- الأحد ديسمبر 25, 2011 7:53 am
#46098
التنمية رؤية من منظور الفكر الإسلامي
بقلم: أ.د. سيف الدين عبدالفتاح إسماعيل
أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية, جامعة القاهرة
إن العملية الاجتهادية في أصل مقصودها تتحرك صوب' المصلحة' و'الإصلاح', ومن ثم فإنه لا يمكن تحريكها إلي مناطق هي ضد هذا القصد الأصلي في العمران إلي عناصر' طغيان' أو' فساد' أو تخريب' أو' خلل' مفض لتقويض الأصول العمرانية.
إن هذا الاجتهاد العمراني حري به أن يواصل تأسيس قواعد المدرسة العمرانية, هذه المدرسة التي تجعل من النظام المعرفي العمراني أساسا لتعاملها مع مجمل القضايا المتعلقة بالمناحي الحضارية المختلفة, وهذه المدرسة ستفرز حتما أجندة بحثية واهتمامات علمية مهمة, يجري إهمالها أو إغفالها أو تهميشها علي أجندة البحث المعاصر.
كما أنها ستؤصل مداخل وصف ورصد, وتقدم وحدات تحليل عمرانية متجددة, وتصنيفات حضارية عميقة لا تختزل أو تبسط, وتقدم قواعد تحليل وقدرات منهج ومداخل تفسير, وتنسج أصولا تنظيرية ضمن نسق تعميماتها ومداخل تقويم تظن أهميتها في هذا المقام.
الاجتهاد العمراني والتجديد العمراني حركتان متواصلتان تؤسسان دعوة المدرسة العمرانية ومواصلة جهودها.والاجتهاد هنا حركة ممتدة وعملية متواصلة متعددة المجالات, تسير في الأفق المتعدد, من أفق الكون إلي أفق الإنسان, إلي أفق المجتمع, إلي أفق التاريخ, ضمن عناصر ناظمة تجعل الاجتهاد عملية متسقة تشد بعضها بعضا.
ويقع اجتهاد المقاصد أو الاجتهاد المقاصدي ليتوج كل العناصر السابق الإشارة إليها, فالاجتهاد المقاصدي فكرة حاضنة لكل العناصر السابقة بحيث توفر لها عناصر الحيوية والفاعلية, وهي ذات مقصود يفضي إلي الرعاية والحفاظ والحماية والصيانة.
أولا- مفهوم التنمية محاولة لصياغة مقاصدية:
' التنمية' واحد من المفاهيم المختلف فيها وعليها, وهي إحدي الحالات النموذجية علي المستوي المفاهيمي التي تعاني من أعراض' برج بابل', والتي قد تشير إلي أننا قد نكون حيال فوضي مفاهيمية فيما يخص الظاهرة الإنمائية, مفاهيم متعددة, وتخصصات تنازعته.
ومن ثم فقد ظل الحديث عن التنمية معبرا عن رغبات غير محددة, أكثر من تعبيرها عن سياسات فاعلة وفعالة, ومن هنا كان من الضروري استيعاب هذا المشروع التنموي ضمن رؤية حضارية وكلية شاملة لأن الاهتمام بجزء علي حساب العناصر الأخري أورث جملة من الاختلالات ليس فقط في التصور والإدراك, بل في العمل والممارسة.
وأهم عناصر التمثيل لمثل هذا الخلل في الرؤية والحركة معا, هو إهمال البعد الثقافي والقيمي للتنمية, ضمن تصور لعوالم التنمية يقتصر علي امتلاك عالم الأشياء, لا القدرة علي تحويل المفهوم إلي عالم أفكار يشكل أصولا وعناصر للبناء التنموي العمراني, يهتم بالأبعاد الثقافية الغائبة, والشروط القيمية المصاحبة للعملية الإنمائية العمرانية, كل ذلك إنما يقع فيما يمكن تسميته بمعايير ومقاصد التنمية.
هذه الأبعاد التي أهملت في النظر أو في العمل أو فيهما معا, كانت أهم الدوافع التي أشارت إلي تجديد زاوية الاهتمام التي يمكن الانطلاق منها لو صنعها تحت مجهر الاهتمام.الاهتمام بالموضوع بمفاصله الأساسية والكلية وخريطته الشاملة بما يشير إليه من عناصر تأسيس وتأصيل للنموذج المعرفي المولد للرؤية التنموية والعمرانية كمقدمة للعمليات التي تتعلق بالتفعيل والتشغيل.
إن صياغة مفهوم التنمية في إطار فكرة المنظومة السباعية ووسطها بالاعتبار' الواصل' و'الحاضن' لها من خلال المقاصد, إنما يجعل من التنمية عملية حضارية شاملة وكاملة. هذه الصياغة الكلية لمفهوم التنمية من خلال المنظومة السباعية الواصلة بين العقيدة الدافعة والشرعة الرافعة والقيم الأساسية والتأسيسية الحاكمة والأمة الجامعة, والحضارة العمرانية الفاعلة, والسنة الإلهية الماضية, كل ذلك يقع في مجال المقاصد( الحافظة, الحاضنة, الواصلة) المقاصد ومراعاتها هي الكفيلة بمراعاة الصفات التي أتبعناها بعناصر هذه المنظومة من: دافعية ورافعية وحاكمية وجامعية وفاعلية, وقاضية وماضية.
وتأتي المقاصد لتتوج عناصر رؤية سباعية, المقاصد الحافظة, الحاضنة الواصلة: الحافظة لمجالات نشاطها الحيوي, وعناصر فعاليتها الجوهرية, والحاضنة( لعقيدتها الدافعة, وشرعتها الرافعة, ونسق قيمها الحاكمة, والأمة الجامعة والحضارة الفاعلة والسنن القاضية..), والواصلة بين واجب المقاصد ومقدماته وآلياته ووسائله, فإنه القصد والمقصود: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إنها فاعليات المقاصد حينما تتعلق بمقصودها في الحفظ والوزن والوصف والبناء والتقويم. إن مقاصد لا تحفظ مجالاتها ولا تحتضن عناصر وسط تفعليها وشروط فاعليتها, ولا تصل بين المقاصد والوسائل والآليات, ليست من المقاصد في شيء, ولكنها في حقيقة الأمر الوصول بها إلي مضادات مقصودها من استدعاء الضرر لا المصلحة, وتوسل طرق التضييع لا الحفظ( حفظ أم ضيع), وإهدار معاني الواجب والواقع, واقتفاء لموازين( الأفكار والأحداث, والأشخاص, والأشياء, والنظم والمؤسسات, والرموز..إلخ), إنها في واقع الأمر إهدار للوعي بالمقاصد والسعي بها ولها.
سباعية بعضها من بعض تتحقق منظوميتها ونظامها فتحدد بذلك مناط فاعليتها وتفعيلها:
* إنه الحفظ لدافعية العقيدة والواصل لعناصره والضام لمكوناته. إن' عقيدة لا تدفع', هو إهدار لمعني العروة الوثقي, وإهدار للعقيدة وعيا وسعيا.
* إنه الحفظ لرافعية الشرعة والواصل بين خصائصها التكوينية والقيام بتفعيل قواعده الكلية. إن شريعة لا ترفع, هو إهدار لمعني مقاصد الشريعة حينما تأتي لتخرج المكلف عن داعية هواه فترفعه تكريما واستخلافا وأمانة ومسئولية, فالشريعة الرافعة: حكمة كلها وعدل كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها.
* إنه الحفظ لحاكمية قيم الإسلام التأسيسية( التوحيد والتزكية والعمران) والأساسية( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والشوري, والاختيار) والقيم العليا( الممثلة في العدل) الناظم لأصول منظومة القيم وتصاعدها وتكافلها وتفاعلها. إن قيما لا تحكم هي إهدار لمعني مقاصد القيم لأنه إهدار لعموم الدين( الدين القيم),( دينا قيما),( دين القيمة),( الصراط المستقيم).
* إنه الحفظ لمعاني جامعية الأمة والواصل بين معاني اعتصامها بحبل الله وعصمتها( لا تجتمع أمتي علي ضلال), والضام لمعاني خيريتها ووسطيتها وشهودها الحضاري, إن أمة لا تجمع هي فاقدة لأصول معانيها في' الأم' و'القصد', وهو إهدار لمقاصد الأمة في' الوجهة والقبلة'. إن أمة لا تجمع ليست من جامعية الأمة في شيء, وإن تحول جامعيتها إلي نقيض مقصودها في التنازع مقابل الاعتصام, والفشل مقابل الفاعلية, وذهاب الريح في مقابل الأثر والتأثير والتمكين, إنما يعبر عن إهدار مفهوم الأمة في الوعي والسعي.
* إنه الحفظ لفاعلية الحضارة والواصل بينها وبين عناصر شهودها وحضورها, والضام لفاعليات عمرانهما وعمارتها, فاعلية الحضارة في حضورها لا وجودها, وحضورها عنوان فاعليتها, ونقيض ذلك الغياب في كل أشكاله وكل معانيه, إن حضارة لا تفعل ولا تتفاعل ولا تملك تأثيرها وفاعليتها ليست من الحضارة في شيء إنما تعبر عن إهدار مفهوم الحضارة وحضورها في الوعي والسعي.
* إنه الحفظ لقضاء السنن والواصل بين' فعلها' و'شروطه' و'عاقبته' والقيام لعناصرها السننية( سنن الكون والنفس والتاريخ والمجتمع), ونقيض ذلك إغفال السنن أو الانحراف بها أو تزييفها في الواقع والرؤية. إن سننا لا تقضي, فتتحقق بشروطها, ليست من السنن في شيء إنما يعبر ذلك عن إهدار مفهوم السنن الإلهية القاضية في الوعي والسعي.
التنمية فعل حضاري ممتد, وحشد للإمكانات والطاقات, وهي كذلك ضمن منظومة الفعل الحضاري بنياته ومساراته, والتنمية حركة إحسان وكدح حضاري قادرة علي بلوغ غايتها ومقصدها في الحياة الطيبة, ومفهوم السياسة في جوهره مفهوم عمراني وإنمائي وتجديدي يتحرك صوب السياسة بمعني القيام علي الأمر بما يصلحه.
من الضروري في هذا المقام أن ننظر للتنمية باعتبارها رؤية للعالم تنبثق عنها رؤية للإنسان والكون والحياة, ضمن عناصر تأسيس عقدي, يستند إلي رؤية توحيدية للعالم, تستند إلي عقيدة التوحيد بكل تضميناتها وفاعليتها.
التنمية- ضمن هذا التصور-' قيمة' شاملة وجامعة وواصلة بين عناصر هذه الرؤية الكلية, تتضمن رؤية عمرانية واعية وفاعلة, تتضمن أصول وعي وحركات سعي متصلة ومتواصلة, ضمن أصول عناصر الكدح الحضاري( يا أيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحا فملاقيه( سورة الإنشقاق: آية6. قيمة تتحرك صوب عمارة الكون وتزكية الإنسان وترقية وتنمية الحياة, وتعتبر كل هذه العناصر بدورها فيما تحرك الفاعليات الإنسانية وتفعيلها في الواقع, إن النظر إلي القيم الكونية والإنسانية والحياتية, والنظر إلي الكون كقيمة, والحياة كقيمة إنما يحرك عناصر وعي وسعي يقصد إلي الإلتزام بأصول نظام للقيم ويحرك الطاقات والفاعليات في إطار ترجمة عناصره والقوة المؤمنة إلي طاقات وإمكانية وتمكين:' المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف'.
والتنمية ضمن هذا التصور مفهوم حضاري شامل يشمل كل العناصر الحضارية وفاعليتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية, ويشمل عمران العوالم المختلفة من عالم الأفكار, وعالم الأشخاص, وعالم الأشياء والنظم, وعالم الأحداث, علي تفاعل واستطراق فيما بينها ضمن علاقات التفاعل والتأثير والتأثر. عمران تلك العوالم هو الذي يضمن لها الحياة والفاعلية, وحينما يعبر مالك بن نبي عن' عالم الأفكار الميتة والقاتلة' والتي تعشش في أركان الكيان الحضاري وتفت في عضده, فإنه بذلك يدرك أن العوالم الحية غير العوالم الميتة أو القاتلة, وأن هذا التصور الشامل هو الذي يحرك عناصر وأصول الوعي الدافع إلي فاعلية السعي ضمن إدراك يعي فعل السنن ضمن هذه العوالم, ويتغيا مقاصد كبري هي في الحقيقة تمثل جوهر الرؤية العمرانية والتنموية.
والتنمية كذلك مفهوم حضاري شامل بما يجعل الواقع في بؤرة اهتمامه وهمه, الواقع هنا أكثر اتساعا من نقطة زمانية أو بقعة مكانية, إنه امتداد زمني وامتداد مكاني وعمق حضاري وذاكرة في الزمان والمكان, تستوعب كل المجالات بتفكيرها وفعلها, هادفة إلي عمرانها, بحيث تصير وبحق- عملية تربوية( التربية المستمرة), لا تنفك عن التربية أبدا.
وضمن هذه السياقات فإن مفهوم التنمية, ليس أحد المفاهيم البسيطة في تكوينها أو السطحية في تأثيرها, بل هو' مفهوم منظومة' يشير إلي منظومة متكاملة ومتكافلة ومتفاعلة من المفاهيم المستدعاة بحيث تكون عائلة مفاهيمية واحدة ذات نسب واحد, أو شجرة مفاهيمية ذات فروع في جذر واحد.
وواقع الأمر أنه بدون النظر إلي التنمية كمفهوم منظومة أو باعتباره شجرة مفاهيمية سيظل التعامل مع هذا المفهوم قاصرا في فهم الواقع والتعامل معه.ومن ثم, فإن هذا المفهوم يشير إلي عمليات مستمرة ومتواصلة, وأدوات وإمكانيات وعلاقات وتفاعلات ومجالات, ومساقات بحثية, ومساقات ثقافية, ومساقات تربوية, ومساقات لمناهج دراسية, كل ذلك يشكل نظاما ومنظومة متكاملة من المفاهيم تستوعب كل تلك المجالات والفاعليات.
كل ذلك قد يحيلنا إلي النظر إلي التنمية باعتبارها نموذجا إرشادياParadign علي ما يشير إليه ذلك من تأصيل رؤية كلية للوجود وللعالم, والإشارة إلي بناء نظري, وكذلك منظومة مفاهيمية, كما أنه يشير إلي أجندة بحثية شاملة ومتكاملة, بما توجه إليه الاهتمام من دراسة إشكالات أجدر بالتناول.
وقد يرتبط بذلك النظر إلي التنمية ضمن النموذج المقاصدي( المقاصد الكلية العامة), وباعتبار التنمية تعبيرا عن مقاصد كلية وعمرانية, وبما يشير إليه كل ذلك من حفظ الدين كعملية تنموية وحضارية تتعلق بعمارة الدين, وكذلك حفظ النفس كعملية عمرانية ممتدة, وحفظ العقل بما يشير إليه ذلك من مهمات عمرانية في الصياغة العمرانية للعقل وإعادة تشكيل العقل المسلم, وحفظ النسل بما يشير إليه من امتداد الاهتمام ومواصلة العمل ضمن عمليات التنمية البشرية والتربوية, وحفظ المال بما يشير إليه من عملية استخلافية عمرانية, وبما يوفر عناصر البنية الأساسية للعملية التنموية, المال هنا رمز لعناصر تنموية في جوانبها التأسيسية والمادية باعتباره من أهم عناصر المادة العمرانية.
الأمر هنا يشير ليس فقط إلي تلك المجالات العمرانية علي تفاعلها وتكافلها, بل يشير كذلك إلي عناصر الأولويات التنموية والعمرانية, وذلك في إطار التمييز والتحديد والتعيين والتفعيل لأصول الضرورات العمرانية والإنمائية, وتحديد الحاجات الإنمائية, وأخيرا العمل في حقل التحسينيات العمرانية, وذلك في سياق منظومة اهتمام تتعرف علي أصول عناصر الوزن والترجيح والتقويم.
وفي هذا المقام يجب ألا يغيب ضمن هذه الرؤية الشاملة الاهتمام بالرؤي الاستشرافية لمستقبل التنمية, بحيث نجعل عناصر هذه الرؤية ضمن جوهر مفهوم التنمية والعمران.
ثانيا- المقاربات التراثية لعملية التنمية:
( أ) المقاربة الماوردية: صلاح الدنيا وعملية التنمية:
من الأمور المهمة أن نبحث هنا في مجال تلك المقاربات في ذاكرة موضوع التنمية, والظواهر المتعلقة بها, فهل لم يكن للمفكرين المسلمين رؤية حال عمران الدنيا, الأمر يتأكد من خلال ضرورته في بناء الرؤية العمرانية العامة لمفهوم الإنماء. الماوردي يقع علي رأس هؤلاء المهتمين في سياق حس عمراني يتحدث حول منهج النظر للعملية الإنمائية وعناصر القيام علي عمارتها وصلاحها وإصلاحها, فالنظر في أمور الدنيا لازم من أحوال تنميتها وعمرانها.' فواجب ستر أحوالها, والكشف عن جهة انتظامها واختلالها, لنعلم أسباب صلاحها وفسادها ومواد عمرانها وخرابها, لتنتفي عن أهلها شبه الحيرة, وتتجلي لهم أسباب الخيرة, فيقصدوا الأمور من أبوابها, ويعتمدوا علي صلاح قواعدها وأسبابها..'.
والتنمية والصلاح معتبران من وجهين..'أولهما ما ينتظم به أمور جملتها, والثاني ما يصلح به حال كل واحد من أهلها. فهما شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بصاحبه', إنها رؤية شاملة للتنمية تتحرك صوب الدوائر المتعددة بدءا بعمران الإنسان الفرد, حتي تشمل العمارة الكونية.' فاعلم أن ما به تصلح الدنيا حتي تصير أحوالها منتظمة, وأمورها ملتئمة, ستة أشياء هي قواعدها وإن تفرعت, وهي: دين متبع وسلطان قاهر وعدل شامل وأمن عام وخصب دائم وأمل فسيح', وأما ما يصلح به حال الإنسان ويرقي:' فثلاثة أشياء, هي قواعد أمره ونظام حاله, وهي نفس مطيعة إلي رشدها منتهية عن غيها, وألفة جامعة.. ومادة كافية تسكن نفس الإنسان إليها ويستقيم أوده بها'.
إننا أمام رؤية كلية شاملة للظاهرة العمرانية والإنمائية تبحث في عناصر التنمية الشاملة والتنمية البشرية, فتؤصل القاعدة وتحدد المجالات.
* علاقة الدين بالظاهرة الإنمائية هي أول هذه القواعد التي تحرك عناصر الالتزام والفاعلية في إطار عقدي يتحرك فيه الإنسان صوب مصلحته وإصلاحه. إنه يدرك حقيقة العلاقة الإيجابية بين الظاهرة الدينية والظاهرة الإنمائية في إطار الفهم لصحيح الدين وما يؤثر به من فاعلية.
* علاقة الظاهرة السياسية بالظاهرة الإنمائية من القواعد المهمة في هذا المقام, هيبة السلطة وقدرتها إنما تعبر عن إحدي الضرورات للظاهرة الإنمائية.
* ثم العدل كحالة شاملة للكيان أفرادا وجماعات, حكاما ومحكومين, ذلك أن هيبة السلطة لا تتأتي إلا من عدلها وقدرتها أن تجعل من الهيبة رضا بالعدل والسوية.
* و'أمن عام' هي من أهم شروط عناصر الاستقرار التي توفر قاعدة ووسطا للعملية العمرانية, فالفوضي ضد العمران, والتهارج ضد الاجتماع, والأمن قرين العمران, معادلات مهمة, تؤسس أصول الأمن العام المترتب علي العدل الشامل.
*' خصب دائم' هو عنوان وإشارة إلي عناصر الإنماء الممتد والشامل والدائم, إنها مجالات التنمية بأسرها وبتنوعها وبتكافلها.
* وأمل فسيح يحدد أفق الرؤية ورحابتها, رؤية لحال الجماعة والكيان في استقبالها, المتعلق بالأمل المصاغ ضمن أصول وعي وقواعد سعي.
وصلاح الدنيا موصول بصلاح الإنسان وعمرانه, وما يتطلبه ذلك من متقضيات عناصر ووسط التنمية البشرية وعمرانها من أصول الماوردي, والتي يمكن إيجازها في الشكل التالي:
ب- المقاربة الخلدونية: أصول العمران وتأسيسه وخرابه وانهياره:
أردنا أن نضع ابن خلدون بمقاربته العمرانية ضمن سلسة من المقاربات التي سبقته أو لحقته حتي لا يتصور البعض أن ابن خلدون فلتة لا تقبل التكرار, ومصادفة لا يقاس عليها, أو هو نتوء ضمن إسهامات معرفية أو منهجية أو علمية متواضعة, فإن هذا كما يحمل ظلما لابن خلدون فإنه يعبر من جانب آخر عن ظلم فادح للحضارة التي أنجبته, فخرج من رحمها, وتغذي من مرجعيتها ما شاء, فكانت مقدمته التي لا تدعي انفصالا عن حضارته بل كانت لبنة ضمن بنائها وضمن شبكتها المعرفية, وليس من غرضنا استعراض نصوص خلدونية في مقدمته, بل الغرض أن نشير بما تميزت به مقاربته العمرانية, والمفاتيح التي دلف من خلالها إلي الظاهرة العمرانية والتعرف علي عناصرها وشبكة علاقاتها, والمستلزمات والمتطلبات التي يجب التسلح بها عند مقاربة ظاهرة العمران أو الاقتراب منها, ومن هنا فقد أشار ابن خلدون إلي:
* ضرورة الاعتبار بالتاريخ, فأسس وأصل فكرة أن للظاهرة الاجتماعية والسياسية والعمرانية عمقا تاريخيا, وللظواهر التاريخية عمقا حضاريا عمرانيا.
* ضرورة النظر إلي الظاهرة العمرانية ضمن امتدادها, وعناصر شمولها, لشؤون العمران ما يعرض له فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان( ظاهرة السلطة), والكسب والمعاش والصنائع والعلوم( مجالات العمران), وعمارة الحياة والأمة التي هي مقصد عالم عمران ابن خلدون( المقاصد العمرانية) وهو بذلك يشير إلي انتقادات حادة إلي تفتيت الظاهرة العمرانية بدعوي التخصصات الدقيقة, وما يشير إليه من ضرورة إعادة النظر في تصنيف العلوم معرفيا لغرض عمارة العلم بلوغا إلي جوهر العلم النافع الدافع.
فقد شرح ابن خلدون' من أحوال العمران والتمدن, وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها, ويعرفك: كيف دخل أهل الدول من أبوابها حتي تنزع من التقليد, وتقف علي أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك'.
وهي إشارات واضحة إلي التنبيه إلي علم الاجتماع العمراني والسياسي الذي يري الظاهرة السياسية في جوف الظاهرة الاجتماعية والظاهرة التاريخية, وكل هذه الظواهر تجدل في مساق واحد, وتضفر عناصرها ومستوياتها وشبكة علاقاتها بحيث تشكل الظاهرة العمرانية لها وبينها, والضابطة لتفاعلاتها, والمكونة لتجلياتها.
* يكمل ذلك تصوره للعمران البشري لا في علاقته التأسيسية, بل في وسطه وسياقه, فيتحدث عن العمران البشري والمقدمات المتعلقة به التي تتصل بالجغرافيا الطبيعية والبشرية, وأثر البيئة علي أبدان البشر وأحوالهم وما ينشأ من العمران, وهو يصنف أنواع العمران ويتحرك صوب وصف مفاصل كل نوع وسماته التي يتميز ويميز بها, من عمران بدوي, ونشأة الدول وتطورها وقوتها ثم ضعفها, والعمران الحضري, ونشأة الهياكل العظمية وبنائها وخراب الأمصار إذا تراجع عمرانها أو إذا انقرضت الدول القائمة فيها, والمعاش وجوبه ووجوهه وأصنافه ومذاهبه, والعلوم التي هي من أهم مقدمات العمران وأصنافها والتعليم, وطرائقه وسائر وجوهه.
وعكف ابن خلدون يتحري شبكة العلاقات بين تلك المقدمات العمرانية محققا أصول تحليله وتصنيفه وتفسيره في ضوء عناصر الترتيب المقترن بنظرية المقاصد الكلية العامة من الضروري والحاجي والتحسيني, والأصلي والمكمل فيقول ابن خلدون' وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق علي جميعها, كما نبين لك بعد, وكذا تقديم الملك علي البلدان والأمصار, وأما تقديم المعاش, فلأن المعاش ضروري طبيعي, وتعلم العلم كمالي أو حاجي, والطبيعي أقدم من الكمالي, وجعلت الصنائع مع الكسب لأنها منه ببعض الوجوه, ومن العمران كما نبين لك بعد'.
* وفي هذا السياق ينتقل ابن خلدون إلي فكرة الأطوار متبعا منهجا سننيا, فالأطوار الحضارية محكومة بقوانينها وسننها, سنن تتعلق بالمظاهر العمرانية وإمكانات تحويلها إلي عالم أفكار تتعلق بالقيم المتعلقة بها, إن فهم ابن خلدون لهذه الأطوار لا يركن فيه إلي الانبهار بعالم الأشياء أو المادة العمرانية, ولكنه يتحدث عما يكمن تحت سطحها وفي عمقها ومكنونها من قيم وأفكار, وما ينتجه من تفاعل بين عالم الأشياء والأفكار والأشخاص من عالم أحوال جدير بالملاحظة والبحث في مفاصله واستنباط قوانينه وسننه, إن هذه الرؤية المتعمقة تفرض علينا أن نتخذ بعض ما تمليه علينا من منهج النظر إلي الظاهرة العمرانية والإنمائي وما يرتبط بها من عوالم.
* يعالج ابن خلدون كذلك أسباب الانهيار والتي عدد بعضها, إلا أنه يؤكد علي سنة ذهبية وناموس عمراني, هما في غالب الأحوال تعبير عن سنة تحذيرية:' أن الترف مؤذن بخراب العمران', فالترف أو الانغماس في التمدن هو من أسباب انهيار الحضارة.. إذا يعلمنا ابن خلدون من مقالته تلك في تأسيس رؤيتنا للتنمية, ويولد من سنته التأسيسية سننا مشتقة أو فرعية, فإن أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته, أو أن يكون عاجزا عنها لما ربي عليه من خلق التنعم والترف,' فترك العمل ومباشرة الحاجات مؤذن بدوره بانهيار الحضارة والعمران والتحول إلي مرحلة التمني والركون والدعة..'.
مفاتيح عمرانية خلدونية يمكن أن تولد رؤية للتنمية علي شاكلتها, وتؤصل منهج نظر وتعامل وتناول للظاهرة العمرانية والإنمائية, وتحرك عناصر لفهم جوهر العلاقة بين الإسلام والتنمية.
ج- المقاربة الشاطبية: المقاصد الكلية وتأسيس قواعد الحفظ وأصول العمران:
إذ عبر الماوردي في رؤيته عن رؤية قيمية تؤسس للحركة والممارسة في إطار عقلية فقهية صاغت تفكيره ورؤيته, وإذ صاغ ابن خلدون رؤيته علي قاعدة من علم العمران السياسي الذي انطلق فيه من الواقع إلي السنن, ولكن ضمن وسط يشد إلي مرجعية التأسيس في تأصيل العلم السنني, فإن الشاطبي- عالم اللغة- قصد المعين الأصولي ليؤسس الكليات العمرانية, حتي ليمكن أن تري ضمن اختلاف هذه المسالك في وجهات نظرها وتنظيرها كيف تتكامل وتتكافل وتتفاعل, فقد خرجت من مشكاة واحدة تضيء النظر إلي الظاهرة العمرانية علي اختلاف جوانبها وعناصرها ومستوياتها وعلاقاتها.
المقاربة الشاطبية في المقاصد الكلية وتأسيس قواعد الحفظ وأصول العمران لا تتسع الصفحات بل الكتاب الواحد لأن يستوعب مقالاته ومقولاته, قواعده ومناهجه في النظر والتعامل للظاهرة العمرنية, وحسبنا في هذا المقام أن نشير إلي بعض مفاتيحه العمرانية من غير استيعاب, وفي إجمال غير تفصيل, وفي حالات إلي مظان التأصيل. إن النموذج المقاصدي- في أصل بنيته- تتفاعل ضمن منظومة عناصر ثلاثة:
الأول- يتعلق بالحفظ كعملية تتضمن عناصر حفظ متوازنة ومتتالية, مستطرقة ومتفاعلة, والحفظ ضربان هما حفظ دفع, أي حفظ سلبي( دفع المضار), وحفظ جلبي إيجابي بنائي( جلب المنافع والمصالح), الحفظ عملية تولد جملة من العمليات كلها علي وزن تفعيل, بما يشير إلي الوعي بعناصر الفعل, والوعي بأصول فاعلية, وأصول السعي الحافظة والحاضنة لتلك الأفعال, والوعي بضمان استمرارية الحفظ في عملياته المتولدة, يتحرك من الحفظ كمنطلق ومبدأ, والحفظ كغاية ومقصد عام, الحفظ هنا عمليات وأدوات ووسائل, ومستويات, وعلاقات وإمكانات وقدرات.
الثاني- يتعلق بالمجالات العمرانية, كساحة أساسية للفعل الحضاري وإعمال القواعد المقاصدية, فقه المجالات, عنصر تأسيس آخر في النموذج المقاصدي, فهي متعلق الحفظ ومجاله الحيوي( حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال), إنها مجالات الحفظ العمراني, تستوعب كل مجالات الفعل الحضاري والعمراني علي تفاعل بينها واستطراق في تفاعلاتها.
الثالث-يتصرف ضمن بنية هذا النموذج بعمليات التصنيف والتكييف والترتيب والوزن, عمليات كلها تتعلق بأصول فهم الواقع بغرض حفظ مجالات عمارته وإنمائه, نحن أمام- ليس فقط محاولة الوزن ضمن ترتيب تصاعدي للمجالات- لكن ضمن ترتيب تتابع أفقي( الضروري, الحاجي, التحسيني), إن فاعليات الحفظ ووزن المجالات لا يمكن أن تكتمل صورتهما إلا ضمن منظومة تدخل في إطار عمليات التكييف لما يعتبر ضروريا أو حاجيا أو تحسينيا.
الضروري يتعلق بأصل الكيان والحفاظ عليه وجودا واستمرارا, والحاجي يتعلق بمحركات الفاعلية والتفاعل ضمن علاقات, والتحسيني يحرك عناصر مهمة في إطار حركة إحسانية مفتوحة تعني طلب الأحسن ضمن عناصر تجويد تضمن مزيدا في إطار الوجود التكريمي للإنسان والوجود الفاعل المؤثر.
هذه تشكل بنية التأسيس وتتولد من تلك العناصر عناصر أخري تحرك أصول تفكير منهجي في رؤية عناصر الحفظ, وسعة المجالات وقدرات الترتيب والوزن. تكامل هذه العناصر الحفظ كفعل, والمجالات التي تتعلق بالفاعلية والسعي, والمراتب التي ترتبط بأصول الفعل والفاعلية والحركة في سياق تحصيلها جميعا إنما يعبر عن قدرات مهمة ضمن هذا النموذج المقاصدي.
الشاطبي ينقلنا إلي هدف العملية الإنتمائية والعمرانية, وعناصر المادة العمرانية, ووسائل الحفظ العمراني وتكافل عناصر الحفظ, وتنوع مستوياتها بين دفع الضرر وجلب المصالح وعناصر وزن وتكييف الحالات والأفعال( الضروري والحاجي والتحسيني).
إنه يتحرك صوب عناصر فهم العملية العمرانية والإنمائية وفق عناصر النموذج المقاصدي, والذي يؤصل بحق منهج تعامل وتناول مع أصول الظاهرة العمرانية. كما أنه يلفت الانتباه إلي عناصر تقويم الفعل العمراني للمجالات.
وإن الخيامي أحد المفكرين في حقل التراث السياسي الإسلامي في العصر الحديث في رسالة' الراعي والرعية' يبين كيف تعتبر المقاصد الكلية وظائف للدولة تحرك العناصر الإنمائية والعمرانية.
بقلم: أ.د. سيف الدين عبدالفتاح إسماعيل
أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية, جامعة القاهرة
إن العملية الاجتهادية في أصل مقصودها تتحرك صوب' المصلحة' و'الإصلاح', ومن ثم فإنه لا يمكن تحريكها إلي مناطق هي ضد هذا القصد الأصلي في العمران إلي عناصر' طغيان' أو' فساد' أو تخريب' أو' خلل' مفض لتقويض الأصول العمرانية.
إن هذا الاجتهاد العمراني حري به أن يواصل تأسيس قواعد المدرسة العمرانية, هذه المدرسة التي تجعل من النظام المعرفي العمراني أساسا لتعاملها مع مجمل القضايا المتعلقة بالمناحي الحضارية المختلفة, وهذه المدرسة ستفرز حتما أجندة بحثية واهتمامات علمية مهمة, يجري إهمالها أو إغفالها أو تهميشها علي أجندة البحث المعاصر.
كما أنها ستؤصل مداخل وصف ورصد, وتقدم وحدات تحليل عمرانية متجددة, وتصنيفات حضارية عميقة لا تختزل أو تبسط, وتقدم قواعد تحليل وقدرات منهج ومداخل تفسير, وتنسج أصولا تنظيرية ضمن نسق تعميماتها ومداخل تقويم تظن أهميتها في هذا المقام.
الاجتهاد العمراني والتجديد العمراني حركتان متواصلتان تؤسسان دعوة المدرسة العمرانية ومواصلة جهودها.والاجتهاد هنا حركة ممتدة وعملية متواصلة متعددة المجالات, تسير في الأفق المتعدد, من أفق الكون إلي أفق الإنسان, إلي أفق المجتمع, إلي أفق التاريخ, ضمن عناصر ناظمة تجعل الاجتهاد عملية متسقة تشد بعضها بعضا.
ويقع اجتهاد المقاصد أو الاجتهاد المقاصدي ليتوج كل العناصر السابق الإشارة إليها, فالاجتهاد المقاصدي فكرة حاضنة لكل العناصر السابقة بحيث توفر لها عناصر الحيوية والفاعلية, وهي ذات مقصود يفضي إلي الرعاية والحفاظ والحماية والصيانة.
أولا- مفهوم التنمية محاولة لصياغة مقاصدية:
' التنمية' واحد من المفاهيم المختلف فيها وعليها, وهي إحدي الحالات النموذجية علي المستوي المفاهيمي التي تعاني من أعراض' برج بابل', والتي قد تشير إلي أننا قد نكون حيال فوضي مفاهيمية فيما يخص الظاهرة الإنمائية, مفاهيم متعددة, وتخصصات تنازعته.
ومن ثم فقد ظل الحديث عن التنمية معبرا عن رغبات غير محددة, أكثر من تعبيرها عن سياسات فاعلة وفعالة, ومن هنا كان من الضروري استيعاب هذا المشروع التنموي ضمن رؤية حضارية وكلية شاملة لأن الاهتمام بجزء علي حساب العناصر الأخري أورث جملة من الاختلالات ليس فقط في التصور والإدراك, بل في العمل والممارسة.
وأهم عناصر التمثيل لمثل هذا الخلل في الرؤية والحركة معا, هو إهمال البعد الثقافي والقيمي للتنمية, ضمن تصور لعوالم التنمية يقتصر علي امتلاك عالم الأشياء, لا القدرة علي تحويل المفهوم إلي عالم أفكار يشكل أصولا وعناصر للبناء التنموي العمراني, يهتم بالأبعاد الثقافية الغائبة, والشروط القيمية المصاحبة للعملية الإنمائية العمرانية, كل ذلك إنما يقع فيما يمكن تسميته بمعايير ومقاصد التنمية.
هذه الأبعاد التي أهملت في النظر أو في العمل أو فيهما معا, كانت أهم الدوافع التي أشارت إلي تجديد زاوية الاهتمام التي يمكن الانطلاق منها لو صنعها تحت مجهر الاهتمام.الاهتمام بالموضوع بمفاصله الأساسية والكلية وخريطته الشاملة بما يشير إليه من عناصر تأسيس وتأصيل للنموذج المعرفي المولد للرؤية التنموية والعمرانية كمقدمة للعمليات التي تتعلق بالتفعيل والتشغيل.
إن صياغة مفهوم التنمية في إطار فكرة المنظومة السباعية ووسطها بالاعتبار' الواصل' و'الحاضن' لها من خلال المقاصد, إنما يجعل من التنمية عملية حضارية شاملة وكاملة. هذه الصياغة الكلية لمفهوم التنمية من خلال المنظومة السباعية الواصلة بين العقيدة الدافعة والشرعة الرافعة والقيم الأساسية والتأسيسية الحاكمة والأمة الجامعة, والحضارة العمرانية الفاعلة, والسنة الإلهية الماضية, كل ذلك يقع في مجال المقاصد( الحافظة, الحاضنة, الواصلة) المقاصد ومراعاتها هي الكفيلة بمراعاة الصفات التي أتبعناها بعناصر هذه المنظومة من: دافعية ورافعية وحاكمية وجامعية وفاعلية, وقاضية وماضية.
وتأتي المقاصد لتتوج عناصر رؤية سباعية, المقاصد الحافظة, الحاضنة الواصلة: الحافظة لمجالات نشاطها الحيوي, وعناصر فعاليتها الجوهرية, والحاضنة( لعقيدتها الدافعة, وشرعتها الرافعة, ونسق قيمها الحاكمة, والأمة الجامعة والحضارة الفاعلة والسنن القاضية..), والواصلة بين واجب المقاصد ومقدماته وآلياته ووسائله, فإنه القصد والمقصود: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إنها فاعليات المقاصد حينما تتعلق بمقصودها في الحفظ والوزن والوصف والبناء والتقويم. إن مقاصد لا تحفظ مجالاتها ولا تحتضن عناصر وسط تفعليها وشروط فاعليتها, ولا تصل بين المقاصد والوسائل والآليات, ليست من المقاصد في شيء, ولكنها في حقيقة الأمر الوصول بها إلي مضادات مقصودها من استدعاء الضرر لا المصلحة, وتوسل طرق التضييع لا الحفظ( حفظ أم ضيع), وإهدار معاني الواجب والواقع, واقتفاء لموازين( الأفكار والأحداث, والأشخاص, والأشياء, والنظم والمؤسسات, والرموز..إلخ), إنها في واقع الأمر إهدار للوعي بالمقاصد والسعي بها ولها.
سباعية بعضها من بعض تتحقق منظوميتها ونظامها فتحدد بذلك مناط فاعليتها وتفعيلها:
* إنه الحفظ لدافعية العقيدة والواصل لعناصره والضام لمكوناته. إن' عقيدة لا تدفع', هو إهدار لمعني العروة الوثقي, وإهدار للعقيدة وعيا وسعيا.
* إنه الحفظ لرافعية الشرعة والواصل بين خصائصها التكوينية والقيام بتفعيل قواعده الكلية. إن شريعة لا ترفع, هو إهدار لمعني مقاصد الشريعة حينما تأتي لتخرج المكلف عن داعية هواه فترفعه تكريما واستخلافا وأمانة ومسئولية, فالشريعة الرافعة: حكمة كلها وعدل كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها.
* إنه الحفظ لحاكمية قيم الإسلام التأسيسية( التوحيد والتزكية والعمران) والأساسية( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والشوري, والاختيار) والقيم العليا( الممثلة في العدل) الناظم لأصول منظومة القيم وتصاعدها وتكافلها وتفاعلها. إن قيما لا تحكم هي إهدار لمعني مقاصد القيم لأنه إهدار لعموم الدين( الدين القيم),( دينا قيما),( دين القيمة),( الصراط المستقيم).
* إنه الحفظ لمعاني جامعية الأمة والواصل بين معاني اعتصامها بحبل الله وعصمتها( لا تجتمع أمتي علي ضلال), والضام لمعاني خيريتها ووسطيتها وشهودها الحضاري, إن أمة لا تجمع هي فاقدة لأصول معانيها في' الأم' و'القصد', وهو إهدار لمقاصد الأمة في' الوجهة والقبلة'. إن أمة لا تجمع ليست من جامعية الأمة في شيء, وإن تحول جامعيتها إلي نقيض مقصودها في التنازع مقابل الاعتصام, والفشل مقابل الفاعلية, وذهاب الريح في مقابل الأثر والتأثير والتمكين, إنما يعبر عن إهدار مفهوم الأمة في الوعي والسعي.
* إنه الحفظ لفاعلية الحضارة والواصل بينها وبين عناصر شهودها وحضورها, والضام لفاعليات عمرانهما وعمارتها, فاعلية الحضارة في حضورها لا وجودها, وحضورها عنوان فاعليتها, ونقيض ذلك الغياب في كل أشكاله وكل معانيه, إن حضارة لا تفعل ولا تتفاعل ولا تملك تأثيرها وفاعليتها ليست من الحضارة في شيء إنما تعبر عن إهدار مفهوم الحضارة وحضورها في الوعي والسعي.
* إنه الحفظ لقضاء السنن والواصل بين' فعلها' و'شروطه' و'عاقبته' والقيام لعناصرها السننية( سنن الكون والنفس والتاريخ والمجتمع), ونقيض ذلك إغفال السنن أو الانحراف بها أو تزييفها في الواقع والرؤية. إن سننا لا تقضي, فتتحقق بشروطها, ليست من السنن في شيء إنما يعبر ذلك عن إهدار مفهوم السنن الإلهية القاضية في الوعي والسعي.
التنمية فعل حضاري ممتد, وحشد للإمكانات والطاقات, وهي كذلك ضمن منظومة الفعل الحضاري بنياته ومساراته, والتنمية حركة إحسان وكدح حضاري قادرة علي بلوغ غايتها ومقصدها في الحياة الطيبة, ومفهوم السياسة في جوهره مفهوم عمراني وإنمائي وتجديدي يتحرك صوب السياسة بمعني القيام علي الأمر بما يصلحه.
من الضروري في هذا المقام أن ننظر للتنمية باعتبارها رؤية للعالم تنبثق عنها رؤية للإنسان والكون والحياة, ضمن عناصر تأسيس عقدي, يستند إلي رؤية توحيدية للعالم, تستند إلي عقيدة التوحيد بكل تضميناتها وفاعليتها.
التنمية- ضمن هذا التصور-' قيمة' شاملة وجامعة وواصلة بين عناصر هذه الرؤية الكلية, تتضمن رؤية عمرانية واعية وفاعلة, تتضمن أصول وعي وحركات سعي متصلة ومتواصلة, ضمن أصول عناصر الكدح الحضاري( يا أيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحا فملاقيه( سورة الإنشقاق: آية6. قيمة تتحرك صوب عمارة الكون وتزكية الإنسان وترقية وتنمية الحياة, وتعتبر كل هذه العناصر بدورها فيما تحرك الفاعليات الإنسانية وتفعيلها في الواقع, إن النظر إلي القيم الكونية والإنسانية والحياتية, والنظر إلي الكون كقيمة, والحياة كقيمة إنما يحرك عناصر وعي وسعي يقصد إلي الإلتزام بأصول نظام للقيم ويحرك الطاقات والفاعليات في إطار ترجمة عناصره والقوة المؤمنة إلي طاقات وإمكانية وتمكين:' المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف'.
والتنمية ضمن هذا التصور مفهوم حضاري شامل يشمل كل العناصر الحضارية وفاعليتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية, ويشمل عمران العوالم المختلفة من عالم الأفكار, وعالم الأشخاص, وعالم الأشياء والنظم, وعالم الأحداث, علي تفاعل واستطراق فيما بينها ضمن علاقات التفاعل والتأثير والتأثر. عمران تلك العوالم هو الذي يضمن لها الحياة والفاعلية, وحينما يعبر مالك بن نبي عن' عالم الأفكار الميتة والقاتلة' والتي تعشش في أركان الكيان الحضاري وتفت في عضده, فإنه بذلك يدرك أن العوالم الحية غير العوالم الميتة أو القاتلة, وأن هذا التصور الشامل هو الذي يحرك عناصر وأصول الوعي الدافع إلي فاعلية السعي ضمن إدراك يعي فعل السنن ضمن هذه العوالم, ويتغيا مقاصد كبري هي في الحقيقة تمثل جوهر الرؤية العمرانية والتنموية.
والتنمية كذلك مفهوم حضاري شامل بما يجعل الواقع في بؤرة اهتمامه وهمه, الواقع هنا أكثر اتساعا من نقطة زمانية أو بقعة مكانية, إنه امتداد زمني وامتداد مكاني وعمق حضاري وذاكرة في الزمان والمكان, تستوعب كل المجالات بتفكيرها وفعلها, هادفة إلي عمرانها, بحيث تصير وبحق- عملية تربوية( التربية المستمرة), لا تنفك عن التربية أبدا.
وضمن هذه السياقات فإن مفهوم التنمية, ليس أحد المفاهيم البسيطة في تكوينها أو السطحية في تأثيرها, بل هو' مفهوم منظومة' يشير إلي منظومة متكاملة ومتكافلة ومتفاعلة من المفاهيم المستدعاة بحيث تكون عائلة مفاهيمية واحدة ذات نسب واحد, أو شجرة مفاهيمية ذات فروع في جذر واحد.
وواقع الأمر أنه بدون النظر إلي التنمية كمفهوم منظومة أو باعتباره شجرة مفاهيمية سيظل التعامل مع هذا المفهوم قاصرا في فهم الواقع والتعامل معه.ومن ثم, فإن هذا المفهوم يشير إلي عمليات مستمرة ومتواصلة, وأدوات وإمكانيات وعلاقات وتفاعلات ومجالات, ومساقات بحثية, ومساقات ثقافية, ومساقات تربوية, ومساقات لمناهج دراسية, كل ذلك يشكل نظاما ومنظومة متكاملة من المفاهيم تستوعب كل تلك المجالات والفاعليات.
كل ذلك قد يحيلنا إلي النظر إلي التنمية باعتبارها نموذجا إرشادياParadign علي ما يشير إليه ذلك من تأصيل رؤية كلية للوجود وللعالم, والإشارة إلي بناء نظري, وكذلك منظومة مفاهيمية, كما أنه يشير إلي أجندة بحثية شاملة ومتكاملة, بما توجه إليه الاهتمام من دراسة إشكالات أجدر بالتناول.
وقد يرتبط بذلك النظر إلي التنمية ضمن النموذج المقاصدي( المقاصد الكلية العامة), وباعتبار التنمية تعبيرا عن مقاصد كلية وعمرانية, وبما يشير إليه كل ذلك من حفظ الدين كعملية تنموية وحضارية تتعلق بعمارة الدين, وكذلك حفظ النفس كعملية عمرانية ممتدة, وحفظ العقل بما يشير إليه ذلك من مهمات عمرانية في الصياغة العمرانية للعقل وإعادة تشكيل العقل المسلم, وحفظ النسل بما يشير إليه من امتداد الاهتمام ومواصلة العمل ضمن عمليات التنمية البشرية والتربوية, وحفظ المال بما يشير إليه من عملية استخلافية عمرانية, وبما يوفر عناصر البنية الأساسية للعملية التنموية, المال هنا رمز لعناصر تنموية في جوانبها التأسيسية والمادية باعتباره من أهم عناصر المادة العمرانية.
الأمر هنا يشير ليس فقط إلي تلك المجالات العمرانية علي تفاعلها وتكافلها, بل يشير كذلك إلي عناصر الأولويات التنموية والعمرانية, وذلك في إطار التمييز والتحديد والتعيين والتفعيل لأصول الضرورات العمرانية والإنمائية, وتحديد الحاجات الإنمائية, وأخيرا العمل في حقل التحسينيات العمرانية, وذلك في سياق منظومة اهتمام تتعرف علي أصول عناصر الوزن والترجيح والتقويم.
وفي هذا المقام يجب ألا يغيب ضمن هذه الرؤية الشاملة الاهتمام بالرؤي الاستشرافية لمستقبل التنمية, بحيث نجعل عناصر هذه الرؤية ضمن جوهر مفهوم التنمية والعمران.
ثانيا- المقاربات التراثية لعملية التنمية:
( أ) المقاربة الماوردية: صلاح الدنيا وعملية التنمية:
من الأمور المهمة أن نبحث هنا في مجال تلك المقاربات في ذاكرة موضوع التنمية, والظواهر المتعلقة بها, فهل لم يكن للمفكرين المسلمين رؤية حال عمران الدنيا, الأمر يتأكد من خلال ضرورته في بناء الرؤية العمرانية العامة لمفهوم الإنماء. الماوردي يقع علي رأس هؤلاء المهتمين في سياق حس عمراني يتحدث حول منهج النظر للعملية الإنمائية وعناصر القيام علي عمارتها وصلاحها وإصلاحها, فالنظر في أمور الدنيا لازم من أحوال تنميتها وعمرانها.' فواجب ستر أحوالها, والكشف عن جهة انتظامها واختلالها, لنعلم أسباب صلاحها وفسادها ومواد عمرانها وخرابها, لتنتفي عن أهلها شبه الحيرة, وتتجلي لهم أسباب الخيرة, فيقصدوا الأمور من أبوابها, ويعتمدوا علي صلاح قواعدها وأسبابها..'.
والتنمية والصلاح معتبران من وجهين..'أولهما ما ينتظم به أمور جملتها, والثاني ما يصلح به حال كل واحد من أهلها. فهما شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بصاحبه', إنها رؤية شاملة للتنمية تتحرك صوب الدوائر المتعددة بدءا بعمران الإنسان الفرد, حتي تشمل العمارة الكونية.' فاعلم أن ما به تصلح الدنيا حتي تصير أحوالها منتظمة, وأمورها ملتئمة, ستة أشياء هي قواعدها وإن تفرعت, وهي: دين متبع وسلطان قاهر وعدل شامل وأمن عام وخصب دائم وأمل فسيح', وأما ما يصلح به حال الإنسان ويرقي:' فثلاثة أشياء, هي قواعد أمره ونظام حاله, وهي نفس مطيعة إلي رشدها منتهية عن غيها, وألفة جامعة.. ومادة كافية تسكن نفس الإنسان إليها ويستقيم أوده بها'.
إننا أمام رؤية كلية شاملة للظاهرة العمرانية والإنمائية تبحث في عناصر التنمية الشاملة والتنمية البشرية, فتؤصل القاعدة وتحدد المجالات.
* علاقة الدين بالظاهرة الإنمائية هي أول هذه القواعد التي تحرك عناصر الالتزام والفاعلية في إطار عقدي يتحرك فيه الإنسان صوب مصلحته وإصلاحه. إنه يدرك حقيقة العلاقة الإيجابية بين الظاهرة الدينية والظاهرة الإنمائية في إطار الفهم لصحيح الدين وما يؤثر به من فاعلية.
* علاقة الظاهرة السياسية بالظاهرة الإنمائية من القواعد المهمة في هذا المقام, هيبة السلطة وقدرتها إنما تعبر عن إحدي الضرورات للظاهرة الإنمائية.
* ثم العدل كحالة شاملة للكيان أفرادا وجماعات, حكاما ومحكومين, ذلك أن هيبة السلطة لا تتأتي إلا من عدلها وقدرتها أن تجعل من الهيبة رضا بالعدل والسوية.
* و'أمن عام' هي من أهم شروط عناصر الاستقرار التي توفر قاعدة ووسطا للعملية العمرانية, فالفوضي ضد العمران, والتهارج ضد الاجتماع, والأمن قرين العمران, معادلات مهمة, تؤسس أصول الأمن العام المترتب علي العدل الشامل.
*' خصب دائم' هو عنوان وإشارة إلي عناصر الإنماء الممتد والشامل والدائم, إنها مجالات التنمية بأسرها وبتنوعها وبتكافلها.
* وأمل فسيح يحدد أفق الرؤية ورحابتها, رؤية لحال الجماعة والكيان في استقبالها, المتعلق بالأمل المصاغ ضمن أصول وعي وقواعد سعي.
وصلاح الدنيا موصول بصلاح الإنسان وعمرانه, وما يتطلبه ذلك من متقضيات عناصر ووسط التنمية البشرية وعمرانها من أصول الماوردي, والتي يمكن إيجازها في الشكل التالي:
ب- المقاربة الخلدونية: أصول العمران وتأسيسه وخرابه وانهياره:
أردنا أن نضع ابن خلدون بمقاربته العمرانية ضمن سلسة من المقاربات التي سبقته أو لحقته حتي لا يتصور البعض أن ابن خلدون فلتة لا تقبل التكرار, ومصادفة لا يقاس عليها, أو هو نتوء ضمن إسهامات معرفية أو منهجية أو علمية متواضعة, فإن هذا كما يحمل ظلما لابن خلدون فإنه يعبر من جانب آخر عن ظلم فادح للحضارة التي أنجبته, فخرج من رحمها, وتغذي من مرجعيتها ما شاء, فكانت مقدمته التي لا تدعي انفصالا عن حضارته بل كانت لبنة ضمن بنائها وضمن شبكتها المعرفية, وليس من غرضنا استعراض نصوص خلدونية في مقدمته, بل الغرض أن نشير بما تميزت به مقاربته العمرانية, والمفاتيح التي دلف من خلالها إلي الظاهرة العمرانية والتعرف علي عناصرها وشبكة علاقاتها, والمستلزمات والمتطلبات التي يجب التسلح بها عند مقاربة ظاهرة العمران أو الاقتراب منها, ومن هنا فقد أشار ابن خلدون إلي:
* ضرورة الاعتبار بالتاريخ, فأسس وأصل فكرة أن للظاهرة الاجتماعية والسياسية والعمرانية عمقا تاريخيا, وللظواهر التاريخية عمقا حضاريا عمرانيا.
* ضرورة النظر إلي الظاهرة العمرانية ضمن امتدادها, وعناصر شمولها, لشؤون العمران ما يعرض له فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان( ظاهرة السلطة), والكسب والمعاش والصنائع والعلوم( مجالات العمران), وعمارة الحياة والأمة التي هي مقصد عالم عمران ابن خلدون( المقاصد العمرانية) وهو بذلك يشير إلي انتقادات حادة إلي تفتيت الظاهرة العمرانية بدعوي التخصصات الدقيقة, وما يشير إليه من ضرورة إعادة النظر في تصنيف العلوم معرفيا لغرض عمارة العلم بلوغا إلي جوهر العلم النافع الدافع.
فقد شرح ابن خلدون' من أحوال العمران والتمدن, وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها, ويعرفك: كيف دخل أهل الدول من أبوابها حتي تنزع من التقليد, وتقف علي أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك'.
وهي إشارات واضحة إلي التنبيه إلي علم الاجتماع العمراني والسياسي الذي يري الظاهرة السياسية في جوف الظاهرة الاجتماعية والظاهرة التاريخية, وكل هذه الظواهر تجدل في مساق واحد, وتضفر عناصرها ومستوياتها وشبكة علاقاتها بحيث تشكل الظاهرة العمرانية لها وبينها, والضابطة لتفاعلاتها, والمكونة لتجلياتها.
* يكمل ذلك تصوره للعمران البشري لا في علاقته التأسيسية, بل في وسطه وسياقه, فيتحدث عن العمران البشري والمقدمات المتعلقة به التي تتصل بالجغرافيا الطبيعية والبشرية, وأثر البيئة علي أبدان البشر وأحوالهم وما ينشأ من العمران, وهو يصنف أنواع العمران ويتحرك صوب وصف مفاصل كل نوع وسماته التي يتميز ويميز بها, من عمران بدوي, ونشأة الدول وتطورها وقوتها ثم ضعفها, والعمران الحضري, ونشأة الهياكل العظمية وبنائها وخراب الأمصار إذا تراجع عمرانها أو إذا انقرضت الدول القائمة فيها, والمعاش وجوبه ووجوهه وأصنافه ومذاهبه, والعلوم التي هي من أهم مقدمات العمران وأصنافها والتعليم, وطرائقه وسائر وجوهه.
وعكف ابن خلدون يتحري شبكة العلاقات بين تلك المقدمات العمرانية محققا أصول تحليله وتصنيفه وتفسيره في ضوء عناصر الترتيب المقترن بنظرية المقاصد الكلية العامة من الضروري والحاجي والتحسيني, والأصلي والمكمل فيقول ابن خلدون' وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق علي جميعها, كما نبين لك بعد, وكذا تقديم الملك علي البلدان والأمصار, وأما تقديم المعاش, فلأن المعاش ضروري طبيعي, وتعلم العلم كمالي أو حاجي, والطبيعي أقدم من الكمالي, وجعلت الصنائع مع الكسب لأنها منه ببعض الوجوه, ومن العمران كما نبين لك بعد'.
* وفي هذا السياق ينتقل ابن خلدون إلي فكرة الأطوار متبعا منهجا سننيا, فالأطوار الحضارية محكومة بقوانينها وسننها, سنن تتعلق بالمظاهر العمرانية وإمكانات تحويلها إلي عالم أفكار تتعلق بالقيم المتعلقة بها, إن فهم ابن خلدون لهذه الأطوار لا يركن فيه إلي الانبهار بعالم الأشياء أو المادة العمرانية, ولكنه يتحدث عما يكمن تحت سطحها وفي عمقها ومكنونها من قيم وأفكار, وما ينتجه من تفاعل بين عالم الأشياء والأفكار والأشخاص من عالم أحوال جدير بالملاحظة والبحث في مفاصله واستنباط قوانينه وسننه, إن هذه الرؤية المتعمقة تفرض علينا أن نتخذ بعض ما تمليه علينا من منهج النظر إلي الظاهرة العمرانية والإنمائي وما يرتبط بها من عوالم.
* يعالج ابن خلدون كذلك أسباب الانهيار والتي عدد بعضها, إلا أنه يؤكد علي سنة ذهبية وناموس عمراني, هما في غالب الأحوال تعبير عن سنة تحذيرية:' أن الترف مؤذن بخراب العمران', فالترف أو الانغماس في التمدن هو من أسباب انهيار الحضارة.. إذا يعلمنا ابن خلدون من مقالته تلك في تأسيس رؤيتنا للتنمية, ويولد من سنته التأسيسية سننا مشتقة أو فرعية, فإن أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته, أو أن يكون عاجزا عنها لما ربي عليه من خلق التنعم والترف,' فترك العمل ومباشرة الحاجات مؤذن بدوره بانهيار الحضارة والعمران والتحول إلي مرحلة التمني والركون والدعة..'.
مفاتيح عمرانية خلدونية يمكن أن تولد رؤية للتنمية علي شاكلتها, وتؤصل منهج نظر وتعامل وتناول للظاهرة العمرانية والإنمائية, وتحرك عناصر لفهم جوهر العلاقة بين الإسلام والتنمية.
ج- المقاربة الشاطبية: المقاصد الكلية وتأسيس قواعد الحفظ وأصول العمران:
إذ عبر الماوردي في رؤيته عن رؤية قيمية تؤسس للحركة والممارسة في إطار عقلية فقهية صاغت تفكيره ورؤيته, وإذ صاغ ابن خلدون رؤيته علي قاعدة من علم العمران السياسي الذي انطلق فيه من الواقع إلي السنن, ولكن ضمن وسط يشد إلي مرجعية التأسيس في تأصيل العلم السنني, فإن الشاطبي- عالم اللغة- قصد المعين الأصولي ليؤسس الكليات العمرانية, حتي ليمكن أن تري ضمن اختلاف هذه المسالك في وجهات نظرها وتنظيرها كيف تتكامل وتتكافل وتتفاعل, فقد خرجت من مشكاة واحدة تضيء النظر إلي الظاهرة العمرانية علي اختلاف جوانبها وعناصرها ومستوياتها وعلاقاتها.
المقاربة الشاطبية في المقاصد الكلية وتأسيس قواعد الحفظ وأصول العمران لا تتسع الصفحات بل الكتاب الواحد لأن يستوعب مقالاته ومقولاته, قواعده ومناهجه في النظر والتعامل للظاهرة العمرنية, وحسبنا في هذا المقام أن نشير إلي بعض مفاتيحه العمرانية من غير استيعاب, وفي إجمال غير تفصيل, وفي حالات إلي مظان التأصيل. إن النموذج المقاصدي- في أصل بنيته- تتفاعل ضمن منظومة عناصر ثلاثة:
الأول- يتعلق بالحفظ كعملية تتضمن عناصر حفظ متوازنة ومتتالية, مستطرقة ومتفاعلة, والحفظ ضربان هما حفظ دفع, أي حفظ سلبي( دفع المضار), وحفظ جلبي إيجابي بنائي( جلب المنافع والمصالح), الحفظ عملية تولد جملة من العمليات كلها علي وزن تفعيل, بما يشير إلي الوعي بعناصر الفعل, والوعي بأصول فاعلية, وأصول السعي الحافظة والحاضنة لتلك الأفعال, والوعي بضمان استمرارية الحفظ في عملياته المتولدة, يتحرك من الحفظ كمنطلق ومبدأ, والحفظ كغاية ومقصد عام, الحفظ هنا عمليات وأدوات ووسائل, ومستويات, وعلاقات وإمكانات وقدرات.
الثاني- يتعلق بالمجالات العمرانية, كساحة أساسية للفعل الحضاري وإعمال القواعد المقاصدية, فقه المجالات, عنصر تأسيس آخر في النموذج المقاصدي, فهي متعلق الحفظ ومجاله الحيوي( حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال), إنها مجالات الحفظ العمراني, تستوعب كل مجالات الفعل الحضاري والعمراني علي تفاعل بينها واستطراق في تفاعلاتها.
الثالث-يتصرف ضمن بنية هذا النموذج بعمليات التصنيف والتكييف والترتيب والوزن, عمليات كلها تتعلق بأصول فهم الواقع بغرض حفظ مجالات عمارته وإنمائه, نحن أمام- ليس فقط محاولة الوزن ضمن ترتيب تصاعدي للمجالات- لكن ضمن ترتيب تتابع أفقي( الضروري, الحاجي, التحسيني), إن فاعليات الحفظ ووزن المجالات لا يمكن أن تكتمل صورتهما إلا ضمن منظومة تدخل في إطار عمليات التكييف لما يعتبر ضروريا أو حاجيا أو تحسينيا.
الضروري يتعلق بأصل الكيان والحفاظ عليه وجودا واستمرارا, والحاجي يتعلق بمحركات الفاعلية والتفاعل ضمن علاقات, والتحسيني يحرك عناصر مهمة في إطار حركة إحسانية مفتوحة تعني طلب الأحسن ضمن عناصر تجويد تضمن مزيدا في إطار الوجود التكريمي للإنسان والوجود الفاعل المؤثر.
هذه تشكل بنية التأسيس وتتولد من تلك العناصر عناصر أخري تحرك أصول تفكير منهجي في رؤية عناصر الحفظ, وسعة المجالات وقدرات الترتيب والوزن. تكامل هذه العناصر الحفظ كفعل, والمجالات التي تتعلق بالفاعلية والسعي, والمراتب التي ترتبط بأصول الفعل والفاعلية والحركة في سياق تحصيلها جميعا إنما يعبر عن قدرات مهمة ضمن هذا النموذج المقاصدي.
الشاطبي ينقلنا إلي هدف العملية الإنتمائية والعمرانية, وعناصر المادة العمرانية, ووسائل الحفظ العمراني وتكافل عناصر الحفظ, وتنوع مستوياتها بين دفع الضرر وجلب المصالح وعناصر وزن وتكييف الحالات والأفعال( الضروري والحاجي والتحسيني).
إنه يتحرك صوب عناصر فهم العملية العمرانية والإنمائية وفق عناصر النموذج المقاصدي, والذي يؤصل بحق منهج تعامل وتناول مع أصول الظاهرة العمرانية. كما أنه يلفت الانتباه إلي عناصر تقويم الفعل العمراني للمجالات.
وإن الخيامي أحد المفكرين في حقل التراث السياسي الإسلامي في العصر الحديث في رسالة' الراعي والرعية' يبين كيف تعتبر المقاصد الكلية وظائف للدولة تحرك العناصر الإنمائية والعمرانية.