق في ثقافة ما أم ينظر إلى الحقوق كثقافة مجتمعية أم لا هذا ولا ذاك؟ بعبارة أخرى هل قدم خطاب المجلس القومي لحقوق الإنسان أية مفاهيم ذات طابع محلي للحقوق وماذا قدم للتوفيق بين مفاهيم الحقوق العالمية وبين الحفاظ على الاختلاف الثقافي المحلي وخصوصية مشكلات الواقع المصري الاجتماعية والثقافية؟

وفي ضوء ما سبق ستنقسم الدراسة إلى: مبحثين تسبقهما مقدمة وتلحقهما خاتمة المبحث الأول ـ يتناول هذا المبحثأبعاد الجدال أو الخلاف الفكري بين أنصار العالمية والخصوصية حول مفهوم حقوق الإنسان. المبحث الثاني ـ يركز هذا المبحث على خطاب المجلس القومي لحقوق الإنسان لاستخلاص رؤيته حول مسألة الخصوصية أو الهوية الثقافية وكيفية استخدامه أو عدم استخدامه لها.

المبحث الأول: قضية حقوق الإنسان بين العالمية والخصوصية

تتعلق هذه القضية بالأبعاد الثقافية والفكرية لحقوق الإنسان، حيث أن الأشكالية هنا ليست إشكالية نصوص تراثية مقدسة أو نصوص دستورية وقانونية معاصرة ولكنها أيضا وبدرجة أهم إشكالية البنية الثقافية السائدة. فالبحث هنا هو بحث في أساسيات الثقافة الوطنية أوالمحلية وأيضا التجارب الحضارية والذاكرة التاريخية للشعوب، وبالرموز والمعايير والقيم والأعراف والعادات والتفاليد السائدة ومن أين تستمد وكيفية استخدامها.

كما يمثل خطاب حقوق الإنسان أحد التعبيرات المعاصرة لثنائية الحق والثقافةright versus culture، والتي تشير إلى الحق في ثقافة ما a right to culture ويعني بها حقوق الشعوب في التقاليد واللغة والدين والأثنية والمحلية والعرق والقبيلة، أو تشير – أي تلك الثنائية – إلى الحقوق كثقافة rights as culture وهنا يفترض أن تكون الحقوق هي تجسيد للثقافة باعتبار أن خطاب الحقوق يتضمن ملامح لثقافة ما أو لذات ما أو لمجتمع ما. محاولا التأكيد على عالمية الحقوق من جهة وإدراك الاختلافات الثقافية من جهة أخرى من أجل إيجاد أرضية مشتركة لتأسيس بعض الحقوق، وتجسد هذا في الجدل الدائر بين العالمية والنسبية الثقافية. بعبارة أخرى إلى أي مدى يمكن الاستفادة من تبني نظام عالمي للحقوق universal system of rights مع الحفاظ في نفس الوقت على حماية التنوع الثقافي cultural diversity والثقافات المحلية[6].

بالنسبة لقضية حقوق الإنسان بين دعاوى العالمية والخصوصية – فقد ظهر أول ملامح لهذا الجدال عام 1947 بين علماء الأنثروبولوجيا الذين درسوا الشعوب المستعمرة - نجد أن مفهوم حقوق الإنسان يوجد في أنساق فكرية مختلفة وخطابات متنوعة وله استخداماته العديدة والمختلفة التي لها خصوصياتها كما سبق الإشارة إليه. أما مسألتي العالمية والخصوصية فهما صفتان تمثلان أحد الإشكاليات النظرية التي تطرح في المفاهيم والخطابات والأنساق الفكرية المختلفة، بعبارة أخرى هما يتعلقان بإمكانيات ومخزون ثقافي محدد يدعي لنفسه صفة العالمية في مواجهة المخزونات والإمكانيات الثقافية الأخرى. وتأخذ إشكالية العالمية والخصوصية مستويين: المستوى الأول ـ ما بين الخطابات والأطر المرجعية المختلفة، المستوى الثاني ـ في داخل النسق القكري الواحد ما بين اتجاه عالمي واتجاه نسبي. بل أنه من المفارقات فإن الخطاب الليبرالي الغربي الذي يدعي العالمية يدور بداخله جدال كبير بين أنصار العالمية ـ universalism rights oriented liberalism وبين أنصار النسبية ـ relativism communitarianism. أو بعبارة أخرى بين تقاليد أنجلو أمريكية لمفهوم الحقوق تؤكد على الحرية الفردية دون اعتبار للقيود والمسئوليات، ومفهوم قاري أوروبي للحقوق يؤكد على العائلة والمجتمع وواجبات المواطنة.

ومن جهة أخرى ينظر البعض إلى قضية العالمية والخصوصية في مجال حقوق الإنسان كواحدة من التحديات والعقبات التي تتعلق بإضفاء صفة العالمية على هذه الحقوق،وهنا يفرق أنصار عالمية حقوق الإنسان بين الاستخدام السياسي أو تسييس النسبية الثقافية وبين الاختلافات الثقافية التي يجب الاعتراف بها، والتوفيق بين الأخيرة وبين فكرة حقوق الإنسان لتصبح عالمية.
ومن ابرز تلك التحديات التي تواجه عالمية الحقوق: قضية المواطنة وحقوق الإنسان citizenship and Human Rights وهي قضية التعارض بين ما هو إنساني أو الجوانب الإنسانية للحقوق وتجسيدها السياسي كحقوق المواطنة. وأيضا قضية التعارض بين المساواة الشكلية أو القانونية للأفراد وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية formal equality and social inequality with regard to Human Rights. وقضية التعارض بين عالمية الحقوق وخصوصية أو نسبية هذه الحقوق المتعلقة بالتقاليد والحضارات والثقافات المختلفة universalism and particularism of Human Rights[7].

ومما يجدر الإشارة إليه هنا أن البعض يفرق بين فكرة الحقوق الفردية التي ظهرت في القرن الثامن عشر وبين مفهوم حقوق الإنسان الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث أن فكرة الحقوق الفردية كانت بالأساس حقوق الرجل الأبيض white male ثم حقوق المرأة الغربية white woman، يليها في المرتبة حقوق العمال ثم سكان المستعمرات ثم العبيد. وكانت مرجعية هذه الحقوق الفردية هي أفكار التقدم والتطور والدارونية والعنصرية لتقديم المبررات لتفوق الرجل الأبيض فهو السيد المسيطر. ثم تغيرت هذه المرجعية وتم استبدالها بالفكر النفعي وديمقراطية الأغلبية وبعض الأيدلوجيات الجماعية مثل القومية والاشتراكية أما على مستوى الممارسة فقد توازى ذلك مع انتهاكات لحقوق السكان الأصليين وسكان المستعمرات.... .أما فكرة الحقوق والتي ظهرت أثناء الحرب العالمية الثانية وصيغت في مفهوم حقوق الإنسان كانت ممتدة لجميع البشر في كل أنحاء العالم.

وبينما كانت الحقوق الفردية تهدف إلى حماية الاستقلالية والحرية وتحد من تدخل الحكومة وتقدم حصانة للفرد ( الغربي بالأساس ) ضد أي ممارسة غير مسئولة من جانب السلطة. بدأ ينمو في القرن التاسع عشر والقرن العشرين معنى آخر للحقوق لا ينبع فقط من استقلالية الفرد وإنما من المجتمع وأصبح يضيف إلى الحرية والمساواة معنى الإخاء، وأصبح هذا المفهوم يرتب مجموعة من الالتزامات على المجتمع والحكومة للحفاظ على الأمن والحرية والملكية والحياة وأيضا الاحتياجات الإنسانية الأساسية. ويرى البعض أن فكرة الحقوق الفردية فكرة لها أساسها النظري كما جاء في نظريات القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي، أما فكرة حقوق الإنسان فهي تفتقر إلى الأساس النظري وتعتمد على جهود الساسة والممارسة السياسية فهي تنبع من صياغة قانونية عليها شبه إجماع دولي للكرامة الإنسانية مستلهما من فكرة العقد.

وهنا تم استبدال الأساس التعاقدي للحقوق الفردية بمفهوم السيادة الشعبية المتضمنة في حقوق الإنسان، وتغير الهدف من حماية الحقوق الفردية وعلى رأسها الحرية من الطغيان إلى حماية الحرية والعدالة والسلام، وتقوية العلاقات الحميمية بين الأفراد والدول لمنع أي نوع من الاستبداد، وحل الاهتمام بكرامة الإنسان محل الاستقلالية الفردية. من ناحية أخرى أعطى مفهوم حقوق الإنسان دورا جديدا للدولة أكثر فعالية وجعل لها العديد من الالتزامات التي يجب الوفاء بها تجاه المواطنين بعيدا عن الدور الحمائي أو السالب للدولة في القرن الثامن عشر وفي إطار مفهوم الحقوق الفردية.

ومما يجدر الإشارة إليه أيضا أنه مع بداية الثمانينات بدأت العلوم الاجتماعية في الغرب تدخل تحت تأثيرات مختلفة منها زوال وهم السمو الغربي مرحلة جديدة مستمرة حتى الآن، ويسود هذه المرحلة اتجاهان رئيسيان أحدهما ينادي بالنسبية الثقافية ـ cultural relativism/ communitarianismوأهم المعبرين عنه: A. Heller, M. Herskovits, A. MacIntyre, A. Renteln, S. Lukes. وثانيهما يؤكد على عالمية العلوم الاجتماعية ـ universalism/ cultural absolutism/ individualism وأهم أنصاره ورواده M. Featherstone, B. Turner, J. Rawls, R. Howard, … ، وفيما يلي استعراض سريع لحجج ومقولات كل اتجاه فيما يتعلق بمفهوم حقوق الإنسان:

اتجاه عالمية حقوق الإنسان ـ the globalization of human rights [8]

ينطلق هذا الاتجاه من عدة مقولات رئيسية ترى أن أسباب عالمية حقوق الإنسان ترجع لانطباقها على الإنسان كمطلق في كل مكان وبدون تمييز. كما أنها تستمد عالميتها أيضا من المواثيق الدولية السارية والتي تعد إنجاز ويصبح السؤال: كيف نرسخ الإجماع العالمي حول مفهوم ومبادئ حقوق الإنسان؟، ويرى هذا الاتجاه أنه يجب الأخذ بالمفهوم والمبادئ الراهنة كإطار مرجعي بدلا من البداية من جديد أو من نقطة الصفر حيث تقوم على قدر من الأجماع العالمي الرسمي على الأقل، كما أنها تحقق حد أدنى من مستوى الحماية والكرامة. وينادي هذا الاتجاه بضرورة العمل على تأصيل هذه العالمية ومشروعياتها في ثقافات العالم المختلفة، مع ضرورة النقاش أو الحوار بين الثقافات المختلفة وتطويع عوامل التأثير المتبادل بين الثقافات لتحقيق إجماع شعبي وليس رسمي.

كما يرى هذا الاتجاه أن عالمية مفهوم حقوق الإنسان تنبع من تزايد تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان مع امتداد واتساع رقعة الخطاب العام لحقوق الإنسان إلى الحد الذي جعل مفهوم حقوق الإنسان أحد القيم العالمية في وقتنا الحاضر. فقد حلت لغة خطاب حقوق الإنسان بالمفهوم الليبرالي محل الفراغ الذي ظهر بعد زوال النظريات السياسية الكبرى بعد الحرب الباردة، ويؤكد هذا الاتجاه إنه بالرغم من الاختلاف والتنازع حول مفهوم وتطبيق خطاب حقوق الإنسان إلا أن هناك درجة ملحوظة من الاتفاق بين الحكومات على أن هناك عددا من الحقوق يجب حمايته تحت قواعد القانون الدولي.

ويستوحى هذا الاتجاه حججه من أفكار" كانط ـ Kant" وخاصة فكرته عن الحق العالمي ـ idea of cosmopolitan right والمستمدة من فكرته عن السلام العالمي. وأيضا من انتقادات رواد هذا الاتجاه وأنصاره فنجد R. Howard ترفض بشدة ما يسمى بالاتجاه المجتمعي الرومانسي أو الشديد المثالية ـ romantic communitarianism والذي يؤكد على الخصوصية الثقافية للمجتمعات، وتؤكد Howard على المفهوم الليبرالي الفردي لحقوق الإنسان. كما يرى " Featherstone" أنه نظرا لتشابك الإعلام والاتصال والسياسة ورأس المال وتكنولوجيا الاتصال والهجرة وصور الاستهلاك و.... فأن مجتمعات العالم يتزايد تكاملها في شبكات عالمية ـ global networks . وأخيرا أجمع كل أنصار هذا الاتجاه على أنه إذا كان هناك شكل ثقافي عالمي فهذا لا يعني أنه لا يوجد تأويل يعتمد بشكل أساسي على تمايز القيم الفردية والمحلية. كما أن المعاني لا تتولد فقط من الروابط الثقافية ومنظومة القيم وإنما من خلال التفاعل العالمي ـ global interactions. كما يرفض أنصار العالمية العزلة وينادون بمفهوم التعددية ولكن من خلال عولمة هذه التعددية في صيغة واحدة. ويؤكد أنصار عالمية حقوق الإنسان أن المسألة ليست مجرد تغريب أو تحديث أو نوع من المعيارية فهي ببساطة عملية تجانس وتكامل بل وتتضمن جمع كل هذه الاختلافات في بوتقة واحدة. ومن ثم يصبح المفهوم العالمي لحقوق الإنسان هو التعبير الأمثل عن الرشادة والعقلانية والقانون والحق الطبيعي ومفهوم ومبادئ العدالة والعقد الاجتماعي والمنفعة.

وقد أشار البعض في هذا الإطار إلى مفهوم العالمية المتفاعلة interactive universalism والتي لديها القدرة على استيعاب الاختلافات واعتبارها نقاط بدء للفكر والممارسة لتقديم اتجاهات أخلاقية، تبحث عن تعريف وتشجيع و وتكريس ما يصلح للعالمية من داخل كل ثقافة. وقد فرق البعض الآخر بين العالمية المجردة والعالمية الواقعية أو الملموسة concrete/abstract universality والتي تتجسد في شبكات العلاقات والترابطات الكونية لدمج الأفراد والثقافات ليصبح مفهوم حقوق الإنسان مفهوم متعدد الثقافات pluricultural concept.

اتجاه نسبية حقوق الإنسان ـ the cultural relativist of human rights[9]

ينطلق هذا الاتجاه من عدة مقولات رئيسية ترى أن أسباب خصوصية أو نسبية حقوق الإنسان ترجع إلى عدة أسباب من أهمها: أولا عدم وجود فهم أو تأويل موحد لعالمية لغة حقوق الإنسان ومبادئها والألتزام بها، وذلك لتعدد المعاني والدلالات بتعدد التوجهات والبواعث والمتحدثين، كما أن لكل ثقافة فهمها الخاص وبشكل مغاير لما هو شائع في ثقافة أخرى، وأن فكرة الحقوق الواجبة من حيث أنها ملزمة للدولة والمجتمع قد لا تكون مقبولة في المجتمعات التقليدية التي ينشغل فيها الناس أكثر بالاتساق والتكافل الاجتماعي أكثر من انشغالهم بحقوق الأفراد ونفاذ تلك الحقوق في مواجهة الدولة والمجتمع. فالحقوق هي ظاهرة ثقافية rights are cultural phenomenon تنمو وتتغير عبر الزمن كاستجابة لتأثيرات متنوعة ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية.
وقد أصبحت الثقافة تفهم على أنها عملية متطورة ومتغيرة من خلال الأفعال والصراعات حول المعاني أكثر من كونها مجرد نظام ساكن أو استاتيكي من القيم والمعتقدات والقيم المشتركة وهى الفكرة أو النظرة السائدة في 1947. وأضحت الثقافة في ظل التغيرات العالمية تفهم كمنتج تاريخي متصل كونيا ومتنازع داخليا وذو حدود غامضة للهوية والممارسة، كما أصبحت الحقوق تتكون تاريخيا ويعاد تعريفها دوليا من خلال فواعل دولية ومحلية، فالثقافة والحقوق هما عمليتان لهما صيرورتهما الدائمة من أجل تحقيق الملائمة الثقافية cultural appropriation لمشكلات المجتمعات المحلية أولا.

ثانيا أرجع هذا الاتجاه خصوصية وقصور ونسبية حقوق الإنسان إلى قصور المواثيق الدولية الحالية حيث أن مشاركة الدول النامية جاءت متأخرة وعلى أساس مفهوم ومبادئ لحقوق الإنسان سبق تقريرها بواسطة الدول الكبرى عام 1946 ـ 1948، حيث لم يكن لممثلي الدول النامية حديثة العهد بالاستقلال المصداقية والوزن السياسي الذي تتمتع به الدول الكبرى. أيضا كانت هذه الدول النامية تعاني من ضعف الهياكل وغياب الاستقرار السياسي والحريات العامة وضعف الموارد البشرية. ومن ثم فإنه يصبح من الضروري ـ من وجهة نظر هذا الاتجاه ـ خلق وتنمية الاجماع الشعبي العالمي حول مفهوم ومبادئ حقوق الإنسان بدلا من المفاوضات الرسمية بين ممثلي الحكومات، لأن ثقافة أي مجتمع هي جماع قيم وأعراف ومؤسسات وأنماط السلوك المتناقلة جيل بعد جيل في إطار المجتمع.

ثالثا أرجع هذا الاتجاه خصوصية أو نسبية حقوق الإنسان أيضا إلى تزايد الدراسات الأنثربولوجية التي تركز على فكرة المحلية localism، والتي تنتقد أو تتخذ موقفا متعارضا من القيم العالمية ـ universal values والعمليات الثقافية العابرة للحدود القومية مثل حقوق الإنسان ـ transnational processes such as human rights. وهنا يمكن الأشارة إلى أعمال باحثين أمثال "Melville Herskovits " وانتقاداته لما أسماه امتداد نزعة التمركز حول الذات وإطلاقية القيم الغربية وضرورة أن تحل القيم الثقافية المختلفة محل القيم الأخلاقية العالمية لحقوق الإنسان. فهو يرى أن الفرد يدرك شخصيته من خلال ثقافته ومن ثم احترام الاختلافات الفردية ـ individual differences يساعد على احترام الاختلافات الثقافية ـ cultural differences ، ومن ثم فإن الاختلافات الثقافية تقوض المفهوم العالمي العقلاني الفردي الذي يقوم على أساسه خطاب حقوق الإنسان.

وأنه من غير الممكن على حد قول " Herskovits " تقويم الثقافات المختلفة بمعايير عالمية خاصة في ظل هيمنة أو سيطرة إحدى هذه الثقافات ومما يجعلها تفرض نمط حياتها باعتباره الأفضل، والتأكيد على مبدأ الاحترام المتبادل mutual respect والذي يؤكد على قيم كل ثقافة ويرفض النظر إلى أي ثقافة على أنها ثقافة بدائية أو في مرحلة الطفولة أو أقل رقيا من الأخرى. وكما رفض " Herskovits " بشدة مفهوم المركزية الإثنية وهي التي تقوم على صدارة أحد الأجناس أو الأعراق أو اللغات باعتباره الأسمى.
وفي هذا الإطار جاءت أفكار " F. Boas " مناصرة ومؤيدة للنسبية الثقافية بالتأكيد على أنه ليست كل الثقافات متساوية بل إنه لا يمكن تقويم إحدى هذه الثقافات تبعا للنظام القيمي والمعتقدي لأحدها في إشارة منه لرفض الثقافة الأوروبية الأمريكية euro-American cultural practices وممارساتها كمعيار وحيد للحكم على الثقافات المحلية.

وقد كان لهذا الاتجاه تأثيره على أعضاء لجنة الأم المتحدة لحقوق الإنسان وعلى المجلس التنفيذي للجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا AAA عام 1947 عند وضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد كان السؤال المطروح للإعلان المقترح كيف يمكن أن يطبق على كافة البشر دون أن يصبح فقط مجرد مقولة مستمدة من المعاني والقيم السائدة في البلدان الغربية الأوروبية والأمريكية؟ والذي طرح بدوره قضايا مثل عبء الرجل الأبيض وغيرها، وقد أدرك " Herskovits " منذ البداية فشل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في استيعاب طرق الحياة المختلفة. وكان كل من اعترض على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من الأنثروبولوجيين الذين درسوا الشعوب المستعمرة في أفريقيا وأمريكا[10]. ولكن ومع تحولات مفهوم حقوق الإنسان وهو ما انعكس بشدة على تحول في فهم الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا ففي عام 1998 اقترحت إعلان جديد لحقوق الإنسان يؤكد ويتضمن حقوق الجماعات والشعوب، وأن الحق في الاختلاف هو الحق الإيجابي والعابر للثقافات فيما يتعلق بحقوق الإنسان.

وأصبح من الضروري حماية القدرة الثقافية capacity for culture أو الطاقات الثقافية وليس فقط حماية الثقافة، وأصبح السؤال المعاصر الآن ليس هو كيف يحل التعارض بين الثقافة والحقوق ولكن كيف تجمع مزاعم وحجج كل من الحقوق والثقافة في مناظرات أكاديمية عالمية حول العدالة الاجتماعية، مما أحدث تغيير في مضمون وتنوع الحقوق[11].

ومما يجدر الأشارة إليه أيضا أعمال "J. Donnelly" وهو أحد أنصارالاتجاه الراديكالي للخصوصية أو النسبية الثقافية والذي يؤكد عل التباين والتعددية في الثقافات والخصوصيات الحضارية لكل منطقة، ويرى أن الثقافة هي المصدر الوحيد لصحة وشرعية أي حق أخلاقي أو أي قاعدة أخلاقية ـ culture is the sole source of the validity of a moral right or rule .

وفي إطار هذا الاتجاه ظهر اتجاه آخر يعرف باتجاه التعددية الأخلاقية ـ moral pluralists ومن أشد أنصاره "Steven Lukes " والذي انتقد بشدة أفكار Kant, Rawls, Habermas ومحاولتهم إيجاد نقطة ارتكاز تساعد على إيجاد اسس عالمية وعقلانية لتعميم معايير وفئات العدالة ومن ثم حقوق الإنسان. ويستدعي هذا الاتجاه مقولات "Bentham" والتي تتعلق بأنه ليس هناك حقوق طبيعية والحديث عنها هو حديث فارغ من معناه وليس له أي أساس من الصحة. ويرى " MacIntyre" أيضا وهو أحد أنصار هذا الاتجاه أنه لا يوجد حقوق ولا معتقدات في حد ذاتها إلا إذا كان هناك اعتقاد في السحر والشعوذة.

وقد أجمعت كل حجج مقولات اتجاه النسبية الثقافية لحقوق الإنسان على ضرورة الاهتمام بالأبعاد التاريخية والثقافية المتعلقة بطبيعة خطابات حقوق الإنسان المختلفة وأيضا بطبيعة بنائها الاجتماعية. كما رفض أنصار اتجاه النسبية الثقافية ارتباط حقوق الإنسان بعقلية عصر التنوير وباعتبارها نتاج مجتمع له خصوصية معينة قي لحظة تاريخية معينة وهو المجتمع الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية. فالأعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في عام 1948 من وجهة نظر هذاالاتجاه هو عالمي باعتباره مطلب أو إدعاء ولكنه ليس عالمي الممارسة لأنه ميثاق يعبر عن الفلسفة المثالية للسياسة الأوروبية. أيضا وجه أنصار النسبية الثقافية انتقادا شديدا إلى الاتجاه العالمي فيما يتعلق بتصوره للطبيعة الإنسانية والذات الفردية الغربية وعالمية وعقلانية الوجود الإنساني، حتى أن مفهوم الكرامة الإنسانية ليس عالمي المعنى والمفهوم ومثال ذلك النظام الهندوكي الذي يرفض الكرامة الإنسانية في الطبقات الدنيا، فلا توجد سمات أساسية للطبيعة الإنسانية ولا للحقوق الإنسانية خارج السياق الخطابي أو التاريخي.

الاتجاه التوفيقي في الجدال القائم بين العالمية والخصوصية

جاءت في هذا الإطار محاولة " Bryan Turner" في الربط بين بعض عناصر النسبية وإمكانية التوصل إلى إيجاد مفهوم لحقوق الإنسان أكثر مرونة وقابل للتطبيق عالميا ـ more flexible and globally applicable، واهتم " Turner " بالجمع بين العناصر العقلانية والعاطفية، ويرى أنه من المهم استكمال الوجود الإنساني بالمواثيق والمؤسسات الاجتماعية والسياسية وذلك حتى يكتمل وجود البشر العضوي. ويرى أنه كلما كانت العلاقات الاجتماعية تتصف بعدم الثبات وعدم التأكيد فكل هذا يقود إلى مفهوم ضعيف للإنسان والوجود الإنساني ككل.
وجاءت أيضا في هذا السياق أيضا محاولة " D. Renteln" ببناء مفهوم عالمي لحقوق الإنسان يكون من خلال عمل مسح أمبريقي لكل الأشكال والنماذج المحلية والخاصة بمفاهيم ومبادئ العدالة[12]. أو من خلال تقديم بعض المفاهيم الإقليمية والقومية لحقوق الإنسان كوسيط بين المفاهيم العالمية والمفاهيم ذات الخصوصية الثقافية[13]، وقد يرى البعض الآخر[14] أن الحل يكمن في موقف وسط بين مركزية أثنية/ثقافية معتدلة moderate ethnocentrism وعالمية حذرة cautious universalism وتتحلى بالتسامح، والذي يمكن أن تصبح معه التمايزات الحضارية والاختلافات الثقافية مفيدة وذات نفع وفائدة إذا كانت تعمل على دمج عالمية بعض الحقوق مع الشروط الخاصة للتمتع بها.

ويهتم هذا الاتجاه بشكل عام بإمكانية تطبيق أقتراب حقوق الإنسان عبر الثقافات المختلفة ـ cross cultural وتدور جهود هذا المنظور أو هذا الاتجاه حول مقولتين أساسيتين: المقولة الأولى خاصة بالطبيعة الإنسانية ومفهوم الوجود الإنساني ـ human ontology وماهي الحقوق الطبيعية ـ natural rights المستمدة من طبيعة هذا الوجود الإنساني. أما المقولة الثانية خاصة بمفهوم الثقافة وما هو المعنى الذي يجب أن يعطى لمفهوم الثقافة في بناء النظام المعياري الأخلاقي ـ normative moral order وإلى أية درجة يمكن للتنوع العالمي في أنظمة العدالة أن يقوض أي أساس لعالمية حقوق الإنسان.
ويرى هذا الاتجاه أنه من أجل تجاوز الازدواجية عالمية/خصوصية لابد من إيجاد إطار لفهم الحياة الاجتماعية للحقوق نفسها وذلك من أجل معرفة معنى أستخدامها في إطار المواثيق والتشريعات الدولية.

ومما يجدر الإشارة إليه الموقف الذي أخذه البعض وهو ليس بالموقف الوسط أو التوفيقي والذي أطلق عليه الاتجاه البيني المتذبذب بين العالمية والنسبية الثقافية[15]following the movement of a pendulum\in-between position ويرى هذا الاتجاه أنه ليس هناك حقيقة واحدة كاملة والأفضل أن يتم نوع من تبادل الأفكار بأسلوب حواري dialogical dialogue وأن يصبح خطاب حقوق الإنسان هو عملية ديناميكية لحوار مستمر بين الطرفين dynamic process of continuous dialogue.

ومما سبق يتضح أن هذا الجدال بين أنصار العالمية وأنصار الخصوصية الثقافية لن ينتهي ولن يحل بشكل تجريدي بل سيكتسب استخدامات ومعاني جديدة أو متطورة أو انقلابية أو تجديدية، كما يتغير العالم وكما تتحول المعاني السياسية لكل موقف ووضع تاريخي. وهذا يتضح بشكل جلي في إعادة صياغة مفردات الحوار حول معاني الاتصال والترابط والشبكات العالمية وحركة الأفراد والأفكار والأشياء، وأصبحت المناظرات حول العولمة تلك القوة العابرة للقوميات، وذلك من اجل محاولة الوصول إلى العدالة الكونية الشاملة Global justice[16] والتي تشمل مفهوم حقوق الإنسان وغيره من المفاهيم الأخرى.


المبحث الثاني ـ خطاب المجلس القومي لحقوق الإنسان ورؤيته لمسألة الخصوصية الثقافية وكيفية استخدامه لها.

بداية يجب التفرقة بين سياسة حقوق الإنسان وبين السياسة العامة لحقوق الإنسان[17]، فالسياسة العامة لحقوق الإنسان هي صنع وتنفيذ سياسات عامة على أساس حقوق معينة مثل سياسة الهجرة والتعليم والإعلام والثقافة...، وهذا يتم في إطار مجموعة من السياسات الأخرى والتي من الممكن أن تكون متعارضة مع هذه الحقوق كالأمن القومي والتنمية الاقتصادية والاقتصادية.. وغيرها.
أما سياسات حقوق الإنسان فهي بمثابة فضاء أو سياق سياسي أو بيئة محيطة بالسياسة العامة توجد فيه ظواهر عديدة منها حقوق الإنسان والتي تتضمن بدورها منظور حقوق الإنسان وحركات أو منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان وخطاب حقوق الإنسان مع حركات وخطابات سياسية واجتماعية أخرى.

ويقع خطاب المجلس القومي لحقوق الإنسان[18] بين هذين المستويين فلا هو مناط لصنع وتنفيذ سياسات عامة تدخل فيها الحقوق ولا هو خطاب غير حكومي يقع في فضاء سياسات حقوق الإنسان بشكل كامل، أخذا في الاعتبار تباين ردود فعل جمعيات حقوق الإنسان في مصر تجاه خطوة إنشاء هذا المجلس، من تحفظها في البداية خاصة أن طرح الفكرة جاء في أعقاب تمديد حالة الطوارئ لمدة ثلاث سنوات إضافية دون مسوغ مقبول من جانب منظمات حقوق الإنسان، وعدم اتساق موقف الحزب والحكومة بين تأسيس مؤسسة لحماية حقوق الإنسان وتأييد مد العمل بقانون الطوارئ الذي ينتهك حقوق الإنسان. أو اعتباره بمثابة نوعا من التجاوب مع الضغوط الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر، أو مجرد واجهة لتجميل الحالة السيئة لحقوق الإنسان أو لاحتواء العمل الأهلي وجمعيات حقوق الإنسان[19].

ويصبح السؤال هل هذا الموقع الوسيط هو مزية أم سلبية؟ وهل يسمح له هذا الموقع بإضفاء مشروعية وشرعية ثقافية على مسألة حقوق الإنسان في مصر!. هل قام بتوفير مسوغ شرعي ديني وثقافي أو خلق طلب وطني يمكنه نظم وأقلمة مفهوم حقوق الإنسان في الإطار الثقافي بحيث لا يبدو وافدا أو غريبا ويلقي نفس المصير الذي لاقته مفاهيم وأفكار أخرى، أو قدم من ناحية أخرى نقد لبنية هذه الثقافة السائدة يمكن عبر هذا النقد البحث عن مفاهيم مثل مفهوم حقوق الإنسان والذي قد يكون ممثلا في جزء منها؟[20]. هل بدا على هذا الخطاب الاستفادة من أبعاد هذا الجدل والسجال الطويل الدائر حول العالمية والخصوصية في الخطاب الغربي والذي انعكس بدوره على الكثير من الخطابات لتلبية احتياجات الواقع المصري وتطوره في احترام الحريات العامة دون التصادم مع المعتقدات الجماعية السائدة؟.

بداية نجد أن خطاب المجلس القومي لحقوق الإنسان وفي إطار سياق أو عالم فكري وواقعي حدده في تقريريه السنويين الأول والثاني ألا وهو توجه الرأي العام في العالم كله نحو توفير المزيد من الحماية للحقوق والحريات، وارتفاع نبرة الدعوة إلى الإصلاح السياسي والدستوري والاقتصادي في مصر بعد مرور أكثر من نصف قرن على ثورة 1952، وأكثر من ثلاثين عاما على وضع دستور 1971. وفي ظل ما طرأ على الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر من تحولات جذرية تمثل أهمها في التحول التدريجي من النظام الاشتراكي إلى نظام الحياة الاقتصادية التي توجهها قوانين العرض والطلب ومبادرات القطاع الخاص الذي تتداخل اختصاصاته وسلطاته مع اختصاصات أجهزة الدولة المختلفة وسلطاتها، وفي التحول من نظام الحزب الواحد إلى تعدد الأحزاب السياسية، وحالة الحراك السياسي التي يشهدها المجتمع المصري، والتعديل الدستوري للمادة 76، وزيادة الوعي بأهمية المشاركة الشعبية في صنع القرارات السياسية والاقتصادية، وهي المشاركة التي لا غنى عنها لتحقيق النمو الاقتصادي وإنجاز التنمية، وفي ظل رأي عام عالمي يطالب باحترام الحقوق والحريات ويتجاوز في هذه المطالبة حدود الأقطار والقارات، ومع النمو السريع لحركة المجتمع المصري في العالم كله. دفع ذلك كله إلى إنشاء المجلس القومي لحقوق الإنسان بهدف تعزيز وتحقيق حماية حقوق الإنسان وترسيخ قيمها ونشر الوعي بها والإسهام في ضمان ممارستها[21].

كل ذلك في ظل اقتناع المجلس أن الهموم المحلية في مجال حقوق الإنسان قد أصبحت في ظل العولمة شأنا دوليا يهم العالم بأسره، ولذا حرص المجلس على المساهمة في التجمعات والفعاليات الدولية لحقوق الإنسان إدراكا منه أن القضية شأن إنساني، وأن في القضية رؤى محلية جديرة بالنقاش. في ظل واقع دولي – على حد قول المجلس – لا يخلو من ظاهرة ازدواجية النظرة لانتهاكات حقوق الإنسان تارة ومن تجاهل لأوضاع حقوق الإنسان في مناطق النزاعات والصراعات المسلحة تارة أخرى. لذا يدعو المجلس إلى تفعيل مبادئ وأحكام القانون الدولي الإنساني[22].

وتتشكل مرجعيته الفكرية وتستند إلى المبادئ الدستورية، والمواثيق العالمية لحقوق الإنسان من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي يمثل الشرعية الدولية لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين الملحقين به، والقيم المستمدة من الأديان السماوية، والالتزامات النابعة عن انضمام البلاد إلى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وغيرها من المواثيق الدولية، والاتفاقيات الإقليمية العربية والأفريقية والإسلامية كشرعية إقليمية لمبادئ حقوق الإنسان. كما تستند هذه المرجعية أيضا على خلفية تنامي خطاب الإصلاح السياسي والحقوقي في المنطقة العربية، وعلى تأكيد الصلة الوثيقة والعميقة التي تربط حقوق الإنسان بقضية التنمية في مفهومها الشامل. ويرى المجلس صعوبة الفصل بين أبعادها المحلية والإقليمية والدولية[23].

أما استخدامات[24] المجلس لمفهوم حقوق الإنسان – والذي يرتبط بالطبيعة الخاصة للمجلس – فمنها تحفيز الوزارات والمؤسسات على احترام حقوق الإنسان والعمل على تعزيزها في نطاق اختصاص كل منها.

والحوار مع وزارات الداخلية والعدل والخارجية والنائب العام حول إنهاء حالة الطوارئ حتى تتكامل الرؤى في غير مغامرة ولا تضحية بسائر الاعتبارات الأخرى المتصلة بالمصالح الوطنية العليا. وتجدر الإشارة هنا إلى الجنة الخماسية التي قام المجلس بتشكيلها من الوزارات السابقة كآلية هامة تحقق التواصل لتيسير مهام المجلس وغاياته وأهدافه. كما سعى المجلس إلى بلورة إطار للتعاون مع المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان لتعزيز التعاون معها.

إظهار الجوانب السلبية التي أحاطت ببعض الممارسات المتعلقة بانتهاكات الحقوق والحريات كقضية التعذيب وقضية الاعتقال المتكرر المستند إلى قانون الطوارئ.

إظهار التقدير لتجاوب أكثر الوزارات والأجهزة التابعة لها لما أبداه المجلس من ملاحظات وتوصيات ( خاصة بالحبس الاحتياطي ونظام المنع من السفر وإلغاء عقوبة الجلد في السجون وإزالة الحاجز السلكي في السجون وتحسين الأوضاع المعيشية والصحية والتعليمية للمسجونين وتكثيف برامج تدريب الشرطة وتعريفها بمفهوم حقوق الإنسان..) .

وبالرغم من تمسك المجلس بعالمية حقوق الإنسان وتبنيه لتشريعاتها الدولية، واضعا على الدوام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 وهو المثل الأعلى المشترك الذي يجب أن تبلغه كافة الشعوب والأمم كما جاء في ديباجته. إلا أن المجلس يشير إلى أن مصر قد شاركت مشاركة فعالة في لجنة إعداد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، من خلال مشاركتها في اقتراح وإعداد وصياغة وإقرار المواثيق ومشاركتها الملموسة في عضوية الآليات الخاصة بالأمم المتحدة أو الآليات التي أنشأتها المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان. وأيضا الانضمام كعضو كامل في المنظمة الفرانكفونية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، والهيئات الوطنية الأفريقية لحقوق الإنسان[25].

ومن ناحية أخرى يشير المجلس إلى تحفظ مصر على بعض النصوص كما في اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة لسنة 1979 بشأن منح المرأة حقا متساويا مع حق الرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالها، وأيضا التحفظ على تساوي المرأة بالرجل في كافة الأمور المتعلقة بالزواج وعلاقات الأسرة أثناء الزواج وعند فسخه بأن يكون ذلك دون إخلال بما تكفله الشريعة الإسلامية للزوجة من حقوق مقابلة لحقوق الزوج، وذلك مراعاة لما تقوم عليه العلاقات الزوجية في مصر من قدسية مستمدة من العقائد الدينية الراسخة التي لا يجوز الخروج عليها.
كما أصدرت مصر عند انضمامها للاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 والاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966 الإعلان التالي: مع الأخذ في الاعتبار أحكام الشريعة الإسلامية وعدم تعارضها معها[26].

ويرى المجلس كما ورد في تقريره السنوي الثاني أن تحقيق ديمقراطية النظام الدولي يمثل حجر الزاوية لقضية حقوق الإنسان، وأن ما يصيب هذه الديمقراطية من خلل أو ازدواجية تمثل انتكاسة لحقوق الإنسان. كما يرى المجلس أن مناخ اتهام ثقافات الغير بالدونية وما ارتبط بذلك من دعاوى التحقير الديني والتحريض الثقافي هو أمر بالغ الخطورة. ويدعو المجلس المجتمع الدولي لتبني قرار دولي أو اتفاقية دولية لأجل إقامة التوازن المفقود بين ممارسة حرية الرأي والتعبير من ناحية وبين احترام المقدسات الدينية لكل الأديان من ناحية أخرى في إطار التأكيد على حق الشعوب والمجتمعات في التنوع الثقافي على نحو ما أقرته الاتفاقية الدولية الصادرة عن منظمة اليونسكو في عام 2005[27].

وإذا ما نظرنا إلى أهداف ومهام المجلس[28]الأربع في ضوء قضية العالمية والخصوصية نجدها جميعها تصب في خانة العالمية، من تعزيز وتنمية حماية حقوق الإنسان وترسيخ قيمها، ونشر الوعي بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، الإسهام في ضمان ممارسة هذه الحقوق والحريات والعمل على حل الشكاوى المتعلقة بها. وأخيرا المشاركة بالمقترحات والتوصيات في المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان على الصعيدين الوطني والدولي ومتابعة الإنفاذ للاتفاقيات الدولية وتطبيقها. فالحديث دائما عن حقوق إنسان دولية والمهمة المنوطة بالمجلس هي مجرد التبشير بها وترويجها ونشرها وحمايتها، بعيدا عما يزخر به الواقع من تناقضات قد لا تتطابق مع هذه الحقوق والحريات والقيم المتضمنة في المواثيق الدولية. وما يفرضه الواقع من تحديات تتطلب طاقات نقدية واستيعابية تستفيد من تفعيل هذه المفاهيم العالمية الغربية بالأساس واختبارها دون مجرد التقليد الشكلي لنموذج مطلق.

وبالنسبة لاختصاصات المجلس[29] والتي هي جميعها مجرد نوع من إبداء الرأي والمشورة وتقديم المقترحات والتوصيات وتلقي الشكاوى وإحالتها إلى جهات الاختصاص والتنسيق مع مؤسسات الدولة المعنية بحقوق الإنسان والأجهزة المختصة بشئون التعليم والتنشئة والإعلام والتثقيف وعقد المؤتمرات والندوات وإصدار النشرات والتقارير عن أوضاع حقوق الإنسان على المستويين الحكومي والأهلي. فإذا ما تأملنا هذه الاختصاصات نجدها اختصاصات شكلية وبها قدر من العمومية وهي قائمة وتوجد في جميع المنظمات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية دون أي دور متميز للمجلس عنها في هذا الشأن. ولم يفصل كثيرا فيما يتعلق بالاختصاصين الأول والعاشر، والمتعلقان بوضع خطة العمل القومية لتعزيز وتنمية حقوق الإنسان في مصر واقتراح وسائل تحقيق هذه الخطة، والعمل على نشر ثقافة حقوق الإنسان وتوعية المواطنين بها وذلك بالاستعانة بالمؤسسات والأجهزة المختصة بشئون التعليم والتنشئة والتعليم والتثقيف. ويصبح التساؤل هنا هل سيتم هذا النشر والتوعية لهذه الحقوق كما ظهرت ضمن بيئتها الثقافية من خلال إحداث نوع من القبول والتبسيط الشعبي لها لتصبح جزءا متناغما من النسيج الثقافي العام، ويشعر به جموع أفراد الشعب كآلية لتحقيق مطالبهم أم ستكون في صورة مجردة وشكلية في صورة مكتب لتلقي الشكاوى.


وفي هذا الإطار وفيما يتعلق بأنشطة المجلس وأسبقيات عمله [30] نستطيع القول إنها دارت جميعها أيضا حول التشريعات والقوانين والقضاء على كل أشكال التعذيب والمعاملة القاسية وإلغاء العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر والرأي ودعم برامج التأهيل الاجتماعي والرعاية الصحية للسجناء وإيجاد حل لمشكلة الألغام في الصحراء الغربية.

لأن استمرار حالة الطوارئ وفي نطاق قانون الطوارئ يمثل ثغرة كبيرة تحول دون تمنع بعض المواطنين بالحق في الحرية والأمان الشخصي على نحو يحجب الكثير من الضمانات التي يكفلها قانون الإجراءات الجنائية. وقد أدان المجلس حملات الاعتقال( جماعات إسلامية – أبناء سيناء ..) والحبس الاحتياطي والحجز كرهائن التي تشنها السلطات الأمنية. و قد اعتبر المجلس العديد من هؤلاء محتجزين تعسفيا وفقا للمعايير الدولية التي تعتبر الحرمان من الحرية تعسفيا في الحالات التالية: إذا كان واضحا أنه لا يمكن التذرع بأي أساس قانوني ليبرره كأن يبقى الشخص قيد الاحتجاز بعد قضائه مدة عقوبته، وإذا كان الحرمان من الحرية ناجما عن حكم أو عقوبة فيما يتصل بممارسة الحقوق والحريات المنصوص عليها في المواد 12،18،19،22،25،26،27 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وإذا كان عدم المراعاة الكامل أو الجزئي المنصوص عليه في الصكوك الدولية ذات الصلة من الخطورة بحيث يضفي على الحرمان من الحرية أيا كان نوعه طابعا تعسفيا.. ويدعو المجلس إلى إتباع معايير أكثر وضوحا واتفاقا مع المعايير الدولية[31].

أما فيما يتعلق بالبعد الثقافي[32] لحقوق الإنسان في أنشطة المجلس وهو السعي لإشاعة قيم ومبادئ حقوق الإنسان في الإعلام والتعليم والثقافة فيأتي في المرتبة السادسة من سبع أسبقيات لعمل المجلس، ويتعلق بالمجالات التالية: العمل على تطوير مناهج التعليم المصرية لتتماشى مع مبادئ وقيم حقوق الإنسان وتعزيز التمتع بالحقوق الثقافية في مصر ونشر ثقافة حقوق الإنسان من خلال الإعلام وتدريب وعاظ المساجد والكنائس حول الأديان وحقوق الإنسان.

وقد شكل المجلس لجنة تحضيرية للخروج بمشروع برنامج إعلامي لنشر ثقافة حقوق الإنسان وعقد ندوة بمشاركة 50 خبيرا في كافة مجالات التربية وعلم النفس والإعلام لتحديد إطار ورقة عمل تقدم إلى وزير الإعلام لترجمتها إلى برامج تساعد على نشر ثقافة حقوق الإنسان بطريقة غير مباشرة تبتعد عن الأساليب التقليدية.

كما عقد المجلس ندوة تحت عنوان " نحو إستراتيجية إعلامية لنشر ثقافة حقوق الإنسان"[33]، خرج منها بالاعتبارات التالية – والتي وردت في تقريره الثاني - أنه كلما تحرر الإعلام وتعززت حرية الرأي والتعبير كلما استطاع الإعلام أن يؤكد دوره الإيجابي تجاه قضايا حقوق الإنسان بما في ذلك نشر ثقافة حقوق الإنسان، باعتباره من أهم مصادر التأثير في الرأي العام وتحديد توجهات المواطنين وتشكيل سلوكياتهم. وإن نشر ثقافة حقوق الإنسان يعني تعريف الناس بحقوقهم وفي نفس الوقت التزامهم باحترام حقوق الآخرين بما في ذلك حقهم في الحياة وحقهم في حرية العقيدة وحقهم في أن يكونوا مختلفين وهي ثقافة تناقض ثقافة الإرهاب.
كما أن نشر ثقافة حقوق الإنسان يستهدف في الأساس توفير حياة كريمة لكل مواطن من اجل تحقيق مجتمع حر قوي تطبيقا لما جاءت به الشرائع السماوية من مبادئ رفيعة وحقوق إنسانية قررتها نصا وتلقينا لكل البشرية. من خلال البرامج الجماهيرية والتحقيقات المصورة وإنتاج الأفلام المصورة من الواقع وإنتاج الأفلام الكرتونية الملائمة للصغار والاهتمام بالدراما لما لها من تأثير والإبداع الثقافي أو الفني أو ألأدبي والتراث الشعبي لتيسير نشر المفاهيم الثقافية لحقوق الإنسان بين كافة شرائح المجتمع. وأيضا تجديد الخطاب الديني في الإذاعة والتلفزيون بما يحقق مقاصد الشريعة ومبادئ حقوق الإنسان مع مراعاة متغيرات العصر.

ومما تجدر الإشارة إليه أن لجنة الحقوق الثقافية بالمجلس عقدت لجنة استماع حول حرية الفكر والإبداع الأدبي والفني وتوصلت إلى الترابط الوثيق بين هذه الحريات والحريات العامة والسياسية. مما يفسر بدوره حالة الركود الثقافي السائد في مصر، وضرورة القيام بإصلاح دستوري وسياسي شامل بما في ذلك إلغاء حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية المنافية للحريات ومبادئ حقوق الإنسان. وعقد المجلس ندوة حول الحرية الأكاديمية وحرية البحث العلمي، من أجل استقصاء الإطار القانوني والواقع الفعلي لحرية البحث العلمي في مصر.

أما عن النشاط الدولي والمؤتمرات والندوات الدولية فقد شارك المجلس في الندوة الدولية التي عقدتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) تحت عنوان " الحضارات والثقافات الإنسانية : من الحوار إلى التحالف"، وقدم أحد أعضاء المجلس ورقة عمل بعنوان: " حقوق الإنسان: مرجعية ممكنة لحوار الثقافات" عرض فيها اقتراح بإنشاء فيدرالية دولية دائمة لحوار الثقافات تضطلع بتحويل خطاب حوار الثقافات من إطار النوايا والعموميات إلى مستوى البرامج والمبادرات وآليات العمل ولاسيما في ظل ما يمر به العالم من توتر ثقافي وحضاري، كما دعا إلى اعتبار منظومة حقوق الإنسان مرجعية يحتكم إليها في إطار حوار الثقافات، بحيث ينظر لهذه الحقوق بوصفها مجموعة واحدة لا تقبل التجزئة، مشيرا إلى أهمية تفعيل الاتفاقية الدولية لحماية التنوع الثقافي التي أقرتها اليونسكو مؤخرا، وأهمية اعتبار أحكام القانون الدولي الإنساني جزءا لا يتجزأ من المنظومة الدولية لحقوق الإنسان[34].

وقد تناول المجلس في تقريره السنوي الأول في الجزء الخاص بأوضاع حقوق الإنسان في مصر عام 2004 فيما يتعلق بحقوق الفئات الأولى بالرعاية حقوق المرأة ما جاء في تقارير منظمات المرأة ومنظمات حقوق الإنسان وتقرير لجنة مناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة عند مناقشتها للتقرير الدوري الثالث للحكومة المصرية عام 2002. والتي حثت على تبني دراسة ميدانية تقوم بها أجهزة حكومية متخصصة فيما يخص العنف ضد المرأة في الريف والحضر. ويرى المجلس أن الواقع في حاجة ماسة لإجراء مثل هذه الدراسة وبذل مزيد من الجهد لوضع حد لها[35].

أما عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر عام 2005 [36]– كما جاء في تقريره السنوي الثاني - وحالة حقوق الإنسان من واقع الشكاوى وفيما يتعلق بالحق في حرية الفكر والاعتقاد وورود بعض الشكاوى من الأقباط والبهائيين، نجد أن المجلس ممثلا في رئيسه والأمين العام وبعد لقاءيهما مع المتحدث باسم البابا شنودة في الولايات المتحدة الأمريكية حول قضية الوحدة الوطنية واهم المشاكل التي تواجه الأقباط في مصر وسبل التوصل إلى حلول لهذه المشاكل توصلا إلى إنشاء لجنة خاصة بموضوع الوحدة الوطنية أطلق عليه اسم لجنة المواطنة. وستقوم اللجنة بإصدار وثيقة وطنية شاملة لمعالجة هذه القضية بأبعادها المختلفة مع نهاية عام 2006. تمهيدا لوضع توصياتها للجهات المعنية بما تتضمنه أيضا من ضرورة إجراء تعديلات تشريعية لتحقيق الهدف الأسمى للمصريين جميعا بأن تكون المواطنة هي الأساس والمساواة هو سبيلها.

وفي نفس هذا الإطار بحث المجلس عن حلول لمشكلة البهائيين واقترح أن تصدر لهم جوازات سفر تكون بمثابة إثبات شخصية، إلا أن ممثلو البهائيين تمسكوا بضرورة كتابة الديانة في كافة أوراقهم الرسمية. وكان وفد منظمة مراقبة حقوق الإنسان الأمريكية قد أثار في لقاءه مع أمين عام المجلس قضية الحريات الدينية للأقليات من ذوي ديانات أخرى غير الأديان السماوية الثلاثة. وقد تقرر متابعة لجنة المواطنة لكل ما يتعلق بموضوع حقوق البهائيون. وبالرغم من ذلك أشار المجلس أن مثل هذه الموضوعات ذات حساسية خاصة وان التدخل الخارجي في مثل هذه الشئون يضر أكثر مما ينفع.

كما أوضح أمين عام المجلس فيما يتعلق بمسالة الرسوم المسيئة لشخص النبي الكريم أن هناك فرقا بين حرية التعبير وازدراء الأديان، وأن الدين في مجتمعاتنا لا يمثل فقط عقائد وعبادات بل هو متداخل في وجدان المواطن أيا كان دينه ويمثل مجمل حياة وثقافة كاملة، وبالتالي فأي تعرض للدين والرموز الدينية يمثل انتهاكا غير مقبول[37].

وفيما يتعلق بتوصيات المجلس لتعزيز حقوق المرأة سواء بدفع مشاركتها السياسية وتأهيلها وتثقيفها السياسي وإصدار تشريع بتخصيص مقاعد للمرأة في المجالس النيابية والمحلية لفترة مؤقتة، أو تعديل بعض التشريعات التي تتضمن تمييزا ضد المرأة بالمخالفة لأحكام الدستور ( قانون العقوبات وقانون التأمينات الاجتماعية)، أو إصدار تشريع جديد وشامل للأحوال الشخصية، أو وضع سياسات لمواجهة ظاهرة العنف ضد المرأة ..، أن يواكب كل ذلك مكانة المرأة في المجتمع الحديث وان يضمن حقوق جميع اعضاء الأسرة في إطار مبادئ الشريعة الإسلامية. ومن أجل أن تنمو ثقافة مجتمعية تدعم حقوق المرأة في المساواة والمشاركة السياسية.
أما في توصياته لتعزيز حقوق الطفل فنادى المجلس بوضع تشريع يجرم ختان الإناث صراحة ويدعم التوعية بالأضرار الجسيمة لهذه الممارسة الضارة التي أعتاد عليها المصريون مسلمين وأقباط منذ الآف السنين.

وفي هذا الإطار حرص المجلس على التعبير عن أسفه – كما ورد في التقرير السنوي الثاني - لما شهدته بعض التظاهرات والتجمعات السلمية من انتهاكات لحقوق الإنسان وصلت إلى حد المساس بأعراض بعض المتظاهرات في مشهد سجلته عدسات التصوير وعرضته بعض الفضائيات في انتهاك صارخ ليس فقط للحق في التظاهر والتجمع السلمي وحرية الرأي والتعبير ولنصوص قانون العقوبات، بل أيضا لقواعد الأخلاق وقيم الحياء التي عرفها المجتمع المصري[38].


وعندما تحدث المجلس في تقريريه السنويين الأول والثاني عن توصياته من أجل تدعيم ثقافة حقوق الإنسان في مصر[39] رأى أن يشمل ذلك الالتزام بإدخال مادة حقوق الإنسان في المقررات الدراسية، وأن يكون هناك التزام واضح وصريح من جانب وزارة التربية والتعليم بإدخال ثقافة حقوق الإنسان وفقا لمفهومها العالمي وإعلاء نشر قيم الحوار والتسامح والانفتاح في إطار المقررات الدراسية بمراحل التعليم المختلفة وخصوصا مرحلة التعليم الأساسي. وأن ينعكس ذلك في مجمل سياسات الوزارة تلك المتعلقة إعداد المعلمين وتحديد مضمون المقررات الدراسية. ومواجهة – كما جاء في التقرير السنوي الثاني – الثقافة التقليدية التي تكرس فكرة التمييز بما يدعم السلوكيات المناقضة لحقوق الإنسان على مستوى الفرد والمجتمع.

كما اقترح المجلس بالنسبة لمحتوى المقررات أو مضامين الكتب المدرسية المستخدمة في مرحلة التعليم الأساسي الاهتمام بتخصيص مقرر يعالج ثقافة حقوق الإنسان وأهميتها في التطوير المجتمعي الشامل وفي التعاون بين الأمم والشعوب. والتأكيد على التوافق بين المرجعية الدولية وكل من المرجعيتين العربية والدينية وبيان أن أي خلاف بينهما يتعلق بتفسير الحقوق أو طريقة إنفاذها وليس بمضمون الحقوق. واستخدام الوسائل التدريبية الشيقة في تدريس حقوق الإنسان مما يساعد على تحقيق مبدأ المشاركة والخروج من أسر وتقاليد التلقين والوعظ. والتعرض في تدريس حقوق الإنسان لتقاليد ومستويات احترام حقوق الإنسان في بلدان العالم لإمداد التلاميذ بنظرة مقارنة.

وقد تم إعداد بحث عن " خصائص ومفردات خطاب حقوق الإنسان بالكتب المدرسية بمرحلة التعليم الإلزامي"[40] كمرحلة أولى، لقياس مدى معالجة الكتب المدرسية – كتب التربية الدينية الإسلامية والمسيحية وكتب اللغة العربية والرياضيات والدراسات الاجتماعية - لقضايا حقوق الإنسان ومدى نجاح المادة في توصيل القيمة للطفل واستيعابها. وذلك من خلال مؤشرين محددين: منظومة القيم المركزية المتعلقة بالمساواة – العدالة – الحرية – التسامح، ومنظومة الحريات الفردية العامة كالانتخاب والتعليم والعمل والتعبير عن الرأي، ومنظومة حقوق المرأة والطفل. وتحليل مجموعة الأطر والسياقات التي تحكم إنتاج الخطاب المدرسي المعبر عن قضايا حقوق الإنسان، وخصوصا بيئة إنتاجه الداخلية أي ما يخص السياسات التعليمية المتبعة

أما بالنسبة لإعداد المعلمين أقترح المجلس إدخال المادة ضمن المقررات الدراسية في كليات التربية والتربية النوعية ورياض الأطفال وتدريب المدرسين على احترام حقوق الإنسان وأن يشمل التدريب التعرف على أساليب تدريس حقوق الإنسان في الدول المتقدمة.

وفي هذا الإطار وكما ورد في التقرير الثاني دعا المجلس إلى إعادة النظر في اللائحة الطلابية لسنة 1979 والتي تنطوي على تقييد غير مبرر للممارسة الديمقراطية للنشاط الطلابي، وهو تقييد من وجهة نظر المجلس لم يعد يتناسب مع مرحلة التطور الديمقراطي للمجتمع المصري ولا مع ضرورة إيقاظ مشاعر المواطنة والانتماء لدى هذه الشريحة الهامة من شرائح المجتمع[41].

من ثم وفي ضوء ما سبق يظل التساؤل هل سيراهن المجلس على مفهوم حقوق الإنسان فقط كآلية أو أداة ضغط على السلطات من أجل تطبيق إنساني للقانون والدستور وتفعيل للأحكام والضمانات التي نص عليها الدستور، والوفاء بالالتزامات القانونية الناشئة عن تصديق مصر على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والتخلي عن الإجراءات العقابية والقمعية والسلطوية وتحسين المعاملة للمعتقلين السياسيين والعمل على تصفية أوضاع المحتجزين وإنهاء حالة وقانون الطوارئ والتشريعات التي تخالف أو تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان بما تشمله من قوانين ولوائح، والعمل على إضافة تشريعات جديدة تساعد على تقدم وحماية مبادئ حقوق الإنسان وتقديمها في شكل مشروعات قوانين إلى الهيئات المختصة، وكشف الانتهاكات التي يتعرض لها البعض والتي تخل بكرامة الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية وتعوق عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي واحترام الحريات والديمقراطية.

بعبارة أخرى هل سيكتفي المجلس بالسياق السياسي والقانوني دون بذل الجهد من أجل تجذير مفهوم حقوق الإنسان في المجتمع بسياقاته الثقافية والدينية ومعتقداته الجماعية. ليظل المفهوم نخبويا وفئويا وذو منطلقات غربية بعيدا عن القاعدة الشعبية العريضة شأنه في ذلك شأن الكثير من المفاهيم الليبرالية، وبعيدا عن صياغة أجندة للأولويات الوطنية والمحلية. بالرغم من تأكيد المجلس على أن نشر ثقافة حقوق الإنسان بمعناها الشامل – كما ورد في التقرير الثاني – أصبحت حقا من حقوق الإنسان، ومن ثم تترابط التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان ككل ولا تقبل التجزئة.

ولكن يبدو أن المجلس منشغل بوضع أجندة لأولويات قضايا حقوق الإنسان – كما ورد في تقريره السنوي الثاني – التي يهدف المجلس إلى التوعية الإعلامية بها، واقتراحه بتركيز الاهتمام في المراحل الأولي على الحقوق المدنية والسياسية لارتباطها بأجندة الإصلاح السياسي في مصر ويساير هذه الحقوق التعرض لقضايا المرأة والطفل وحقوق كل منهما.