صفحة 1 من 1

انهيار الاتحاد السوفيتي والتجربة -الاشتراكية

مرسل: الأحد ديسمبر 25, 2011 11:14 pm
بواسطة ريان الحربي 3
ان دراسة تجربة الانهيار المدوي، والمفجع، لأول تجربة اشتراكية مستقرة نسبيا، يمكن ان تتخذ اشكالا عديدة: دراسة العومل الظرفية التي رافقت محاولات التجديد وأدت الى الانهيار، او دراسة العوامل البنيوية التاريخية للتجربة ككل من منظور ماركس نفسه.
يستطيع الدارس ان يورد وفرة من الاسباب عن طبيعة النخب السياسية، وتركيبة الحزب، واسلوب عملها، وبنية الدولة، والضغوط الخارجية، التي ادت الى الانهيار. ويمكن، بالمثل، ايراد اسباب معاكسة، تؤدي نفس الوظيفة التبريرية او التفسيرية.
ما نحتاج اليه هو تحليل بنيوي، تاريخي، في ضوء الفهم الماركسي لبنية الرأسمالية وتطورها، لا تحليل ظرفي آني.

I الثورة الروسية

لقد جاءت الثورة الروسية، في اكثر البلدان الرأسمالية تأخرا. أي في بلد لا يصلح للتطور ما بعد الرأسمالي، بالمعنى الماركسي للكلمة، فالبلاد شهدت لتوها نمو اولى نبتات الرأسمالية الصناعية الحديثة، على شكل جزر في المدن الكبرى الرئيسية وبخاصة موسكو وسانت بطرسبرغ. وكان مدراء المصانع يستوردون من انجلترا، ويعملون في ظروف لم يتبلور فيها بعد حتى انضباط العمل المصنعي المعروف. ولم تمد الرأسمالية فيها بعد تأثيرها التنظيمي (الانتاج لأجل السوق، عقلنة الانتاج، الحساب الاقتصادي، انضباط العمل، اعادة الانتاج الموسع وهلمجرا) او تأثيرها المؤسساتي (اتحادات الصناعيين، نقابات العمال، المؤسسات القانونية لحماية الملكية الخاصة المستقلة من الدولة... الخ) او تأثيرها الثقافي (فكرة الفرد المستقل، التعاقد الحر، حرية السوق).
لينين نفسه يعترف في كتابات عديدة (راجع كراسه: "حول رأسمالية الدولة") ان ماهو موجود في روسيا عصر ذاك هو رأسمالية برجوازية صغيرة، أي انه يعترف بعدم كفاية التطور الرأسمالي في روسيا لأجل الانطلاق الى أي شكل ما بعد رأسمالي (ناهيك عن الاشتراكية). ويعترف ايضا بأن الثورة الروسية لا تملك من "الاشتراكية" سوى السلطة السياسية للعمال، وهم اقلية في المدن ويعيشون وسط بحر من الفلاحين.
الثورة الروسية نفسها كانت ثلاث ثورات في آن، فهي ثورة (او قل تمردات) فلاحية ضد اشكال القنانة البالية، وثورة ليبرالية سياسية ضد الشكل الاوتوقراطي للقصيرية، وهي ثورة عمالية في المدن. وقد اكتسبت هذه الثورات الثلاث طابعا حادا، متوترا، متداخلا، بفعل ظروف الحرب العالية الاو لى.

II

والسؤال الآن اذا كان العمال اقلية، والرأسمالية غير متطورة في روسيا، فما الذي دفع لينين الى تغيير الدفة باتجاه الثورة العمالية ذات المهام الاشتراكية في بلد ينتظر انجاز مهمات رأسمالية (= ديمقراطية)؟ هل كان لينين متطرفا، كما قال بعض معاصريه؟ ام كان لينين غير واع لنظرية ماركس؟ لا هذا ولا ذاك.
كان لينين يعي تماما شروط التطور التاريخي للرأسمالية والسعي للخروج منها وتجاوزها كما وضعها ماركس، وهي:
1 - لا يمكن تجاوز الرأسمالية إلا بعد وصولها مرحلة عليا من النضج.
2 - ان الرأسمالية نظام عالمي وليس محليا.
3 - ان روسيا تفتقر الى هذه الشروط.
ماذا نقصد بمرحلة نضج الرأسمالية؟
نقصد:
أ - وصول القوى المنتجة حدا هائلا من التطور يكفي لاشباع الحاجات المادية لافراد المجتمع.
ب - نضج مؤسسات الادارة الذاتية داخل المجتمع وتمايزها عن بعض (المنظمات الاجتماعية).
ج – نضج مؤسسات الادارة السياسية للمجتمع، الديمقراطية، تمايز السلطات وانقسامها (تنفيذ، تشريع، قضاء...الخ).
د – انفصال الملكية الاجتماعية عن المالكين، في الطور المتقدم من الرأسمالية (ظهور طبقة المدراء والمنظمين من خارج طبقة المالكين الرأسماليين، تطور نظام الائتمان، تطور التنظيم الواعي داخل المؤسسات الرأسمالية التعميمية على المجتمع – لاحقا)، تطور نظم الاتصالات (سكك الحديد، الهواتف، السيارات، الطرق والجسور)، تطور المؤسسات الاجتماعية المستقلة... الخ.

III

لقد كانت هذه الشروط غائبة تماما عن روسيا. وقد اعترض مفكرون ماركسيون عظام على فكرة استيلاء الطبقة العاملة الروسية على السلطة.
فهناك اعتراض بليخانوف الذي قال ان بلدا (مثل روسيا) يقوم على انتاج سلعي صغير، وبحر من الفلاحين (البنية التحتية) لن يسمح بنشوء نظام سوى استبداد قيصري حتى لو ارتدى رداء بلشفيا.
وهناك اعتراض كاوتسكي، الذي اكد ان ضعف التطور الرأسمالي لروسيا لا يتيح للبلاشفة الاستمرار في السلطة على قاعدة مثل هذه. وتنبأ في دراسات عديدة له (مطلع ثلاثينات القرن وفي مقال قبل وفاته عام 1938) بتعذر استمرار التجربة.
وهناك اعتراض او استغراب المفكر العملاق انطونيو جرامشي (ايطاليا) الذي اكد ان الثورة الروسية هي ثورة مخالفة لـ"رأس المال"، أي ضد منطق ماركس الوارد في كتابه "رأس المال"، باعتبار روسيا البلد الافقر والاقل تطورا.
وهناك اعتراضات اخرى من مفكرين غير ماركسيين تنبأوا بأن الدولة (البيروقراطية) ستبتلع الحزب، وان النظام السياسي سيتحول الى اوتوقراطية مطلقة (ماكس فيبر وآخرون).
اذا كان لينين واعيا للمزلق الروسي فما الذي دفعه الى تغيير الدفة باتجاه البحث عن تجاوز الرأسمالية في ظروف بلد لم تتطور فيه الرأسمالية بدرجة معقولة؟
الجواب انه كان ينتظر، ويأمل، ان تحرك الثورة الروسية فتيل ثورات عمالية في القارة، فتكون بمثابة المهماز السياسي. وكان يتطلع الى المانيا المتطورة، مثله الأعلى في التنظيم الصناعي والعسكري، الى ثورة عمالية ظافرة هناك، تذكي بدورها وبأثرها، ثورة تالية في فرنسا، وايطاليا، أي ثورة بروليتارية في معاقل الرأسمالية المتطورة. لم تأت هذه الثورات.
فالثورة المجالسية (العمالية) الاولى اندلعت في المجر، ثم جزئيا في ايطاليا، اما في المانيا فلم تستطع الخروج من القماط. هذا الرهان التاريخي لم يتحقق.

IV

كان النموذج السياسي الاقتصادي والاجتماعي الذي بناه لينين هو نموذج رأسمالي حكومي، مؤقت بانتظار النجدة التي لم تأت. وان هذا النموذج سار في اتجاه التطور الذي تنبأ به بليجانوف وكاوتسكي وفيبر وحتى روزا لوكسمبورغ، أي قيام دولة بيروقراطية، مركزية، استبدادية، تفتقر الى أي معلم ديمقراطي (حتى للبلاشفة انفسهم ناهيك عن المجتمع)، وتجمع في آن السلطة السياسية بالسلطة الاقتصادية، وتهيمن على انتاج الثقافة، على يد طبقة بيروقراطية تحكم باسم التاريخ وباسم الطبقة العاملة.
لقد كان هذا النموذج يعيش انفصالا بين واقعه المتخلف (تدني الانتاج، ضعف المؤسسات المجتمعية، غياب التمايز المؤسساتي في الدولة... الخ). وادعائه الايديولوجي بأنه يبني الجنة الموعودة، جنة التحرر من الحاجات المادية، وجنة التحرر من القمع الرأسمالي... الخ.
لقد ادى هذا النموذج الى النزع القسري للفلاحين (راح ضحيته 20 مليون انسان)، والى القمع الجسدي لصغار المنتجين والمثقفين (راح ضحيته 10 ملايين انسان).
كان هذا النموذج مرشحاً للانهيار لولا بضعة عوامل انجدته، منها:
1 – التحام البلشفية بالنزعة الوطنية الدفاعية خلال الحرب العالمية الثانية، مما اكسبه شرعية لدى جيل ما بين الحربين، شملت حتى الكنيسة الاورثوكسية.
2 – توفر روسيا الثورية على ريوع كبيرة (النفط، الذهب)، سدّت الثغرات الاقتصادية لفترة.
3 – تمتع روسيا الثورية بعطف ثوري عام في البلدان الرأسمالية والعالم الثالث وسط قطاعات الطبقة العاملة، واليسار الثوري، وغير ذلك من قوى.
ان النموذج الروسي يقوم على بنية سياسية شديدة التمركز والاستبداد، وعلى بناء اقتصادي اوامري، ضعيف الانتاجية، وخاضع لتحكم طبقة بيروقراطية متنعمة.
لقد لعب هذا النموذج دوره في التطوير الجزئي للقوى المنتجة (التصنيع الثقيل، الكهربة، مد سكك الحديد) وهي مهمات رأسمالية اصلا، الا انه عجز عن مواكبة تطور الثورات العلمية والتكنولوجية اللاحقة. كما لم تسمح البيروقراطية المتحكمة بالفوائض، باجراء أي تعديل في بنية النظام السياسي.
لقد كان النموذج: رأسمالية موظفين مستبدة، انهارت تحت وطأة تناقضاتها المستحكمة. انها رأسمالية مشوهة.

V

ان التجربة الروسية تعيدنا الى اصل نظرية ماركس: لا تجاوز للرأسمالية الا في اطارها، وبفضل انجازاتها، وتطورها بالذات. ولا يمكن تجاوزها بمراسيم وادعاءات ايديولوجية فارغة.
لقد سعت محاولات الاصلاح الى الفكاك من الاقتصاد الاوامري، فاكتشفت ان البيروقراطية غدت فئة اجتماعية عاتية تحتل مفاصل الدولة. فلما اتجه الاصلاح الى الدولة ذاتها، اصطدم بمقاومة اعتى من الطبقة البيروقراطية، التي انقسمت وتوزعت الى تيارات.
هناك في الحياة الاكاديمية منهج يقول ان لمشكلة معينة سبعة اسباب محتملة. فيتولى كل فريق عمل البحث في سبب من الاسباب، وهكذا تعمل سبعة فرق ابحاث لتثبت ان ستة من التفسيرات هي خاطئة، وان تصورا او سببا واحدا هو الصائب.
وتجربة اكتوبر برأيي تنطوي على اهمية كبرى، انها تثبت بالملموس ما هو الطريق الخاطيء الذي لا يتوجب علينا اتباعه.
اقول هذا وانا مدمى القلب، فالبروليتاريا الروسية، بل شعوب الاتحاد السوفيتي، وبخاصة الشغيلة، تحملوا اعباء لا تقوى عليها الجبابرة، من دمار الحرب الاهلية، وخراب حربين عالميتينن وحصار، وسباق تسلح، واعباء اطعام حركات التحرر لبلد لا يقوى اقتصاده بالكاد على كفاية حاجات مجتمعه.
تقول لنا الثورة الروسية ما لا ينبغي عمله، وما لا ينبغي السير عليه. وقد دفعت روسيا ثمن ذلك بالدم والدموع.

VI


لقد اطلقت الرأسمالية، كتشكيلة عالمية، عدة ميول اجتماعية – فكرية، هي النزعة الفردية (الليبرالية)، النزعة الاجتماعية (الاشتراكية)، النزعة الدولتية (الفاشية والنازية).
وانتصرت كل نزعة سياسيا حيثما كان الخلل الذي ولدته الرأسمالية يفغر فاه في ذلك المجال المحدد. وتحولت هذه النزعات بانتصارها السياسي، الى دول ليبرالية، ودول اشتراكية ودول نازية، أي تحولت الى نظام فرعي في مضمار العالم الرأسمالي. ودخلت هذه النظم الفرعية في احتراب وتلاقح متبادل.
فالليبرالية تمجد الفرد المنتج (= الرأسمالي) والحريات المدنية، والنازية تمجد الأمة والدولة، والاشتراكية تمجد الجماعية، لكنها كلها انحبست في اطار دول قوميnation-state. وهذا امر طبيعي، لأن معمار العالم الرأسمالي، كما وصفه ماركس في مخططه الاخير لكتاب "رأس المال"، بأنه يتألف من اربعة عناصر:
1 – رأس المال
2 – الدولة
3 – السوق العالمية
4 – التجارة الدولية
لقد كتب ماركس باستفاضة عن العنصر الاول، ولم تتح له امه الطبيعة ان يبحث باسلوبه المستفيض، الموثق، العناصر الثلاثة الاخرى، رغم انه اشار اليها اشارات لا تخطئها العين، رغم انها اشارات متناثرة.
ترك ماركس ارثا ثوريا يقوم على:
1 – تركيب المناهج العلمية في اعلى نقطة من تطورها في عصره.
2 – نقد الرأسمالية وتحليلها وصولا الى تعيين تخومها، وامكانات تجاوزها.
لقد مرّ على انجازه قرن ونصف القرن وحصل ما يلي:
1 – ان الرأسمالية نفسها اكتسحت العالم (كما توقع لها ماركس) وصارت المحيط الذي توجد فيه جزر صغيرة من اقتصاد الكفاف، بعد ان كانت جزيرة وسط بحر متلاطم من الفلاحين والحرفيين.
2 – ان تطور الرأسمالية يتخذ اشكالا عديدة متنوعة يمكن تنميطها في ثلاثة انماط رئيسية تجريدية:
3 – أ – الرأسمالية الفردية.
3 – ب – رأسمالية الدولة.
3 – ج – الرأسمالية القرابية.
نشأ النمط الاول كلاسيكيا في بريطانيا (ولاحقا امريكيا)، ونشأ النمط الثاني كلاسيكيا في المانيا (ثم روسيا الثورية)، اما النمط الثالث فيترعرع امام انظارنا في دول عديدة (اندونيسيا، السعودية، من بين امثلة وفيرة). هناك هجائن بالطبع، او خلائط من هذه الانماط.
4 – لقد ظلت الرأسمالية نظاما قائما داخل الدولة القومية، ومتحققا خارجها (في السوق العالمي) عبر التجارة الدولية، وهي تجارة كان تدار بقوة السلاح (فتح اسواق اليابان عام 1802 على يد البوارج الاميركية، وكذلك الصين)، اما اليوم فانها تخرج من هذا الاطار لتتطابق او تقترب بالاحرى من النموذج النظري الذي ابتدعه ماركس، مع وجود تعديلات مستمرة على البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية.
5 - ان الرأسمالية كنمط انتاج، او كتشكيلة (سياسية، اقتصادية ثقافية، مجتمع مؤسسات).
هي ذات طابع مزدوج.
علّمنا ماركس ان عملية الانتاج هي عملية عمل، تنظيم للقوى الحية، حساب اقتصادي عقلاني، تفاعل مع الطبيعة، لانتاج الخيرات المادية التي لا تحرر من عالم الضرورة بدون وفرتها الغزيرة. ولكنها في الوقت نفسه عملية استغلال، نظام علاقات اجتماعية.
ومن الواضح وضوح النهار، ان عملية العمل، هذه لن تتوقف في أي تشكيلة ما بعد رأسمالية.
وما يصح من ازدواج على عملية العمل، يصح ايضا على بقية مكونات التشكيلة الرأسمالية: تقسيم السلطات، تجديد الشرعية بالاقتراع، حرية المعلومات، تعميم الثقافة (التعليم العام)، تعميم منجزات العلم، الحريات الفردية (حرية الضمير، المعتقد... الخ)، مقابل سطوة الشركات، الهيمنة على وسائل الاعلام، التعصب العرقي والديني والقومي، انفصال مؤسسات الدولة عن الرقابة، الخ... الخ.
6 – تعمل الرأسمالية في اطار معولم (كوني)، ولا تجوز المساواة بين الرأسمالية والعولمة ، فالعولمة، هي الاطار العام الذي يسمح لكل القوى والمؤسسات المتناقضة داخل الرأسمالية بالعمل والتحرك، على نطاق واسع. وهي ذاتها متناقضة، ومتصارعة. وهي تتحقق بفضل نظم الاتصال الكونية، وثورة المعلومات، وتداخل كل العمليات في حياة المجتمعات البشرية تداخلا لا فكاك منه.
ان نقد الرأسمالية شيء، ونقد العولمة شيء آخر. ان البعض من النقاد يشبه ذهنية اللوديت الذين ارادوا تحطيم الرأسمالية بتدمير الآلات الحديثة.