صفحة 1 من 1

دبلوماسية التخويف

مرسل: الاثنين ديسمبر 26, 2011 2:58 am
بواسطة الوليد المواش 381
..دبلوماسية التخويف!
اليوم السابع – سبت، ٢٤ ديسمبر ٢٠١١....
إرسال بريد إلكترونيطباعة......اعتدنا أن نخوّف أطفالنا بنماذج متوارثة مثل «أبورجل مسلوخة» و«الغول» و«العفريت».. إلخ، والهدف البرىء من ذلك كان – ولا يزال – «تربوياً» فى الغالب الأعم، فلكى نجبر الطفل على اتباع سلوك معين أو الامتناع عنه، نستغل ونكرس غريزة الخوف من المجهول، بأن نجعل هذا المجهول معلومًا بشعًا أو رهيبًا، ولا شك فى نجاح هذا الأسلوب فى تحقيق الهدف منه، وإن كنت لا أريد أن أتحدث الآن عن آثاره السلبية تربويًا ونفسيًا.. بل وسياسيًا!

إن ما أريد تناوله هو التوسع فى هذا الاستخدام البدائى على المستوى الدولى فى ظل ممارسات العولمة، فمن الثابت مثلاً أن بعض الدوائر المسيطرة فى الفكر الأمريكى المعاصر قد نجحت فى خلق نماذج «أبورجل مسلوخة» لتخويف المجتمع الأمريكى نفسه وتبرير إجراءات تعسفية داخلية وخارجية، وكان من ذلك تمرير قانون الوطنية «Patriot Act» الذى عصف بالحريات المدنية والكفالات القانونية لحقوق المواطنين، والذى اعتبره، حتى بعض المعلقين داخل أمريكا، أنه انقلاب أبيض على الدستور الأمريكى، وأدى إلى اعتقالات وعمليات مراقبة وتفتيش خارج الضمانات والكفالات القانونية، وبشكل لم تعد تجرؤ عليه بعض ديكتاتوريات العالم الثالث على حد وصف هؤلاء المعلقين.

ولست فى وارد سرد الحالات التى تعرض فيها مواطنون أمريكيون للقبض التعسفى، أو لإجراءات تحقيق شابتها عورات عديدة، فذلك منشور ومعلوم لدى الكل، إلا أن ما يثير التأمل هنا هو كيفية استيعاب المجتمع الأمريكى لهذه الإجراءات التعسفية؟

هناك من يرى أن المسألة ليست جديدة على المجتمع الأمريكى، وأنه رغم مظاهر الحرية والديمقراطية، فإن السيطرة الفعلية على هذا المجتمع هى لطبقة مجمع المال والسلاح، ويؤسس هؤلاء نظريتهم على أساس النظر للتاريخ الأمريكى نفسه، فهذه الدولة التى سوّغت لنفسها ابتلاع شمال المكسيك، واستعباد الزنوج حتى ستينيات القرن الماضى، وشن الحروب فى أرجاء المعمورة الأربعة.. هذه الدولة، أو بالأحرى القوى المسيطرة فيها، لا تستطيع الاستمرار دون التلويح بعفريت ما أو بغول معين، ولقد توافر ذلك أثناء الحرب الباردة من خلال العفريت الشيوعى، ولم تكن المكارثية سوى قمة جبل الثلج فى هذا الإطار، فباسم محاربة الخطر الشيوعى نشطت أجهزة الأمن ومؤسسات الدعاية السوداء داخل وخارج أمريكا، بدءًا من تلويث سمعة بعض الأفراد إلى الاغتيالات والانقلابات العسكرية.. يقول أصحاب هذه النظرية إن التاريخ الأمريكى قد اعتمد سياسة نشر الرعب سواء بطرق سلمية أو عسكرية.

وهناك نظرية أخرى ترى أن هذه الظاهرة قد بدأت فى 11 سبتمبر 2001، حين انقضت الطائرات على مبانى مركز التجارة العالمى فى نيويورك، ومبنى البنتاجون فى واشنطون، حيث لم يعد أمام صانع القرار الأمريكى سوى اعتماد سياسة الإجهاض المبكر حتى يحمى أرض أمريكا بنقل الحرب ضد الإرهاب إلى مزارع الإرهاب، وأصبح من اليسير على المحافظين الجدد أن يبرروا بعض إجراءات التأمين الداخلى مهما خالفت القواعد الدستورية والاتفاقية التى عاش وتمتع بها المواطن الأمريكى، على أساس أن ذلك ثمن هين مقابل توفير أمن المواطن.

والواقع أن إشكالية الأمن السياسى للدولة فى علاقته بأمن المواطن وحقوقه هى مسألة شائكة وتتطلب مقالاً منفصلاً، وإن كانت تدخل فى صلب موضوع هذا المقال، إلا أنه يمكن القول لأغراض الاختصار إن الميزان الدقيق لهذه الإشكالية يتمثل فى الضمانات القانونية والشفافية والمحاسبية، وإلا عصف الأمن السياسى للدولة بأمن وحقوق المواطن.

وربما تستمد المدرسة الأخيرة من الفكر قوتها من حقيقة أن «أبورجل مسلوخة» ليس مجرد فلكلورًا شعبيًا أو أسطورة محكية، وإنما ظاهرة كانت لها آثارها الواضحة للعيان فى بقايا مبانى مركز التجارة الدولية، أو فى مناطق متعددة للعالم، إن اسم العفريت معروف وهو «الإرهاب»، بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر حول التعريف.

وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع الآراء السابقة، فهى كلها تدور فى إطار تطبيقات نظريات التخويف فى داخل المجتمع الأمريكى، وهى مسألة لأهل هذا البلد فهم أدرى بشعابها، ولكن ما يهمنا هنا هو امتداد آثار هذه النظريات إلى العلاقات الدولية.


من الثابت أن العديد من الكتاب والفقهاء فى الغرب قد وجدوا مبررات عدة للتدخل فى الشؤون الداخلية للدول وصل إلى أقصاه فى شكل الظاهرة الاستعمارية بحجة التمدين ورفع شأن الدول التى وقعت تحت نير الاستعمار، وأخفى هذا التدخل أبشع أنواع الاستغلال والاستعباد تحت اسم الحضارة، لقد كان نوعًا من فرض وصاية مباشرة على شعوب بأكملها، بحجة أن هذه الشعوب قاصرة عن إدراك مصالحها، وخلف هذا الستار المخملى اغتصبت هذه الشعوب وانتهبت ثرواتها، ثم جاءت فترة الحرب الباردة، وأصبح للتدخل ستارًا آخر هو حماية الشعوب من استبداد الشيوعية، وهو تاريخ آخر أسود لتلك النظريات التى تفترض بشكل عنصرى وصاية شعب أو فكر على شعوب أخرى، وتطبيقًا لهذه النظريات قامت الأحلاف ودبرت الانقلابات والاغتيالات، ودعمت الديكتاتوريات، بل وعمقت النظريات الدينية المتطرفة كوسيلة لمواجهة «بعبع» الشيوعية الملحدة، وهى قصة تستحق أن تروى بتفاصيلها، إلا أن هذا ليس محلها.

...