مخطئون هؤلاء الذين يظنون أن الحضارة هي العيش في المدن الكبرى التي توفرت فيها جميع أسباب الراحة والرفاهية.مخطئون هؤلاء الذين يظنون أن الحضارة هي امتلاك أحدث الأجهزة وآخر ما وصل إليه العقل البشري من إبداع.ليست الحضارة في ركوب السيارة الثمينة الفاخرة والتمخطر بها في الشوارع الفسيحة دون رادع من ضمير يقظ أو احترام للوائح المرور وقوانينه.متخلف ذلك الذي لا يعرف أن النظام حضارة وأن الحضارة روح الحياة.ضيق الأفق ذلك الذي يركب سيارة واسعة ولا يعرف أن الإشارة الصفراء تعني أن تهدئ سرعتك وتستعد للوقوف.جاهل ذلك الذي يخترق الإشارة الحمراء عن عمد مهما بلغ من العلم.. وفقير مهما امتلك من المال. الجهل يعني أنه لا يعرف قيمة الحياة.. قيمة حياته التي سيفنيها في لحظة طيش، وقيمة حياة الآخرين الذين سيكونون ضحاياه، أما الفقر فنعني به فقر الخلق والقيم ووازع الضمير. ومستعجل على الموت يقود نفسه بنفسه إلى حتفه ذلك الذي يتجاوز حدود السرعة المسموح بها في المدن والشوارع الداخلية.ومسكين بجهله ذلك الذي يستكبر على ربط حزام الأمان على نفسه في سيارته بعد أن أصبح ربط حزام الأمان سلوكا تلقائيا في العالم الأكثر تحضرا.والعجيب أن الذين يرتكبون هذه المخالفات يعرفون جيدا أنها خطأ، وأنها سلوك متخلف ينال من يأتيه في البلدان الغربية أشنع عقاب، وأشنع عقاب في الغرب دفع أكبر مبلغ من المال.وليت الذين يصرون على ارتكاب المخالفات المرورية لهم ما يبرر ذلك رغم أنها مخالفات ليس لها مايبررها. ولو كانت هناك إحصائية أو دراسة لنوعية مرتكبي المخالفات المرورية لوجدنا أكثرهم من أقل فئات المجتمع إنتاجا، ومن الذين لاقيمة للوقت عندهم.وربما لا قيمة للمال عندهم بل أيضا ـ وهذا الأهم ـ لا قيمة للحياة نفسها عندهم.ومن هنا نصل إلى القول بأن الحضارة في أساسها وعي، فإذا وجد الوعي لدى الإنسان استطاع أن يترجمه إلى سلوك ومعاملات.وقد ارتقت أمة الإسلام لعدة قرون على غيرها من الأمم بحضارة السلوك والمعاملات، ووصف الله سبحانه وتعالى نبيه من فوق سبع سماوات بأنه صاحب خلق عظيم وأن خلقه القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها. لهذا لم تخلف حضارة الإسلام أهراما ولا أبراجا ولكنها خلفت حزم أبي بكر وخشيته، وعدالة عمر وتواضعه، وحياء عثمان وتقواه، وورع علي وشجاعته، وخلفت حياة لا تموت من القيم والمبادئ والتعاليم. خلفت حضارة تشهد لها أقوال أعظم من سار على قدمين على وجه الأرض.أعط الطريق حقه وإماطة الأذى عن الطريق صدقة وتبسمك في وجه أخيك صدقة وإيذاء المؤمن كفر ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.والإنسان في الإسلام مؤتمن على نفسه وغيره وعلى كل مايملك وما لايملك، لأن ذلك حق الحق العام، والحق العام حق المجتمع وحق الحياة، وبدون ذلك لا يكون المجتمع المسلم ـ كما قال نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. ومن هذا المنطلق جاءت مقولة كل مواطن خفير وكل خفير عليه أن يخاف الله في حق الدولة وحقوق الناس بمعنى أن يؤدي واجبه بأمانه، وأن يسير في الناس عدلا.ولهذا فإن حضارة ديننا تؤكد أن أتقى الناس هو أحرص الناس على الناس حقوقا وأرواحا، فقد دخلت امرأة مصلية صائمة النار بسبب حبسها هرة حتى الموت! وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره. وينطبق هذا التحذير النبوي على جميع أنواع الإيذاء الذي يرتكبه الناس في حق بعضهم بعضا دون سبب إلا الهوى والجهل.ومن هنا فإن حضارتنا ناقصة ولن تكتمل إلا بارتفاعنا إلى مستوى الإسلام في السلوك والمعاملات. ويجيء الوقوف أمام إشارات المرور والالتزام بالنظام أكبر امتحان لا لحضارة الإنسان فحسب بل لإيمانه وتطبيقه لما جاء به دينه.ولعل الحملة الوطنية للتوعية المرورية التي بدأت انطلاقتها المباركة لتستمر يكون لها دور كبير في تذكير الناس بما جاء به ديننا منذ أكثر من أربعة عشر قرنا.. تذكيرهم بأن الإسلام حضارة، وبأن الحضارة وعي وأن الوعي سلوك ومعاملات، ودون ذلك سيكون بيننا وبين حضارة ديننا مسافة لا نستطيع أن نتخطاها بالعبادات وحدها!