By عبدالله العلي - الاثنين ديسمبر 26, 2011 2:53 am
- الاثنين ديسمبر 26, 2011 2:53 am
#46737
إيديولوجية الاحتلال الأمريكي وهوية الانحطاط العراقي
إن تأمل تجارب التاريخ فيما يتعلق بمقدمات الاحتلال الخارجي للدول والأمم، يكشف عن أن الاحتلال الخارجي هو استمرار للاحتلال الداخلي، أو الوجه الآخر له ولكن بقوة خارجية. ولكل مرحلة تاريخية نمطها الخاص في الاحتلال وتبريره. بعبارة أخرى، إن الاحتلال الخارجي محكوم على الدوام بتلازم قوة الخارج وضعف الداخل. ولكل منهما مقدماته وشروطه. وعندما نطبق ذلك على حالة الاحتلال الأمريكي للعراق، فإننا نقف أمام واقع يشير إلى أن الاحتلال كان نتاجا لصعود النزعة الإمبراطورية الأمريكية وانهيار العراق الداخلي.
وإذا كان نمط الاحتلال الأمريكي العسكري المباشر للعراق لم يحصل على صبغة "شرعية"، كما كان الحال بالنسبة "لعاصفة الصحراء"، فان التبرير قد تغير وتبدل. بمعنى إننا نقف أمام تحول من "تحرير الكويت" إلى "تحرير العراق". مع أن التاريخ والمنطق يبرهنان على أن حقيقة الحرية هي فعل تلقائي محكوم بادراك الحق والفضيلة. وهو إدراك محدد بدوره بالإشكاليات التي يواجهها الفرد والمجتمع والدولة. بمعنى أن حقيقة الحرية لا تبتعد عن إدراك الضرورة لكنها لا تنصهر فيها بصورة تامة. وبقدر ما ينطبق ذلك على حرية الأفراد، فانه ينطبق أيضا على حرية الأمم والدول. وهي الحالة التي يواجهها العراق، بمعنى كيفية الرجوع إلى ذاته عبر كسر حلقات السلسلة الغريبة "للتحرير والاحتلال".
إذ يقف العراق أمام حلقات مفرغة يدور ضمنها، هي حلقة "تحريره" من السلطة الصدامية واحتلاله كله! وهي حلقات تكوّن سلسلة دوامة العنف واضمحلال البديل العقلاني. بحيث أدت إلى تصنيع هذه السلسلة الغريبة التي وجدت انعكاسها في مفارقة أن تصبح جمهورية العراق ديمقراطية عبيد!
لكنها حالة ليست غريبة عندما ننظر إليها ضمن سياق صعود الإمبراطوريات ومحاولاتها الجريئة في تقديم "بدائل" غريبة، لا يمكنها أن تتعدى بفعل "منطقها" الداخلي تكرار ما سبق وأن جرى مئات المرات. بمعنى أنها العملية التي تشير إلى أن حقيقة التاريخ منطقا، وحقيقة المنطق تاريخا. لكنها تصبح حقيقة فقط عندما يجري إدراكها والاستفادة منهما بالشكل الذي يجعل أفعال البشر مساع في طريق الحرية وبلوغ ملكوتها المدهش!
لكن تجارب التاريخ تبرهن أيضا على أن الإمبراطورية ليست عقلا، وبالتالي ليست منطقا. وأن صحوتها العقلية والمنطقية ملازمة لسقوطها. وهي فرضية مبرهن عليها، لكنها غير مقنعة بالنسبة للإمبراطورية، وذلك بسبب كون رؤيتها محكومة بالقوة وليس بالمنطق. وهي المفارقة التي تدفعها مع كل تهور في استعمال القوة إلى الانهيار الروحي والمعنوي. لهذا عادة ما يكون انهيار الإمبراطورية نتاجا لانتفاضات العبيد وتمردهم. وهي إحدى المفارقات الغريبة التي تنعكس فيها بصورة نموذجية استحالة توحيد التاريخ والمنطق في السلوك الإمبراطوري. والمقصود بذلك، أن مسار الإمبراطورية هو تمثل سياسي وعسكري واقتصادي وثقافي للقوة المادية والمعنوية للأمم. والإمبراطورية على الدوام صعود في القوة الجسدية والحماس المعنوي للأمم. وضمن هذا السياق ليست الإمبراطورية سوى التاريخ المجّسد في قوة منظمة لتنفيذ مشاريعها الخاصة. غير أن إشكالية هذه القضية تقوم في أن المشاريع الخاصة ليست عامة. من هنا عادة ما يعرج منطقها مع مرور الزمن ليتحول إلى مصلحة خالصة. عندها تصبح القوة هي معيار وأسلوب الحكم والتعامل مع الآخرين. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن العصر الحديث هو عصر القوميات، من هنا تقليص المدى الروحي والوجودي للإمبراطورية.
فالإمبراطوريات القديمة عادة ما كانت تستند إلى فكرة كونية ومركز موحد، بينما الحديثة لا يمكنها القيام بربط هذين المكونين في سلوكها العملي الفعلي، بسبب أولوية وجوهرية الفكرة القومية فيها. من هنا تحول النزعة الإمبراطورية إلى سلوك كولونيالي بحت، لا قيمة ولا اثر لمشاركة "الأطراف" إلا بالقدر الذي يجعل منها مصدرا للاستغلال والربح والسوق، في ظل ثنائية عميقة الجذور أشبه ما تكون في أبعادها النفسية والثقافية بعلاقة مالكي العبيد بالعبيد.
فقد كانت الإمبراطورية الرومانية ممثلة وصانعة فكرة المدينة الكونية والمواطنة. الأمر الذي جعل من لغتها اللاتينية ومدينتها روما مكانا للإبداع المشترك. وهو إبداع له حدوده لكنه احد النماذج المثلى للنزعة الإمبراطورية الرومانية القديمة، الأقرب إلى كوسموبوليتية أحرار وعبيد. وليس مصادفة فيما يبدو أن تكون الفاتيكان من حيث الرقعة الجغرافية الصغيرة والتمثيل الكوني (النصراني) بأبعادها العالمية (الكاثوليكية) تعويضا روحيا عن خسارة مادية! والشيء نفسه يمكن قوله عن الإمبراطورية الإسلامية، صانعة النموذج الأرقى للوحدة الكونية من خلال فكرة الأمة الواحدة والشريعة الواحدة، والمبنية على ثنائية المسلم وغير المسلم (ذمي وكافر). وهو نموذج إمبراطوري مبني من حيث الجوهر على وحدة متجانسة للكونية الثقافية، لكنها لم تتحرر من خلاف الديني والدنيوي. الأمر الذي جعل من مكة العباد والحج تعويضا روحيا عن دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة. أما الإمبراطوريات الحديثة، كما جسدتها التجربة السوفيتية، فإنها نموذج لجوهرية الدولة المركزية والعقيدة الكونية الصارمة، المبنية على ثنائية الشيوعي وغير الشيوعي. وهو تناقض صارخ أدى إلى اندثارها السريع. إنها لم تستطع أن تتفتح بمعايير الشيوعية الكونية، لأنها كانت قومية مبطنة، كما لم يكن بإمكانها جعل موسكو مدينة روحية عالمية لأنها كانت تشك في كل من سواها!
مما سبق، يتضح بان سقوط الإمبراطوريات القديمة كان محكوما بطبيعة التناقض القائم في تلك الثنائيات التي تحرك مغزل إبداعها الذاتي. وحولت هذه الحركة مع مرور الزمن، الخيوط الجميلة إلى عقد. بحيث أصبح لباسها مهزلة، وخيوطها سياطا. أما الحصيلة التاريخية للعقد الإمبراطورية في التاريخ، فإنها تكشف عن أن الإمبراطورية ليست أكثر من حلم طوباوي للبديل الشامل. وكل انغماس فيه هو حركة في مستنقع رملي. وهي الصورة الأدبية التي أكثر من يجسدها في العالم المعاصر السلوك الإمبراطوري للولايات المتحدة تجاه العراق قبل وبعد احتلاله.
فقد كانت خطة احتلال العراق تعكس الاتجاهية المتناقضة لصعود الإمبراطورية الأمريكية وسقوطها. وخصوصيتها بهذا الصدد تقوم في كونها نتاجا للأيديولوجية الراديكالية في صعودها إلى السلطة. فمن الناحية الزمنية هي جزء من الاستفراد الأمريكي المفاجئ بسبب انهيار المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفيتي بالأخص. وفيها يكمن سر صعود الراديكالية المحافظة. وليس مصادفة أن تظهر عام 1992 (إستراتيجية السيطرة والتحكم) التي وضعها فولفوفتس حسب طلب ديك تشيني، الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الدفاع. وتستند هذه الفكرة على أساس "المصالح الحيوية الأمريكية" المتعلقة بكل شيء وبالطاقة بشكل خاص (النفط)، بما في ذلك حق التدخل العسكري لضمانها. فقد كانت هذه الفكرة تحتوي على استعداد لقبول كل "الشعارات" الدعائية المحكومة بالعرض والطلب الأيديولوجي. من هنا انتفاء "الخطر الشيوعي" وظهور "الخطر الإسلامي" و"الإرهاب العالمي" و"أسلحة الدمار الشامل" وغيرها من الشعارات الممكنة. وذلك لان الغاية النهاية من وراء ذلك هي "عدم السماح بظهور منافس". مع ما ترتب عليه من سياسة تقليص دور الأمم المتحدة وإحلال الولايات المتحدة محلها بوصفها "القوة المنظمة للنظام العالمي". بحيث جعلت ريتشارد بيرل يصف مجلس الأمن بالفاشل الحقير. وان يكون فولفوفتس "الديمقراطي الامبريالي" منهمكا بتأسيس فكرة البحث عن عدو خارجي دائم كما كان يقول بها ليفي شتراوس، أو أن يطلق رامسفيلد لاحقا مختلف الأوصاف الشنيعة على أوربا وفرنسا بسبب معارضتهم للحرب في العراق.
وهي رؤية وضع أفكارها فولفوفتس من اجل "تغيير العالم حسب رؤية الولايات المتحدة". وتحول العراق إلى ميدان تطبيقها بسبب تحلله الداخلي وحالته البؤرية الممكنة في تنفيذ الأفكار الإستراتيجية الكبرى للإمبراطورية الأمريكية. وتراكم هذا التحول في مجرى عقد من الزمن (ما بين عاصفة الصحراء واحتلال بغداد عاد 2003). فقد وضع ريتشارد بيرل مع فييت وبورمسير عام 1996 وثيقة «A clean break» التي كانت ترمي إلى تأسيس فكرة "الهجوم النظيف" و"القفزة الذكية" السريعة من اجل احتلال العراق. وجرى تفعيل هذه الوثيقة في الرسالة التي كتبها 18 شخصية من المحافظين الجدد عام 1998 إلى كلينتون تتناول قضية الإطاحة بصدام. وفي عام 2000 تظهر وثيقة (إعادة بناء الدفاع الأمريكي «Rebuilding America’s defenses: strategies, forces and resources for a new century»، أي الصيغة المعبرة عن فكرة "القرن الأمريكي". وتتسم هذه الصيغة بقدر هائل من الزهو والإعجاب الذاتي المميزة لاستفراد الإمبراطوريات. وشأن كل فكرة من هذا القبيل لها جذورها فيما يسمى بنهاية التاريخ (الماضي) وبقاء (المستقبل الأمريكي). بمعنى إننا نقف أمام نفس الوهم الإمبراطوري بالعصمة الأبدية للحماقات التي يمكن اقترافها بدون حساب. ووجدت هذه الفكرة مصدر "اختبارها" بعد أحداث الحادي عشر من أيلول.
وشأن كل فكرة خاطئة من حيث المنطق وقابلة للتنفيذ بحكم القوة، فإنها عادة ما تصنع زوبعة العجاج العنيف التي عادة ما يختنق فيها الكبار ويبقى الصغار يتلاعبون بذراته المدهشة والمثيرة لحب الاختباء فيها. عندها أصبحت مهمة مهاجمة المثلث العراقي – السوري – الإيراني قابلة للتنفيذ. وأولويتها كانت تكمن بسبب عدائها التاريخي العميق "لإسرائيل". وهو ترابط محكوم بأصول المحافظين الجدد أكثر مما هو محكوم بفكرة المحافظين الجدد كما هي. مع أن الارتباط بينهما له أصوله وجذوره الخاصة. فالفكرة نفسها هي أيديولوجية راديكالية ومغلقة، بسبب تمثلها لرحيق التقاليد اليهودية (ليفي شتراوس). وشخصياتها التأسيسية الكبرى في السياسة الأمريكية الحالية وبالأخص في الحرب على العراق يهودية الأصل. ولا يمكن العثور على يهودي خال من الراديكالية والانغلاق. فوجودهما واحد. بمعنى أن اليهودي راديكالي ومغلق بالضرورة بسبب تقاليد التوراة والتلمود والغيتو القابع في النفس اليهودية ووعيها الذاتي. والتحرر منها ممكن فقط حال الارتقاء أو الرجوع إلى العبرانية الثقافية. بينما يشكل اغلب أيديولوجي المحافظين الجدد يهود الهجرة المتأخرة للولايات المتحدة، أي تلك المشحونة من حيث تربيتها وأصولها بتقاليد الراديكالية المنتفخة بالانتصار "الاشتراكي" والمتأزمة من انقلابه ضدها! من هنا قوة وعنفوان الراديكالية السياسية في ظل الدفاع عن فكرة محافظة. وهو تناقض عصي بمعايير التاريخ لكنه معقول بمعايير ونفسية الشتات والغيتو المميزة للتقاليد اليهودية الصهيونية. من هنا تلاقي "الحلم الأمريكي" التاريخي مع "الحلم اليهودي" اللاهوتي. وهو مزيج يصعب خلطه شأن النفط بالماء. من هنا حلم "الديمقراطية" و"المصالح الحيوية"، الدنيوية والتدين المتعصب، "حب السلام" والدعوة الدائمة للحرب أو استعمال القوة من اجل بلوغ الغاية. من هنا إرسال واحد وأربعين من المحافظين الجدد رسالة لبوش (بعد أحداث الحادي عشر من أيلول) يحثونه فيها على مهاجمة إيران وحزب الله وسوريا والعراق حتى في حال عدم وجود علاقة له بالقاعدة. بينما يجري صياغة مهمة الهجوم على العراق من جانب خمس وعشرين شخصية من ممثلي المحافظين الجدد (اغلبهم من أصول يهودية) من اجل صنع "تاريخ المستقبل". وبعدها تمتزج "الديمقراطية" بالنفط بطريقة تجعل من مساعي الاحتلال "تحريرا" ومن "التحرير" احتلالا "شرعيا". بحيث تفقد الكلمات معناها الأصلي. وهو بداية الانحطاط.
فالكلمة ليست رغبة بل تاريخ ومعنى. وحالما يجري التلاعب بها بطريقة مخالفة لأصول وجود الأشياء، فإنها تؤدي بالضرورة إلى اختلال الأوزان الذاتية وتخريف للوعي. وهو السبب الكامن وراء ظهور أربعة أصوات مختلفة في أنشودة الأناشيد الجيوسياسية "للقرن الأمريكي" في موقفها من العراق. الصوت الأول ويدعو إلى الإطاحة بصدام وبناء نظام ديمقراطي فيه لإعادة بناء المنطقة. والثاني يدعو إلى ما اسماه بفعل الدومينو في العالم العربي من خلال إحلال الديمقراطية في العراق، بمعنى تساقط الأنظمة فيه من خلال الهلع الذي يثيره احتلال العراق عبر "رسالة الكلمتين – أنت اللاحق!"، والثالث يدعو إلى أن تكون السيطرة على العراق من اجل جعل النفط سلطة، وليس طاقة. بمعنى استغلاله بطريقة قادرة على التحكم بآسيا وأوربا عبر وضع الأيدي الأمريكية على مفاتيح النفط. والصوت الرابع يتكلم عن "الرسالة الأمريكية" الكونية عبر تغيير العالم العربي والإسلامي بالقوة من اجل بناء الأنظمة الديمقراطية فيه. وقد بلور هذه الفكرة وليم كريستول في عبارته القائلة، بأن الرسالة الأمريكية ومهمتها تبدأ في بغداد لكنها لا تتوقف فيها. وأن الولايات المتحدة تقف على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، يبدو أنها لن تتوقف عند العراق. بل قد لا تقف عند حدود مستقبل الشرق الأوسط، وذلك لأن العصر القادم هو العصر الذي يرتبط بالدور الذي تنوي الولايات المتحدة لعبه في القرن الحادي والعشرين.
إننا نقف أمام حالة عادية لسقوط الإمبراطورية ونزوعها غير العقلاني. فمن الناحية التاريخية، تمثل الإمبراطورية الأمريكية آخر الإمبراطوريات. الأمر الذي يجعلها أسرع أفولا، ومن ثم أتعسها حظا! أما من الناحية الفعلية، فإنها اشد الإمبراطوريات جهلا، وأكثرها تعنتا، وأعمقها تناقضا، وأوسعها رياء، وأكثرها إيغالا في رمال الطوباوية النفعية!
أنها اشد الإمبراطوريات جهلا بسبب تجاهلها حتمية سقوط الإمبراطوريات والخراب الممكن بالنسبة للقوى الذاتية المتراكمة في مجرى صراع مرير مع النفس. فالإمبراطورية جهد وجهاد واجتهاد مادي ومعنوي هائل. وإذا كانت الإمبراطوريات القديمة تجري ضمن مسار "الغيب" و"المجهول" بسبب صعوبة تأمل المستقبل بمعاييره، فان العالم المعاصر يعطي للمستقبل بعد آنيا، أي يجعله جزء من تجربة المعاصرة. وهو امتياز نابع من قدرة التكنولوجيا الحديثة على تجاوز الخلاف الواقعي بين الزمان والمكان. أما نتيجة هذا الجهل فهو التعنت الفردي وتجاوز الحدود بطريقة يجري فيها انتهاك كل الأعراف والقيم التقاليد التي تدعو هي نفسها إليها. مما يوقعها في تناقضات عصية على الحل، وبالأخص بين ما تدعو إليه علنا وتعمله سرا. أما النتيجة فهي العيش حسب قواعد الرياء الشامل والنزعة الكلبية! وتتراكم هذه الحصيلة في طبيعة النزعة الأمريكية المتجمعة في انعزالها التاريخي السياسي وخروجها الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري والدعائي. بمعنى أن بروزها لا علاقة له بالروح وتقاليده الكونية الكبرى. وفي هذا يكمن السبب الذي جعل من المصلحة فكرتها العامة، ومن مركزها بورصة عالمية، ومن ذاتها المتبجحة مركزا للعالم مع انغلاق تام أمامه! وهي حالة لاحظها احد الأمريكيين بدقة في معرض حديثه عن العراق عندما كتب يقول "إن الولايات المتحدة ليس بإمكانها القيام بما كانت تقوم به روما – فكرة المواطنة. ففي الإمبراطورية الرومانية، كان كل من يخضع لسيطرتها يصبح مواطنا بالضرورة". بينما هو شيء اقرب إلى المستحيل بالنسبة للولايات المتحدة والعراقيين! ووضع هذه الفكرة في استنتاج ظاهري ولكنه معقول، يقول، ""نحن نريد أن نعطي لهم ثمار الحضارة وليس الحضارة بحد ذاتها. إذ يحرم عليهم ذلك"! وفيما لو جرى تطويع هذه الفكرة ضمن السياق السياسي، فإنها تعني، أن الولايات المتحدة تريد ديمقراطية عبيد! وهي مفارقة تفوق كل الاحتمالات الممكنة في يوطوبيا الإمبراطوريات القديمة. لكنها لا تفعل حالما ننظر إليها ضمن مسار التاريخ الفعلي سوى الإيغال في رمال الطوباوية النفعية. وعندما تصبح الطوباوية النفعية المخرج الوحيد للإمبراطورية، فان ذلك يعني بالضرورة بداية انهيارها المعنوي! كما نرى معالمها الجلية والمستترة في العراق.
فالتاريخ يشير إلى أن بداية انتفاضة العبيد هو بداية الانهيار المعنوي للإمبراطوريات. سبارتاكوس في روما والزنج في الخلافة. وهي مقارنات لها أمثلتها ونماذجها العديدة في جميع الإمبراطوريات القديمة. كما نعثر عليها في تجارب الماضي القريب والمعاصر. فقد كان تمرد الأفغان إنذارا بأفول القوة المعنوية للإمبراطورية السوفيتية. ويمكننا قول الشيء نفسه عن تمرد الحركة الصدرية الأول واستعدادها لخوض معارك المدن الكبرى، بوصفها بداية الأفول المعنوي للإمبراطورية الأمريكية. وسرّ الظاهرة يكمن ليس في قوة المتمردين، بل في تلك الجرأة التي تجعل من الأطراف والمهمشين والمتعبين قوة قادرة على مواجهة أقوى الدول وأشرسها. بحيث يجبر هذا الصراع الإمبراطورية على منازلة المستضعفين. وفيها ومن خلالها تتآكل وتتعرى القوة المعنوية للإمبراطورية. وذلك لأن كل انتصاراتها تصبح لا قيمة لها! ولا يزيدها التهليل والتبجيل في الدعاية والإعلام إلا إثارة الاستهزاء والتندر. وفي كل دمعة مذروفة على قتلى المتمردين يمكن سماع قهقهة الزمن وسخرية التاريخ!
إن تحويل تحرير العراق من الدكتاتورية الصدامية إلى احتلال باسم الديمقراطية لا يمكنه أن يؤدي في كلتا الحالتين إلا إلى تصنيع "جمهورية العبيد". وهي جمهورية ميتة. فكما أدى وهم الإمبراطورية الصدامي إلى عراك مع العراق وإنهاك قواه المعنوية بحيث جعله فريسة سهلة للاحتلال، فان محاولة تقديم الاحتلال تحريرا لا يصنع غير أوهام السيطرة والاستحكام. فقد أنهكت الدكتاتورية الصدامية القوى الحية في العراق، ودمرت قواه الاقتصادية والبشرية والروحية في حروب داخلية وخارجية متواصلة. ولم تكن هذه الحروب بدورها معزةلة عن التدخل غير المباشر للولايات المتحدة وصراع القوى الإقليمية والعالمية. لكنها تبقى في نهاية المطاف جزء من الصراع الداخلي وليس بالعكس.
فقد صنع احتلال العراق السريع والسهل أوهام القوة المفرطة للإمبراطورية الأمريكية، ومهّد لانقلاب شعارها المعلن إلى سياسة واقعية نفعية صرف. الأمر الذي أدى إلى بروز الوجه الحقيقي لما أسميته بالطوباوية النفعية! وهي أتعس أنواع الطوباوية وأرذل أنواع النفعية. وذلك لأنه يجبر الإمبراطورية على خداع النفس عبر تصوير الاحتلال تحريرا. وحالما يبلغ الخداع الذاتي ذروته، فان كل خطوة تخطوها القوة تصبح حركة في مياه آسنة أو مستنقع رملي. ولا تصنع غير الرغبة المتزايدة في وضع حد لها والخروج عليها. ويحاصر هذا الواقع الإمبراطورية الأمريكية في العراق. انه يحاصر نزعتها الإمبراطورية وإعلانها الديمقراطي، كما يحاصر وجودها كقوة محتلة وزعمها بوصفها قوة محررة. ولا تصنع هذه المحاصرة غير التناقض المستمر والتوغل فيه. بحيث تصبح كل حركة إشارة لتوسع المعارضة، وكل رجوع إلى البداية انتكاسة. إذ نعثر على هذه الصيغة أول الأمر في مشروع بيكر – هاملتون أو غيره من المشاريع. فهي مشاريع لا علاقة لها بالبدائل. وسبب ذلك يقوم في سعيها الأساسي للخروج من الأزمة عبر حل أزمة الولايات المتحدة.
لكنها حالة تشير بدورها إلى جذر المشكلة القائمة في تحول "التحرير" إلى احتلال. لكنها حالة ليست غريبة، بقدر ما أنها نموذجية. إذ لا نعثر على تجربة تاريخية تخرج عن إطار هذا "القانون الحديدي" الصارم. بمعنى إعلان الحرب والغزو والاحتلال باسم قيم مثلى وسامية، لكي تنتهي في نهاية المطاف إلى مجرد استيلاء ومصادرة. وإذا كان لهذه الظاهرة تفسيرها "المعقول" ضمن منظومة الفهم التاريخي المجرد، فان مجرياته الفعلية هي هي ذاتها. بمعنى معاناة البشر و"تلذذ" العبرة التاريخية بدرس جديد! وهو درس اقرب إلى البديهة، لكنه لم يتحول إلى حكمة بعد! وتعطي لنا هذه المفارقة إمكانية القول، بأن الحكمة لا يمكنها أن تكون بديهة عملية في السياسة، كما أن البديهة العقلية والمنطقية لا يمكنها أن تكون حكمة عملية في السياسة النفعية. لكنها مفارقة يمكنها شحذ الرؤية الواقعية والعقلانية والأخلاقية القائلة، بأن سرّ الاحتلال الخارجي يكمن في سير الانحلال الداخلي. وبالتالي، فأن الاحتلال الخارجي هو استمرار للاحتلال الداخلي بوصفه نتيجة ملازمة لسقوط منظومة الحقوق المدنية. وهو السبب الذي يكمن وراء سقوط الدول وبقاء الأمم. وقد جسّد تاريخ العراق الحديث هذه الحالة بطريقة اقرب ما تكون إلى النموذجية المدرسية. بمعنى أن الحالة التي بلغها التطور التاريخي الحديث وقدرته المستقلة على تحديد مواقف الدول مما جري بينهما بمعايير "القانون الدولي"، لم تنف إمكانية اختراقه السياسي، بما في ذلك عبر هيئة الأمم المتحدة، لكي يصبح احتلاله اقرب إلى "الشرعية" العلنية أو الصامتة. وهو تناقض عصي على التبرير، لكنه أصبح ممكنا بسبب طبيعة وحجم ومستوى الانتهاك المرير لمنظومة الحقوق المدنية في ظل التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية.
فمن الناحية المجردة، يمكننا القول، بأن كل تقدم في منظومة الحقوق بين الدول يجعل الاحتلال اشد تعقيدا وصعوبة. وذلك لأن تكامل منظومة الحقوق يجعل من انتهاكها عملية وخيمة النتائج وأكثر تكلفة وأشد صعوبة. لكن الواقع يبرهن لحد الآن على أن نفسية وذهنية وفكرة الاحتلال لم تلفظ أنفاسها الأخيرة. بمعنى أنها لم تتحول بعد إلى قطعة أثرية في متحف التاريخ السياسي والحقوقي الدولي. والسبب مقرون بثقل نفسية المصالح، وتقاليد القوة الغضبية، وجزئية الحقوق العامة، واختلاف القوانين الوطنية، وضعف تجانسها العالمي، وتباين التقاليد الثقافية. وهي مكونات هائلة التأثير لها تاريخها العريق في ميدان الروح والجسد الفردي الاجتماعي والقومي والدولتي. من هنا تباين تأثيرها في سلوك الدول، لكنها تتأزم في الأغلب مع صعود النفسية الراديكالية. وليس مصادفة أن يكون الاحتلال الأمريكي للعراق ملازما لذروة الصعود الراديكالي لفكرة المحافظين الجدد وذروة الانحطاط المعنو
إن تأمل تجارب التاريخ فيما يتعلق بمقدمات الاحتلال الخارجي للدول والأمم، يكشف عن أن الاحتلال الخارجي هو استمرار للاحتلال الداخلي، أو الوجه الآخر له ولكن بقوة خارجية. ولكل مرحلة تاريخية نمطها الخاص في الاحتلال وتبريره. بعبارة أخرى، إن الاحتلال الخارجي محكوم على الدوام بتلازم قوة الخارج وضعف الداخل. ولكل منهما مقدماته وشروطه. وعندما نطبق ذلك على حالة الاحتلال الأمريكي للعراق، فإننا نقف أمام واقع يشير إلى أن الاحتلال كان نتاجا لصعود النزعة الإمبراطورية الأمريكية وانهيار العراق الداخلي.
وإذا كان نمط الاحتلال الأمريكي العسكري المباشر للعراق لم يحصل على صبغة "شرعية"، كما كان الحال بالنسبة "لعاصفة الصحراء"، فان التبرير قد تغير وتبدل. بمعنى إننا نقف أمام تحول من "تحرير الكويت" إلى "تحرير العراق". مع أن التاريخ والمنطق يبرهنان على أن حقيقة الحرية هي فعل تلقائي محكوم بادراك الحق والفضيلة. وهو إدراك محدد بدوره بالإشكاليات التي يواجهها الفرد والمجتمع والدولة. بمعنى أن حقيقة الحرية لا تبتعد عن إدراك الضرورة لكنها لا تنصهر فيها بصورة تامة. وبقدر ما ينطبق ذلك على حرية الأفراد، فانه ينطبق أيضا على حرية الأمم والدول. وهي الحالة التي يواجهها العراق، بمعنى كيفية الرجوع إلى ذاته عبر كسر حلقات السلسلة الغريبة "للتحرير والاحتلال".
إذ يقف العراق أمام حلقات مفرغة يدور ضمنها، هي حلقة "تحريره" من السلطة الصدامية واحتلاله كله! وهي حلقات تكوّن سلسلة دوامة العنف واضمحلال البديل العقلاني. بحيث أدت إلى تصنيع هذه السلسلة الغريبة التي وجدت انعكاسها في مفارقة أن تصبح جمهورية العراق ديمقراطية عبيد!
لكنها حالة ليست غريبة عندما ننظر إليها ضمن سياق صعود الإمبراطوريات ومحاولاتها الجريئة في تقديم "بدائل" غريبة، لا يمكنها أن تتعدى بفعل "منطقها" الداخلي تكرار ما سبق وأن جرى مئات المرات. بمعنى أنها العملية التي تشير إلى أن حقيقة التاريخ منطقا، وحقيقة المنطق تاريخا. لكنها تصبح حقيقة فقط عندما يجري إدراكها والاستفادة منهما بالشكل الذي يجعل أفعال البشر مساع في طريق الحرية وبلوغ ملكوتها المدهش!
لكن تجارب التاريخ تبرهن أيضا على أن الإمبراطورية ليست عقلا، وبالتالي ليست منطقا. وأن صحوتها العقلية والمنطقية ملازمة لسقوطها. وهي فرضية مبرهن عليها، لكنها غير مقنعة بالنسبة للإمبراطورية، وذلك بسبب كون رؤيتها محكومة بالقوة وليس بالمنطق. وهي المفارقة التي تدفعها مع كل تهور في استعمال القوة إلى الانهيار الروحي والمعنوي. لهذا عادة ما يكون انهيار الإمبراطورية نتاجا لانتفاضات العبيد وتمردهم. وهي إحدى المفارقات الغريبة التي تنعكس فيها بصورة نموذجية استحالة توحيد التاريخ والمنطق في السلوك الإمبراطوري. والمقصود بذلك، أن مسار الإمبراطورية هو تمثل سياسي وعسكري واقتصادي وثقافي للقوة المادية والمعنوية للأمم. والإمبراطورية على الدوام صعود في القوة الجسدية والحماس المعنوي للأمم. وضمن هذا السياق ليست الإمبراطورية سوى التاريخ المجّسد في قوة منظمة لتنفيذ مشاريعها الخاصة. غير أن إشكالية هذه القضية تقوم في أن المشاريع الخاصة ليست عامة. من هنا عادة ما يعرج منطقها مع مرور الزمن ليتحول إلى مصلحة خالصة. عندها تصبح القوة هي معيار وأسلوب الحكم والتعامل مع الآخرين. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن العصر الحديث هو عصر القوميات، من هنا تقليص المدى الروحي والوجودي للإمبراطورية.
فالإمبراطوريات القديمة عادة ما كانت تستند إلى فكرة كونية ومركز موحد، بينما الحديثة لا يمكنها القيام بربط هذين المكونين في سلوكها العملي الفعلي، بسبب أولوية وجوهرية الفكرة القومية فيها. من هنا تحول النزعة الإمبراطورية إلى سلوك كولونيالي بحت، لا قيمة ولا اثر لمشاركة "الأطراف" إلا بالقدر الذي يجعل منها مصدرا للاستغلال والربح والسوق، في ظل ثنائية عميقة الجذور أشبه ما تكون في أبعادها النفسية والثقافية بعلاقة مالكي العبيد بالعبيد.
فقد كانت الإمبراطورية الرومانية ممثلة وصانعة فكرة المدينة الكونية والمواطنة. الأمر الذي جعل من لغتها اللاتينية ومدينتها روما مكانا للإبداع المشترك. وهو إبداع له حدوده لكنه احد النماذج المثلى للنزعة الإمبراطورية الرومانية القديمة، الأقرب إلى كوسموبوليتية أحرار وعبيد. وليس مصادفة فيما يبدو أن تكون الفاتيكان من حيث الرقعة الجغرافية الصغيرة والتمثيل الكوني (النصراني) بأبعادها العالمية (الكاثوليكية) تعويضا روحيا عن خسارة مادية! والشيء نفسه يمكن قوله عن الإمبراطورية الإسلامية، صانعة النموذج الأرقى للوحدة الكونية من خلال فكرة الأمة الواحدة والشريعة الواحدة، والمبنية على ثنائية المسلم وغير المسلم (ذمي وكافر). وهو نموذج إمبراطوري مبني من حيث الجوهر على وحدة متجانسة للكونية الثقافية، لكنها لم تتحرر من خلاف الديني والدنيوي. الأمر الذي جعل من مكة العباد والحج تعويضا روحيا عن دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة. أما الإمبراطوريات الحديثة، كما جسدتها التجربة السوفيتية، فإنها نموذج لجوهرية الدولة المركزية والعقيدة الكونية الصارمة، المبنية على ثنائية الشيوعي وغير الشيوعي. وهو تناقض صارخ أدى إلى اندثارها السريع. إنها لم تستطع أن تتفتح بمعايير الشيوعية الكونية، لأنها كانت قومية مبطنة، كما لم يكن بإمكانها جعل موسكو مدينة روحية عالمية لأنها كانت تشك في كل من سواها!
مما سبق، يتضح بان سقوط الإمبراطوريات القديمة كان محكوما بطبيعة التناقض القائم في تلك الثنائيات التي تحرك مغزل إبداعها الذاتي. وحولت هذه الحركة مع مرور الزمن، الخيوط الجميلة إلى عقد. بحيث أصبح لباسها مهزلة، وخيوطها سياطا. أما الحصيلة التاريخية للعقد الإمبراطورية في التاريخ، فإنها تكشف عن أن الإمبراطورية ليست أكثر من حلم طوباوي للبديل الشامل. وكل انغماس فيه هو حركة في مستنقع رملي. وهي الصورة الأدبية التي أكثر من يجسدها في العالم المعاصر السلوك الإمبراطوري للولايات المتحدة تجاه العراق قبل وبعد احتلاله.
فقد كانت خطة احتلال العراق تعكس الاتجاهية المتناقضة لصعود الإمبراطورية الأمريكية وسقوطها. وخصوصيتها بهذا الصدد تقوم في كونها نتاجا للأيديولوجية الراديكالية في صعودها إلى السلطة. فمن الناحية الزمنية هي جزء من الاستفراد الأمريكي المفاجئ بسبب انهيار المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفيتي بالأخص. وفيها يكمن سر صعود الراديكالية المحافظة. وليس مصادفة أن تظهر عام 1992 (إستراتيجية السيطرة والتحكم) التي وضعها فولفوفتس حسب طلب ديك تشيني، الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الدفاع. وتستند هذه الفكرة على أساس "المصالح الحيوية الأمريكية" المتعلقة بكل شيء وبالطاقة بشكل خاص (النفط)، بما في ذلك حق التدخل العسكري لضمانها. فقد كانت هذه الفكرة تحتوي على استعداد لقبول كل "الشعارات" الدعائية المحكومة بالعرض والطلب الأيديولوجي. من هنا انتفاء "الخطر الشيوعي" وظهور "الخطر الإسلامي" و"الإرهاب العالمي" و"أسلحة الدمار الشامل" وغيرها من الشعارات الممكنة. وذلك لان الغاية النهاية من وراء ذلك هي "عدم السماح بظهور منافس". مع ما ترتب عليه من سياسة تقليص دور الأمم المتحدة وإحلال الولايات المتحدة محلها بوصفها "القوة المنظمة للنظام العالمي". بحيث جعلت ريتشارد بيرل يصف مجلس الأمن بالفاشل الحقير. وان يكون فولفوفتس "الديمقراطي الامبريالي" منهمكا بتأسيس فكرة البحث عن عدو خارجي دائم كما كان يقول بها ليفي شتراوس، أو أن يطلق رامسفيلد لاحقا مختلف الأوصاف الشنيعة على أوربا وفرنسا بسبب معارضتهم للحرب في العراق.
وهي رؤية وضع أفكارها فولفوفتس من اجل "تغيير العالم حسب رؤية الولايات المتحدة". وتحول العراق إلى ميدان تطبيقها بسبب تحلله الداخلي وحالته البؤرية الممكنة في تنفيذ الأفكار الإستراتيجية الكبرى للإمبراطورية الأمريكية. وتراكم هذا التحول في مجرى عقد من الزمن (ما بين عاصفة الصحراء واحتلال بغداد عاد 2003). فقد وضع ريتشارد بيرل مع فييت وبورمسير عام 1996 وثيقة «A clean break» التي كانت ترمي إلى تأسيس فكرة "الهجوم النظيف" و"القفزة الذكية" السريعة من اجل احتلال العراق. وجرى تفعيل هذه الوثيقة في الرسالة التي كتبها 18 شخصية من المحافظين الجدد عام 1998 إلى كلينتون تتناول قضية الإطاحة بصدام. وفي عام 2000 تظهر وثيقة (إعادة بناء الدفاع الأمريكي «Rebuilding America’s defenses: strategies, forces and resources for a new century»، أي الصيغة المعبرة عن فكرة "القرن الأمريكي". وتتسم هذه الصيغة بقدر هائل من الزهو والإعجاب الذاتي المميزة لاستفراد الإمبراطوريات. وشأن كل فكرة من هذا القبيل لها جذورها فيما يسمى بنهاية التاريخ (الماضي) وبقاء (المستقبل الأمريكي). بمعنى إننا نقف أمام نفس الوهم الإمبراطوري بالعصمة الأبدية للحماقات التي يمكن اقترافها بدون حساب. ووجدت هذه الفكرة مصدر "اختبارها" بعد أحداث الحادي عشر من أيلول.
وشأن كل فكرة خاطئة من حيث المنطق وقابلة للتنفيذ بحكم القوة، فإنها عادة ما تصنع زوبعة العجاج العنيف التي عادة ما يختنق فيها الكبار ويبقى الصغار يتلاعبون بذراته المدهشة والمثيرة لحب الاختباء فيها. عندها أصبحت مهمة مهاجمة المثلث العراقي – السوري – الإيراني قابلة للتنفيذ. وأولويتها كانت تكمن بسبب عدائها التاريخي العميق "لإسرائيل". وهو ترابط محكوم بأصول المحافظين الجدد أكثر مما هو محكوم بفكرة المحافظين الجدد كما هي. مع أن الارتباط بينهما له أصوله وجذوره الخاصة. فالفكرة نفسها هي أيديولوجية راديكالية ومغلقة، بسبب تمثلها لرحيق التقاليد اليهودية (ليفي شتراوس). وشخصياتها التأسيسية الكبرى في السياسة الأمريكية الحالية وبالأخص في الحرب على العراق يهودية الأصل. ولا يمكن العثور على يهودي خال من الراديكالية والانغلاق. فوجودهما واحد. بمعنى أن اليهودي راديكالي ومغلق بالضرورة بسبب تقاليد التوراة والتلمود والغيتو القابع في النفس اليهودية ووعيها الذاتي. والتحرر منها ممكن فقط حال الارتقاء أو الرجوع إلى العبرانية الثقافية. بينما يشكل اغلب أيديولوجي المحافظين الجدد يهود الهجرة المتأخرة للولايات المتحدة، أي تلك المشحونة من حيث تربيتها وأصولها بتقاليد الراديكالية المنتفخة بالانتصار "الاشتراكي" والمتأزمة من انقلابه ضدها! من هنا قوة وعنفوان الراديكالية السياسية في ظل الدفاع عن فكرة محافظة. وهو تناقض عصي بمعايير التاريخ لكنه معقول بمعايير ونفسية الشتات والغيتو المميزة للتقاليد اليهودية الصهيونية. من هنا تلاقي "الحلم الأمريكي" التاريخي مع "الحلم اليهودي" اللاهوتي. وهو مزيج يصعب خلطه شأن النفط بالماء. من هنا حلم "الديمقراطية" و"المصالح الحيوية"، الدنيوية والتدين المتعصب، "حب السلام" والدعوة الدائمة للحرب أو استعمال القوة من اجل بلوغ الغاية. من هنا إرسال واحد وأربعين من المحافظين الجدد رسالة لبوش (بعد أحداث الحادي عشر من أيلول) يحثونه فيها على مهاجمة إيران وحزب الله وسوريا والعراق حتى في حال عدم وجود علاقة له بالقاعدة. بينما يجري صياغة مهمة الهجوم على العراق من جانب خمس وعشرين شخصية من ممثلي المحافظين الجدد (اغلبهم من أصول يهودية) من اجل صنع "تاريخ المستقبل". وبعدها تمتزج "الديمقراطية" بالنفط بطريقة تجعل من مساعي الاحتلال "تحريرا" ومن "التحرير" احتلالا "شرعيا". بحيث تفقد الكلمات معناها الأصلي. وهو بداية الانحطاط.
فالكلمة ليست رغبة بل تاريخ ومعنى. وحالما يجري التلاعب بها بطريقة مخالفة لأصول وجود الأشياء، فإنها تؤدي بالضرورة إلى اختلال الأوزان الذاتية وتخريف للوعي. وهو السبب الكامن وراء ظهور أربعة أصوات مختلفة في أنشودة الأناشيد الجيوسياسية "للقرن الأمريكي" في موقفها من العراق. الصوت الأول ويدعو إلى الإطاحة بصدام وبناء نظام ديمقراطي فيه لإعادة بناء المنطقة. والثاني يدعو إلى ما اسماه بفعل الدومينو في العالم العربي من خلال إحلال الديمقراطية في العراق، بمعنى تساقط الأنظمة فيه من خلال الهلع الذي يثيره احتلال العراق عبر "رسالة الكلمتين – أنت اللاحق!"، والثالث يدعو إلى أن تكون السيطرة على العراق من اجل جعل النفط سلطة، وليس طاقة. بمعنى استغلاله بطريقة قادرة على التحكم بآسيا وأوربا عبر وضع الأيدي الأمريكية على مفاتيح النفط. والصوت الرابع يتكلم عن "الرسالة الأمريكية" الكونية عبر تغيير العالم العربي والإسلامي بالقوة من اجل بناء الأنظمة الديمقراطية فيه. وقد بلور هذه الفكرة وليم كريستول في عبارته القائلة، بأن الرسالة الأمريكية ومهمتها تبدأ في بغداد لكنها لا تتوقف فيها. وأن الولايات المتحدة تقف على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، يبدو أنها لن تتوقف عند العراق. بل قد لا تقف عند حدود مستقبل الشرق الأوسط، وذلك لأن العصر القادم هو العصر الذي يرتبط بالدور الذي تنوي الولايات المتحدة لعبه في القرن الحادي والعشرين.
إننا نقف أمام حالة عادية لسقوط الإمبراطورية ونزوعها غير العقلاني. فمن الناحية التاريخية، تمثل الإمبراطورية الأمريكية آخر الإمبراطوريات. الأمر الذي يجعلها أسرع أفولا، ومن ثم أتعسها حظا! أما من الناحية الفعلية، فإنها اشد الإمبراطوريات جهلا، وأكثرها تعنتا، وأعمقها تناقضا، وأوسعها رياء، وأكثرها إيغالا في رمال الطوباوية النفعية!
أنها اشد الإمبراطوريات جهلا بسبب تجاهلها حتمية سقوط الإمبراطوريات والخراب الممكن بالنسبة للقوى الذاتية المتراكمة في مجرى صراع مرير مع النفس. فالإمبراطورية جهد وجهاد واجتهاد مادي ومعنوي هائل. وإذا كانت الإمبراطوريات القديمة تجري ضمن مسار "الغيب" و"المجهول" بسبب صعوبة تأمل المستقبل بمعاييره، فان العالم المعاصر يعطي للمستقبل بعد آنيا، أي يجعله جزء من تجربة المعاصرة. وهو امتياز نابع من قدرة التكنولوجيا الحديثة على تجاوز الخلاف الواقعي بين الزمان والمكان. أما نتيجة هذا الجهل فهو التعنت الفردي وتجاوز الحدود بطريقة يجري فيها انتهاك كل الأعراف والقيم التقاليد التي تدعو هي نفسها إليها. مما يوقعها في تناقضات عصية على الحل، وبالأخص بين ما تدعو إليه علنا وتعمله سرا. أما النتيجة فهي العيش حسب قواعد الرياء الشامل والنزعة الكلبية! وتتراكم هذه الحصيلة في طبيعة النزعة الأمريكية المتجمعة في انعزالها التاريخي السياسي وخروجها الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري والدعائي. بمعنى أن بروزها لا علاقة له بالروح وتقاليده الكونية الكبرى. وفي هذا يكمن السبب الذي جعل من المصلحة فكرتها العامة، ومن مركزها بورصة عالمية، ومن ذاتها المتبجحة مركزا للعالم مع انغلاق تام أمامه! وهي حالة لاحظها احد الأمريكيين بدقة في معرض حديثه عن العراق عندما كتب يقول "إن الولايات المتحدة ليس بإمكانها القيام بما كانت تقوم به روما – فكرة المواطنة. ففي الإمبراطورية الرومانية، كان كل من يخضع لسيطرتها يصبح مواطنا بالضرورة". بينما هو شيء اقرب إلى المستحيل بالنسبة للولايات المتحدة والعراقيين! ووضع هذه الفكرة في استنتاج ظاهري ولكنه معقول، يقول، ""نحن نريد أن نعطي لهم ثمار الحضارة وليس الحضارة بحد ذاتها. إذ يحرم عليهم ذلك"! وفيما لو جرى تطويع هذه الفكرة ضمن السياق السياسي، فإنها تعني، أن الولايات المتحدة تريد ديمقراطية عبيد! وهي مفارقة تفوق كل الاحتمالات الممكنة في يوطوبيا الإمبراطوريات القديمة. لكنها لا تفعل حالما ننظر إليها ضمن مسار التاريخ الفعلي سوى الإيغال في رمال الطوباوية النفعية. وعندما تصبح الطوباوية النفعية المخرج الوحيد للإمبراطورية، فان ذلك يعني بالضرورة بداية انهيارها المعنوي! كما نرى معالمها الجلية والمستترة في العراق.
فالتاريخ يشير إلى أن بداية انتفاضة العبيد هو بداية الانهيار المعنوي للإمبراطوريات. سبارتاكوس في روما والزنج في الخلافة. وهي مقارنات لها أمثلتها ونماذجها العديدة في جميع الإمبراطوريات القديمة. كما نعثر عليها في تجارب الماضي القريب والمعاصر. فقد كان تمرد الأفغان إنذارا بأفول القوة المعنوية للإمبراطورية السوفيتية. ويمكننا قول الشيء نفسه عن تمرد الحركة الصدرية الأول واستعدادها لخوض معارك المدن الكبرى، بوصفها بداية الأفول المعنوي للإمبراطورية الأمريكية. وسرّ الظاهرة يكمن ليس في قوة المتمردين، بل في تلك الجرأة التي تجعل من الأطراف والمهمشين والمتعبين قوة قادرة على مواجهة أقوى الدول وأشرسها. بحيث يجبر هذا الصراع الإمبراطورية على منازلة المستضعفين. وفيها ومن خلالها تتآكل وتتعرى القوة المعنوية للإمبراطورية. وذلك لأن كل انتصاراتها تصبح لا قيمة لها! ولا يزيدها التهليل والتبجيل في الدعاية والإعلام إلا إثارة الاستهزاء والتندر. وفي كل دمعة مذروفة على قتلى المتمردين يمكن سماع قهقهة الزمن وسخرية التاريخ!
إن تحويل تحرير العراق من الدكتاتورية الصدامية إلى احتلال باسم الديمقراطية لا يمكنه أن يؤدي في كلتا الحالتين إلا إلى تصنيع "جمهورية العبيد". وهي جمهورية ميتة. فكما أدى وهم الإمبراطورية الصدامي إلى عراك مع العراق وإنهاك قواه المعنوية بحيث جعله فريسة سهلة للاحتلال، فان محاولة تقديم الاحتلال تحريرا لا يصنع غير أوهام السيطرة والاستحكام. فقد أنهكت الدكتاتورية الصدامية القوى الحية في العراق، ودمرت قواه الاقتصادية والبشرية والروحية في حروب داخلية وخارجية متواصلة. ولم تكن هذه الحروب بدورها معزةلة عن التدخل غير المباشر للولايات المتحدة وصراع القوى الإقليمية والعالمية. لكنها تبقى في نهاية المطاف جزء من الصراع الداخلي وليس بالعكس.
فقد صنع احتلال العراق السريع والسهل أوهام القوة المفرطة للإمبراطورية الأمريكية، ومهّد لانقلاب شعارها المعلن إلى سياسة واقعية نفعية صرف. الأمر الذي أدى إلى بروز الوجه الحقيقي لما أسميته بالطوباوية النفعية! وهي أتعس أنواع الطوباوية وأرذل أنواع النفعية. وذلك لأنه يجبر الإمبراطورية على خداع النفس عبر تصوير الاحتلال تحريرا. وحالما يبلغ الخداع الذاتي ذروته، فان كل خطوة تخطوها القوة تصبح حركة في مياه آسنة أو مستنقع رملي. ولا تصنع غير الرغبة المتزايدة في وضع حد لها والخروج عليها. ويحاصر هذا الواقع الإمبراطورية الأمريكية في العراق. انه يحاصر نزعتها الإمبراطورية وإعلانها الديمقراطي، كما يحاصر وجودها كقوة محتلة وزعمها بوصفها قوة محررة. ولا تصنع هذه المحاصرة غير التناقض المستمر والتوغل فيه. بحيث تصبح كل حركة إشارة لتوسع المعارضة، وكل رجوع إلى البداية انتكاسة. إذ نعثر على هذه الصيغة أول الأمر في مشروع بيكر – هاملتون أو غيره من المشاريع. فهي مشاريع لا علاقة لها بالبدائل. وسبب ذلك يقوم في سعيها الأساسي للخروج من الأزمة عبر حل أزمة الولايات المتحدة.
لكنها حالة تشير بدورها إلى جذر المشكلة القائمة في تحول "التحرير" إلى احتلال. لكنها حالة ليست غريبة، بقدر ما أنها نموذجية. إذ لا نعثر على تجربة تاريخية تخرج عن إطار هذا "القانون الحديدي" الصارم. بمعنى إعلان الحرب والغزو والاحتلال باسم قيم مثلى وسامية، لكي تنتهي في نهاية المطاف إلى مجرد استيلاء ومصادرة. وإذا كان لهذه الظاهرة تفسيرها "المعقول" ضمن منظومة الفهم التاريخي المجرد، فان مجرياته الفعلية هي هي ذاتها. بمعنى معاناة البشر و"تلذذ" العبرة التاريخية بدرس جديد! وهو درس اقرب إلى البديهة، لكنه لم يتحول إلى حكمة بعد! وتعطي لنا هذه المفارقة إمكانية القول، بأن الحكمة لا يمكنها أن تكون بديهة عملية في السياسة، كما أن البديهة العقلية والمنطقية لا يمكنها أن تكون حكمة عملية في السياسة النفعية. لكنها مفارقة يمكنها شحذ الرؤية الواقعية والعقلانية والأخلاقية القائلة، بأن سرّ الاحتلال الخارجي يكمن في سير الانحلال الداخلي. وبالتالي، فأن الاحتلال الخارجي هو استمرار للاحتلال الداخلي بوصفه نتيجة ملازمة لسقوط منظومة الحقوق المدنية. وهو السبب الذي يكمن وراء سقوط الدول وبقاء الأمم. وقد جسّد تاريخ العراق الحديث هذه الحالة بطريقة اقرب ما تكون إلى النموذجية المدرسية. بمعنى أن الحالة التي بلغها التطور التاريخي الحديث وقدرته المستقلة على تحديد مواقف الدول مما جري بينهما بمعايير "القانون الدولي"، لم تنف إمكانية اختراقه السياسي، بما في ذلك عبر هيئة الأمم المتحدة، لكي يصبح احتلاله اقرب إلى "الشرعية" العلنية أو الصامتة. وهو تناقض عصي على التبرير، لكنه أصبح ممكنا بسبب طبيعة وحجم ومستوى الانتهاك المرير لمنظومة الحقوق المدنية في ظل التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية.
فمن الناحية المجردة، يمكننا القول، بأن كل تقدم في منظومة الحقوق بين الدول يجعل الاحتلال اشد تعقيدا وصعوبة. وذلك لأن تكامل منظومة الحقوق يجعل من انتهاكها عملية وخيمة النتائج وأكثر تكلفة وأشد صعوبة. لكن الواقع يبرهن لحد الآن على أن نفسية وذهنية وفكرة الاحتلال لم تلفظ أنفاسها الأخيرة. بمعنى أنها لم تتحول بعد إلى قطعة أثرية في متحف التاريخ السياسي والحقوقي الدولي. والسبب مقرون بثقل نفسية المصالح، وتقاليد القوة الغضبية، وجزئية الحقوق العامة، واختلاف القوانين الوطنية، وضعف تجانسها العالمي، وتباين التقاليد الثقافية. وهي مكونات هائلة التأثير لها تاريخها العريق في ميدان الروح والجسد الفردي الاجتماعي والقومي والدولتي. من هنا تباين تأثيرها في سلوك الدول، لكنها تتأزم في الأغلب مع صعود النفسية الراديكالية. وليس مصادفة أن يكون الاحتلال الأمريكي للعراق ملازما لذروة الصعود الراديكالي لفكرة المحافظين الجدد وذروة الانحطاط المعنو