- الثلاثاء ديسمبر 27, 2011 7:08 am
#46910
سبل النجاة من الفتنة
( وفيه تسعة مباحث )
المبحث الأول
الاعتصام بالكتاب والسنة
إن الكتاب والسنة الصحيحة هما المصدر الأساسي للحق ، والمنبع الصافي لدين الإسلام ، فيهما المنهج الكامل لحياة البشر ، وهما الميزان الصحيح الذي توزن به الأقوال والأعمال والأفعال ، وبالإعراض عنهما ، والصد عن سبيلهما تقع الفتن ، وتحل الرزايا والمحن .
ولقد تضافرت أدلة الكتاب والسنة وأقوال السلف في التنبيه على هذا الأمر العظيم ( الاعتصام بالكتاب والسنة ) ، وأن التمسك بهما سبب رئيس في النجاة من الفتن كلِّها .
فمن أدلة القرآن على وجوب الاعتصام بالقرآن قوله - عزّ وجل - : واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ( ) ، وقد جاء عن السلف تفسيرات عديدة في المراد بالحبل ، لا تعارض بينها ، ومما ذكروا في تفسير الحبل أنه القرآن ( ) ، وقال الطبري عند قوله سبحانه : ولا تفرقوا : (( يعني جل ثناؤه بقوله : ولا تفرقوا ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله والانتهاء إلى أمره )) ( ) .
وقد لخص الإمام ابن القيم - رحمه الله - حقيقة الاعتصام بالقرآن بقوله : (( وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم ، ومعقولاتهم ، وأذواقهم وكشوفاتهم ومواجيدهم . فمن لم يكن كذلك فهو مُنسل من هذا الاعتصام . فالدين كله في الاعتصام به وبحبله ، علمًا وعملاً ، وإخلاصًا واستعانة ، ومتابعة ، واستمرارًا على ذلك إلى يوم القيامة )) ( ) .
وإن هذا الأمر وهو الدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة قد جاء مقررًا في القرآن بأساليب الترغيب كما في قوله سبحانه : وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ( ) ، وقوله : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا ( ) .
ومن أسلوب الترهيب قوله - جلا وعلا - : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ( ) .
وقرر ربُّنا - تعالى - هذا الأمر العظيم - الاعتصام بالكتاب والسنة - بوضوح عند الحديث عن التحاكم ، وأنه يجب أن يكون إلى الكتاب والسنة ، وإلا وقعت الفتنة ، ونزلت المحنة .
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً ( ) .
ففي هذه الآية الكريمة أمر - عزّ وجل - برد تنازع الناس كله ، في أصول الدين وفروعه إلى الكتاب والسنة ، وأن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية ، وأنه لا سلامة للأمة من جميع الفتن ، وخاصة فتنة الافتراق والاختلاف إلا باتباعهما ( ) .
* * *
وكما تواترت أدلة القرآن على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة ، فقد جاءت كذلك أدلة السنة على هذا النحو أيضًا ، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن الرسول وعظ الصحابة موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقيل : يا رسول الله ، وعظتنا موعظة مودع ، فاعهد إلينا بعهد . فقال : (( عليكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإنْ عبدًا حبشيًا ، وسترون بعدي اختلافًا شديدًا . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين . عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم والأمور المحدثات ، فإن كلَّ بدعة ضلالة )) ( ) .
وفي الحديث الآخر : (( يا أيها الناس : إني قد تركت فيكم ، ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا ، كتاب الله وسنتي )) ( ) .
وفي الحديث الصحيح أيضًا : (( ألا وإني أُوتيت القرآن ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته ( ) ، يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ، وإنّ ما حرّم رسول الله كما حرّم الله )) ( ) .
فهذا الحديث كله تخويف وتحذير من مغبة مخالفة سنة النبي مما ليس له في القرآن ذكر ، على ما ذَهَبَ إليه كثير من الفرق المبتدعة ( ) ، حتى فُتنوا ، وفَتَنوا ( ) .
وكما أجمعت الأدلة من السنة على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة ، وعرفنا أنه بالإعراض عنهما تحصل الفتنة ، وتحل المحنة ، فقد أجمعت كذلك أقوال السلف الصالح - رحمهم الله تعالى - على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة ، وأن الفتنة تحدث إذا خالف الناس هذين المصدرين العظيمين .
فهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - يأتيه رجل ، ويقول له : أوصني ، فيقول : (( عليك بالاستقامة ، واتباع الأثر ، وإياك والتبدع )) ( ) .
وهذا الإمام القرطبي - رحمه الله - يقول - وهو يعلق على قوله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ( ) - : (( أوجب تعالى علينا التمسك بكتابه ، وسنة نبيه ، والرجوع إليهما عند الاختلاف ، وأمر بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادًا وعملاً ، وذلك سبب اتفاق الكلمة ، وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين )) ( ) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : (( يجب أن يعلم يقينًا أنه لا يسوغ لأحد كائنًا من كان ما كان يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة ، وهذا مما اتفق عليه أولياء الله - عزّ وجل - ، ومَنْ خالف في هذا فليس من أولياء الله - سبحانه - الذين أمر الله باتباعهم ، بل إما أن يكون كافرًا ، وإما أن يكون مفرطًا في الجهل ، وهذا كثير في كلام المشايخ ، كقول الشيخ أبي سليمان الداراني ( ) : إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين : الكتاب والسنة )) ( ) .
وهكذا نرى توافر الأدلة على هذا الأصل العظيم ، مما يبرهن بوضوح أنَّ المسلم لا يمكن أن ينجو من الفتن ، كلِّ الفتن ، إلا إذا تمسك بهذا الأصل ، واتخذه منهاجًا يسير عليه ، ويثبت عليه حتى الممات ، وأن الإعراض عن تحكيم هذين المصدرين العظيمين سبب كبير لحصول الفتن ، وبخاصة عند الاختلاف ، فإن مسائل النزاع التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع ، إذا لم ترد إلى الكتاب والسنة الصحيحة لم يتبين فيها الحق ، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينه من أمرهم ، فإن رحمهم الله - تعالى - أقرَّ بعضهم بعضًا ، ولم يبغِ بعضهم على بعض ، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم ، فبغى بعضهم على بعض ، إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه ، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله ، وأيُّ فتنة أعظم من هذه الفتنة ؟!
المبحث الثاني
لزوم الجماعة
إن من أهم الأمور التي ينجو بها المسلم من فتنة الصد عن سبيل الله - تعالى - ، وفتنة الاختلاف والتفرق لزوم الجماعة ( ) ، والحذر من أسباب الفرقة والاختلاف .
وإن في شرع ربِّنا المطهر ، المتمثل في الكتاب والسنة ما يدعو إلى لزوم الجماعة بقوة ، ويحذر من الاختلاف أيما تحذير .
قال ربنا - عز وجل - : واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ( ) ، ومما جاء في تفسير الحبل ههنا أنه : لزوم الجماعة ( ) ، وقال عبدالله بن المبارك ( ) - رحمه الله - :
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا
منه بعروته الوثقى لمن دانا ( )
وثبت في الحديث الصحيح : (( نضّر الله عبدًا سمع مقالتي هذه ، فحملها ، فرب حامل الفقه فيه غير فقيه ، ورب حامل الفقه إلى مَنْ هو أفقه منه ، ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم ، إخلاص العمل لله - عزّ وجل - ، ومناصحة أولي الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم )) ( ) .
وثبت في الحديث الصحيح كذلك : (( إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ، ويد الله مع الجماعة ، ومَنْ شذّ شذّ إلى النار )) ( ) .
وفي الحديث الآخر : (( لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبدًا - قال : يد الله على الجماعة ، فاتبعوا السواد الأعظم ، فإنه من شذّ شذّ في النار )) ( ) .
* * *
قال الله - تعالى - : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ( ) ، وقال سبحانه : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يعملون ( ) .
يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - تعليقًا على الآية الكريمة : (( والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله ، وكان مخالفًا له ، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كلِّه ، وشرعه واحد ، لا اختلاف فيه ، ولا افتراق ، فمن اختلفوا فيه وكانوا شيعًا وفرقًا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات ، فإن الله قد برَّأ رسول الله مما هم فيه )) ( ) .
وكما جاء القرآن بالتحذير من الفرقة فقد جاء ذلك أيضًا في السنة الشريفة ، فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه قال : (( من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه )) ( ) .
وثبت في الحديث الصحيح كذلك : (( من فارق الجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية )) ( ) ، وفي الحديث الآخر : (( إن الله أمرني بالجماعة ، وأنه من خرج من الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه )) ( ) .
* * *
وكما جاءت الآيات والأحاديث بالحث على لزوم الجماعة ، والتحذير من الفرقة ، فقد اتبع سلفنا الكرام هذا الإرشاد من الكتاب والسنة ، وحرصوا على التآلف والاجتماع حتى وإن كانوا مختلفين في مسائل يقع فيها الاجتهاد ، ولم يكن ذلك الاختلاف سبب تفرق ووحشة ، أو نزاع ومخاصمة ، أو مفاصلة وهجران ، بل بقيت الأخوة الإيمانية ، والمودة قائمة وثابتة .
نعم لقد كان ذلك دأب السلف الصالح ، الذين كانوا يختلفون ويتناظرون مناظرة مناصحة ومشاورة ، مع بقاء الألفة والمحبة بينهم .
فالصحابة كم حصل بينهم من مسائل النزاع من هذا النوع في أبواب العبادات والمعاملات ؟ بل وفي مسائل قليلة من أمور الاعتقاد ، وكتب أهل العلم مليئة بالأمثلة .
ومع ذلك لم يعرف أن ذلك كان سبب خصومة وشقاق وهجران بينهم ، وخُذْ على سبيل المثال هذه القصة التي كانت من عبدالله بن مسعود فإن عثمان لمّا أتم صلاة الظهر والعصر بمنى أربعًا قال عبدالله : لركعتان متقبلتان أحب إليّ من أربع ، ولكني أكره الخلاف في الدين ، وصلّى مع الخليفة أربعًا مع أن له مستندًا من سنة الرسول ، ولم يؤدِ الاختلاف بين الصحابيين إلى شقاق أو بغضاء ( ) .
ثم تأمل كذلك هذه الحادثة التي وقعت للإمام الشافعي - رحمه الله - فإنه لقي يومًا يونس الصدفي ( ) - رحمه الله - فناظره في مسألة ، فافترقا ، ثم لقيه بعد ذلك ، فأخذ بيده ، وجعل يقول : ألا يستقيم أن نكون إخوانًا ، وإن لم نتفق في مسألة ( ) .
* * *
هذا وإن مما ابتليت به أمتنا اليوم ذلك التعصب الممقوت لأشخاص معينين ، ومعاداة آخين رغم أنهم من حملة الإسلام ، ودعاة القرآن ، وإن هذا لنذير هلاك إن لم ننتبه لذلك ، ونتدارك أنفسنا بالتآلف فيما بيننا ، وترك التحاسد والتباغض ، فلقد حذّر سلفنا الكرام من هذا الفعل الذميم ، والجرم الشنيع ؛ كل ذلك لما يترتب عليه من نتائج فاسدة ، وعواقب وخيمة .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : (( وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته ، ويوالي ، ويعادي عليها ، غير النبي ، ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله ، وما اجتمعت عليه الأمة ، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرقون به بين الأمة ، يوالون به على ذلك الكلام ، أو تلك السُنة ، ويعادون )) ( ) .
( وفيه تسعة مباحث )
المبحث الأول
الاعتصام بالكتاب والسنة
إن الكتاب والسنة الصحيحة هما المصدر الأساسي للحق ، والمنبع الصافي لدين الإسلام ، فيهما المنهج الكامل لحياة البشر ، وهما الميزان الصحيح الذي توزن به الأقوال والأعمال والأفعال ، وبالإعراض عنهما ، والصد عن سبيلهما تقع الفتن ، وتحل الرزايا والمحن .
ولقد تضافرت أدلة الكتاب والسنة وأقوال السلف في التنبيه على هذا الأمر العظيم ( الاعتصام بالكتاب والسنة ) ، وأن التمسك بهما سبب رئيس في النجاة من الفتن كلِّها .
فمن أدلة القرآن على وجوب الاعتصام بالقرآن قوله - عزّ وجل - : واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ( ) ، وقد جاء عن السلف تفسيرات عديدة في المراد بالحبل ، لا تعارض بينها ، ومما ذكروا في تفسير الحبل أنه القرآن ( ) ، وقال الطبري عند قوله سبحانه : ولا تفرقوا : (( يعني جل ثناؤه بقوله : ولا تفرقوا ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله والانتهاء إلى أمره )) ( ) .
وقد لخص الإمام ابن القيم - رحمه الله - حقيقة الاعتصام بالقرآن بقوله : (( وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم ، ومعقولاتهم ، وأذواقهم وكشوفاتهم ومواجيدهم . فمن لم يكن كذلك فهو مُنسل من هذا الاعتصام . فالدين كله في الاعتصام به وبحبله ، علمًا وعملاً ، وإخلاصًا واستعانة ، ومتابعة ، واستمرارًا على ذلك إلى يوم القيامة )) ( ) .
وإن هذا الأمر وهو الدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة قد جاء مقررًا في القرآن بأساليب الترغيب كما في قوله سبحانه : وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ( ) ، وقوله : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا ( ) .
ومن أسلوب الترهيب قوله - جلا وعلا - : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ( ) .
وقرر ربُّنا - تعالى - هذا الأمر العظيم - الاعتصام بالكتاب والسنة - بوضوح عند الحديث عن التحاكم ، وأنه يجب أن يكون إلى الكتاب والسنة ، وإلا وقعت الفتنة ، ونزلت المحنة .
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً ( ) .
ففي هذه الآية الكريمة أمر - عزّ وجل - برد تنازع الناس كله ، في أصول الدين وفروعه إلى الكتاب والسنة ، وأن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية ، وأنه لا سلامة للأمة من جميع الفتن ، وخاصة فتنة الافتراق والاختلاف إلا باتباعهما ( ) .
* * *
وكما تواترت أدلة القرآن على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة ، فقد جاءت كذلك أدلة السنة على هذا النحو أيضًا ، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن الرسول وعظ الصحابة موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقيل : يا رسول الله ، وعظتنا موعظة مودع ، فاعهد إلينا بعهد . فقال : (( عليكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإنْ عبدًا حبشيًا ، وسترون بعدي اختلافًا شديدًا . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين . عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم والأمور المحدثات ، فإن كلَّ بدعة ضلالة )) ( ) .
وفي الحديث الآخر : (( يا أيها الناس : إني قد تركت فيكم ، ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا ، كتاب الله وسنتي )) ( ) .
وفي الحديث الصحيح أيضًا : (( ألا وإني أُوتيت القرآن ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته ( ) ، يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ، وإنّ ما حرّم رسول الله كما حرّم الله )) ( ) .
فهذا الحديث كله تخويف وتحذير من مغبة مخالفة سنة النبي مما ليس له في القرآن ذكر ، على ما ذَهَبَ إليه كثير من الفرق المبتدعة ( ) ، حتى فُتنوا ، وفَتَنوا ( ) .
وكما أجمعت الأدلة من السنة على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة ، وعرفنا أنه بالإعراض عنهما تحصل الفتنة ، وتحل المحنة ، فقد أجمعت كذلك أقوال السلف الصالح - رحمهم الله تعالى - على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة ، وأن الفتنة تحدث إذا خالف الناس هذين المصدرين العظيمين .
فهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - يأتيه رجل ، ويقول له : أوصني ، فيقول : (( عليك بالاستقامة ، واتباع الأثر ، وإياك والتبدع )) ( ) .
وهذا الإمام القرطبي - رحمه الله - يقول - وهو يعلق على قوله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ( ) - : (( أوجب تعالى علينا التمسك بكتابه ، وسنة نبيه ، والرجوع إليهما عند الاختلاف ، وأمر بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادًا وعملاً ، وذلك سبب اتفاق الكلمة ، وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين )) ( ) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : (( يجب أن يعلم يقينًا أنه لا يسوغ لأحد كائنًا من كان ما كان يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة ، وهذا مما اتفق عليه أولياء الله - عزّ وجل - ، ومَنْ خالف في هذا فليس من أولياء الله - سبحانه - الذين أمر الله باتباعهم ، بل إما أن يكون كافرًا ، وإما أن يكون مفرطًا في الجهل ، وهذا كثير في كلام المشايخ ، كقول الشيخ أبي سليمان الداراني ( ) : إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين : الكتاب والسنة )) ( ) .
وهكذا نرى توافر الأدلة على هذا الأصل العظيم ، مما يبرهن بوضوح أنَّ المسلم لا يمكن أن ينجو من الفتن ، كلِّ الفتن ، إلا إذا تمسك بهذا الأصل ، واتخذه منهاجًا يسير عليه ، ويثبت عليه حتى الممات ، وأن الإعراض عن تحكيم هذين المصدرين العظيمين سبب كبير لحصول الفتن ، وبخاصة عند الاختلاف ، فإن مسائل النزاع التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع ، إذا لم ترد إلى الكتاب والسنة الصحيحة لم يتبين فيها الحق ، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينه من أمرهم ، فإن رحمهم الله - تعالى - أقرَّ بعضهم بعضًا ، ولم يبغِ بعضهم على بعض ، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم ، فبغى بعضهم على بعض ، إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه ، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله ، وأيُّ فتنة أعظم من هذه الفتنة ؟!
المبحث الثاني
لزوم الجماعة
إن من أهم الأمور التي ينجو بها المسلم من فتنة الصد عن سبيل الله - تعالى - ، وفتنة الاختلاف والتفرق لزوم الجماعة ( ) ، والحذر من أسباب الفرقة والاختلاف .
وإن في شرع ربِّنا المطهر ، المتمثل في الكتاب والسنة ما يدعو إلى لزوم الجماعة بقوة ، ويحذر من الاختلاف أيما تحذير .
قال ربنا - عز وجل - : واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ( ) ، ومما جاء في تفسير الحبل ههنا أنه : لزوم الجماعة ( ) ، وقال عبدالله بن المبارك ( ) - رحمه الله - :
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا
منه بعروته الوثقى لمن دانا ( )
وثبت في الحديث الصحيح : (( نضّر الله عبدًا سمع مقالتي هذه ، فحملها ، فرب حامل الفقه فيه غير فقيه ، ورب حامل الفقه إلى مَنْ هو أفقه منه ، ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم ، إخلاص العمل لله - عزّ وجل - ، ومناصحة أولي الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم )) ( ) .
وثبت في الحديث الصحيح كذلك : (( إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ، ويد الله مع الجماعة ، ومَنْ شذّ شذّ إلى النار )) ( ) .
وفي الحديث الآخر : (( لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبدًا - قال : يد الله على الجماعة ، فاتبعوا السواد الأعظم ، فإنه من شذّ شذّ في النار )) ( ) .
* * *
قال الله - تعالى - : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ( ) ، وقال سبحانه : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يعملون ( ) .
يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - تعليقًا على الآية الكريمة : (( والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله ، وكان مخالفًا له ، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كلِّه ، وشرعه واحد ، لا اختلاف فيه ، ولا افتراق ، فمن اختلفوا فيه وكانوا شيعًا وفرقًا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات ، فإن الله قد برَّأ رسول الله مما هم فيه )) ( ) .
وكما جاء القرآن بالتحذير من الفرقة فقد جاء ذلك أيضًا في السنة الشريفة ، فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه قال : (( من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه )) ( ) .
وثبت في الحديث الصحيح كذلك : (( من فارق الجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية )) ( ) ، وفي الحديث الآخر : (( إن الله أمرني بالجماعة ، وأنه من خرج من الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه )) ( ) .
* * *
وكما جاءت الآيات والأحاديث بالحث على لزوم الجماعة ، والتحذير من الفرقة ، فقد اتبع سلفنا الكرام هذا الإرشاد من الكتاب والسنة ، وحرصوا على التآلف والاجتماع حتى وإن كانوا مختلفين في مسائل يقع فيها الاجتهاد ، ولم يكن ذلك الاختلاف سبب تفرق ووحشة ، أو نزاع ومخاصمة ، أو مفاصلة وهجران ، بل بقيت الأخوة الإيمانية ، والمودة قائمة وثابتة .
نعم لقد كان ذلك دأب السلف الصالح ، الذين كانوا يختلفون ويتناظرون مناظرة مناصحة ومشاورة ، مع بقاء الألفة والمحبة بينهم .
فالصحابة كم حصل بينهم من مسائل النزاع من هذا النوع في أبواب العبادات والمعاملات ؟ بل وفي مسائل قليلة من أمور الاعتقاد ، وكتب أهل العلم مليئة بالأمثلة .
ومع ذلك لم يعرف أن ذلك كان سبب خصومة وشقاق وهجران بينهم ، وخُذْ على سبيل المثال هذه القصة التي كانت من عبدالله بن مسعود فإن عثمان لمّا أتم صلاة الظهر والعصر بمنى أربعًا قال عبدالله : لركعتان متقبلتان أحب إليّ من أربع ، ولكني أكره الخلاف في الدين ، وصلّى مع الخليفة أربعًا مع أن له مستندًا من سنة الرسول ، ولم يؤدِ الاختلاف بين الصحابيين إلى شقاق أو بغضاء ( ) .
ثم تأمل كذلك هذه الحادثة التي وقعت للإمام الشافعي - رحمه الله - فإنه لقي يومًا يونس الصدفي ( ) - رحمه الله - فناظره في مسألة ، فافترقا ، ثم لقيه بعد ذلك ، فأخذ بيده ، وجعل يقول : ألا يستقيم أن نكون إخوانًا ، وإن لم نتفق في مسألة ( ) .
* * *
هذا وإن مما ابتليت به أمتنا اليوم ذلك التعصب الممقوت لأشخاص معينين ، ومعاداة آخين رغم أنهم من حملة الإسلام ، ودعاة القرآن ، وإن هذا لنذير هلاك إن لم ننتبه لذلك ، ونتدارك أنفسنا بالتآلف فيما بيننا ، وترك التحاسد والتباغض ، فلقد حذّر سلفنا الكرام من هذا الفعل الذميم ، والجرم الشنيع ؛ كل ذلك لما يترتب عليه من نتائج فاسدة ، وعواقب وخيمة .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : (( وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته ، ويوالي ، ويعادي عليها ، غير النبي ، ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله ، وما اجتمعت عليه الأمة ، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرقون به بين الأمة ، يوالون به على ذلك الكلام ، أو تلك السُنة ، ويعادون )) ( ) .