- الثلاثاء ديسمبر 27, 2011 2:17 am
#46874
بسبب السياسات التعليمية في عالمنا العربي التي تقوم علي النقل عن الفكر الغربي أساسا، لم يتعلم طلاب الجامعات العربية أي شئ يذكر عن علم يسمي الفكر السياسي الإسلامي، فمن تعلموا (الفكر السياسي) من غالبية أساتذة الجامعات المصرية والعربية درسوه في الغرب وجاءوا ليطبقوا ما درسوه لدينا هنا في العالم العربي والإسلامي دون أن يجتهدوا في تطبيقه علي واقعنا أو تعليم أبناءنا أصول السياسة كما هي في القران والسنة النبوية المطهرة، ويبنوا علي ما قدمه لنا السلف الصالح .
أي أن كل ما يدرس لطلابنا في الجامعات المصرية والعربية في ظل ما يسمى عصور التنوير التي بدأت بتوافد طلاب العالم الإسلامي علي الجامعات الغربية للتعلم هناك، من فكر سياسي لم يكن سوى الفكر السياسي الغربي بداية من أرسطو وأفلاطون وحتي منتسكيو وهيجل و"مكيافيللي" الذي كتب كتابه الشهير (الأمير) ويعتبره كثيرون بمثابة قاموس سياسي في حين أنه هو الذي شجع في هذا الكتاب سياسة الكذب والنصب والخديعة وقال أن السياسي يجب أن يتحلي بالكذب والخديعة (!)، وهي أمور لا علاقة لها بتراثنا الإسلامي الخلاق ولا يجب أن نعلمها لطلابنا .
أول من أدخل الفكر الإسلامي الحديث
شخص عربي واحد فقط – حسب علمي المتواضع - فكر في تدريس هذا الفكر السياسي الإسلامي الحديث، في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، في أواخر السبعينات من القرن الماضي وفق أصوله الإسلامية وأجتهد فيه وأكمل ما برع فيه علماءنا المسلمين الأوائل في عصور النهضة الإسلامية، ولاقي صعوبات جمة من المتغربون في جامعتنا لإدخال هذا الفكر الإسلامي الذين تساءلوا بجهل / وهل هناك شئ يسمي فكر سياسي إسلامي ؟!
هذا الشخص الشجاع هو العلامة الدكتور حامد عبد الله ربيع – رحمه الله – الذي كتب يقول: (أن أمتنا لن تقف على قدميها إن لم نعد إلى تعاليم آبائنا تنهل منها رحيق القيم وقصة البطولة وعظمة الإنسانية المسلمة".. والذي كنت - لحسن حظي- أحد تلاميذه في الكلية وأول دفعة تقريبا تلقت محاضرات في هذا الفكر السياسي الإسلامي علي يديه، والدكتور حامد ربيع بالمناسبة هو أيضا من أوائل من أدخلوا دراسة الصهيونية في الجامعات المصرية، وقد توفي في ظروف غامضة في سبتمبر 1989 .
هذا العلامة الجهبذ (حامد ربيع) أكمل دراسته في الغرب وحصل علي خمس شهادات دكتوراه وست دبلومات في العلوم المختلفة، واضطر للعيش في أحد أديرة ايطاليا (دير سان فرنسيسكو) مدة عشر سنوات، لأنه اكتشف داخل هذا الدير العشرات من أمهات الكتب الإسلامية القديمة من عصور النهضة الإسلامية التي سرقها لصوص الحروب الصليبية والاستعمار الغربي، فبقي هناك يطالع هذه الكتب التراثية الإسلامية كما قال هو – في كتابه (سلوك المالك في تدبير الممالك) وينهل منها .
وقد روى الدكتور حامد ربيع في مقدمة تحقيقه ودراسته لكتاب "سلوك الممالك"، التي تعد من أطول المقدمات في تحقيق الكتب ويشبهها البعض بمقدمة ابن خلدون، كيف أنه عقب عودته بعد رحلته العلمية الكبيرة في الخارج؛ واجه عقبات كؤودة من أجل إدخال الفكر الإسلامي إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التي يتألق فيها ـ على حد تعبيره ـ "الفكر الكنسي الكهنوتي" .
وكيف أن البعض انتقده ورفض العودة إلى جذورنا في الانتماء قائلا: (إن جهالة القرن العشرين التي يتصدرها ويحمل لواءها مدَّعو الثقافة العلمية تأبى علينا أن نعود إلى تقاليدنا وتراثنا)، ثم يقول: (ولكنني أشعلها حربًا بلا هوادة... لأنني واثق أن أمتنا لن تقف على قدميها إن لم تعد إلى تعاليم آبائنا تنهل منها رحيق القيم، وقصة البطولة، وعظمة الإنسانية المسلمة)، ثم يقول: (فهل يستطيع أولئك الذين على عاتقهم هذا الواجب أن يخرجوا سيوفهم، وأن ينضموا إلى جيش التحرير الفكري؟) .
فقد ظللنا دوما لا نقترب من مناقشة مسائل الديمقراطية أو التغيير السياسي في عالمنا العربي والإسلامي لأنه لا يوجد من علمائنا وأساتذتنا من اقترب من دراسة وتحقيق سنن التغيير في القران والسنة، ومن حاول اقتصر دوره علي الحدث العام نقلا عن الواقع الماضي دونما تطبيق علي الحاضر، دون أن يحدد لنا وسيلة للتغيير في العالم الإسلامي، والسبب أننا لم ندرس بعمق تاريخنا الإسلامي ولا سنن التغيير التي وردت في القران الكريم وفي السنة النبوية .
في حين أن الفكر السياسي الإسلامي هو فن الحكم وفق الشريعة الإسلامية ووفق أسس مستنبطة من القران والسنة، ووفقا للظرف الذي يعيشه المسلمون.. فلم يحدد الإسلام نمطا للحكم وإنما خط المبادئ وأسس الحكم العادل والشورى الحقيقة المعبرة عن الجميع، ومبادئ المساواة والعدل والتداول السلمي للسلطة بدون التكالب عليها.. ولكنه ترك الأسس والنظم وفق طبيعة العصر .
فعندما كان الحكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان المسلمون – لقلة عددهم - يتشاورون فيما بينهم في المسجد ويعقدون "برلمانهم" هناك، ثم بعد وفاته كانت سقيفة بني سعد هي أول "برلمان" إسلامي وأول لقاء شوري إسلامي لاختيار الحاكم، وإذا كان النظام القريب من النظام الإسلامي حاليا هو النظام البرلماني أو الرئاسي التعددي، فلا بأس من تطويعه وفق الأسس الإسلامية واستنباط قوانين التغيير السياسي في الفكر الإسلامي من هذه السنن النبوية والقرآن وما تركه لنا السلف الصالح من أفكار تحتاج الي تطوير.
مزايا الفكر السياسي الإسلامي
كان حامد ربيع يؤكد أن الحضارة لا تنشأ من العدم، وإن الخبرة الحضارية الإسلامية لم تكن مغلقة على نفسها، ولكنها ملكت قدرًا من الانفتاح على الآخرين سواء في الشرق أو الغرب، وتعاملت مع كافة الحضارات في العالم، ولم تقف أمامها موقف السلبية وإنما أوجدت قنوات من الاتصال معها، ومنطق الوجود يفرض أنه لا تعامل بدون تأثير وتأثر.
وقد عرض حامد ربيع في مقدمة تحقيقه لكتاب "سلوك المالك في تدبير الممالك" لعدد من النماذج من الحضارات المختلفة من حيث دلالتها السياسية، ومن ذلك:
النموذج اليوناني: في خبرة الدولة المدنية التي ظهرت في القرن السابع حتى القرن الخامس قبل الميلاد، والصفة الرئيسة في هذه الخبرة هي الفكر المثالي المجرد على حساب الحركة السياسية، حيث قدمت نماذج فكرية في نطاق الأخلاقيات السياسية على حساب النموذج الصالح لحل مشكلات المجتمع اليوناني، وصناعة الدولة المعبرة عن حقيقة العصر وآمال الجماعة السياسية.
النموذج الروماني: وقد تعامل هذا النموذج مع السلطة والسيادة، ونلحظ فيه طغيان الحركة، والمقصود بالحركة في هذا النموذج: القوة، وتمكين مجتمع معين من فرض نفوذه وسطوته على بقية المجتمعات الأخرى، وهو تعبير عن دولة القوة في التاريخ الغربي.
النموذج الفارسي: ويقوم على اختفاء حقوق المحكوم إزاء الحاكم؛ فالمحكوم لا وجود له، والحاكم هو الإله السياسي، وبالتالي فقد كان هذا النموذج منغلقًا على نفسه، ولم يستطع أن يبني نموذج الدولة المسيطرة، ويختلف النموذج الفارسي عن النموذج الروماني في أن الفارسي أطلق سيادة "الحاكم الإله"، ولم يسمح للفرد بأي وجود سياسي، ولو حتى من خلال الممارسة الطبقية، أما الروماني فقد قيد من طغيان الفرد باسم القيادة الحاكمة، كما منح حقوقًا للفرد من خلال مسالك الطبقة المختارة أو أرستقراطية الدم.
النموذج الكاثوليكي: في قلب القرون الوسطى وخاصة خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، ووصف هذا النموذج بالتعصب الديني المطلق، بما يترتب عليه من نتائج أساسها رفض التصورات المخالفة، والالتجاء إلى الطرد من الكنيسة في كل مناسبة تشعر فيها الكنيسة بالخوف أو الفشل من المواجهة.
ولذلك كان رد الفعل الطبيعي على النموذج الكاثوليكي هو بروز الدولة القومية، التي تقوم على أساس سيادة الفرد، وجعل حقوق المواطن تحتل المحور الأول والأخير للوجود السياسي.
وكان يؤكد أن كلا من النماذج السابقة لها مميزاتها وعيوبها، وأن كلا من الخبرات السابقة لها وظيفتها في التراث الإنساني، وأن النموذج الإسلامي من هذه التصورات الأربعة للوجود السياسي يختلف ويبدو أكثر تمييزا .. فهناك خصائص معينة للعلاقة السياسية في النموذج الإسلامي تجعله نموذجًا مستقلا في التطبيق، ومن خصائص العلاقة السياسية في التراث الإسلامي:
• أنها علاقة مباشرة لا تعرف الوسيط، أي أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة بين اثنين يقف كل منهما من الآخر موقف المساواة، لا تفصل أيًّا منهما عن الآخر أي عقبة اجتماعية أو نظامية.
• أنها علاقة تابعة تنبع من مفهوم العلاقة الدينية وتتحدد بها، حيث إن علاقة الإنسان المسلم بالكتاب الكريم هي التي تحدد خصائص العلاقة السياسية.
• أنها علاقة كفاحية حيث أن مفهوم الدعوة ونشر تعاليم الإسلام الذي ينبع من طبيعة العلاقة الدينية يفرض على المواطن المسلم الدفاع عن المثالية الحركية، وبجميع الأدوات والوسائل.
• أنها علاقة مطلقة لا تعرف التمييز والتنوع، والمقصود بالتنوع هنا التنوع الطبقي، أي التدرج التصاعدي، وبالتالي فالتمييز بين الحاكم والمحكوم هو تمييز وظيفي لا ينبع من متغير الانتماء، ولا من متغير الاستمرارية الوراثية.
• أنها علاقة تتسم بالبساطة فهي لم تعرف التجريد المثالي الذي عرفته الحضارة اليونانية، والتركيب النظامي الذي عرفته الحضارتان الرومانية والكاثوليكية، ولا الاستيعاب المطلق الذي عرفه نموذج الدولة القومية.
ولهذا كان النموذج الإسلامي يعبر عن مذاق خاص يجمع بين الفكر والحركة، ويخلق توازنًا معينًا بين الحاكم والمحكوم، ولا ينسى أن السيادة هي وليدة القوة، وأن القوة هي وحدها التي تحمي الشرعية.
المطلوب الآن أن نبني علي ما قدمه لنا الأوائل من مفكرينا المسلمين وما قدمه أساتذة عظام مثل الدكتور حامد ربيع، وهو ما بدأه تلاميذه بالفعل ولكن الجهد لا يزال قاصرا، والحديث يدور حول كلام عام عن الدولة الإسلامية والفكر الإسلامي دون الولوج لبناء نظرية سياسية إسلامية حقيقية تدرس لطلابنا بدل أن ندرس لهم فكر أمم أخري ضالة أو وثنية!.
أي أن كل ما يدرس لطلابنا في الجامعات المصرية والعربية في ظل ما يسمى عصور التنوير التي بدأت بتوافد طلاب العالم الإسلامي علي الجامعات الغربية للتعلم هناك، من فكر سياسي لم يكن سوى الفكر السياسي الغربي بداية من أرسطو وأفلاطون وحتي منتسكيو وهيجل و"مكيافيللي" الذي كتب كتابه الشهير (الأمير) ويعتبره كثيرون بمثابة قاموس سياسي في حين أنه هو الذي شجع في هذا الكتاب سياسة الكذب والنصب والخديعة وقال أن السياسي يجب أن يتحلي بالكذب والخديعة (!)، وهي أمور لا علاقة لها بتراثنا الإسلامي الخلاق ولا يجب أن نعلمها لطلابنا .
أول من أدخل الفكر الإسلامي الحديث
شخص عربي واحد فقط – حسب علمي المتواضع - فكر في تدريس هذا الفكر السياسي الإسلامي الحديث، في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، في أواخر السبعينات من القرن الماضي وفق أصوله الإسلامية وأجتهد فيه وأكمل ما برع فيه علماءنا المسلمين الأوائل في عصور النهضة الإسلامية، ولاقي صعوبات جمة من المتغربون في جامعتنا لإدخال هذا الفكر الإسلامي الذين تساءلوا بجهل / وهل هناك شئ يسمي فكر سياسي إسلامي ؟!
هذا الشخص الشجاع هو العلامة الدكتور حامد عبد الله ربيع – رحمه الله – الذي كتب يقول: (أن أمتنا لن تقف على قدميها إن لم نعد إلى تعاليم آبائنا تنهل منها رحيق القيم وقصة البطولة وعظمة الإنسانية المسلمة".. والذي كنت - لحسن حظي- أحد تلاميذه في الكلية وأول دفعة تقريبا تلقت محاضرات في هذا الفكر السياسي الإسلامي علي يديه، والدكتور حامد ربيع بالمناسبة هو أيضا من أوائل من أدخلوا دراسة الصهيونية في الجامعات المصرية، وقد توفي في ظروف غامضة في سبتمبر 1989 .
هذا العلامة الجهبذ (حامد ربيع) أكمل دراسته في الغرب وحصل علي خمس شهادات دكتوراه وست دبلومات في العلوم المختلفة، واضطر للعيش في أحد أديرة ايطاليا (دير سان فرنسيسكو) مدة عشر سنوات، لأنه اكتشف داخل هذا الدير العشرات من أمهات الكتب الإسلامية القديمة من عصور النهضة الإسلامية التي سرقها لصوص الحروب الصليبية والاستعمار الغربي، فبقي هناك يطالع هذه الكتب التراثية الإسلامية كما قال هو – في كتابه (سلوك المالك في تدبير الممالك) وينهل منها .
وقد روى الدكتور حامد ربيع في مقدمة تحقيقه ودراسته لكتاب "سلوك الممالك"، التي تعد من أطول المقدمات في تحقيق الكتب ويشبهها البعض بمقدمة ابن خلدون، كيف أنه عقب عودته بعد رحلته العلمية الكبيرة في الخارج؛ واجه عقبات كؤودة من أجل إدخال الفكر الإسلامي إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التي يتألق فيها ـ على حد تعبيره ـ "الفكر الكنسي الكهنوتي" .
وكيف أن البعض انتقده ورفض العودة إلى جذورنا في الانتماء قائلا: (إن جهالة القرن العشرين التي يتصدرها ويحمل لواءها مدَّعو الثقافة العلمية تأبى علينا أن نعود إلى تقاليدنا وتراثنا)، ثم يقول: (ولكنني أشعلها حربًا بلا هوادة... لأنني واثق أن أمتنا لن تقف على قدميها إن لم تعد إلى تعاليم آبائنا تنهل منها رحيق القيم، وقصة البطولة، وعظمة الإنسانية المسلمة)، ثم يقول: (فهل يستطيع أولئك الذين على عاتقهم هذا الواجب أن يخرجوا سيوفهم، وأن ينضموا إلى جيش التحرير الفكري؟) .
فقد ظللنا دوما لا نقترب من مناقشة مسائل الديمقراطية أو التغيير السياسي في عالمنا العربي والإسلامي لأنه لا يوجد من علمائنا وأساتذتنا من اقترب من دراسة وتحقيق سنن التغيير في القران والسنة، ومن حاول اقتصر دوره علي الحدث العام نقلا عن الواقع الماضي دونما تطبيق علي الحاضر، دون أن يحدد لنا وسيلة للتغيير في العالم الإسلامي، والسبب أننا لم ندرس بعمق تاريخنا الإسلامي ولا سنن التغيير التي وردت في القران الكريم وفي السنة النبوية .
في حين أن الفكر السياسي الإسلامي هو فن الحكم وفق الشريعة الإسلامية ووفق أسس مستنبطة من القران والسنة، ووفقا للظرف الذي يعيشه المسلمون.. فلم يحدد الإسلام نمطا للحكم وإنما خط المبادئ وأسس الحكم العادل والشورى الحقيقة المعبرة عن الجميع، ومبادئ المساواة والعدل والتداول السلمي للسلطة بدون التكالب عليها.. ولكنه ترك الأسس والنظم وفق طبيعة العصر .
فعندما كان الحكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان المسلمون – لقلة عددهم - يتشاورون فيما بينهم في المسجد ويعقدون "برلمانهم" هناك، ثم بعد وفاته كانت سقيفة بني سعد هي أول "برلمان" إسلامي وأول لقاء شوري إسلامي لاختيار الحاكم، وإذا كان النظام القريب من النظام الإسلامي حاليا هو النظام البرلماني أو الرئاسي التعددي، فلا بأس من تطويعه وفق الأسس الإسلامية واستنباط قوانين التغيير السياسي في الفكر الإسلامي من هذه السنن النبوية والقرآن وما تركه لنا السلف الصالح من أفكار تحتاج الي تطوير.
مزايا الفكر السياسي الإسلامي
كان حامد ربيع يؤكد أن الحضارة لا تنشأ من العدم، وإن الخبرة الحضارية الإسلامية لم تكن مغلقة على نفسها، ولكنها ملكت قدرًا من الانفتاح على الآخرين سواء في الشرق أو الغرب، وتعاملت مع كافة الحضارات في العالم، ولم تقف أمامها موقف السلبية وإنما أوجدت قنوات من الاتصال معها، ومنطق الوجود يفرض أنه لا تعامل بدون تأثير وتأثر.
وقد عرض حامد ربيع في مقدمة تحقيقه لكتاب "سلوك المالك في تدبير الممالك" لعدد من النماذج من الحضارات المختلفة من حيث دلالتها السياسية، ومن ذلك:
النموذج اليوناني: في خبرة الدولة المدنية التي ظهرت في القرن السابع حتى القرن الخامس قبل الميلاد، والصفة الرئيسة في هذه الخبرة هي الفكر المثالي المجرد على حساب الحركة السياسية، حيث قدمت نماذج فكرية في نطاق الأخلاقيات السياسية على حساب النموذج الصالح لحل مشكلات المجتمع اليوناني، وصناعة الدولة المعبرة عن حقيقة العصر وآمال الجماعة السياسية.
النموذج الروماني: وقد تعامل هذا النموذج مع السلطة والسيادة، ونلحظ فيه طغيان الحركة، والمقصود بالحركة في هذا النموذج: القوة، وتمكين مجتمع معين من فرض نفوذه وسطوته على بقية المجتمعات الأخرى، وهو تعبير عن دولة القوة في التاريخ الغربي.
النموذج الفارسي: ويقوم على اختفاء حقوق المحكوم إزاء الحاكم؛ فالمحكوم لا وجود له، والحاكم هو الإله السياسي، وبالتالي فقد كان هذا النموذج منغلقًا على نفسه، ولم يستطع أن يبني نموذج الدولة المسيطرة، ويختلف النموذج الفارسي عن النموذج الروماني في أن الفارسي أطلق سيادة "الحاكم الإله"، ولم يسمح للفرد بأي وجود سياسي، ولو حتى من خلال الممارسة الطبقية، أما الروماني فقد قيد من طغيان الفرد باسم القيادة الحاكمة، كما منح حقوقًا للفرد من خلال مسالك الطبقة المختارة أو أرستقراطية الدم.
النموذج الكاثوليكي: في قلب القرون الوسطى وخاصة خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، ووصف هذا النموذج بالتعصب الديني المطلق، بما يترتب عليه من نتائج أساسها رفض التصورات المخالفة، والالتجاء إلى الطرد من الكنيسة في كل مناسبة تشعر فيها الكنيسة بالخوف أو الفشل من المواجهة.
ولذلك كان رد الفعل الطبيعي على النموذج الكاثوليكي هو بروز الدولة القومية، التي تقوم على أساس سيادة الفرد، وجعل حقوق المواطن تحتل المحور الأول والأخير للوجود السياسي.
وكان يؤكد أن كلا من النماذج السابقة لها مميزاتها وعيوبها، وأن كلا من الخبرات السابقة لها وظيفتها في التراث الإنساني، وأن النموذج الإسلامي من هذه التصورات الأربعة للوجود السياسي يختلف ويبدو أكثر تمييزا .. فهناك خصائص معينة للعلاقة السياسية في النموذج الإسلامي تجعله نموذجًا مستقلا في التطبيق، ومن خصائص العلاقة السياسية في التراث الإسلامي:
• أنها علاقة مباشرة لا تعرف الوسيط، أي أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة بين اثنين يقف كل منهما من الآخر موقف المساواة، لا تفصل أيًّا منهما عن الآخر أي عقبة اجتماعية أو نظامية.
• أنها علاقة تابعة تنبع من مفهوم العلاقة الدينية وتتحدد بها، حيث إن علاقة الإنسان المسلم بالكتاب الكريم هي التي تحدد خصائص العلاقة السياسية.
• أنها علاقة كفاحية حيث أن مفهوم الدعوة ونشر تعاليم الإسلام الذي ينبع من طبيعة العلاقة الدينية يفرض على المواطن المسلم الدفاع عن المثالية الحركية، وبجميع الأدوات والوسائل.
• أنها علاقة مطلقة لا تعرف التمييز والتنوع، والمقصود بالتنوع هنا التنوع الطبقي، أي التدرج التصاعدي، وبالتالي فالتمييز بين الحاكم والمحكوم هو تمييز وظيفي لا ينبع من متغير الانتماء، ولا من متغير الاستمرارية الوراثية.
• أنها علاقة تتسم بالبساطة فهي لم تعرف التجريد المثالي الذي عرفته الحضارة اليونانية، والتركيب النظامي الذي عرفته الحضارتان الرومانية والكاثوليكية، ولا الاستيعاب المطلق الذي عرفه نموذج الدولة القومية.
ولهذا كان النموذج الإسلامي يعبر عن مذاق خاص يجمع بين الفكر والحركة، ويخلق توازنًا معينًا بين الحاكم والمحكوم، ولا ينسى أن السيادة هي وليدة القوة، وأن القوة هي وحدها التي تحمي الشرعية.
المطلوب الآن أن نبني علي ما قدمه لنا الأوائل من مفكرينا المسلمين وما قدمه أساتذة عظام مثل الدكتور حامد ربيع، وهو ما بدأه تلاميذه بالفعل ولكن الجهد لا يزال قاصرا، والحديث يدور حول كلام عام عن الدولة الإسلامية والفكر الإسلامي دون الولوج لبناء نظرية سياسية إسلامية حقيقية تدرس لطلابنا بدل أن ندرس لهم فكر أمم أخري ضالة أو وثنية!.