- الاثنين ديسمبر 26, 2011 5:54 am
#46758
المقدمة:
تمثل هذه الدراسة محاولة متواضعة في تلمّس الإسهامات العلمية للماوردي(1) التي أثْرت الفكر السياسي الإسلامي في معظم الفترات التاريخية التالية لعصره، وذلك عبر تناول مؤلفاته التي صاغها في هذا الشأن، بإشارة خاصة إلى كتاب الأحكام السلطانية التي تشكِّل بدرجة كبيرة النظرية السياسية للدولة الإسلامية، من حيث مناقشة الأبعاد والظروف التاريخية التي أحاطت بالماوردي وتبيّن مدى أثرها في تشكيل اتجاهاته والوقوف على أوجه استجابة أفكاره لمعطيات تلك الظروف التي ظللتها أوضاعاً سياسياً معقّدة تحتاج لأفكار الماوردي لتفكيك تعقيداتها والتوفيق بين تناقضاتهـا.
لقد عاصر الماوردي الخلافة العباسية وهي في أضعف أحوالها من حيث تحكم الأمراء البويهيين في أمورها فضلاً عن تطلّع السلاجقة للاستحواذ على سلطانها ليظفروا بقدر من التأييد والقبول في بلدان العالم الإسلامي، وفي ظل هذه التقاطعات السياسية والتي أصبح بموجبها الخلفاء العباسيون دمية في أيدي الأمراء البويهيين احتفظ العلاَّمة الماوردي بعلاقات طيبة مع الخلفاء العباسيين (القادر بالله، القائم بأمر الله) ومع الأمراء البويهيين (جلال الدولة) في آنٍ واحدٍ، فكان كلاهما: العباسيون والبويهيون- يعتبرون الماوردي صديقهم الحميم، فكانوا يصغون لحديثه ويجلّون آراءه مما أهّله ليكون خير وسيط في إزالة التوتر الذي ينشأ في أحيان كثيرة بين الأمراء البويهيين والخلفاء العباسيين، فأسهمت تلك الأدوار السياسية في شغل خُلده والاستحواذ على تفكيره فتركت بصماتها على أدبياته وإنتاجه العلمي بل وشكّلت رغبته في إبراز المسائل الأساسية المتصلة بالسلطان السياسي وما يتعلق به من تفريعات. ولعل ذلك الاهتمام الذي كان يضطرم في نفس الماوردي توافق مع ميول وتطلعات الخلفاء العباسيين (القائم بأمر الله) لإيجاد مخرج ومسوغ شرعي للتعامل مع إفرازات تلك التعقيدات السياسية، فأشار الخليفة العباسي "القائم بأمر الله" على الماوردي لتأليف كتاب يستجيب للمقتضيات السياسية، فصادف ذلك وقعاً عند الماوردي، مما أسهم في إبراز كتاب "الأحكام السلطانية" للماوردي الذي ظهر على مستوى من الابتكار والعمق تجلّت فيه أصالة النظر الشرعي والعقلي، مما يقف شاهداً على ثقافة الماوردي الفقهية الواسعة التي استوعبت التجارب السياسية الإسلامية التاريخية وأخضعتها للنظر العقلي الدقيق، فاستطاع الماوردي بهذه القراءة الشرعية الفقهية والتاريخية أن يصيغ مبادئاً وأسساً وأحكاماً سلطانية تحقق مقاصد الشرع وتكفل مصالح الأمة.
ولمعرفة الظروف التي أحاطت بالماوردي والتي تركت بصماتها على عطائه العلمي اهتممت بقراءة كتب التراجم الإسلامية ومؤلفات المعاصرين للماوردي وبصفة خاصة الخطيب البغدادي الذي كان له شرف معاصرة الماوردي والتلقّي منه والصلاة على جثمانه حين أدركته المنية حيث تمثل إفاداتهم أهمية كبيرة في تناول ومناقشة أدبيات الماوردي. لا تطمع هذه الدراسة في تقويم أفكار الماوردي التي بثها في مؤلفاته بقدر ما تقتصر على تلمّس جانباً من المفاهيم المتعلقة بأدبياته. بيد أن هذه الدراسة تلفت الانتباه إلى ضرورة قراءة أدبيات الماوردي بمنظور عصري والتي ابتدرها كثير من الفقهاء لا سيما الشيزري وابن خلدون.
أتمنى أن تدفع هذه الدراسة أقلام مفكرين ثقات لقراءات جديدة لأدبيات الماوردي تُعلّي مقاصد الشرع وتحقق مصالح العبـاد.
والله من وراء القصد،،
مسار حياة الماوردي:
يُعد الماوردي من أبرز أعلام الفكر السياسي الإسلامي، وفقيه حافظ من أكبر فقهاء الشافعية، ويُعد أقضى قضاة عصره من العلماء الباحثين ومن أبرز رجال السياسة في الدولة العباسية، ويعتبر أديب متفنن ناضج الفكر واضح الأسلوب، ومن أصحاب التصانيف الكثيرة النافعة حيث ورث المسلمين كثيراً من تأليفه الممتاز في فروع الثقافة الإسلامية. وقد وُلد بالبصرة وانتقل إلى بغداد وتولّى القضاء في بلدان كثيرة حيث أصبح أقضى القضاة في أيام القائم بأمر الله العباسي (422هـ - 467هـ) وكان يميل إلى مذهب الاعتدال، وكانت له المكانة الرفيعة عند الخلفاء وربما توسط بينهم وبين الملوك وكبار الأمراء فيما يصلح به خللاً أو يزيل خلافـاً.(2)
لقد عاصر الماوردي الثقافة الإسلامية في أزهى عصورها حين بلغت الدولة العباسية درجة من الرقي العلمي، وظهر فيها كثير من العلماء البارعين الذين جمعوا ثمار الثقافات المختلفة ومزجوا بين الثقافة الإسلامية وثقافات الأمم القديمة. وقد أخذ الماوردي الفقه عن أبي القاسم الصّميري ثم عن الشيخ أبي حامد الأسفرايني ببغداد، وقد سكن بغداد في درب الزعفران وحدث بها عن الحسن بن علي بن محمد الجبلي صاحب أبي حنيفة وعن محمد بن عدي بن زخر المنقدي ومحمد بن المعلى الأزدي وجعفر بن أبي الفضل البغدادي(3). أما عن تلاميذ الماوردي فلم تذكر كتب التراجم من تلاميذه إلا أثنين أولهما وأشهرهما كبير المحدثين في زمانه خطيب بغداد صاحب التاريخ الكبير "أحمد بن علي بن ثابت (392هـ- 463هـ)، وثانيهما أبو العز أحمد بن عبيد الله بن كادش(4).
لقد ذكر الخطيب البغدادي في أول تاريخ بغداد عن الماوردي بقوله: كتب أخي إليَّ من البصرة وأنا ببغداد الأدبيات التالية:
طيب الهواء ببغداد يشوقني قدماً إليها وإن عاقت مقادير
فكيف صبري عنها الآن إذ جمعت طيب الهواء ممدور ومقدور
وقال أبو العز أحمد بن عبيد الله بن كادش: أنشدني أبو الحسن الماوردي، قال:
جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين
ويذكر أن أبا الحسن الماوردي لما خرج من بغداد راجعاً إلى البصرة، كان ينشد أبيات العباس – من الأحناف – التالية:
أقمنا كارهين لها فلما ألفناها خرجنا مكرهينا
وما حب البلاد بنا ولكن أمر العيش فرقة من هوينا
خرجت أقر ما كنت لعيني وخلفت الفؤاد بها رهينا
وإنما قال ذلك لأنه من أهل البصرة وما كان يؤثر مفارقتها فدخل بغداد كارهاً لها ثم طابت له بعد ذلك فنسي البصرة وأهلها فشق عليه فراقهـا(5).
الأدوار السياسية التي اضطلع بها الماوردي:
عاش الماوردي في العصر العباسي الثاني حيث عاصر الخلفاء العباسيين: القادر بالله (381-422هـ) والقائم بأمر الله. ومما يجدر ذكره أنّ العلوم ازدهرت في الدولة العباسية حيث كانت الدولة العباسية دولة كثيرة المحاسن جمة الفوائد وأسواق العلوم فيها رائجة وبضائع الآداب فيها رائعة وشعائر الدين فيها مقامة والخيرات فيها متدفقة والحريات مرعية ولم تزل آخذة في الرفعة إلى أن سامت السماء علواً وشرفاً وبقيت كذلك حتى كانت آخر أمرها فاضطربت واضمحل حالهـا(6).
عاصر الماوردي تسلط الأمراء البويهيين على الخلفاء العباسيين في العصر العباسي الثاني، وقد كان ملوك البويهيين هم الحكام الحقيقيين وكان الخليفة لا حول له ولا قوة مجرد من كل سلطة وليس له من الشئون غير المخصصات اليومية، فأصبح لسان حال الحاكم العباسي القائم بأمر الله يقول:
أليس من الغرائب أن مثلي يرى ما قل ممتنعاً عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً وما من ذاك شيء في يديه
وقد ظل البويهيون في الحكم زهاء قرن دون أن ينازعهم أي منافس النفوذ والسلطان. وقد ازدهرت العلوم والآداب في كنفهم. وليس أدل على كرم الأمراء البويهيين واهتمامهم بالعلوم والآداب من تألق طائفة من مشاهير الرجال في أيامهم أمثال المسعودي المؤرخ المعروف والفيلسوف أبو نصر الفارابي والشاعر الفذ أبو الطيب المتنبي وأبي الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني وأبو القاسم التنوخي والدينوري وكثير من العلماء الفلاسفة(7). وقد أختير الماوردي سفيراً بين رجالات الدولة في بغداد وبني بويه وكانت له منـزلة كريمة عند الخليفة العباسي "القادر بالله" وابنه "القائم بأمر الله" وعند آل بويه كذلك. ولما مات الخليفة العباسي "القادر بالله" (عام 422هـ) جلس على الخلافة ابنه "القائم بأمر الله" "أبو جعفر عبد الله" وجُددت له البيعة، وأرسل "القائم بأمر الله" قاضي القضاة الماوردي إلى الملك أبي كاليجار (في البصرة) ليأخذ عليه البيعة ويخطب له في بلاده فأجاب وبايع وخطب له في بغداد وأرسلت إليه هدايا جليلة وأموال كثيرة(8).
ولم تقتصر جهود الماوردي على إزالة التوترات التي تنشأ بين الخلفاء العباسيين والأمراء البويهيين فحسب بل أسهم أيضاً في إزالة التوترات التي نشأت في داخل الأسرة البويهية الحاكمة، ففي سنة 428هـ ترددت الرسل بين جلال الدولة وابن أخيه أبي كاليجار سلطان الدولة في الصلح والاتفاق وإزالة الخلاف، وكان رسل الصلح في ذلك أقضى القضاة أبا الحسن الماوردي وأبا عبد الله المردوستي وغيرهما فكللت جهودهم بالنجاح فتمكنوا من إبرام الصلح وإزالة التوتر في الأسرة البويهية الحاكمة(9).
لقد حفظ التاريخ للماوردي الكثير من المواقف المشرفة، ففي سنة 429 هـ عندما سأل جلال الدولة بن بويه الخليفة القائم بأمر الله ليخاطب بملك الملوك فامتنع الخليفة ثم أجاب إليه إذا أفتى الفقهاء بجوازه، فكتب يفتي الفقهاء في ذلك، فأفتى القاضي أبو الطيب الطبري والقاضي أبو عبد الله الصّميري والقاضي ابن البيضاوي وأبو القاسم الكرخي بجوازه وامتنع قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي وجرى بينه وبين من أفتى بجوازه مراجعات وخطب لجلال الدولة بملك الملوك، وكان الماوردي من أخص الناس بجلال الدولة وكان يتردد إلى دار المملكة كل يوم فلما أفتى بهذه الفتوة انقطع ولزم بيته خائفاً وأقام منقطعاً من شهر رمضان إلى يوم عيد النحر، فاستدعاه جلال الدولة فحضر خائفاً فأدخله وحده وقال له: قد علم كل واحد أنك من أكثر الفقهاء مالاً وجاهاً وقرباً منا وقد خالفتهم فيما خالف هواي ولم تفعل ذلك إلا لعدم المحاباة منك من العلم وجعلت جزاء ذلك إكرامك بأن أدخلتك إليَّ وحدك وجعلت أذن الحاضرين إليك ليتحققوا عودي ما تحب فشكر ودعـا له(10).
ومن صور توسط الماوردي بين الخلفاء العباسيين –القائم بأمر الله- والأمراء البويهيين –جلال الدولة- أنه في سنة 434هـ أفتتحت الجوالي في المحرم في بغداد فأخذ الملك جلال الدولة ما تحصل منها وكانت العادة أن يحمل ما يحصل منها إلى الخلفاء العباسيين لا تعارضهم فيه الملوك، فلما فعل جلال الدولة ذلك عظم الأمر فيه على القائم بأمر الله فأرسل قاضي القضاة الماوردي لإثنائه عن ذلك، فلم يصغ جلال الدولة لذلك، فجمع الخليفة العباسي الهاشميين بالدار وأرسل إلى القضاة بما عزم عليه وأظهر العزم على مفارقة بغداد بيد أن ذلك لم يتم وحدثت وحشية بين الجهتين(11). وقد عزرت تلك الجفوة عزم الخليفة العباسي في التحرر من حماية البويهيين الشيعة، وقد وضع القانوني الكبير الماوردي تلبية لرغبته بحثاً ضمنه أصول الحكم القويم(12)، بيد أن ذلك لم يفض إلى إصلاح الحال، ففكر الخليفة العباسي بالاستعانة بالسلاجقة للتخلص من البويهيين.
لقد استقر رأي الخليفة العباسي القائم بأمر الله على الاستنجاد بالسلاجقة فأرسل الماوردي في سنة 435هـ إلى سلطان السلاجقة السلطان "طغرلبك" فسار إليه وهو بجرجان وعاد الماوردي سنة 436هـ وأخبر الخليفة العباسي عن طاعة طغرلبك للخليفة وتعظيمه لأوامره(13).
أرسل طغرلبك رسولاً إلى الخليفة القائم بأمر الله يبالغ في إظهار الطاعة مما حدا بالخليفة بتوجيه الخطباء بالخطبة لطغرليك بجوامع بغداد فخطب له يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان سنة 447هـ، وأرسل طغرلبك يستأذن الخليفة في دخول بغداد فأذن له فدخل بغداد وضيّق على الملك الرحيم آخر ملوك بني بويه. ولما تمكّن طغرليك من بسط سلطانه على بغداد حصر سلطان الخليفة العباسي في الجانب الروحي وتنازل عن سلطاته، فيذكر ابن الأشيد أن الخليفة العباسي القائم بأمر الله جلس يوم السبت لخمس بقين من ذي الحجة -449هـ- جلوساً عاماً حضره عسكر السلطان وأعيان بغداد والخليفة على سرير عال وعليه بردة النبي (صلى الله عليه وسلم) وبيده القضيب الخيزران، وقبَّل السلطان الأرض وقبّل يده وأجلس على كرسي فقال الخليفة لرئيس الرؤساء قل له أن أمير المؤمنين شاكر لسعيك حامد لفعلك مستأنس بقربك وقد ولاّك جميع ما ولاّه الله من بلاده ... فاتق الله فيما ولاّك واعرف نعمته عليك في ذلك واجتهد في نشر العون وكف الظلم وإصلاح الرعية، فقبَّل الأرض وأمر الخليفة بإفاضة الخلع عليه فقام إلى موضع لبسها فيه وعاد وقبّل يد الخليفة ووضعها على عينيه وخاطبه الخليفة بملك المشرق والمغرب، وأُعطي العهد وأرسل إلى الخليفة خدمة كثيرة منها خمسون ألف دينار وخمسون مملوكاً أتراكاً من أجود ما يكون ومعهم خيولهم وسلاحهم(14). والراجح أن استعانة الخليفة العباسي بالسلاجقة بدلاً عن البويهيين جاء خطراً على الخليفة الذي استعاض عن سيد ضعيف بوصي كثير الطلبات لكنه جاء نصراً للدين الإسلامي إذ ناصر السنة وفقهاءها، فازدادت المدارس في كافة أنحاء العالم السلجوقي بناءً على رغبة الحكومة فقام الوزير نظام المُلك بتأسيس المدرسة النظامية الفخمة التي تولى التدريس فيها أوسع فقهاء ذلك العصر شهرة، كما قام السلاجقة بتشييد الجوامع العظيمة والمستشفيات والحانات والجسور وغيرهـا(15).
ملامح ثقافة الماوردي:
لم تذكر كتب التراجم جميع ما حواه الماوردي من ثقافة في البصرة ولا في بغداد غير الحديث والفقه لأنهما كانا أرفع مواد الدراسة شأناً ربما كانا أساس الثقافة العامة لمن يريد التخصص في جميع العلوم الإسلامية والعربية، بيد أن كتبه تدل على أنه كان على قدر من الأدب والشعر والنحو والفلسفة وعلوم الاجتماع، فلا بد أنه قرأ تلك العلوم. وكان له افتتان عجيب وابتكار في التأليف يشهد له بالتقدّم والسبق في المعرفة بالعلوم الإسلامية وغير الإسلامية(16). كما أن طواف الماوردي في بلدان كثيرة مكّنه من التعرف على ثقافات مختلفة، حتى أنه بعد أن طاف بآفاق كثيرة عاد إلى بغداد فدرَّس بها عدة سنين وحدَّث بها عن شيوخه البصريين وفسّر القرآن ودرَّس الفقه وأصوله والآداب وألّف فيها تأليفاته الكثيرة. وقد كان الماوردي من مجتهدي المذاهب وفي كلام الياقوت قال: كان أقضى القضاة رحمه الله قد سلك طريقه من ذوي الأرحام يورث القريب والبعيد بالسوية وهو مذهب لبعض المتقدمين فجاءه يوماً الشينيزي فصعد إليه المسجد وصلى ركعتين والتفت إليه فقال له أيها الشيخ اتبع ولا تبتدع فقال بل اجتهد ولا أقلّد فلبس نعليه وانصرف(17). وقد أثنى كثير من الفقهاء والعلماء على ثقافة الماوردي فقد وصفه الخطيب البغدادي بأنه "كان ثقة"، ووصفه أبو إسحق الشيرازي من فقهاء الشافعية بأنه كان حافظاً للمذهب الشافعي، وذكر "ابن خلكان" بأن الماوردي كان حافظاً للمذهب الشافعي متبحراً فيه، كما نعته تاج الدين السبكي في كتابه طبقات الشافعية الكبرى بأنّ له اليد الباسطة في المذهب الشافعي والتفنن التـام في سائر العلـوم(18).
مؤلفات الماوردي:
ترك الماوردي مؤلفات قيِّمة كان لها أثراً كبيراً في تشكيل العقل السياسي الإسلامي ومثّلت رافداً علمياً نهل منه الكثير من الأعلام الذين أثروا الحياة العلمية في العالم، كما غطت كثيراً من المجالات لا سيما الدينية والسياسية والاجتماعية واللغوية والأدبية فانتفع الناس بهـا.
يذهب ابن خلكان بأنه لم تظهر من تصانيف الماوردي في حياته شيئاً، وإنما جمعها كلها في موضع فلما دنت وفاته قال لشخص يثق فيه: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصانيفي وإنما لم أظهرها لأني لم أجد نية خالصة لله لم يشبها كدر فإن عانيت الموت ووقعت في النـزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها وعصرتها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها فاعمد إلى الكتب وألقها في دجلة ليلاً، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك فاعلم أنها قبلت وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة، قال ذلك الشخص: فلما قارب الموت وضعت يدي في يده فبسطها ولم يقبض على يدي فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت كتبه بعده(19). وتثير كثيراً من الدراسات شكوكاً في هذه الرواية التاريخية التي حكاها ابن خلكان والسبكي والتي قد تكون صادقة ببعض كتب الماوردي منها كتاب الحاوي لضخامة حجمه مما جعل المؤلف ينتظر فراغه من بعض الأعمال لتنقيحه وتهذيبـه.
والراجح أن كتب الماوردي التي تم نشرها نحو أثني عشر كتاباً منها:-
-كتاب الحاوي: الذي لم يطالعه أحد إلا وشهد له بالتبحر والمعرفة التامة بالمذهب الشافعي، ويُعد كتاب الحاوي موسوعة ضخمة في أكثر من عشرين جزءاً في فقه الشافعية وقد قدر بأربعة آلاف ورقة، أوراقه المخطوطة مفرقة في نواحي من الشرق والغرب، واهتمت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية بجمع ما تشتت منه وتصوير أجزائه من مظانهـا في أفـلام.
-كتاب التفسير: ويُعرف بكتاب: " النكت والعيون"، لم يطبع ومنه نسخة في مكتبة جامع القرويين بفاس ونسخة أخرى في القسطنطينية ونسخة في دامبور بالهند.
-كتاب الإقناع: وهو مختصر من الحاوي قدّره المؤلف بأربعين ورقة ألّفه الماوردي بطلب من الخليفة القادر بالله ونال به تقديره وحسن ثنائه عليه. وقال ياقوت في "إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب طبعة دار المأمون 15: 53-54" ما نصّه: حدّث محمد بن عبد الملك الهمزاني حدثني أبي قال سمعت الماوردي يقول: بسطت الفقه في أربعة آلاف ورقة واختصرته في أربعين يريد بالمبسوطة كتاب الحاوي وبالمختصر كتاب "الإقناع" ويذكر أن الحاكم العباسي القادر بالله أشار على أربعة من أئمة المسلمين في أيامه في المذاهب الأربعة أن يصنّف كل واحد منهم مختصراً على مذهبه، فصنّف الماوردي "الإقناع"، وصنّف أبو الحسن القدوري مختصره المعروف على مذهب أبي حنيفة، وصنّف له القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن محمد بن نصر المالكي مختصراً آخر، ولم يذكر من صنّف له على مذهب أحمد، وعرضت عليه فخرج الخادم إلى أقضى القضاة الماوردي وقال له: يقول لك أمير المؤمنين حفظه الله عليك دينك كما حفظت علينا دينـا.
-كتاب "أدب القاضي": لم يطبع ومنه نسخة في القسطنطينية.
-كتاب "أعلام النبوة": أي دلالتها منه نسخة مخطوطة محفوظة في دار الكتب المصرية.
-كتاب "نصيحة الملوك": لم يطبع حتى الآن ومنه نسخة محفوظة في باريس.
-كتاب "تسهيل النظر وتعجيل الظفر": في السياسة وأنواع الحكومات وهو مخطوط لم يطبع ومنه نسخة في مدينة غوطة.
-كتاب " قانون الوزارة وسياسة الملك" طبع في دار العصور بمصر سنة 1929م بعنوان: "أدب الوزير".
ترفع هذه الكتب أبا الحسن الماوردي مكاناً عالياً من علماء السياسة والاجتماع فوق مكانته الممتازة في العلم الديني في شتى فروعه وقد ترجمت هذه الكتب إلى الألمانية والفرنسية وبعضها إلى اللاتينية ودرسها الأوربيون دراسة فائضة.
-كتاب في النحو: ذكره ياقوت في ترجمة المؤلف قال: وله تصانيف حسان في كل فن منها كتاب في النحو رأيته في حجم الإيضاح أو أكبر، والإيضاح كتاب متوسط في النحو لأبي علي الفارسي المتوفى سنة 337هـ.
-كتاب "الأمثال والحكم": جمع مختارات في عدة فصول تتضمن ثلاث مئة حديثاً وثلاث مئة حكمة وثلاث مئة بيت شعر، منها نسخة محفوظة في مدينة ليدن.
-كتاب "البغية العليا في أدب الدين والدنيا": وهو الذي زاع وانتشر ولا يزال الناس يقبلون عليه حتى أيامنا هذه، واسمه الذي يُعرف به الآن أدب الدين والدنيا، ولعل هذا الاسم "أدب الدين والدنيا" هو الاسم الذي وضعه المؤلف لكتابه. أما الاسم "أدب الدنيا والدين" فالمعروف أنه من وضع بعض الوراقين القدماء ثم زاع واشتهر، وتوجد أعداد كبيرة منه في المكتبات السودانية. وقد طبع هذا الكتاب بمصر عدة طبعات باسم "أدب الدنيا والدين" منه الطبعة الأميرية وطبعات خاصة لتلاميذ المدارس بمصر، وطبع قبل ذلك في أوروبا عدة طبعات، ومنه نسخة محفوظة في برلين والمتحف البريطاني باسم "أدب الدنيا والدين" ونسخة أخرى في مخطوطة في مصر وجامع القرويين بفاس وبالموصل ودامبور بالهند باسم " البغية العليا في أدب الدين والدنيا". ويُعد كتاب "أدب الدنيا والدين" كتاب عظيم النفع لعامة الناس وللسراة منهم من طلاب المدارس الثانوية والجامعات، وقد قررته وزارة المعارف المصرية للمطالعة بالمدارس الثانوية منذ أكثر من ثلاثين سنة(20).
علاوة على كتاب "الأحكام السلطانية" وكتب أخرى كثيرة في الفقه.
مناقشات لكتاب الأحكام السلطانية:
يُعد كتاب الأحكام السلطانية أشهر كتب العلاّمة الماوردي وهو أشبه بدستور عام للدولة يحوي الأسس التي تقوم عليها الدولة. ومن الوظائف والأصول التي تناولها الكتاب استحقاق الخلافة وشروط ما يختار لها والولايات التي يتصرّف فيها الخليفة وشروط ما يختار لها، وتكلّم عن نظم الدولة كالوزارة وتقليد الإمارة على البلاد وتقليد الإمارة على الجهاد والولاية على ضروب المصالح وولاية القضاء وولاية الحسبة وولاية المظالم وولاية النقابة على ذوي الأنساب والولاية على إقامة الصلاة والولاية على الحج والولاية على الصدقات، وقسم الفيء والغنيمة ووضع الجزية والخراج ومعرفة ما تختلف أحكامه من البلاد وإحياء الأموات واستخراج المياه والحمى والأوقاف وأحكام الإقطاع(21).
يمكن القول بأن كتاب الأحكام السلطانية من ابتكار الماوردي، ولعل أحداً لم يخص شئون الدولة السياسية والإدارية بتأليف خاص قبله وإن كان كثيراً من هذه الأحكام التي احتواها الكتاب مبثوثة في كتب الفقه(22)، وقد حاز كتاب الأحكام السلطانية من الشهرة بين علماء المسلمين وفي المجالات السياسية الإسلامية حظاً لا يحتاج فيه إلى تعريف أو تقديم. ومنذ أن تجدد الاهتمام بمسألة الخلافة أُعتبر هذا الكتاب بصفة عامة خير عرض معتمد للنظرية السُنية السياسية، وكثيراً ما أهمل وجود ما عداه من كتب في هذا الموضوع(23).
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي الأسباب التي أدت إلى تصنيف كتاب الأحكام السلطانية؟ تكمن الإجابة في تقديري في أن هناك عدة أمور متداخلة أسهمت في دفع الماوردي لتأليف كتاب الأحكام السلطانية، ولعل اتساع المادة العلمية التي جمعها لكتاب الحاوي الكبير في فقه الشافعية ساهم في تنبيه الماوردي إلى تخصيص كتاب للأحكام السلطانية، ويبدو أن الماوردي كان مهتماً بشئون النهج السياسي وقد خص أسباب أخرى أوردها في مقدمته لكتاب الأحكام السلطانية بقوله: "لما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتاباً امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته، ليعلم مذاهب الفقهاء فيما له منها فيستوفيه وما عليه منها فيوفيه توخياً للعدل في تنفيذه وقضائه وتحرياً للنصفة في أخذه وعطائه(24). فمن الذي امتثل الماوردي أمره فألف له الكتاب؟ ومما يجدر ذكره أن الخليفة العباسي "القائم بأمر الله" كان راغباً آنذاك في التحرر من حماية البويهيين الشيعيين فأشار على الماوردي القانوني الكبير وأقضى قضاة عصره أن يضع كتاباً يضمّنه أصول الحكم القويم فاستجاب الماوردي فألّف كتاباً سماه "الأحكام السلطانية"(25). والراجح أن تصنيف الأحكام السلطانية تم قبل عام 435هـ، أي قبل أن يستنجد الخليفة العباسي "القائم بأمر الله" بالسلاجقة لتخليصه من تسلّط البويهيين الشيعيين، إذ يتضمن كتاب الأحكام السلطانية إجازة استنصار خليفة المسلمين بمن يقبض يده ويزيل تغلبه، حتى ينفّذ الخليفة فعله ويبسط أمره ونفوذه، وربما شكّل ذلك مسوغاً شرعياً للخليفة العباسي للاستنجاد بالسلاجقة(26).
يمكن القول أن قوة وقيمة كتاب الأحكام السلطانية تتمثل في طبيعة التناول وعمقها والظروف التي كتب فيها الكتاب، حيث كتب في أشد فترات الخلافة تقهقراً وانحطاطاً، والماوردي بذلك المؤلف يقدم مثالاً فذاً في الحذق.
تذهب بعض الدراسات إلى أن كتاب الأحكام السلطانية للماوردي ليس عرضاً موضوعياً لنظرية قائمة وإنما في حقيقته دفاع أو توجيه في التفسير أوحت به وشكّلته ظروف عصر المؤلف. وقد حدثت تغيرات عنيفة في المنظومة السياسية الإسلامية أسرعت في تهشيم نظرية الماوردي، وقد اضطرت تلك التغيرات من جاء بعد الماوردي أن يتقدموا خطوات أخرى في سبيل الملائمة والتوفيق. وقد تعدّلت النظرية الأشعرية على يد إمام الحرمين "الجويني" ففي كتابه "الإرشاد" نزوعاً إلى التقليل من بروز مشكلة الإمامة، والراجح أن المنازعات المذهبية القديمة أخذت تفقد كثيراً من صلاتها بالواقع في الميدان السياسي في عصر "الجويني"(27).
ويبدو أن تلك النـزعة التوفيقية تجددت في الجيل الثاني في موقف الغزالي، إذ تحيطنا على مبلغ الهرم الذي أصاب المذهب الأشعري، إذ يذهب الغزالي إلى أن الخلافة منعقدة للمتكفل بها من بني العباس وأن الولاية نافذة للسلاطين في أقطار البلاد والمبايعين للخليفة ما يشير إلى المصلحة فيه والقول الوجيز أن تراعى الصفات والشروط للسلاطين تشوقاً إلى مزايا المصالح، ولو قطعنا ببطلان الولايات الآن لبطلت المصالح رأساً، بل أن الولاية لا تتبع إلا من بايعه صاحب الشوكة وهو الخليفة. يتضح من هذه الفقرة أن الخلافة كلها تمثلها الأسرة العباسية، ولم تعد تعتبر مصدر لجعل الحقوق التي تؤخذ بالقوة ذات صبغة شرعية شريطة أن يعترف صاحب الشوكة أي صاحب السلطة العسكرية وأن يعلن ولائه للخليفة. ولما قضى المغول على خلافة بغداد سنة 1258م يبقى على الفقهاء أن يعلنوا أن الحقوق المنتـزعة بالقوة هي في ذاتها حقوق مشروعة وأن السلطة العسكرية تمثل إمامة صحيحة(28).
ومن النظريات التي حجبتها النظرية الأشعرية تقول أن الخلافة حق لم تتمثل إلا في الخلفاء الأربعة الأوائل وأن حكم الأمويين والعباسيين كان خلافة مزورة. وقد تم اقتباس الفكرة الأفلاطونية المتعلقة بالملك الفيلسوف وتطبيقها على الإمامة الإسلامية التي تقيم الشريعة، وقد بيّن توماس أرنولد كيف تطوّرت هذه النظرية في المؤلفات العربية والفارسية. ونجد أن ابن خلدون القاضي المالكي يقوم بتوضيح هذه النظرية عند نهاية القرن الرابع عشر فيقول بكفاءة الخلق وخلافة لله في العباد ينفِّذ أحكامه فيهم. أن المبدأ المقبول في مسألة الخلافة هو أن الخلافة استمرت ثلاثين عاماً وأن ما بعدها لم يكن إلا إمامة أطلقت عليها ألقاب الخليفة على نحو من التعظيم والتبجيل. ويرى بعض الباحثين أن ما حققه الماوردي للدولة المثالية أي لنوع من الدولة الإسلامية مشابهة لدولة أفلاطون أولى "يتوبيا " "مور" إلا أنها دولة مشتقة من التأمل في القواعد الأساسية في الشريعة الإسلامية. وكانت النظرية السياسية لدى فقهاء السنة في تطورها الكامل على نقيض نظريات الشيعة والخوارج غير مستمدة بطريقة التأمل في الكتاب والسنة وإنما هي مؤسسة على تفسير هذين المصدرين على ضوء التطورات السياسية المتأخرة مؤيدة بقوة العقيدة(29).
ويمكن القول بأن الماوردي كان فقيهاً بنى على آراء من سبقوه ونظمها ووسّع في حدودهـا.
عموماً مثل كتاب "الأحكام السلطانية" أساساً للكتب التي تناولت النظم السلطانية(30)، بيد أنها أضافت أو عدّلت في أفكار الماوردي حسبما تقتضيه ظروف عصورهم السياسية، فقد وسّع الشيزري (ت 589هـ) في كتابه "نهاية الرتب في طلب الحسبة"، حيث اهتم بمراقبة أهل الذمة وربما كان علة الاهتمام أن عصر المؤلف هو القرن السادس الهجري، وكان عصر إحياء السنة فقد تخللته المنازعات بين السنة والشيعة في كثير من أنحاء العالم الإسلامي فضلاً عن نشوب الحروب الصليبية فأصبح يخشى من ممالاة الذميين في البلاد الإسلامية للصليبيين، سيما وان أرباب الحرف والصنائع كان أكثرهم من أهل الذمة، وقد وضع ذلك الكتاب لمساعدة الحكومة الأيوبية في مراقبة أرباب الحرف والصنائع(31).
أما العلاّمة ابن خلدون فقد تناول الأحكام السلطانية من زاوية مختلفة من حيث صيرورة الاجتماع البشري، كما ناقش شروط الإمامة والحكمة في اشتراط النسب القرشي ومقصد الشارع منه الذي لم يقتصر على التبرك بوصله النبي (صلى الله عليه وسلم) كما هو في المشهور، حيث رأى أن التبرك ليس من المقاصد الشرعية، ورأى أن المصلحة في اشتراط النسب هي المقصودة من مشروعيته، ورجح أن ذلك لاعتبار العصبة التي تكون فيها الحماية وتحقيق المطالب ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملة وأهلها وينتظم فيه الإلفة، ورأى أن قريشاً كانت عصبة مُضر وأهلهم وأهل الغلبة منهم، وكان لهم على سائر مُضر العزة بالكثرة والعصبة والشرف، فكان سائر العرب يعترفون بذلك ويستكينون لغلبهم، فلو جعل الأمر في سواهم لوقع إفتراق الكلمة فاشترط نسبهم القرشي، ورأى ابن خلدون أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا بعصر ولا بأمة وإنما هو من الكفاية فرأى أن العلة المشتملة على المقصود من القرشية هي وجود العصبة، فاشترط أن يكون القائم بأمر المسلمين من قوم أولي عصبة قوية غالبة على غيرها يستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية. واستدل على ذلك بسلوك "المامون" حين عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق وسماه "الرضا"، فاستنكر العباسيون ذلك ونقضوا بيعته وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي، وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السبل وتعددت الثورات والخوارج حتى بادر "المامون" من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم. ورأى ابن خلدون أن العصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصابات وتختلف باختلاف المصالح، وأن لكل منها حكماً يخصه لطفاً من الله بعباده. ورأى أن تُعلى مقاصد الشرع حتى لا يعبث بالمناصب الدينية(32).
وقد ولع الأوربيون ببحث ودراسة النظريات والنظم الإدارية للدولة الإسلامية التي يشرحها الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية.
ويعتبر الماوردي بكتابه "الأحكام السلطانية من أوائل المؤلفين في العلوم السياسية والإدارية من المسلمين ويشاركه في التأليف في هذا المجال معاصره القاضي "أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء المتوفى 458هـ) فقد ألّف كتاباً باسم "الأحكام السلطانية"، وذكر فيه الأحكام على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ويمكن القول بأن عبارات المؤلفين واحدة لولا أن أبا يعلى يذكر فروع مذهب الإمام أحمد ورواياته، ويبدو أن الماوردي قد سبق إلى التأليف(33). وربما يأتي كتاب أبي يعلى "الأحكام السلطانية" في إطار التنافس المذهبي بين الأحناف والشافعية.
لقد اهتدت كثير من النظم بضوابط الأحكام السلطانية وبصفة خاصة نظام الخلافة الصكوتية التي التـزمت بدرجات كبيرة بموجهات الماوردي في تقليد الوزارة وتنظيم الخراج، بيد أننا نلحظ تجاوزات في بعض التجارب، حيث نجد أن "باديس بن حبوس" –حاكم غرناطة- في القرن الخامس الهجري (422هـ) عيّن وزير تفويض- الوزير الأول- يوسف بن إسماعيل الذي كان يهودياً، ويمكن القول بأن الأندلسيون بصفة عامة لم يتقيدوا بمسألة النسب القرشي في تقليد الإمارة وذلك نظراً لأنهم ينتسبون إلى صنهاجة عرب اليمن.
الخاتمة:
-شكّل كتاب الأحكام السلطانية للماوردي إطاراً مفهومياً للنظم والتجارب السياسية في بلدان العالم الإسلامي.
-تختلف العصور التاريخية باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصب والمصالح، ولكل منها حكماً يخصه ومقصداً لطفاً من الله بعباده.
-كان للظروف السياسية التي أحاطت بالماوردي بصماتها على أفكاره واجتهاداته العلمية.
-تمت قراءات متعددة لأفكار الماوردي في الأحكام السلطانية عبر الفترات التاريخية المختلفة استوعبت مقاصد الشرع وكفلت مصالح الأمة.
-تبرز أهمية قراءة أدبيات الماوردي والمجتهدين الثقات الذين قدموا تصورات وحلولاً سياسية للكثير من القضايا السياسية التي شغلت اهتمام فتراتهم التاريخية بمنظور عصري يحقق مقاصد الشرع ويكفل مصالح العبـاد.
تمثل هذه الدراسة محاولة متواضعة في تلمّس الإسهامات العلمية للماوردي(1) التي أثْرت الفكر السياسي الإسلامي في معظم الفترات التاريخية التالية لعصره، وذلك عبر تناول مؤلفاته التي صاغها في هذا الشأن، بإشارة خاصة إلى كتاب الأحكام السلطانية التي تشكِّل بدرجة كبيرة النظرية السياسية للدولة الإسلامية، من حيث مناقشة الأبعاد والظروف التاريخية التي أحاطت بالماوردي وتبيّن مدى أثرها في تشكيل اتجاهاته والوقوف على أوجه استجابة أفكاره لمعطيات تلك الظروف التي ظللتها أوضاعاً سياسياً معقّدة تحتاج لأفكار الماوردي لتفكيك تعقيداتها والتوفيق بين تناقضاتهـا.
لقد عاصر الماوردي الخلافة العباسية وهي في أضعف أحوالها من حيث تحكم الأمراء البويهيين في أمورها فضلاً عن تطلّع السلاجقة للاستحواذ على سلطانها ليظفروا بقدر من التأييد والقبول في بلدان العالم الإسلامي، وفي ظل هذه التقاطعات السياسية والتي أصبح بموجبها الخلفاء العباسيون دمية في أيدي الأمراء البويهيين احتفظ العلاَّمة الماوردي بعلاقات طيبة مع الخلفاء العباسيين (القادر بالله، القائم بأمر الله) ومع الأمراء البويهيين (جلال الدولة) في آنٍ واحدٍ، فكان كلاهما: العباسيون والبويهيون- يعتبرون الماوردي صديقهم الحميم، فكانوا يصغون لحديثه ويجلّون آراءه مما أهّله ليكون خير وسيط في إزالة التوتر الذي ينشأ في أحيان كثيرة بين الأمراء البويهيين والخلفاء العباسيين، فأسهمت تلك الأدوار السياسية في شغل خُلده والاستحواذ على تفكيره فتركت بصماتها على أدبياته وإنتاجه العلمي بل وشكّلت رغبته في إبراز المسائل الأساسية المتصلة بالسلطان السياسي وما يتعلق به من تفريعات. ولعل ذلك الاهتمام الذي كان يضطرم في نفس الماوردي توافق مع ميول وتطلعات الخلفاء العباسيين (القائم بأمر الله) لإيجاد مخرج ومسوغ شرعي للتعامل مع إفرازات تلك التعقيدات السياسية، فأشار الخليفة العباسي "القائم بأمر الله" على الماوردي لتأليف كتاب يستجيب للمقتضيات السياسية، فصادف ذلك وقعاً عند الماوردي، مما أسهم في إبراز كتاب "الأحكام السلطانية" للماوردي الذي ظهر على مستوى من الابتكار والعمق تجلّت فيه أصالة النظر الشرعي والعقلي، مما يقف شاهداً على ثقافة الماوردي الفقهية الواسعة التي استوعبت التجارب السياسية الإسلامية التاريخية وأخضعتها للنظر العقلي الدقيق، فاستطاع الماوردي بهذه القراءة الشرعية الفقهية والتاريخية أن يصيغ مبادئاً وأسساً وأحكاماً سلطانية تحقق مقاصد الشرع وتكفل مصالح الأمة.
ولمعرفة الظروف التي أحاطت بالماوردي والتي تركت بصماتها على عطائه العلمي اهتممت بقراءة كتب التراجم الإسلامية ومؤلفات المعاصرين للماوردي وبصفة خاصة الخطيب البغدادي الذي كان له شرف معاصرة الماوردي والتلقّي منه والصلاة على جثمانه حين أدركته المنية حيث تمثل إفاداتهم أهمية كبيرة في تناول ومناقشة أدبيات الماوردي. لا تطمع هذه الدراسة في تقويم أفكار الماوردي التي بثها في مؤلفاته بقدر ما تقتصر على تلمّس جانباً من المفاهيم المتعلقة بأدبياته. بيد أن هذه الدراسة تلفت الانتباه إلى ضرورة قراءة أدبيات الماوردي بمنظور عصري والتي ابتدرها كثير من الفقهاء لا سيما الشيزري وابن خلدون.
أتمنى أن تدفع هذه الدراسة أقلام مفكرين ثقات لقراءات جديدة لأدبيات الماوردي تُعلّي مقاصد الشرع وتحقق مصالح العبـاد.
والله من وراء القصد،،
مسار حياة الماوردي:
يُعد الماوردي من أبرز أعلام الفكر السياسي الإسلامي، وفقيه حافظ من أكبر فقهاء الشافعية، ويُعد أقضى قضاة عصره من العلماء الباحثين ومن أبرز رجال السياسة في الدولة العباسية، ويعتبر أديب متفنن ناضج الفكر واضح الأسلوب، ومن أصحاب التصانيف الكثيرة النافعة حيث ورث المسلمين كثيراً من تأليفه الممتاز في فروع الثقافة الإسلامية. وقد وُلد بالبصرة وانتقل إلى بغداد وتولّى القضاء في بلدان كثيرة حيث أصبح أقضى القضاة في أيام القائم بأمر الله العباسي (422هـ - 467هـ) وكان يميل إلى مذهب الاعتدال، وكانت له المكانة الرفيعة عند الخلفاء وربما توسط بينهم وبين الملوك وكبار الأمراء فيما يصلح به خللاً أو يزيل خلافـاً.(2)
لقد عاصر الماوردي الثقافة الإسلامية في أزهى عصورها حين بلغت الدولة العباسية درجة من الرقي العلمي، وظهر فيها كثير من العلماء البارعين الذين جمعوا ثمار الثقافات المختلفة ومزجوا بين الثقافة الإسلامية وثقافات الأمم القديمة. وقد أخذ الماوردي الفقه عن أبي القاسم الصّميري ثم عن الشيخ أبي حامد الأسفرايني ببغداد، وقد سكن بغداد في درب الزعفران وحدث بها عن الحسن بن علي بن محمد الجبلي صاحب أبي حنيفة وعن محمد بن عدي بن زخر المنقدي ومحمد بن المعلى الأزدي وجعفر بن أبي الفضل البغدادي(3). أما عن تلاميذ الماوردي فلم تذكر كتب التراجم من تلاميذه إلا أثنين أولهما وأشهرهما كبير المحدثين في زمانه خطيب بغداد صاحب التاريخ الكبير "أحمد بن علي بن ثابت (392هـ- 463هـ)، وثانيهما أبو العز أحمد بن عبيد الله بن كادش(4).
لقد ذكر الخطيب البغدادي في أول تاريخ بغداد عن الماوردي بقوله: كتب أخي إليَّ من البصرة وأنا ببغداد الأدبيات التالية:
طيب الهواء ببغداد يشوقني قدماً إليها وإن عاقت مقادير
فكيف صبري عنها الآن إذ جمعت طيب الهواء ممدور ومقدور
وقال أبو العز أحمد بن عبيد الله بن كادش: أنشدني أبو الحسن الماوردي، قال:
جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين
ويذكر أن أبا الحسن الماوردي لما خرج من بغداد راجعاً إلى البصرة، كان ينشد أبيات العباس – من الأحناف – التالية:
أقمنا كارهين لها فلما ألفناها خرجنا مكرهينا
وما حب البلاد بنا ولكن أمر العيش فرقة من هوينا
خرجت أقر ما كنت لعيني وخلفت الفؤاد بها رهينا
وإنما قال ذلك لأنه من أهل البصرة وما كان يؤثر مفارقتها فدخل بغداد كارهاً لها ثم طابت له بعد ذلك فنسي البصرة وأهلها فشق عليه فراقهـا(5).
الأدوار السياسية التي اضطلع بها الماوردي:
عاش الماوردي في العصر العباسي الثاني حيث عاصر الخلفاء العباسيين: القادر بالله (381-422هـ) والقائم بأمر الله. ومما يجدر ذكره أنّ العلوم ازدهرت في الدولة العباسية حيث كانت الدولة العباسية دولة كثيرة المحاسن جمة الفوائد وأسواق العلوم فيها رائجة وبضائع الآداب فيها رائعة وشعائر الدين فيها مقامة والخيرات فيها متدفقة والحريات مرعية ولم تزل آخذة في الرفعة إلى أن سامت السماء علواً وشرفاً وبقيت كذلك حتى كانت آخر أمرها فاضطربت واضمحل حالهـا(6).
عاصر الماوردي تسلط الأمراء البويهيين على الخلفاء العباسيين في العصر العباسي الثاني، وقد كان ملوك البويهيين هم الحكام الحقيقيين وكان الخليفة لا حول له ولا قوة مجرد من كل سلطة وليس له من الشئون غير المخصصات اليومية، فأصبح لسان حال الحاكم العباسي القائم بأمر الله يقول:
أليس من الغرائب أن مثلي يرى ما قل ممتنعاً عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً وما من ذاك شيء في يديه
وقد ظل البويهيون في الحكم زهاء قرن دون أن ينازعهم أي منافس النفوذ والسلطان. وقد ازدهرت العلوم والآداب في كنفهم. وليس أدل على كرم الأمراء البويهيين واهتمامهم بالعلوم والآداب من تألق طائفة من مشاهير الرجال في أيامهم أمثال المسعودي المؤرخ المعروف والفيلسوف أبو نصر الفارابي والشاعر الفذ أبو الطيب المتنبي وأبي الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني وأبو القاسم التنوخي والدينوري وكثير من العلماء الفلاسفة(7). وقد أختير الماوردي سفيراً بين رجالات الدولة في بغداد وبني بويه وكانت له منـزلة كريمة عند الخليفة العباسي "القادر بالله" وابنه "القائم بأمر الله" وعند آل بويه كذلك. ولما مات الخليفة العباسي "القادر بالله" (عام 422هـ) جلس على الخلافة ابنه "القائم بأمر الله" "أبو جعفر عبد الله" وجُددت له البيعة، وأرسل "القائم بأمر الله" قاضي القضاة الماوردي إلى الملك أبي كاليجار (في البصرة) ليأخذ عليه البيعة ويخطب له في بلاده فأجاب وبايع وخطب له في بغداد وأرسلت إليه هدايا جليلة وأموال كثيرة(8).
ولم تقتصر جهود الماوردي على إزالة التوترات التي تنشأ بين الخلفاء العباسيين والأمراء البويهيين فحسب بل أسهم أيضاً في إزالة التوترات التي نشأت في داخل الأسرة البويهية الحاكمة، ففي سنة 428هـ ترددت الرسل بين جلال الدولة وابن أخيه أبي كاليجار سلطان الدولة في الصلح والاتفاق وإزالة الخلاف، وكان رسل الصلح في ذلك أقضى القضاة أبا الحسن الماوردي وأبا عبد الله المردوستي وغيرهما فكللت جهودهم بالنجاح فتمكنوا من إبرام الصلح وإزالة التوتر في الأسرة البويهية الحاكمة(9).
لقد حفظ التاريخ للماوردي الكثير من المواقف المشرفة، ففي سنة 429 هـ عندما سأل جلال الدولة بن بويه الخليفة القائم بأمر الله ليخاطب بملك الملوك فامتنع الخليفة ثم أجاب إليه إذا أفتى الفقهاء بجوازه، فكتب يفتي الفقهاء في ذلك، فأفتى القاضي أبو الطيب الطبري والقاضي أبو عبد الله الصّميري والقاضي ابن البيضاوي وأبو القاسم الكرخي بجوازه وامتنع قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي وجرى بينه وبين من أفتى بجوازه مراجعات وخطب لجلال الدولة بملك الملوك، وكان الماوردي من أخص الناس بجلال الدولة وكان يتردد إلى دار المملكة كل يوم فلما أفتى بهذه الفتوة انقطع ولزم بيته خائفاً وأقام منقطعاً من شهر رمضان إلى يوم عيد النحر، فاستدعاه جلال الدولة فحضر خائفاً فأدخله وحده وقال له: قد علم كل واحد أنك من أكثر الفقهاء مالاً وجاهاً وقرباً منا وقد خالفتهم فيما خالف هواي ولم تفعل ذلك إلا لعدم المحاباة منك من العلم وجعلت جزاء ذلك إكرامك بأن أدخلتك إليَّ وحدك وجعلت أذن الحاضرين إليك ليتحققوا عودي ما تحب فشكر ودعـا له(10).
ومن صور توسط الماوردي بين الخلفاء العباسيين –القائم بأمر الله- والأمراء البويهيين –جلال الدولة- أنه في سنة 434هـ أفتتحت الجوالي في المحرم في بغداد فأخذ الملك جلال الدولة ما تحصل منها وكانت العادة أن يحمل ما يحصل منها إلى الخلفاء العباسيين لا تعارضهم فيه الملوك، فلما فعل جلال الدولة ذلك عظم الأمر فيه على القائم بأمر الله فأرسل قاضي القضاة الماوردي لإثنائه عن ذلك، فلم يصغ جلال الدولة لذلك، فجمع الخليفة العباسي الهاشميين بالدار وأرسل إلى القضاة بما عزم عليه وأظهر العزم على مفارقة بغداد بيد أن ذلك لم يتم وحدثت وحشية بين الجهتين(11). وقد عزرت تلك الجفوة عزم الخليفة العباسي في التحرر من حماية البويهيين الشيعة، وقد وضع القانوني الكبير الماوردي تلبية لرغبته بحثاً ضمنه أصول الحكم القويم(12)، بيد أن ذلك لم يفض إلى إصلاح الحال، ففكر الخليفة العباسي بالاستعانة بالسلاجقة للتخلص من البويهيين.
لقد استقر رأي الخليفة العباسي القائم بأمر الله على الاستنجاد بالسلاجقة فأرسل الماوردي في سنة 435هـ إلى سلطان السلاجقة السلطان "طغرلبك" فسار إليه وهو بجرجان وعاد الماوردي سنة 436هـ وأخبر الخليفة العباسي عن طاعة طغرلبك للخليفة وتعظيمه لأوامره(13).
أرسل طغرلبك رسولاً إلى الخليفة القائم بأمر الله يبالغ في إظهار الطاعة مما حدا بالخليفة بتوجيه الخطباء بالخطبة لطغرليك بجوامع بغداد فخطب له يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان سنة 447هـ، وأرسل طغرلبك يستأذن الخليفة في دخول بغداد فأذن له فدخل بغداد وضيّق على الملك الرحيم آخر ملوك بني بويه. ولما تمكّن طغرليك من بسط سلطانه على بغداد حصر سلطان الخليفة العباسي في الجانب الروحي وتنازل عن سلطاته، فيذكر ابن الأشيد أن الخليفة العباسي القائم بأمر الله جلس يوم السبت لخمس بقين من ذي الحجة -449هـ- جلوساً عاماً حضره عسكر السلطان وأعيان بغداد والخليفة على سرير عال وعليه بردة النبي (صلى الله عليه وسلم) وبيده القضيب الخيزران، وقبَّل السلطان الأرض وقبّل يده وأجلس على كرسي فقال الخليفة لرئيس الرؤساء قل له أن أمير المؤمنين شاكر لسعيك حامد لفعلك مستأنس بقربك وقد ولاّك جميع ما ولاّه الله من بلاده ... فاتق الله فيما ولاّك واعرف نعمته عليك في ذلك واجتهد في نشر العون وكف الظلم وإصلاح الرعية، فقبَّل الأرض وأمر الخليفة بإفاضة الخلع عليه فقام إلى موضع لبسها فيه وعاد وقبّل يد الخليفة ووضعها على عينيه وخاطبه الخليفة بملك المشرق والمغرب، وأُعطي العهد وأرسل إلى الخليفة خدمة كثيرة منها خمسون ألف دينار وخمسون مملوكاً أتراكاً من أجود ما يكون ومعهم خيولهم وسلاحهم(14). والراجح أن استعانة الخليفة العباسي بالسلاجقة بدلاً عن البويهيين جاء خطراً على الخليفة الذي استعاض عن سيد ضعيف بوصي كثير الطلبات لكنه جاء نصراً للدين الإسلامي إذ ناصر السنة وفقهاءها، فازدادت المدارس في كافة أنحاء العالم السلجوقي بناءً على رغبة الحكومة فقام الوزير نظام المُلك بتأسيس المدرسة النظامية الفخمة التي تولى التدريس فيها أوسع فقهاء ذلك العصر شهرة، كما قام السلاجقة بتشييد الجوامع العظيمة والمستشفيات والحانات والجسور وغيرهـا(15).
ملامح ثقافة الماوردي:
لم تذكر كتب التراجم جميع ما حواه الماوردي من ثقافة في البصرة ولا في بغداد غير الحديث والفقه لأنهما كانا أرفع مواد الدراسة شأناً ربما كانا أساس الثقافة العامة لمن يريد التخصص في جميع العلوم الإسلامية والعربية، بيد أن كتبه تدل على أنه كان على قدر من الأدب والشعر والنحو والفلسفة وعلوم الاجتماع، فلا بد أنه قرأ تلك العلوم. وكان له افتتان عجيب وابتكار في التأليف يشهد له بالتقدّم والسبق في المعرفة بالعلوم الإسلامية وغير الإسلامية(16). كما أن طواف الماوردي في بلدان كثيرة مكّنه من التعرف على ثقافات مختلفة، حتى أنه بعد أن طاف بآفاق كثيرة عاد إلى بغداد فدرَّس بها عدة سنين وحدَّث بها عن شيوخه البصريين وفسّر القرآن ودرَّس الفقه وأصوله والآداب وألّف فيها تأليفاته الكثيرة. وقد كان الماوردي من مجتهدي المذاهب وفي كلام الياقوت قال: كان أقضى القضاة رحمه الله قد سلك طريقه من ذوي الأرحام يورث القريب والبعيد بالسوية وهو مذهب لبعض المتقدمين فجاءه يوماً الشينيزي فصعد إليه المسجد وصلى ركعتين والتفت إليه فقال له أيها الشيخ اتبع ولا تبتدع فقال بل اجتهد ولا أقلّد فلبس نعليه وانصرف(17). وقد أثنى كثير من الفقهاء والعلماء على ثقافة الماوردي فقد وصفه الخطيب البغدادي بأنه "كان ثقة"، ووصفه أبو إسحق الشيرازي من فقهاء الشافعية بأنه كان حافظاً للمذهب الشافعي، وذكر "ابن خلكان" بأن الماوردي كان حافظاً للمذهب الشافعي متبحراً فيه، كما نعته تاج الدين السبكي في كتابه طبقات الشافعية الكبرى بأنّ له اليد الباسطة في المذهب الشافعي والتفنن التـام في سائر العلـوم(18).
مؤلفات الماوردي:
ترك الماوردي مؤلفات قيِّمة كان لها أثراً كبيراً في تشكيل العقل السياسي الإسلامي ومثّلت رافداً علمياً نهل منه الكثير من الأعلام الذين أثروا الحياة العلمية في العالم، كما غطت كثيراً من المجالات لا سيما الدينية والسياسية والاجتماعية واللغوية والأدبية فانتفع الناس بهـا.
يذهب ابن خلكان بأنه لم تظهر من تصانيف الماوردي في حياته شيئاً، وإنما جمعها كلها في موضع فلما دنت وفاته قال لشخص يثق فيه: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصانيفي وإنما لم أظهرها لأني لم أجد نية خالصة لله لم يشبها كدر فإن عانيت الموت ووقعت في النـزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها وعصرتها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها فاعمد إلى الكتب وألقها في دجلة ليلاً، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك فاعلم أنها قبلت وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة، قال ذلك الشخص: فلما قارب الموت وضعت يدي في يده فبسطها ولم يقبض على يدي فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت كتبه بعده(19). وتثير كثيراً من الدراسات شكوكاً في هذه الرواية التاريخية التي حكاها ابن خلكان والسبكي والتي قد تكون صادقة ببعض كتب الماوردي منها كتاب الحاوي لضخامة حجمه مما جعل المؤلف ينتظر فراغه من بعض الأعمال لتنقيحه وتهذيبـه.
والراجح أن كتب الماوردي التي تم نشرها نحو أثني عشر كتاباً منها:-
-كتاب الحاوي: الذي لم يطالعه أحد إلا وشهد له بالتبحر والمعرفة التامة بالمذهب الشافعي، ويُعد كتاب الحاوي موسوعة ضخمة في أكثر من عشرين جزءاً في فقه الشافعية وقد قدر بأربعة آلاف ورقة، أوراقه المخطوطة مفرقة في نواحي من الشرق والغرب، واهتمت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية بجمع ما تشتت منه وتصوير أجزائه من مظانهـا في أفـلام.
-كتاب التفسير: ويُعرف بكتاب: " النكت والعيون"، لم يطبع ومنه نسخة في مكتبة جامع القرويين بفاس ونسخة أخرى في القسطنطينية ونسخة في دامبور بالهند.
-كتاب الإقناع: وهو مختصر من الحاوي قدّره المؤلف بأربعين ورقة ألّفه الماوردي بطلب من الخليفة القادر بالله ونال به تقديره وحسن ثنائه عليه. وقال ياقوت في "إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب طبعة دار المأمون 15: 53-54" ما نصّه: حدّث محمد بن عبد الملك الهمزاني حدثني أبي قال سمعت الماوردي يقول: بسطت الفقه في أربعة آلاف ورقة واختصرته في أربعين يريد بالمبسوطة كتاب الحاوي وبالمختصر كتاب "الإقناع" ويذكر أن الحاكم العباسي القادر بالله أشار على أربعة من أئمة المسلمين في أيامه في المذاهب الأربعة أن يصنّف كل واحد منهم مختصراً على مذهبه، فصنّف الماوردي "الإقناع"، وصنّف أبو الحسن القدوري مختصره المعروف على مذهب أبي حنيفة، وصنّف له القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن محمد بن نصر المالكي مختصراً آخر، ولم يذكر من صنّف له على مذهب أحمد، وعرضت عليه فخرج الخادم إلى أقضى القضاة الماوردي وقال له: يقول لك أمير المؤمنين حفظه الله عليك دينك كما حفظت علينا دينـا.
-كتاب "أدب القاضي": لم يطبع ومنه نسخة في القسطنطينية.
-كتاب "أعلام النبوة": أي دلالتها منه نسخة مخطوطة محفوظة في دار الكتب المصرية.
-كتاب "نصيحة الملوك": لم يطبع حتى الآن ومنه نسخة محفوظة في باريس.
-كتاب "تسهيل النظر وتعجيل الظفر": في السياسة وأنواع الحكومات وهو مخطوط لم يطبع ومنه نسخة في مدينة غوطة.
-كتاب " قانون الوزارة وسياسة الملك" طبع في دار العصور بمصر سنة 1929م بعنوان: "أدب الوزير".
ترفع هذه الكتب أبا الحسن الماوردي مكاناً عالياً من علماء السياسة والاجتماع فوق مكانته الممتازة في العلم الديني في شتى فروعه وقد ترجمت هذه الكتب إلى الألمانية والفرنسية وبعضها إلى اللاتينية ودرسها الأوربيون دراسة فائضة.
-كتاب في النحو: ذكره ياقوت في ترجمة المؤلف قال: وله تصانيف حسان في كل فن منها كتاب في النحو رأيته في حجم الإيضاح أو أكبر، والإيضاح كتاب متوسط في النحو لأبي علي الفارسي المتوفى سنة 337هـ.
-كتاب "الأمثال والحكم": جمع مختارات في عدة فصول تتضمن ثلاث مئة حديثاً وثلاث مئة حكمة وثلاث مئة بيت شعر، منها نسخة محفوظة في مدينة ليدن.
-كتاب "البغية العليا في أدب الدين والدنيا": وهو الذي زاع وانتشر ولا يزال الناس يقبلون عليه حتى أيامنا هذه، واسمه الذي يُعرف به الآن أدب الدين والدنيا، ولعل هذا الاسم "أدب الدين والدنيا" هو الاسم الذي وضعه المؤلف لكتابه. أما الاسم "أدب الدنيا والدين" فالمعروف أنه من وضع بعض الوراقين القدماء ثم زاع واشتهر، وتوجد أعداد كبيرة منه في المكتبات السودانية. وقد طبع هذا الكتاب بمصر عدة طبعات باسم "أدب الدنيا والدين" منه الطبعة الأميرية وطبعات خاصة لتلاميذ المدارس بمصر، وطبع قبل ذلك في أوروبا عدة طبعات، ومنه نسخة محفوظة في برلين والمتحف البريطاني باسم "أدب الدنيا والدين" ونسخة أخرى في مخطوطة في مصر وجامع القرويين بفاس وبالموصل ودامبور بالهند باسم " البغية العليا في أدب الدين والدنيا". ويُعد كتاب "أدب الدنيا والدين" كتاب عظيم النفع لعامة الناس وللسراة منهم من طلاب المدارس الثانوية والجامعات، وقد قررته وزارة المعارف المصرية للمطالعة بالمدارس الثانوية منذ أكثر من ثلاثين سنة(20).
علاوة على كتاب "الأحكام السلطانية" وكتب أخرى كثيرة في الفقه.
مناقشات لكتاب الأحكام السلطانية:
يُعد كتاب الأحكام السلطانية أشهر كتب العلاّمة الماوردي وهو أشبه بدستور عام للدولة يحوي الأسس التي تقوم عليها الدولة. ومن الوظائف والأصول التي تناولها الكتاب استحقاق الخلافة وشروط ما يختار لها والولايات التي يتصرّف فيها الخليفة وشروط ما يختار لها، وتكلّم عن نظم الدولة كالوزارة وتقليد الإمارة على البلاد وتقليد الإمارة على الجهاد والولاية على ضروب المصالح وولاية القضاء وولاية الحسبة وولاية المظالم وولاية النقابة على ذوي الأنساب والولاية على إقامة الصلاة والولاية على الحج والولاية على الصدقات، وقسم الفيء والغنيمة ووضع الجزية والخراج ومعرفة ما تختلف أحكامه من البلاد وإحياء الأموات واستخراج المياه والحمى والأوقاف وأحكام الإقطاع(21).
يمكن القول بأن كتاب الأحكام السلطانية من ابتكار الماوردي، ولعل أحداً لم يخص شئون الدولة السياسية والإدارية بتأليف خاص قبله وإن كان كثيراً من هذه الأحكام التي احتواها الكتاب مبثوثة في كتب الفقه(22)، وقد حاز كتاب الأحكام السلطانية من الشهرة بين علماء المسلمين وفي المجالات السياسية الإسلامية حظاً لا يحتاج فيه إلى تعريف أو تقديم. ومنذ أن تجدد الاهتمام بمسألة الخلافة أُعتبر هذا الكتاب بصفة عامة خير عرض معتمد للنظرية السُنية السياسية، وكثيراً ما أهمل وجود ما عداه من كتب في هذا الموضوع(23).
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي الأسباب التي أدت إلى تصنيف كتاب الأحكام السلطانية؟ تكمن الإجابة في تقديري في أن هناك عدة أمور متداخلة أسهمت في دفع الماوردي لتأليف كتاب الأحكام السلطانية، ولعل اتساع المادة العلمية التي جمعها لكتاب الحاوي الكبير في فقه الشافعية ساهم في تنبيه الماوردي إلى تخصيص كتاب للأحكام السلطانية، ويبدو أن الماوردي كان مهتماً بشئون النهج السياسي وقد خص أسباب أخرى أوردها في مقدمته لكتاب الأحكام السلطانية بقوله: "لما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتاباً امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته، ليعلم مذاهب الفقهاء فيما له منها فيستوفيه وما عليه منها فيوفيه توخياً للعدل في تنفيذه وقضائه وتحرياً للنصفة في أخذه وعطائه(24). فمن الذي امتثل الماوردي أمره فألف له الكتاب؟ ومما يجدر ذكره أن الخليفة العباسي "القائم بأمر الله" كان راغباً آنذاك في التحرر من حماية البويهيين الشيعيين فأشار على الماوردي القانوني الكبير وأقضى قضاة عصره أن يضع كتاباً يضمّنه أصول الحكم القويم فاستجاب الماوردي فألّف كتاباً سماه "الأحكام السلطانية"(25). والراجح أن تصنيف الأحكام السلطانية تم قبل عام 435هـ، أي قبل أن يستنجد الخليفة العباسي "القائم بأمر الله" بالسلاجقة لتخليصه من تسلّط البويهيين الشيعيين، إذ يتضمن كتاب الأحكام السلطانية إجازة استنصار خليفة المسلمين بمن يقبض يده ويزيل تغلبه، حتى ينفّذ الخليفة فعله ويبسط أمره ونفوذه، وربما شكّل ذلك مسوغاً شرعياً للخليفة العباسي للاستنجاد بالسلاجقة(26).
يمكن القول أن قوة وقيمة كتاب الأحكام السلطانية تتمثل في طبيعة التناول وعمقها والظروف التي كتب فيها الكتاب، حيث كتب في أشد فترات الخلافة تقهقراً وانحطاطاً، والماوردي بذلك المؤلف يقدم مثالاً فذاً في الحذق.
تذهب بعض الدراسات إلى أن كتاب الأحكام السلطانية للماوردي ليس عرضاً موضوعياً لنظرية قائمة وإنما في حقيقته دفاع أو توجيه في التفسير أوحت به وشكّلته ظروف عصر المؤلف. وقد حدثت تغيرات عنيفة في المنظومة السياسية الإسلامية أسرعت في تهشيم نظرية الماوردي، وقد اضطرت تلك التغيرات من جاء بعد الماوردي أن يتقدموا خطوات أخرى في سبيل الملائمة والتوفيق. وقد تعدّلت النظرية الأشعرية على يد إمام الحرمين "الجويني" ففي كتابه "الإرشاد" نزوعاً إلى التقليل من بروز مشكلة الإمامة، والراجح أن المنازعات المذهبية القديمة أخذت تفقد كثيراً من صلاتها بالواقع في الميدان السياسي في عصر "الجويني"(27).
ويبدو أن تلك النـزعة التوفيقية تجددت في الجيل الثاني في موقف الغزالي، إذ تحيطنا على مبلغ الهرم الذي أصاب المذهب الأشعري، إذ يذهب الغزالي إلى أن الخلافة منعقدة للمتكفل بها من بني العباس وأن الولاية نافذة للسلاطين في أقطار البلاد والمبايعين للخليفة ما يشير إلى المصلحة فيه والقول الوجيز أن تراعى الصفات والشروط للسلاطين تشوقاً إلى مزايا المصالح، ولو قطعنا ببطلان الولايات الآن لبطلت المصالح رأساً، بل أن الولاية لا تتبع إلا من بايعه صاحب الشوكة وهو الخليفة. يتضح من هذه الفقرة أن الخلافة كلها تمثلها الأسرة العباسية، ولم تعد تعتبر مصدر لجعل الحقوق التي تؤخذ بالقوة ذات صبغة شرعية شريطة أن يعترف صاحب الشوكة أي صاحب السلطة العسكرية وأن يعلن ولائه للخليفة. ولما قضى المغول على خلافة بغداد سنة 1258م يبقى على الفقهاء أن يعلنوا أن الحقوق المنتـزعة بالقوة هي في ذاتها حقوق مشروعة وأن السلطة العسكرية تمثل إمامة صحيحة(28).
ومن النظريات التي حجبتها النظرية الأشعرية تقول أن الخلافة حق لم تتمثل إلا في الخلفاء الأربعة الأوائل وأن حكم الأمويين والعباسيين كان خلافة مزورة. وقد تم اقتباس الفكرة الأفلاطونية المتعلقة بالملك الفيلسوف وتطبيقها على الإمامة الإسلامية التي تقيم الشريعة، وقد بيّن توماس أرنولد كيف تطوّرت هذه النظرية في المؤلفات العربية والفارسية. ونجد أن ابن خلدون القاضي المالكي يقوم بتوضيح هذه النظرية عند نهاية القرن الرابع عشر فيقول بكفاءة الخلق وخلافة لله في العباد ينفِّذ أحكامه فيهم. أن المبدأ المقبول في مسألة الخلافة هو أن الخلافة استمرت ثلاثين عاماً وأن ما بعدها لم يكن إلا إمامة أطلقت عليها ألقاب الخليفة على نحو من التعظيم والتبجيل. ويرى بعض الباحثين أن ما حققه الماوردي للدولة المثالية أي لنوع من الدولة الإسلامية مشابهة لدولة أفلاطون أولى "يتوبيا " "مور" إلا أنها دولة مشتقة من التأمل في القواعد الأساسية في الشريعة الإسلامية. وكانت النظرية السياسية لدى فقهاء السنة في تطورها الكامل على نقيض نظريات الشيعة والخوارج غير مستمدة بطريقة التأمل في الكتاب والسنة وإنما هي مؤسسة على تفسير هذين المصدرين على ضوء التطورات السياسية المتأخرة مؤيدة بقوة العقيدة(29).
ويمكن القول بأن الماوردي كان فقيهاً بنى على آراء من سبقوه ونظمها ووسّع في حدودهـا.
عموماً مثل كتاب "الأحكام السلطانية" أساساً للكتب التي تناولت النظم السلطانية(30)، بيد أنها أضافت أو عدّلت في أفكار الماوردي حسبما تقتضيه ظروف عصورهم السياسية، فقد وسّع الشيزري (ت 589هـ) في كتابه "نهاية الرتب في طلب الحسبة"، حيث اهتم بمراقبة أهل الذمة وربما كان علة الاهتمام أن عصر المؤلف هو القرن السادس الهجري، وكان عصر إحياء السنة فقد تخللته المنازعات بين السنة والشيعة في كثير من أنحاء العالم الإسلامي فضلاً عن نشوب الحروب الصليبية فأصبح يخشى من ممالاة الذميين في البلاد الإسلامية للصليبيين، سيما وان أرباب الحرف والصنائع كان أكثرهم من أهل الذمة، وقد وضع ذلك الكتاب لمساعدة الحكومة الأيوبية في مراقبة أرباب الحرف والصنائع(31).
أما العلاّمة ابن خلدون فقد تناول الأحكام السلطانية من زاوية مختلفة من حيث صيرورة الاجتماع البشري، كما ناقش شروط الإمامة والحكمة في اشتراط النسب القرشي ومقصد الشارع منه الذي لم يقتصر على التبرك بوصله النبي (صلى الله عليه وسلم) كما هو في المشهور، حيث رأى أن التبرك ليس من المقاصد الشرعية، ورأى أن المصلحة في اشتراط النسب هي المقصودة من مشروعيته، ورجح أن ذلك لاعتبار العصبة التي تكون فيها الحماية وتحقيق المطالب ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملة وأهلها وينتظم فيه الإلفة، ورأى أن قريشاً كانت عصبة مُضر وأهلهم وأهل الغلبة منهم، وكان لهم على سائر مُضر العزة بالكثرة والعصبة والشرف، فكان سائر العرب يعترفون بذلك ويستكينون لغلبهم، فلو جعل الأمر في سواهم لوقع إفتراق الكلمة فاشترط نسبهم القرشي، ورأى ابن خلدون أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا بعصر ولا بأمة وإنما هو من الكفاية فرأى أن العلة المشتملة على المقصود من القرشية هي وجود العصبة، فاشترط أن يكون القائم بأمر المسلمين من قوم أولي عصبة قوية غالبة على غيرها يستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية. واستدل على ذلك بسلوك "المامون" حين عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق وسماه "الرضا"، فاستنكر العباسيون ذلك ونقضوا بيعته وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي، وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السبل وتعددت الثورات والخوارج حتى بادر "المامون" من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم. ورأى ابن خلدون أن العصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصابات وتختلف باختلاف المصالح، وأن لكل منها حكماً يخصه لطفاً من الله بعباده. ورأى أن تُعلى مقاصد الشرع حتى لا يعبث بالمناصب الدينية(32).
وقد ولع الأوربيون ببحث ودراسة النظريات والنظم الإدارية للدولة الإسلامية التي يشرحها الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية.
ويعتبر الماوردي بكتابه "الأحكام السلطانية من أوائل المؤلفين في العلوم السياسية والإدارية من المسلمين ويشاركه في التأليف في هذا المجال معاصره القاضي "أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء المتوفى 458هـ) فقد ألّف كتاباً باسم "الأحكام السلطانية"، وذكر فيه الأحكام على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ويمكن القول بأن عبارات المؤلفين واحدة لولا أن أبا يعلى يذكر فروع مذهب الإمام أحمد ورواياته، ويبدو أن الماوردي قد سبق إلى التأليف(33). وربما يأتي كتاب أبي يعلى "الأحكام السلطانية" في إطار التنافس المذهبي بين الأحناف والشافعية.
لقد اهتدت كثير من النظم بضوابط الأحكام السلطانية وبصفة خاصة نظام الخلافة الصكوتية التي التـزمت بدرجات كبيرة بموجهات الماوردي في تقليد الوزارة وتنظيم الخراج، بيد أننا نلحظ تجاوزات في بعض التجارب، حيث نجد أن "باديس بن حبوس" –حاكم غرناطة- في القرن الخامس الهجري (422هـ) عيّن وزير تفويض- الوزير الأول- يوسف بن إسماعيل الذي كان يهودياً، ويمكن القول بأن الأندلسيون بصفة عامة لم يتقيدوا بمسألة النسب القرشي في تقليد الإمارة وذلك نظراً لأنهم ينتسبون إلى صنهاجة عرب اليمن.
الخاتمة:
-شكّل كتاب الأحكام السلطانية للماوردي إطاراً مفهومياً للنظم والتجارب السياسية في بلدان العالم الإسلامي.
-تختلف العصور التاريخية باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصب والمصالح، ولكل منها حكماً يخصه ومقصداً لطفاً من الله بعباده.
-كان للظروف السياسية التي أحاطت بالماوردي بصماتها على أفكاره واجتهاداته العلمية.
-تمت قراءات متعددة لأفكار الماوردي في الأحكام السلطانية عبر الفترات التاريخية المختلفة استوعبت مقاصد الشرع وكفلت مصالح الأمة.
-تبرز أهمية قراءة أدبيات الماوردي والمجتهدين الثقات الذين قدموا تصورات وحلولاً سياسية للكثير من القضايا السياسية التي شغلت اهتمام فتراتهم التاريخية بمنظور عصري يحقق مقاصد الشرع ويكفل مصالح العبـاد.