منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#45750
يصعب أن تجد أحد في العالم كان يتوقع أن ينهار الاتحاد السوفييتي, هذه الدولة العظمى, بهذه السرعة وبتلك الصورة الدراماتيكية, ويجر معه تلك الدول التي كانت تشكل معه منظومة الدول الاشتراكية ومجلس التعاضد الاقتصادي إلى نفس النهاية الكارثية.
لقد نشأت تلك الدولة الاشتراكية العظمى على أيدي ثوريين مخلصين ناضلوا بصلابة وحيوية ضد القيصرية ومظالمها واستغلال شعوبها ودعوا للحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية, أي بناء مجتمع جديد. واستطاعت هذه الدولة, رغم الهروب إلى أمام في برامجها وسياساتها ومن ثم الجرائم التي ارتكبها ستالين وجهازه الأمني القمعي, أن تنتصر في الحرب العالمية الثانية مع بقية دول التحالف الدولي ضد الفاشية وأن تقوم بتصنيع البلاد بسرعة فائقة. ولكن هذه الدولة التي بلغ عمرها عند الانهيار والتفكك قرابة 73 عاماً كانت تعاني من اختلالات كثيرة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعة والثقافية والعلاقات بين القوميات والجمهوريات وبسبب الهروب إلى أمام ايضاً, كما كانت تعاني من البيروقراطية العقيمة والهيمنة الحزبية الانتهازية والمتقوقعة والفساد المالي والإداري وفقدان الثقة المتبادلة بين الفرد والدولة وتدهور العلاقة الإيجابية الضرورية بين المجتمع والحزب والدولة. بدأ النخر في الدولة من الداخل وحصدت النهاية التي لم يتوقعها أو يتمناها أحد لدولة كان المفروض أن تكون من طراز جديد وحياة جديدة وعلاقة جديدة بالمجتمع والعلم والتطور.
أوردت الكاتبة سوزان فوسبر في مقالها الموسوم "من الثورة إلى الدولة, عوامل انهيار الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية" مقتطفاً من خطاب آلقاه ليونيد بريجنيف في المؤتمر السادس والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي يصف فيه الوضع فيما يلي: "إنهيار في المعايير الاخلاقية وازدياد حالات الطلاق وانفلات الإدمان على الكحول وتفاقم الجريمة وغياب الحافز بين العمال ولا مبالاة البيروقراطية, والطلب الاستهلاكي المُحبط, فضلاً عن اغتراب الشباب". (إعداد فالح عبد الجبار. ما بعد الماركسية. دار المدى للثقافة والنشر, دمشق, 1998). ولا شك في أن الوضع كان اسوأ بكثير من الوصف الذي قدمه بريجنيف للحالة السوفييتية.
إن ما حصل في هذه الدولة العظمى التي بلغ عمرها 73 عاماً من انهيار سريع وكارثي, يمكن أن يصيب كل دولة أو نظام سياسي تنشأ في بنيته الداخلية وفي الحزب أو الأحزاب التي تمارس السلطة وأجهزة السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية وفي المجتمع سمات وعلاقات من هذا الطراز الذي وصفه بريجنيف. ليس هناك من نظام سياسي محصن من تلك النهاية المفرحة للمجتمع حين يلج "درب الصد ما رد", ما لم يدرك أن بروز تلك السمات والظاهر هي في المحصلة النهائية ليست دليل العافية, بل هي دليل التقهقهر والانهيار وخراب العلاقة مع غالبية فئات المجتمع والنهاية المروعة للحاكمين.
من يعتقد أنه قادر على حماية نفسه ونظامه السياسي بالأجهزة الأمنية وممارسة القمع الليلي دون ضجة, سيكون مخطئاً جداً, فمثل هذا التصور لم تبرهن عليه الحياة حتى لو دام عقدين أو ثلاثة عقود, بل برهنت العكس تماماً, إذ أنه سينتهي إلى مصيره المحتوم.
فوجود حريات شكلية وديمقراطية موجهة لمصلحة هذا الحزب أو ذاك, وسيادة البيروقراطية في العلاقة بين اجهزة الحكم والمجتمع وتفاقم الفساد المالي من النخبة الحاكمة والعائلات المنتمية لها وحواشيها وتعاظم الفجوة بين الحاكمين وغالبية فئات المجتمع وتعاظم الشعور بالغبن وعدم المساواة والتمييز لصالح كوادر الأحزاب الحاكمة وبعيداً عن مصالح المستقلين من بنات وأبناء الشعب الذين يشكلون الغالبية العظمى, وارتفاع عدد أصحاب الملايين في مقابل استمرار البطالة والفقر والفجوة المتسعة بين الأغنياء والفقراء, أي غياب العدالة الاجتماعية النسبية ونقص الخدمات, ستحول أي نظام سياسي ثوري إلى نظام معزول ومكروه من الشعب, وسيتحول الثوريون إلى أناس فاسدين غير مرغوب بهم, وسيجدون من يستطيع قيادة الشعب ضد الحكم القائم قصرت الفترة أم امتدت قليلاً. إليكم هذا النموذج الفعلي الذي رواه أحد الصحفيين الأجانب بهذه الصورة تقريباً:
** حين سأل الشاه الإيراني قبل سقوطه بفترة وجيزة أحد الصحفيين الأجانب عن الوضع في إيران, قال له الصحفي أن الغنى والفقر متفاقم في فجوته وأن الفساد منتشر في البلاد.
** سأل الشاه: ومن هم الأغنياء جداً؟ قال له إنهم من أفراد عائلتك وحواشيها.
** سال الشاه: أليس من حق أقربائي أن يعملوا ويغتنوا؟ قال له الصحفي نعم, ولكنهم يستخدمون قرابتهم لك واسمك في الاغتناء والفساد الجاري.
** سأل الشاه: وما العمل وكيف ترى الحل؟ قال له الصحفي: لا حل فقد فات الآوان, السقوط المرتقب هو الحل. وكان السقوط فعلاً!
المشكلة الكبيرة التي تواجه الكثير من الدول النامسة, ومنها العراق, أن الحكام لا يسعون إلى التعلم من الحكام الذين سبقوهم ولم يحاولوا فهم الآليات التي قادت تلك النظم إلى السقوط والتي هم بالذات حاربوها فيه والتي قادت إلى خراب العلاقة بين المجتمع والسلطة والعاقبة المتوقعة عن ذلك الخراب, هو السقوط, أو التوتر المستمر والانتفاضات المستمرة وتحول الثوريين السابقين إلى جلادين لشعبهم دون أن يشعروا بذلك فالكراسي الدافئة تنسي الحاكم ما كان عليه قبل ذاك وما هو عليه الآن.