سيادة الامه قبل تطبيق الشريعه
مرسل: الثلاثاء فبراير 14, 2012 11:39 am
بداية أريد أن أقول بأنني سعيد بالحراك والجدال والنقاش الواسع الذي أحدثته مقالة (سيادة الأمة) . وأعترف بأن هذا هدف من ضمن أهداف نشر هذا الموضوع بهذه اللغة الواضحة والصريحة والبعيدة عن أي منطقة رمادية أو أساليب موهمة، لأن هذا الوضوح هو الذي سيحرك المياه الراكدة وهو الذي سيدفع بالكثيرين لإعادة القراءة في فقهنا من جديد وفق متطلبات الواقع المعاصر، ومن ثمَّ إعادة تنظيم وترتيب النظرية السياسية في التصور الإسلامي المعاصر أو على الأقل الشروع في تنظيرها بصورة مغايرة عن التنظير الذي حصل خلال العقدين الماضيين والذي كانت مثل هذا القضايا في اللامفكّر فيه. ومن هنا كان هذا الصدى الذي أحدثته المقالة مفرحا ويعود إلى النفس بالرضا . ولا أحب أن أخفي هذا الفرح لأجل التظاهر بالتواضع، فمن الطبيعي أن كل باحث وكاتب يفرح ويسعد حين يجد لأفكاره صدى وانعكاس كبير بين قرائه ومتابعيه . هذا أولا .
ثانيا : أحب أن أقول أيضاً أنني حين كتبت تلك المقالة حاولت أن أشرح فيها فكرتي بكل ما أملك من قدرة في الشرح والإيضاح، للدرجة التي جعلت البعض ينتقدني ساخرا بأني تكلفت جدا في شرح فكرتي أكثر من اللازم وأعدتها أكثر من مرة وبصورة مختلفة وبعبارة أخرى وبمعنى آخر وكأني أخاطب عقليات لا تفهم ولا تدرك الخطاب لأول وهلة، أو كأني – لا سمح الله – أستصغر وأستغبي بعض العقليات، وهذا لا يليق بالكاتب؛ أن يتعامل مع قرائه بهذا الانطباع، فالكاتب يجب أن يفترض بأن القارئ لديه عقل وفهم وعلم، خاصة من لديه اهتمام بمثل هذه القضايا، بل قد يكون القارئ أكثر عقلا وفهما وعلما من الكاتب . وبالتالي فالتنزّل في الشرح والإيضاح لدرجة الإملال أحيانا قد يخلق هذا الانطباع السيئ لدى القارئ .
لا أخفيكم كنت أخشى فعلا من هذا الانطباع السيئ الذي قد يشعر به القارئ .. ولكن حين اطلعت على مهرجان الردود والاعتراضات التي بالمناسبة لم تكن منصبة على فكرتي وإنما على فكرة أخرى لم أتعرض لها ولم أناقشها، وكذلك حفلة الردح والرفس والكيل بالتهم والقذف وهي بالمناسبة كثيرة لحدّ الذهول .. ارتحت حينها نفسيا وعرفت بأن التكلف الذي بذلته في إيضاح الفكرة كان مستحقا .. بل أيقنت بأن الأمر يحتاج إلى بذل مزيد ومزيد من التكلف لإيضاح الفكرة .. وإن كنت مؤمنا بأن ثمة عقليات لو نشرح لها بأن الشمس ليست كالقمر وأن السماء ليست كالأرض وأن البحر ليس كاليابس فلن تفهم ذلك أو بالأصح لا تريد أن تفهم .. مثل هذه العقليات ليس من الحكمة أن يبدّد العاقل وقته وعمره في إفهامها، كما أنه لا يصح أن يكون خطاب الباحث والكاتب مجرد صدى لردود الآخرين وانفعالاتهم كما هو حال البعض الذين لا أجد في كتاباتهم إلا صدى لأفكار المخالفين لهم . والباحث في النهاية مسؤول عن توضيح فكرته – قدر المستطاع والإمكان – ثم يمضي في إكمال بناء مشروعه .
ثالثا : وجدت غالب الاعتراضات والردود تضرب في أرض غير أرضي التي حددتها ورسمت مساحاتها وتظن بأنها أرضي، يناقشون فكرة لم أتعرض لها ولم أناقشها أصلا، اختلقوا في أذهانهم شخصا آخر غير شخصي ومقالة غير مقالتي ونسبوا إليها فهمهم ثم اشتغلوا بالاعتراض والنقد على ذلك الفهم الذي اختلقوه أيضا . طبعا أتحدث هنا عن الاعتراضات والردود التي تبدو في ظاهرها العلمية والموضوعية ولكنها لم تناقش مقالتي بل ناقشت شيئا آخر . وأستثني بعض النقاد والمعترضين الذين استفدت حقيقة من نقدهم واعتراضهم لا لشيء إلا لأنهم قرؤوا مقالتي بوعي واعترضوا على فكرتي التي أعنيها لا على فكرة اختلقوها في أذهانهم .
لكن في النهاية هذه الاعتراضات سواء كانت لفكرتي أو لفكرة أخرى مختلقة تبقى جديرة بالاهتمام والاحترام ومحاولة الإجابة عليها . وحديثي هنا عن الاعتراضات العلمية وأما الشتائم والسباب والقذف بالنفاق والروغان والزيغ والانتكاس والاتهام بتجويز الحكم بالطاغوت والعلمانية ونحو ذلك .. فهذه تطوى عندي ولا ألتفت إليها وليس من الحكمة والعقل أن يقف الإنسان عندها بل المنهج الصحيح في التعامل معها هو المنهج القرآني: ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) .
رابعا : من حيث المبدأ لا يمكن لي أن أرفض ممارسة النقد والاعتراض على مقالتي، فالمعترضون يمارسون حقهم الطبيعي في قراءة المقالة والتعاطي معها، من خلال النقد والتقويم بل ورفضها بالكلية إذا اقتضى الأمر وفق خلفيتهم الشرعية والفكرية .. يبقي هذا حق للقارئ .. وفكرتي مهما اعتقدتُ بصوابها ليست معصومة من الزلل والخطأ، فنحن بشر في النهاية يعترينا السهو والجهل والغفلة . فلا إشكال إذن في الاعتراض والنقد والرفض من حيث المبدأ، إنما الإشكال حين يكون النقد والاعتراض على فكرة هي ليست فكرتي . وحينها سيكون رفض الفكرة والاعتراض عليها بصورتها المشوَّهة والمزوّرة لا بصورتها الحقيقية كما يريدها كاتبها . أن يتم رفض الفكرة بعد فهمها كما هي في نفس الأمر أهون وأكثر عدالة من رفضها بدون فهمها أو فهمها على غير صورتها . وهذا ما يسميه بعض المفكرين بـ (بتزوير المعرفة) الذي لا يقّل فداحة عن تزوير الأشياء الحسية .
ولذا فإن هذه المقالة التعقيبية لن تكون لأجل الإقناع، بقدر ما تكون للإفهام وتوضيح الملتبس، وبعد الفهم من حق القارئ أن يقبل فكرة المقال أو يرفضها .
لأدخل الآن في البيان، وسأعيد فكرة المقال مرة أخرى بأسلوب آخر وبشكل مختصر .. وأرجو من الله المعونة والتوفيق وأن يمنحني قدرة خارقة لأجل إفهام هؤلاء البعض !!
- 2 -
الشريعة الإسلامية في مبادئها وقيمها وكلياتها وأحكامها القطعية هي الإطار العام والمرجعية النهائية للتشريع في الإسلام . ووجوب التحاكم إلى الشريعة والالتزام بها أصل من أصول الدين وقضية محكمة من محكمات الشرع؛ وهي مقتضى الشهادة الرسالية التي تعني الاعتقاد بوجوب ((الاتباع)) المطلق و((التسليم)) الكامل لصاحب الشرع عليه أفضل الصلاة والسلام . وليس لمسلم إذا ثبت عنده حكم الله ورسوله أن تكون له ((الخيرة)) من أمره ما دام أنه مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لأن هذا مقتضى شهادته التي دخل بها الإسلام .
وبالتالي فالشريعة من حيث المبدأ ((لازمة)) على كل مؤمن ومؤمنة – سواء على المستوى الخاص أو على المستوى العام – ما دام أنه عقد الإيمان مع الله عز وجل . وعقد الإنسان مع الله أعظم وأجل وأقدس من عقد الإنسان مع غيره . والنصوص القرآنية التي تؤكد على هذا الأصل العظيم كثيرة جدا، كقوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء 56) . (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (الأحزاب 36) . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) . (هم الظالمون) . (هم الفاسقون) (المائدة 45 – 48) وغير ذلك من النصوص الكثيرة .
إذن مسألة التحاكم إلى الشرع قضية محكمة من محكمات الدين . من جحدها كفر ومن تركها دون جحود فهو ظالم لنفسه مرتكب للكبيرة على أصح القولين عند العلماء .
بعد هذه المقدمة العقدية .. عليك أن تعرف عزيزي القارئ أن هذه القضية لم يتطرق إليها المقال كليا، ولم يعرّج عليها، وبالتالي ليست هي موضوع المقال من الأصل .. ومع ذلك للأسف كانت هي قطب الرحى لغالب الردود والاعتراضات العجيبة !!
علي أية حال .. هذه المقدمة العقدية لم أطرحها لكي أدفع تهمة ونحو ذلك كما قد يتصور البعض، فإنني لو لم أكن أعتقدها لما كتبتها، إنما ابتدأت بهذه المسلمة العقدية لكي أراعي التدرج في التفهيم والشرح لبعض المعترضين ثم نبني عليها . فهي من باب حدثوا الناس بما يعقلون .
لنكمل ..
إذا ثبت أن اتباع الشرع والتسليم لحكم الله والرسول ((لازم)) على كل مسلم ومسلمة، سواء على المستوى الخاص (الالتزام الذاتي) أو على المستوى العام (فضاء الدولة) . وهو مقرر وثابت ومحكم في كتاب الله تعالى . فلننتقل حينها إلى المربع الثاني .. وهو :
من ينقل هذا الأصل المقرر والثابت والمحكم في كتاب الله تعالى من (المستوى الخاص) إلى (المستوى العام) أي إلى نظام دستوري يكون ملزم للحاكم والمحكوم ؟ كيف يتم تجسيد وتطبيق هذا الأصل في الواقع ؟ من يختار الشريعة ((الملزمة)) كمرجعية عليا ويجعلها دستورا للبلاد ؟
الجواب بحسب ما قلته في المقال : من يملك السيادة هو من يستطيع أن يجسد ويطبق هذا الأصل العظيم في الواقع، أقصد مبدأ ((إلزامية الشريعة)) .. من يملك السيادة هو من سينقل هذا الأصل المقرر والثابت والمحكم في كتاب الله تعالى إلى نظام دستوري يكون ملزما للحاكم والمحكوم .
لماذا أقول بقبلية (السيادة)، وبلغة واضحة وصريحة ؟
الجواب: لأن الشريعة ليس لها إرادة وقدرة لكي تطبق نفسها بنفسها في الواقع . هي مفتقرة للإنسان الذي يؤمن بها حتى تتجلى وتتجسد عبر ممارساته في الواقع . وهذا الإنسان – الذي يملك الإرادة والقدرة – إذا آمن بالشريعة يمكنه من خلال إرادته وقدرته أن يجسّد مبدأ ((إلزامية الشرع)) على المستوى الشخصي في حياته، ليس ممكنا فحسب بل هو واجب عليه ومكلّف بهذا وهو مقتضى عقد الإيمان، هذا بالنسبة على المستوى الشخصي (أي الحيّز الخاص) بالمفهوم القانوني .
لكن على المستوى العام (=الحيّز العام) بالمفهوم القانوني أي فضاء الدولة . والذي يشترك الفرد فيه مع غيره من أفراد المجتمع .. كيف يمكن للمؤمن في مثل هذا الفضاء أن يجسد مبدأ ((إلزامية الشريعة)) ؟ كيف يمكنه أن ينقل مبدأ ((إلزامية الشريعة)) من المستوى الشخصي إلى المستوى العام ؟
طبعا لماذا يسعى المؤمن لكي تكون الشريعة ملزمة على المستوى العام أيضا ؟
الجواب : لأن الشريعة في الإسلام ((ملزِمة)) فعلا على المستوى الخاص وعلى المستوى العام . وليس فقط على المستوى الخاص كما توهم البعض ! ولا أدري من أين فهمه من مقالتي ؟ بل الأعجب أن هناك من ذهب إلى أني أسقط مبدأ الإلزام بالكلية !! وهنا لا أملك إلا أن أصمت مذهولا مندهشا .
(بالمناسبة: حديثي هنا عن تطبيق الشريعة في الحيز العام؛ أي في جانبها القانوني لا في جانبها الذاتي، فالشريعة ليست كلها إلزام قانوني، منها ما هو أحكام قانونية كالأحوال الشخصية والحدود الشرعية ونحو ذلك . ومنها ما هو التزام ذاتي فردي لا يصح أن تتدخل وتتوغل فيه الدولة بالإلزام وهو الجانب الأكثر في الشريعة . وهذا موضوع آخر ليس هذا مقام البحث فيه، لكني أشير إليه حتى لا يفهم البعض من تطبيق الشريعة أن تقوم الدولة عبر سلطة القانون بإلزام جميع أفراد الشعب بجميع مسائل الشريعة، فهذا معارض لقواعد الشريعة ومقاصدها ولم يقع لا في عهد النبي ولا في عهد خلفائه الراشدين، وهذا ما وقعت فيه دولة الطالبان وغيرها. ولهذا لا يكون الإلزام إلا في الجانب القانوني من الشريعة .. ما هو الجانب القانوني وما هو الالتزام الذاتي من الشريعة ؟ وما الضابط في الفرق بينهما ؟ هذا ما سيكون في مقالة لاحقة بإذن الله .. انتهت الحاشية ولنقفل القوس) .
- 3 -
إذن سؤالنا .. على المستوى العام .. كيف يمكن للمؤمن أن يجسّد مبدأ ((إلزامية الشريعة)) الذي هو ملتزم به أصلا ولكن على المستوى الخاص ؟
الجواب : لا يمكن – بديهيا – لأي فرد أن يفرض ويجبر الآخرين بشيء ما لم تكن بيده السيادة والتي من خلالها يمارس سلطته، لا يمكن عقلا وحسا، فالإنسان في الفضاء العام هو مجرّد فرد ضمن أفراد المجتمع لا يمكنه من حيث القدرة أن يفرض عليهم قناعاته دون أن تكون له السيادة ودون أن يتسلط عليهم . فإذا أراد الإنسان أن يفرض قناعاته على الآخرين فعليه أولا أن يمتلك السيادة ويتسلط عليهم، بغض النظر عن مشروعية هذه السيادة وهذا التسلط: هل كان عبر إرادة الأمة أم عبر التغلب . المهم لا إجبار ولا إلزام بلا سيادة . وبدون تحصيل هذه السيادة لا يستطيع أن يفرض أحدٌ على أحد .
ولهذا لم يتسلط النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة بل قام داعيا مبشر ونذيرا، بل وما تسلط الأنبياء عليهم السلام على أقوامهم وألزموهم بالشرائع إلا من كان منهم ملكا من حيث الأساس. لم يكن هذا منهج الأنبياء عليهم السلام بل كان منهجهم وفق مسار: (بشيرا ونذيرا) وما كانوا يمارسون (الإلزام والإجبار) مع أقوامهم، لأن الإلزام والإجبار فرع عن السلطة التي هي فرع عن السيادة . ولهذا النبي صلى الله عليه لم يطبق مبدأ ((الإلزام في الشريعة)) إلا حين تقلّد السلطة في المدينة عبر تفويض أهلها له، في بيعة العقبة الأولى والثانية ووثيقة المدينة .
إذن (السيادة) مقدِّمة ضرورية عقلية حسية شرعية لأجل تطبيق الشريعة .. لأجل تجسيد مبدأ ((إلزامية الشريعة)) .. ولا يمكن لأحد من الخلق أن يطبق الشريعة في الواقع على المستوى العام ما لم يمتلك السيادة أولا .. والتي تنبثق من خلالها جميع السلطات .
نعم الشريعة ((ملزمة)) في نفسها وحاكمة على المؤمن في شؤونه الخاصة والعامة وليست محل للاختيار ولا يسع المسلم ولا المجتمع إلا الالتزام بالشريعة وهذا لازم كونه مسلما .. ولكن من يجسَّد هذا ((الإلزام)) دستوريا وقانونيا، أي على المستوى العام ؟
الجواب :
ليس أمامنا إلا حالتين :
إما عن طريق سيادة (الفرد المتغلب) وإما عن طريق سيادة (الأمة بمجموعها) . وليس هناك خيار ثالث. لأن الشريعة لا تملك القدرة والإرادة لكي تلزم نفسها بنفسها .
ومع ذلك .. تستغرب أن يأتي بعض المعترضين ويقول: السيادة لا تكون لأحد من الخلق .. السيادة للشريعة فقط !!!
حسنا .. أتعلمون ما معنى هذا الكلام ؟
وأرجو أن يتحملني البعض . لأني سأبدأ الآن في شرح البديهيات العقلية ومآلات إنكارها، وشرح البديهيات ثقيل على نفوس العقلاء . ولكن ما الحل ؟ مكره أخاك لا بطل !!
إذا قلنا : ((السيادة للشريعة)) فهذا يعني أن الشريعة كائن حي يملك القدرة والإرادة .. يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويجلس على عرشه ويأمر وينهى !
وبالتالي .. الشريعة هي التي تطبق نفسها في الواقع ! وهي التي تنقل نفسها من كونها منظومة من القيم والأحكام والمبادئ إلى كونها دستورا للبلاد .. وليست بحاجة إلى تصويت واستفتاء الأمة كما يقول التنويريون (هداهم الله) .. كما أنها ليست بحاجة لحاكم متغلب مستبد يفرضها بالقوة والقهر كما يقول غالب السلفيين .. لأنه لا سيادة لأي واحد منهما .. لا الأمة ولا الحاكم الفرد .. إنما السيادة للشريعة فقط.
بل حتى المعترضين على سيادة الأمة – بناء على اعتراضهم – لا يحق لهم أيضا أن يطبقوا الشريعة على المستوى العام عبر الإلزام والإجبار لأنهم لا يمتلكون السيادة، والفرض والإجبار والإلزام لا يكون إلا لمن يمتلك السيادة .. والسيادة للشريعة فقط !!!
فإذا كانت الأمة لا تمتلك السيادة .. والحاكم الفرد المتغلب المستبد لا يمتلك السيادة .. وكذلك المعترضون أنفسهم أيضا لا يمتلكون السيادة .. إذن من يطبق الشريعة ويجسد مبدأ ((الإلزام)) المتضمن بداخلها ؟
الجواب : يجسّد مبدأ ((الإلزام)) على المستوى العام من يمتلك السيادة .. والسيادة للشريعة فقط !!
ولهذا – بناء على هذا المنطق – إذا أردنا أن نطبق الشريعة في ولاية (لاس فيغاس) بأمريكا مثلا .. فيكفي أن نرسل القرآن وصحيح البخاري (زادهما الله تشريفا) إلى (لاس فيغاس) ونضعهما في أحد البيوت الفخمة وعلى أحد الرفوف المذهّبة .. وبإذن الله لن تمرَّ سنة إلا ولاس فيغاس بدون ملاهي وفنادق للدعارة والقمار !!
كيف ؟!
الجواب : أن الشريعة تملك السيادة، وبالتالي إذا دخلت إلى ولاية لاس فيغاس فلن تكون السيادة حينها للسكان ولا لحاكم الولاية المنتخب .. بل ستفرض الشريعة قيمها ومبادئها بناء على مبدأ ((الإلزام)) المتضمن في مفهومها القرآني . فهي ملزمة بنفسها وليست بحاجة إلى سيادة أحد لكي تحقق إلزامها .
قد يقول قائل : نحن نتكلم عن مجتمع مسلم ؟ وحكم المجتمع المسلم يختلف عن حكم المجتمع الكافر ؟
أقول : حسنا .. لا بأس ..
ليبيا اليوم .. من يملك السيادة فيها من حيث المبدأ ؟
هل هو الشعب الثائر الذي استرد وطنه ؟ أم المجلس الانتقالي ؟ أم الجماعات الإسلامية المقاتلة ؟ أم حلف النيتو ؟
الجواب : وفق منطق المعترضين لا أحد من هؤلاء يملك السيادة، إنما السيادة للشريعة فقط، ولهذا لا يحق للمجلس الانتقالي أن يختار الشريعة مرجعية للدستور لأنه لا يملك السيادة، وكذلك الشعب لا يحق له أن يختار الشريعة دستورا للبلاد لأن لا يملك السيادة، فضلا عن الجماعات المقاتلة وحلف النيتو كلهم لا يحق لهم ذلك، فهم لا يمتلكون السيادة .
إذن من يجعل الشريعة مرجعية للدستور ومن يجسد مبدأ ((الإلزام)) في ليبيا ؟
الجواب : الشريعة .. وليس غير الشريعة .. لأن الشريعة ملزمة لا خيار فيها ولا يسع لأحد أن يخرج عن طاعتها !!!
أرأيتم هذا التناقض كيف يثير السخرية والألم في آن !!
هذا التناقض الساخر هو الذي لخّصه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حين رفع الخوارج الحرورية شعار : (لا حكم إلا لله) فأجابهم بكلمته الذهبية: (القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال) . فكفرته الحرورية وكفروا الفريقين وكفروا كل من قبل بحكم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص . ولهذا إذا رفع بعض الفضلاء شعار : (لا سيادة إلا للشريعة) .. سنقول لهم بوضوح : (الشريعة لا تنطق إنما ينطق بها الرجال) . وأتمنى حينها ألا ينبري أحد من المندفعين والمتحمسين فيكفرنا كما كفرت الحرورية عليا رضي الله عنه .
المقصود : أن الشريعة عبارة عن منظومة من القيم والمبادئ والأحكام ((الملزمة)) وأؤكد على كلمة ((الملزمة)) وإلزاميتها ليس فقط على المستوى الشخصي (=الحيّز الخاص) بل هي ملزمة على المستوى (العام) فضاء الدولة، ولكن يبقى إلزامها مفتقر إلى من يجسّده في الواقع كدستور وقوانين ملزمة على الجميع . فمن يجسّد هذا ((الإلزام)) في الواقع ؟
الجواب كما سبق معنا : لا يمكن تطبيق الشريعة في المجال العام إلا عبر ((الإرادة والقدرة التي تمتلك السيادة)) وهذه ((الإرادة والقدرة التي تمتلك السيادة)) إما أن تتمثل في الأمة بمجموعها .. أو في حاكم متغلب مستبد .. ليس هناك خيار ثالث .. القسمة العقلية لا تقبل إلا الثنائية .
يهمني أن أنبه هنا أيضاً .. بأن المقصود بالتطبيق هنا: (الإلزام والإجبار) وليس (الامتثال الذاتي)، وإلا فالمؤمن يمكنه أن يطبق الشريعة ليس فقط في المجال الخاص، بل حتى في المجال العام عبر الامتثال الذاتي وبدون سيادة، فهو لا يحتاج إلى السيادة لمجرد الامتثال الذاتي حتى وإن كان في (الحيّز العام)، كما هو حاصل للمسلمين الآن في بلاد الغرب، يمارسون شريعتهم قدر المستطاع في الحيّز العام، ولكن إذا أراد المسلم أن ينقل هذا (الإلزام الذاتي) إلى قانون يلتزم به الجميع في الفضاء العام ؟ فلا بد إذن من السيادة التي تفرز السلطة والقوانين التي تقوم بوظيفة ((الإلزام والإجبار
ثانيا : أحب أن أقول أيضاً أنني حين كتبت تلك المقالة حاولت أن أشرح فيها فكرتي بكل ما أملك من قدرة في الشرح والإيضاح، للدرجة التي جعلت البعض ينتقدني ساخرا بأني تكلفت جدا في شرح فكرتي أكثر من اللازم وأعدتها أكثر من مرة وبصورة مختلفة وبعبارة أخرى وبمعنى آخر وكأني أخاطب عقليات لا تفهم ولا تدرك الخطاب لأول وهلة، أو كأني – لا سمح الله – أستصغر وأستغبي بعض العقليات، وهذا لا يليق بالكاتب؛ أن يتعامل مع قرائه بهذا الانطباع، فالكاتب يجب أن يفترض بأن القارئ لديه عقل وفهم وعلم، خاصة من لديه اهتمام بمثل هذه القضايا، بل قد يكون القارئ أكثر عقلا وفهما وعلما من الكاتب . وبالتالي فالتنزّل في الشرح والإيضاح لدرجة الإملال أحيانا قد يخلق هذا الانطباع السيئ لدى القارئ .
لا أخفيكم كنت أخشى فعلا من هذا الانطباع السيئ الذي قد يشعر به القارئ .. ولكن حين اطلعت على مهرجان الردود والاعتراضات التي بالمناسبة لم تكن منصبة على فكرتي وإنما على فكرة أخرى لم أتعرض لها ولم أناقشها، وكذلك حفلة الردح والرفس والكيل بالتهم والقذف وهي بالمناسبة كثيرة لحدّ الذهول .. ارتحت حينها نفسيا وعرفت بأن التكلف الذي بذلته في إيضاح الفكرة كان مستحقا .. بل أيقنت بأن الأمر يحتاج إلى بذل مزيد ومزيد من التكلف لإيضاح الفكرة .. وإن كنت مؤمنا بأن ثمة عقليات لو نشرح لها بأن الشمس ليست كالقمر وأن السماء ليست كالأرض وأن البحر ليس كاليابس فلن تفهم ذلك أو بالأصح لا تريد أن تفهم .. مثل هذه العقليات ليس من الحكمة أن يبدّد العاقل وقته وعمره في إفهامها، كما أنه لا يصح أن يكون خطاب الباحث والكاتب مجرد صدى لردود الآخرين وانفعالاتهم كما هو حال البعض الذين لا أجد في كتاباتهم إلا صدى لأفكار المخالفين لهم . والباحث في النهاية مسؤول عن توضيح فكرته – قدر المستطاع والإمكان – ثم يمضي في إكمال بناء مشروعه .
ثالثا : وجدت غالب الاعتراضات والردود تضرب في أرض غير أرضي التي حددتها ورسمت مساحاتها وتظن بأنها أرضي، يناقشون فكرة لم أتعرض لها ولم أناقشها أصلا، اختلقوا في أذهانهم شخصا آخر غير شخصي ومقالة غير مقالتي ونسبوا إليها فهمهم ثم اشتغلوا بالاعتراض والنقد على ذلك الفهم الذي اختلقوه أيضا . طبعا أتحدث هنا عن الاعتراضات والردود التي تبدو في ظاهرها العلمية والموضوعية ولكنها لم تناقش مقالتي بل ناقشت شيئا آخر . وأستثني بعض النقاد والمعترضين الذين استفدت حقيقة من نقدهم واعتراضهم لا لشيء إلا لأنهم قرؤوا مقالتي بوعي واعترضوا على فكرتي التي أعنيها لا على فكرة اختلقوها في أذهانهم .
لكن في النهاية هذه الاعتراضات سواء كانت لفكرتي أو لفكرة أخرى مختلقة تبقى جديرة بالاهتمام والاحترام ومحاولة الإجابة عليها . وحديثي هنا عن الاعتراضات العلمية وأما الشتائم والسباب والقذف بالنفاق والروغان والزيغ والانتكاس والاتهام بتجويز الحكم بالطاغوت والعلمانية ونحو ذلك .. فهذه تطوى عندي ولا ألتفت إليها وليس من الحكمة والعقل أن يقف الإنسان عندها بل المنهج الصحيح في التعامل معها هو المنهج القرآني: ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) .
رابعا : من حيث المبدأ لا يمكن لي أن أرفض ممارسة النقد والاعتراض على مقالتي، فالمعترضون يمارسون حقهم الطبيعي في قراءة المقالة والتعاطي معها، من خلال النقد والتقويم بل ورفضها بالكلية إذا اقتضى الأمر وفق خلفيتهم الشرعية والفكرية .. يبقي هذا حق للقارئ .. وفكرتي مهما اعتقدتُ بصوابها ليست معصومة من الزلل والخطأ، فنحن بشر في النهاية يعترينا السهو والجهل والغفلة . فلا إشكال إذن في الاعتراض والنقد والرفض من حيث المبدأ، إنما الإشكال حين يكون النقد والاعتراض على فكرة هي ليست فكرتي . وحينها سيكون رفض الفكرة والاعتراض عليها بصورتها المشوَّهة والمزوّرة لا بصورتها الحقيقية كما يريدها كاتبها . أن يتم رفض الفكرة بعد فهمها كما هي في نفس الأمر أهون وأكثر عدالة من رفضها بدون فهمها أو فهمها على غير صورتها . وهذا ما يسميه بعض المفكرين بـ (بتزوير المعرفة) الذي لا يقّل فداحة عن تزوير الأشياء الحسية .
ولذا فإن هذه المقالة التعقيبية لن تكون لأجل الإقناع، بقدر ما تكون للإفهام وتوضيح الملتبس، وبعد الفهم من حق القارئ أن يقبل فكرة المقال أو يرفضها .
لأدخل الآن في البيان، وسأعيد فكرة المقال مرة أخرى بأسلوب آخر وبشكل مختصر .. وأرجو من الله المعونة والتوفيق وأن يمنحني قدرة خارقة لأجل إفهام هؤلاء البعض !!
- 2 -
الشريعة الإسلامية في مبادئها وقيمها وكلياتها وأحكامها القطعية هي الإطار العام والمرجعية النهائية للتشريع في الإسلام . ووجوب التحاكم إلى الشريعة والالتزام بها أصل من أصول الدين وقضية محكمة من محكمات الشرع؛ وهي مقتضى الشهادة الرسالية التي تعني الاعتقاد بوجوب ((الاتباع)) المطلق و((التسليم)) الكامل لصاحب الشرع عليه أفضل الصلاة والسلام . وليس لمسلم إذا ثبت عنده حكم الله ورسوله أن تكون له ((الخيرة)) من أمره ما دام أنه مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لأن هذا مقتضى شهادته التي دخل بها الإسلام .
وبالتالي فالشريعة من حيث المبدأ ((لازمة)) على كل مؤمن ومؤمنة – سواء على المستوى الخاص أو على المستوى العام – ما دام أنه عقد الإيمان مع الله عز وجل . وعقد الإنسان مع الله أعظم وأجل وأقدس من عقد الإنسان مع غيره . والنصوص القرآنية التي تؤكد على هذا الأصل العظيم كثيرة جدا، كقوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء 56) . (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (الأحزاب 36) . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) . (هم الظالمون) . (هم الفاسقون) (المائدة 45 – 48) وغير ذلك من النصوص الكثيرة .
إذن مسألة التحاكم إلى الشرع قضية محكمة من محكمات الدين . من جحدها كفر ومن تركها دون جحود فهو ظالم لنفسه مرتكب للكبيرة على أصح القولين عند العلماء .
بعد هذه المقدمة العقدية .. عليك أن تعرف عزيزي القارئ أن هذه القضية لم يتطرق إليها المقال كليا، ولم يعرّج عليها، وبالتالي ليست هي موضوع المقال من الأصل .. ومع ذلك للأسف كانت هي قطب الرحى لغالب الردود والاعتراضات العجيبة !!
علي أية حال .. هذه المقدمة العقدية لم أطرحها لكي أدفع تهمة ونحو ذلك كما قد يتصور البعض، فإنني لو لم أكن أعتقدها لما كتبتها، إنما ابتدأت بهذه المسلمة العقدية لكي أراعي التدرج في التفهيم والشرح لبعض المعترضين ثم نبني عليها . فهي من باب حدثوا الناس بما يعقلون .
لنكمل ..
إذا ثبت أن اتباع الشرع والتسليم لحكم الله والرسول ((لازم)) على كل مسلم ومسلمة، سواء على المستوى الخاص (الالتزام الذاتي) أو على المستوى العام (فضاء الدولة) . وهو مقرر وثابت ومحكم في كتاب الله تعالى . فلننتقل حينها إلى المربع الثاني .. وهو :
من ينقل هذا الأصل المقرر والثابت والمحكم في كتاب الله تعالى من (المستوى الخاص) إلى (المستوى العام) أي إلى نظام دستوري يكون ملزم للحاكم والمحكوم ؟ كيف يتم تجسيد وتطبيق هذا الأصل في الواقع ؟ من يختار الشريعة ((الملزمة)) كمرجعية عليا ويجعلها دستورا للبلاد ؟
الجواب بحسب ما قلته في المقال : من يملك السيادة هو من يستطيع أن يجسد ويطبق هذا الأصل العظيم في الواقع، أقصد مبدأ ((إلزامية الشريعة)) .. من يملك السيادة هو من سينقل هذا الأصل المقرر والثابت والمحكم في كتاب الله تعالى إلى نظام دستوري يكون ملزما للحاكم والمحكوم .
لماذا أقول بقبلية (السيادة)، وبلغة واضحة وصريحة ؟
الجواب: لأن الشريعة ليس لها إرادة وقدرة لكي تطبق نفسها بنفسها في الواقع . هي مفتقرة للإنسان الذي يؤمن بها حتى تتجلى وتتجسد عبر ممارساته في الواقع . وهذا الإنسان – الذي يملك الإرادة والقدرة – إذا آمن بالشريعة يمكنه من خلال إرادته وقدرته أن يجسّد مبدأ ((إلزامية الشرع)) على المستوى الشخصي في حياته، ليس ممكنا فحسب بل هو واجب عليه ومكلّف بهذا وهو مقتضى عقد الإيمان، هذا بالنسبة على المستوى الشخصي (أي الحيّز الخاص) بالمفهوم القانوني .
لكن على المستوى العام (=الحيّز العام) بالمفهوم القانوني أي فضاء الدولة . والذي يشترك الفرد فيه مع غيره من أفراد المجتمع .. كيف يمكن للمؤمن في مثل هذا الفضاء أن يجسد مبدأ ((إلزامية الشريعة)) ؟ كيف يمكنه أن ينقل مبدأ ((إلزامية الشريعة)) من المستوى الشخصي إلى المستوى العام ؟
طبعا لماذا يسعى المؤمن لكي تكون الشريعة ملزمة على المستوى العام أيضا ؟
الجواب : لأن الشريعة في الإسلام ((ملزِمة)) فعلا على المستوى الخاص وعلى المستوى العام . وليس فقط على المستوى الخاص كما توهم البعض ! ولا أدري من أين فهمه من مقالتي ؟ بل الأعجب أن هناك من ذهب إلى أني أسقط مبدأ الإلزام بالكلية !! وهنا لا أملك إلا أن أصمت مذهولا مندهشا .
(بالمناسبة: حديثي هنا عن تطبيق الشريعة في الحيز العام؛ أي في جانبها القانوني لا في جانبها الذاتي، فالشريعة ليست كلها إلزام قانوني، منها ما هو أحكام قانونية كالأحوال الشخصية والحدود الشرعية ونحو ذلك . ومنها ما هو التزام ذاتي فردي لا يصح أن تتدخل وتتوغل فيه الدولة بالإلزام وهو الجانب الأكثر في الشريعة . وهذا موضوع آخر ليس هذا مقام البحث فيه، لكني أشير إليه حتى لا يفهم البعض من تطبيق الشريعة أن تقوم الدولة عبر سلطة القانون بإلزام جميع أفراد الشعب بجميع مسائل الشريعة، فهذا معارض لقواعد الشريعة ومقاصدها ولم يقع لا في عهد النبي ولا في عهد خلفائه الراشدين، وهذا ما وقعت فيه دولة الطالبان وغيرها. ولهذا لا يكون الإلزام إلا في الجانب القانوني من الشريعة .. ما هو الجانب القانوني وما هو الالتزام الذاتي من الشريعة ؟ وما الضابط في الفرق بينهما ؟ هذا ما سيكون في مقالة لاحقة بإذن الله .. انتهت الحاشية ولنقفل القوس) .
- 3 -
إذن سؤالنا .. على المستوى العام .. كيف يمكن للمؤمن أن يجسّد مبدأ ((إلزامية الشريعة)) الذي هو ملتزم به أصلا ولكن على المستوى الخاص ؟
الجواب : لا يمكن – بديهيا – لأي فرد أن يفرض ويجبر الآخرين بشيء ما لم تكن بيده السيادة والتي من خلالها يمارس سلطته، لا يمكن عقلا وحسا، فالإنسان في الفضاء العام هو مجرّد فرد ضمن أفراد المجتمع لا يمكنه من حيث القدرة أن يفرض عليهم قناعاته دون أن تكون له السيادة ودون أن يتسلط عليهم . فإذا أراد الإنسان أن يفرض قناعاته على الآخرين فعليه أولا أن يمتلك السيادة ويتسلط عليهم، بغض النظر عن مشروعية هذه السيادة وهذا التسلط: هل كان عبر إرادة الأمة أم عبر التغلب . المهم لا إجبار ولا إلزام بلا سيادة . وبدون تحصيل هذه السيادة لا يستطيع أن يفرض أحدٌ على أحد .
ولهذا لم يتسلط النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة بل قام داعيا مبشر ونذيرا، بل وما تسلط الأنبياء عليهم السلام على أقوامهم وألزموهم بالشرائع إلا من كان منهم ملكا من حيث الأساس. لم يكن هذا منهج الأنبياء عليهم السلام بل كان منهجهم وفق مسار: (بشيرا ونذيرا) وما كانوا يمارسون (الإلزام والإجبار) مع أقوامهم، لأن الإلزام والإجبار فرع عن السلطة التي هي فرع عن السيادة . ولهذا النبي صلى الله عليه لم يطبق مبدأ ((الإلزام في الشريعة)) إلا حين تقلّد السلطة في المدينة عبر تفويض أهلها له، في بيعة العقبة الأولى والثانية ووثيقة المدينة .
إذن (السيادة) مقدِّمة ضرورية عقلية حسية شرعية لأجل تطبيق الشريعة .. لأجل تجسيد مبدأ ((إلزامية الشريعة)) .. ولا يمكن لأحد من الخلق أن يطبق الشريعة في الواقع على المستوى العام ما لم يمتلك السيادة أولا .. والتي تنبثق من خلالها جميع السلطات .
نعم الشريعة ((ملزمة)) في نفسها وحاكمة على المؤمن في شؤونه الخاصة والعامة وليست محل للاختيار ولا يسع المسلم ولا المجتمع إلا الالتزام بالشريعة وهذا لازم كونه مسلما .. ولكن من يجسَّد هذا ((الإلزام)) دستوريا وقانونيا، أي على المستوى العام ؟
الجواب :
ليس أمامنا إلا حالتين :
إما عن طريق سيادة (الفرد المتغلب) وإما عن طريق سيادة (الأمة بمجموعها) . وليس هناك خيار ثالث. لأن الشريعة لا تملك القدرة والإرادة لكي تلزم نفسها بنفسها .
ومع ذلك .. تستغرب أن يأتي بعض المعترضين ويقول: السيادة لا تكون لأحد من الخلق .. السيادة للشريعة فقط !!!
حسنا .. أتعلمون ما معنى هذا الكلام ؟
وأرجو أن يتحملني البعض . لأني سأبدأ الآن في شرح البديهيات العقلية ومآلات إنكارها، وشرح البديهيات ثقيل على نفوس العقلاء . ولكن ما الحل ؟ مكره أخاك لا بطل !!
إذا قلنا : ((السيادة للشريعة)) فهذا يعني أن الشريعة كائن حي يملك القدرة والإرادة .. يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويجلس على عرشه ويأمر وينهى !
وبالتالي .. الشريعة هي التي تطبق نفسها في الواقع ! وهي التي تنقل نفسها من كونها منظومة من القيم والأحكام والمبادئ إلى كونها دستورا للبلاد .. وليست بحاجة إلى تصويت واستفتاء الأمة كما يقول التنويريون (هداهم الله) .. كما أنها ليست بحاجة لحاكم متغلب مستبد يفرضها بالقوة والقهر كما يقول غالب السلفيين .. لأنه لا سيادة لأي واحد منهما .. لا الأمة ولا الحاكم الفرد .. إنما السيادة للشريعة فقط.
بل حتى المعترضين على سيادة الأمة – بناء على اعتراضهم – لا يحق لهم أيضا أن يطبقوا الشريعة على المستوى العام عبر الإلزام والإجبار لأنهم لا يمتلكون السيادة، والفرض والإجبار والإلزام لا يكون إلا لمن يمتلك السيادة .. والسيادة للشريعة فقط !!!
فإذا كانت الأمة لا تمتلك السيادة .. والحاكم الفرد المتغلب المستبد لا يمتلك السيادة .. وكذلك المعترضون أنفسهم أيضا لا يمتلكون السيادة .. إذن من يطبق الشريعة ويجسد مبدأ ((الإلزام)) المتضمن بداخلها ؟
الجواب : يجسّد مبدأ ((الإلزام)) على المستوى العام من يمتلك السيادة .. والسيادة للشريعة فقط !!
ولهذا – بناء على هذا المنطق – إذا أردنا أن نطبق الشريعة في ولاية (لاس فيغاس) بأمريكا مثلا .. فيكفي أن نرسل القرآن وصحيح البخاري (زادهما الله تشريفا) إلى (لاس فيغاس) ونضعهما في أحد البيوت الفخمة وعلى أحد الرفوف المذهّبة .. وبإذن الله لن تمرَّ سنة إلا ولاس فيغاس بدون ملاهي وفنادق للدعارة والقمار !!
كيف ؟!
الجواب : أن الشريعة تملك السيادة، وبالتالي إذا دخلت إلى ولاية لاس فيغاس فلن تكون السيادة حينها للسكان ولا لحاكم الولاية المنتخب .. بل ستفرض الشريعة قيمها ومبادئها بناء على مبدأ ((الإلزام)) المتضمن في مفهومها القرآني . فهي ملزمة بنفسها وليست بحاجة إلى سيادة أحد لكي تحقق إلزامها .
قد يقول قائل : نحن نتكلم عن مجتمع مسلم ؟ وحكم المجتمع المسلم يختلف عن حكم المجتمع الكافر ؟
أقول : حسنا .. لا بأس ..
ليبيا اليوم .. من يملك السيادة فيها من حيث المبدأ ؟
هل هو الشعب الثائر الذي استرد وطنه ؟ أم المجلس الانتقالي ؟ أم الجماعات الإسلامية المقاتلة ؟ أم حلف النيتو ؟
الجواب : وفق منطق المعترضين لا أحد من هؤلاء يملك السيادة، إنما السيادة للشريعة فقط، ولهذا لا يحق للمجلس الانتقالي أن يختار الشريعة مرجعية للدستور لأنه لا يملك السيادة، وكذلك الشعب لا يحق له أن يختار الشريعة دستورا للبلاد لأن لا يملك السيادة، فضلا عن الجماعات المقاتلة وحلف النيتو كلهم لا يحق لهم ذلك، فهم لا يمتلكون السيادة .
إذن من يجعل الشريعة مرجعية للدستور ومن يجسد مبدأ ((الإلزام)) في ليبيا ؟
الجواب : الشريعة .. وليس غير الشريعة .. لأن الشريعة ملزمة لا خيار فيها ولا يسع لأحد أن يخرج عن طاعتها !!!
أرأيتم هذا التناقض كيف يثير السخرية والألم في آن !!
هذا التناقض الساخر هو الذي لخّصه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حين رفع الخوارج الحرورية شعار : (لا حكم إلا لله) فأجابهم بكلمته الذهبية: (القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال) . فكفرته الحرورية وكفروا الفريقين وكفروا كل من قبل بحكم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص . ولهذا إذا رفع بعض الفضلاء شعار : (لا سيادة إلا للشريعة) .. سنقول لهم بوضوح : (الشريعة لا تنطق إنما ينطق بها الرجال) . وأتمنى حينها ألا ينبري أحد من المندفعين والمتحمسين فيكفرنا كما كفرت الحرورية عليا رضي الله عنه .
المقصود : أن الشريعة عبارة عن منظومة من القيم والمبادئ والأحكام ((الملزمة)) وأؤكد على كلمة ((الملزمة)) وإلزاميتها ليس فقط على المستوى الشخصي (=الحيّز الخاص) بل هي ملزمة على المستوى (العام) فضاء الدولة، ولكن يبقى إلزامها مفتقر إلى من يجسّده في الواقع كدستور وقوانين ملزمة على الجميع . فمن يجسّد هذا ((الإلزام)) في الواقع ؟
الجواب كما سبق معنا : لا يمكن تطبيق الشريعة في المجال العام إلا عبر ((الإرادة والقدرة التي تمتلك السيادة)) وهذه ((الإرادة والقدرة التي تمتلك السيادة)) إما أن تتمثل في الأمة بمجموعها .. أو في حاكم متغلب مستبد .. ليس هناك خيار ثالث .. القسمة العقلية لا تقبل إلا الثنائية .
يهمني أن أنبه هنا أيضاً .. بأن المقصود بالتطبيق هنا: (الإلزام والإجبار) وليس (الامتثال الذاتي)، وإلا فالمؤمن يمكنه أن يطبق الشريعة ليس فقط في المجال الخاص، بل حتى في المجال العام عبر الامتثال الذاتي وبدون سيادة، فهو لا يحتاج إلى السيادة لمجرد الامتثال الذاتي حتى وإن كان في (الحيّز العام)، كما هو حاصل للمسلمين الآن في بلاد الغرب، يمارسون شريعتهم قدر المستطاع في الحيّز العام، ولكن إذا أراد المسلم أن ينقل هذا (الإلزام الذاتي) إلى قانون يلتزم به الجميع في الفضاء العام ؟ فلا بد إذن من السيادة التي تفرز السلطة والقوانين التي تقوم بوظيفة ((الإلزام والإجبار