صفحة 1 من 1

مفهوم العلاقات الدولية في الاسلام

مرسل: السبت فبراير 11, 2012 10:01 pm
بواسطة محمد ملفي ٠
من المقولات التي ما فتئ أعداء الإسلام من تكرارها وترديدها الزعم بأن الإسلام انتشر بحد السيف، ويستشهد بعضهم في ذلك بما لفريضة الجهاد من مقام عال وعظيم في الإسلام، فهل انتشر الإسلام حقًا بحد السيف؟!
تعددت أجوبة أهل العلم على هذا السؤال، غير أننا في هذا المقال نناقش تلك المقولة مناقشة سياسية في المقام الأول، وإن كان يسبقها مقدمة شرعية.
مقدمة شرعية:
القول بأن المسلمين كانوا ينشرون الإسلام بحد السيف غير صحيح؛ لأن الإكراه على الدين لا يجوز كما قال الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وقال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، ولكن المسلمين يدعون إلى دينهم ويبينون محاسنه, فمن رضي به دخل فيه, ومن لم يرضَ به دفع الجزية وبقي السلطان للمسلمين.
فاتهام الإسلام بأنه انتشر بالسيف ادعاء باطل، فالإسلام لم يكره أحدًا، ولم يجبر إنسانًا على اعتناقه؛ لأن الله لا يقبل إسلام المرء إلا إذا كان مصدقًا ومعتقدًا في أن الإسلام هو دين الله الخاتم الذي ينبغي أن يتبعه جميع البشر، وهذا لا يتأتى لمن يجبر على اعتناق الإسلام, فالإكراه ينافي أصل الإيمان.
ويدل على ذلك أن في الإسلام تشريع [أهل الذمة], وهؤلاء غير مسلمين رغبوا في العيش في دار الإسلام مع المسلمين على أن يبقوا على دينهم، والدولة الإسلامية تجيبهم إلى طلبهم وتدخل معهم بعقد يسمى [عقد الذمة], بموجبه يصير آمنًا على نفسه وماله ودمه مع بقائه على دينه، وفي الغالب يسلم هؤلاء أو الكثير منهم، ولو كان الإسلام ينتشر بالسيف لما شرع الإسلام عقد الذمة وآثاره.
العلاقات الدولية في مفهومها التجريبي:
بعد هذه المقدمة الشرعية الموجزة، تبدأ مناقشتنا السياسية لهذه المقولة بالحديث عن أسس العلاقات الدولية وفقًا للعلم التجريبي. تنوعت المناهج الحديثة التي تطرقت لموضوع العلاقات الدولية ما بين مناهج قانونية ودبلوماسية ومثالية وواقعية وغيرها من المناهج التي حاولت وضع نظرية عامة للعلاقات الدولية، إلا أن أقرب تلك المناهج للواقع هو المنهج الواقعي الذي يدرس العلاقات الدولية باعتبار ما هي عليه، وليس باعتبار ما يجب أن تكون عليه، ولولا تأثر هذا المنهج بعقلية غربية منحازة لقلنا: إن هذا المنهج هو أقرب إلى المنهج التجريبي المستند على التأمل والملاحظة والذي دعا إليه الإسلام.

ويستند المنهج الواقعي في تفسير العلاقات الدولية إلى المنطق القائل: إن القوة هي القاعدة المحورية في العلاقات الدولية، وأنه إذا كانت صراعات القوة تغلَّف أحيانًا ببضع الشكليات القانونية أو الدواعي والمبررات الأخلاقية، فإن هذا الغلاف الخارجي يجب ألا يخدعنا عن هذه الحقيقة الأساسية التي تتحكم في توازن العلاقات الدولية برمتها.
ويرافق هذا المنهج منهج آخر، يعرف بمنهج المصالح القومية، يعتبر أن السعي نحو تحقيق المصلحة القومية للدولة هو الهدف النهائي والمستمر لسياستها الخارجية، بمعنى آخر، فإن المصلحة القومية تشكل عامل الارتكاز الأساسي في تخطيط السياسة الخارجية لأية دولة في العالم، كبيرة كانت أو صغيرة.
ولعل هذين المنهجين الأولى بهما أن يكونا مكملين لبعضهما، وليسا منفصلين، فإن القوة وإن كانت مفتاح الأساس للعلاقات الدولية للمنهج الواقعي, إلا أن هذه القوة لابد لها من غاية تسير نحوها, وهي ما يعرف بالمصلحة القومية أو الوطنية، وبذلك تكون العلاقات الدولية في الحضارة المعاصرة مبنية على أصلين: المصلحة الوطنية والقوة. يقول جوزيف فرانكل في كتابه العلاقات الدولية: 'المصلحة الوطنية هي 'المفتاح الأساسي' في السياسة الخارجية، ويرتد هذا المفهوم في جوهره إلى مجموع القيم الوطنية، تلك القيم النابعة من الأمة والدولة في نفس الوقت، غير أن هذا المفهوم لا يخلو من غموض.. إن الجدل المتكرر حول السياسة الخارجية يتركز حول التفسيرات المختلفة لمتطلبات المصلحة الوطنية'. [ص 52].
ويقول عن القوة: 'إن مشكلة القوة تدخل جميع أنواع العلاقات الدولية، في الحروب والمنافسات تدخل القوة بمعناها العسكري، وفي التعاون يدخل التهديد بالقوة لقمع أحد الأطراف، يدور عالم السياسة كله حول ممارسة القوة والبحث عنها، غير أن القوة في السياسة الدولية أوضح بكثير وأقلُّ قيودًا من القوة في السياسة الداخلية. ولهذا فكثيرًا ما تسمى السياسة الدولية بسياسة القوة.. ولقد أدى الدور المهم الذي تلعبه القوة في العلاقات الدولية إلى نشوء مدرسة فكرية تفسر العلاقات الدولية على ضوء مفهوم القوة.. ولكن على الرغم من أن القوة تلعب دورًا مهمًا في السياسة الدولية، فإنها في الأساس وسيلة لتحقيق قيم وطنية'. [ص 93].
لا نريد أن نطيل الحديث من أجل إثبات أن القوة والمصلحة هما معيار العلاقات الدولية، حيث يكاد هذا الأمر أن يكون واضحًا جليًا لكل ذي عينين، خاصة أنه مع استصحاب هذين الأصلين يسهل علينا فهم كثير من الأحداث الدولية، فالحروب لا تنشأ إلا لمحاولة ضبط ميزان القوى بين دولتين تقودهما مصالح متعارضة، والتحالف لا يأتي إلا بين دول تقاطعت مصالحها ووفقًا لقوة كل دولة تكون درجة التحالف التي يبدأ من التبعية ويصل إلى الندية، وهكذا نستطيع أن نفهم كثيرًا من الأحداث والمستجدات في ضوء مفهومي القوة والمصلحة.
العلاقات الدولية في الإسلام:
قرر علماء الإسلام أن العقل الصريح لا يناقض الحديث الصحيح، فإذا صحّ في العلم التجريبي أن القوة والمصلحة هما أساس العلاقات الدولية، فهل يتناقض ذلك مع الإسلام؟!
يقرر القرآن الكريم في وضوح أن مناخ العلاقات الدولية، إنما هو مناخ الصراع والتدافع الدائم بين الأمم والأقوام، فهذه هي الصفة التي ميّزت تاريخ الإنسان منذ القدم، إذ ظلت تجمعاته وتكتلاته في حالة صراع وتدافع دائمين، هما صراع وتدافع بين الحق والباطل والخير والشر، وذلك هو مصداق قول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251].

غير أن الإسلام مع إيمانه بواقع التدافع، لا يعمل على فرض إرادته على الجنس البشري أجمع، بل يقدم نفسه دين هداية، ولا يتجه إلى استئصال الأديان أو الأفكار الأخرى، ولا يستعين بالقوة أو الجهاد إلا من أجل إعلاء كلمة الله وفتح المجال أمام نشر هذا الدين.
وفي ضوء هذا نقول: إن العلاقات الدولية في الإسلام تقوم على أصلين:
1- إعلاء كلمة الله:
فالإسلام دين عالمي، لا بد أن يسود، ولا بد أن تخضع له الأوطان؛ إما بالدخول في الإسلام وإما بدفع الجزية، يقول تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193].
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: 'أعطيتُ خمسًا لم يعطهن أحدٌ قبلي: نُصرتُ بالرعبِ مَسيرةَ شهرِ، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ، وأحلّت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة'.
فإن جاز لنا التعبير، فنقول: إن المصلحة القومية التي يسعى إليها الإسلام هو نشر الدين وإعلاء كلمة الله، ويتضح ذلك جليًا في سيرة النبي صلي الله عليه وسلم وصحبه من بعده، حيث كان نهج الصحابة عند ملاقاة عدوهم عرض عليهم أمرًا من ثلاث؛ دخول الإسلام، أو دفع الجزية، أو الحرب.
2- الجهاد في سبيل الله:
أما الوسيلة لتحقيق تلك الغاية فهي الجهاد، يقول تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه}، إلى غير ذلك من الآيات التي تؤكد أن الجهاد والقوة أمر ليس مقصود لذاته, بل إنه مقصود لنشر الدين وإعلاء كلمة الله.
يقول ابن تيمية في 'مجموع الفتاوى' [28/263]: 'فالمقصود أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه، وهكذا قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}, فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه, ثم قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}, فمن عدل عن الكتاب قُوّم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف. وقد رُوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا [يعني السيف] من عدل عن هذا [يعني المصحف]'.
ويجمع هذين الأصلين، الدعوة والقوة، الحديث الذي رواه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحهما عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 'أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى'.

وقد شغب كثير من العلمانيين على هذا الحديث وطعن آخرون في صحته، ولم يدركوا أن علماء الإسلام أشاروا إلى الفرق بين المقاتلة والقتل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أُمر بالمقاتلة ولم يؤمر بالقتل والفرق بينهما هو أن المقاتلة ليست مقصودة لذاتها ولكنها مقصودة لرفع الحاجز والعائق أمام انتشار دعوة الإسلام، فإذا رفع ذلك الحاجز رفعت المقاتلة، فعندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليًا لقتال يهود خيبر قال:‏ أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟! يعنى أرغمهم على الإسلام، فقال له: 'أنفذ على رِسلك حتى تنزل بساحتهم, ثم ادعهم إلى الإِسلام, وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدى اللّه بك رجلاً واحدًا خير من أن يكون لك حمر النَّعَم'. رواه مسلم.
وكما قال ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس: الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
وإذا كان القتل غير مقصود لذاته، فإن القوة في الإسلام يضبطها قيمة عظيمة هي العدل وفقًا للميزان الإسلامي، والعدل في الإسلام قيمة ذات ميزان واحد يلتزم بها المسلم كواجب أساسي في المنشط والمكره، وفي حالة الصداقة والعداوة، في القول والعمل، وفي الفعل والترك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
قال المفسرون: المعنى: لا يحملكم بغض قوم يقاتلونكم في الدين على أن لا تعدلوا في معاملتهم.
ويتضح ذلك جليًا في وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقادة جيوشه، حيث كان صلى الله عليه وسلم: إذا بعث جيشاً يقول: 'اغْزُوا وَلاَ تغلّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع'.
وبذلك يكون الأصل في العلاقات الدولية في الإسلام على التحقيق هو الدعوة وليس السلم أو الحرب كما ذهب البعض، إلا أن تلك الدعوة لابد من قوة تحميها وتحوطها، غير أن هذه القوة ليست مطلقة وليست مرادة لذاتها.