- الأحد فبراير 19, 2012 5:50 pm
#47322
إذا أردنا أن نقرأ الفكر العربي المعاصر قراءة نقدية معرفية خلاقة بما يحقق تجاوز هذا الفكر لأزماته وعوائقه الداخلية ويحقق له كسب الرهانات التي تجعله عاملا من عوامل التقدم ودافعا إلى الإصلاح، ودعامة الشخصية الثقافية والهوية الحضارية في زمن العولمة والتحولات الكونية المتسارعة والمتضادة أحيانا، -إذ أردنا ذلك- من أين يمكن أن نبدأ؟ وما هي أدواتنا النظرية والمعرفية، وما هو مجال عملنا من جهة الحقبة الزمنية والمدونة النصية؟، هل نفترض تساوقا مع بعض أطروحات القراءة التاريخية أن الفكر العربي المعاصر كانت انطلاقته الأولى مع "صدمة الحداثة" وبدايات حملات الاستيطان والاستعمار أي أواسط القرن التاسع عشر وصولا إلى سقوط الخلافة العثمانية 1924، لتوقد شعلة هذا الفكر مجددا إبان هزيمة حيزران 1967 وصولا إلى المرحلة الراهنة(1).
ثم هل كان الفكر العربي المعاصر كما تحيل على ذلك العناوين الكثيرة والمتكرّرة المتعلّقة باستخدام هذا المفهوم المركّب من اصطلاحات ثلاثة: "فكر" "عربي" "معاصر" متجانسا ومتناغما في أطروحاته وفي استخدامه للمفاهيم؟ أو لنكن أكثر وضوحا ودقة في الاستدلال على ما يجب الاستدلال عليه هل كانت رؤى المفكرين العرب المعاصرين متجانسة أو متوافقة نظريا حول مقولة الإصلاح ذاتها وحول "الدولة" و"السياسة" و"الدين" و"المجتمع" و"التشريع" و"الحرية" و"الثقافة" و"التاريخ" و"الآخر" وحول "الأنا" ذاتها؟ طبعا قد يبدو من البديهي أن التجانس لم يكن موجودا مطلقا إذا الاختلاف والتّضاد حاصل وثابت، وهذا بديهي. لكن هل كسب هذا الفكر رهاناته الكبرى وحقق تطلعاته وتجاوز عوائق التقدّم والتحرر والبناء الحضاري. إن الإجابة عن هذا السؤال تصعب وتعسر، وتبدو معقدة للغاية(2)، سيما إذا استدعينا الطرف الثاني في بحث هذه المعادلة وهو السلطة السياسية، أو السياسة الحاكمة، إذ أنه من المحال أن نقرّ بتأثير للثقافة والفكر في الواقع بمعزل عن سلطة السياسي(3).
تبعا لما تقدم فإنّه يجدر أن نحدّد مكونات اصطلاحات هذا المفهوم : "الفكر العربي المعاصر" فالفكر يتعلق بالإنتاج النظري المتصل ببناء المفاهيم والنظريات والتصورات ذات العلاقة بالواقع والوجود الاجتماعي والحضاري والثقافي للأمة والمجتمع، ويتمركز عمل الفكر بما هو وعي نقدي أو نظر عقلي أو تحليل معرفي على دراسة المسائل الحضارية والثقافية والدينية والعقلية المتعلّقة بإشكالات التنمية والتقدّم والتحرّر والثقافة وتطوير قطاعاتها، (4)، والفكر بما هو خطاب نظري وفعل نقدي ومجمل تصورات ذهنية يستفيد من منجز المعرفة في العلوم النظرية والعلوم الإنسانية : التاريخ والاجتماع وعلم النفس والأنتروبولوجيا ومن الفلسفة ومن الخبرات الجماعية التي راكمتها الأمّة عبر تاريخها الثقافي والحضاري والروحي. أمّا عندما نتحدث عن الفكر العربي حيث يتخذ الفكر صفة له فإننا نخصص أمر الفكر مطلقا بالعالم العربي أو بالمجال الجغرافي الاجتماعي العام لوجود العرب، ولقضاياهم، وللإشكاليات التي تطرح عليهم، فصفة "العربي" هنا تحيل علي المجال. ونعني المجال الجغرافي المصطلح عليه بالعالم العربي: مجال وجود الأقطار والدول العربية من المحيط إلى الخليج.
أما في خصوص صفة "المعاصر" وهي نعت مركب بالعطف البياني لأن أصل الكلام لغة : الفكر العربي والمعاصر، فإنها تحيل على المجال الزمني الذي هو التاريخ المعاصر للعرب وللعالم العربي والذي يبتدئ من أواخر القرن التاسع عشر ويتواصل إلى حدود زمننا هذا كما يجمع على ذلك المؤرخون.
وهذا يعني أن الفكر العربي المعاصر عرف ثلاثة أطوار كبرى استقطبت كل منها جملة من المسائل والقضايا الشائكة وتتمركز كل منها حول إشكالية رئيسية.
الإشكالية المحورية الأولى تمركزت حول سؤال النهضة والتمدّن وهو المشغل الأساسي للفكر العربي المعاصر بما هو فكر إصلاحي، أو بما هو خطاب في الإصلاح، وقد استمر طرح هذا الإشكال داخل دوائر الفكر العربي المعاصر بموجب امتداد تأثير فكر عصر النهضة الذي نشأ وتبلور بصفة رئيسية إبّان حملة بونابرت على مصر، 1798م وانفتاح العالم العربي والإسلامي على نظيره الغربي المتقدم واكتشافه لتأخره وركوده وجمود عمل العقل فيه، ومن هنا ظهر ذاك السؤال المثير للجدل لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟(5) وهو سؤال دفع إلى التفكير في الدّين من جهة علاقته بالعلم والسياسة من ناحية وبالحرية والتقدم من ناحية أخرى على السواء، كما دفع ذلك إلى دراسة أسباب نكوص الحضارة العربية وخفوت عبقرية العرب بعد ان بلغوا أوج التقدم العلمي والحضاري.
الإشكالية المحورية الثانية وترتبط بالطور الثاني تمركزت مباحثها حول دراسة أسباب الهزيمة: هزيمة حيزران 1967 وهزيمة الدولة الوطنية ببعض الأقطار العربية في إنجاز أسباب التقدّم والتنمية وتحرير الإنسان وعقلنة الفكر، والارتقاء بالثقافة لتكون مرآة ينعكس عليها المنجز الحضاري والمعرفي والحقوقي والتقني، وتمهد له في الآن ذاته، وقد نجم عن ذلك تفكير نقدي في "التراث" هذا المفهوم الإشكالي الذي اخترق بقوة الخطاب العربي منذ أواخر الستينات وإلى حدود زمننا هذا (6). و"التراث" كما هو معلوم مفهوم واسع الدلالة متعدد التعريفات يمتد ليشمل كل الموروث الثقافي والعلمي والأدبي، والديني- في منظور بعض الأطروحات-، ويشمل كذلك مجمل التجارب السياسية والتحولات التاريخية والمعالم الحضارية والعمرانية على السواء، وهكذا شاع استخدام "التراث" مقابلا لـ"الحداثة" في الخطاب العربي المعاصر، وتم النظر في الإمكان الذي يكون به "التراث" مجملا، أو في جوانب منه مشتملا على بذور "الحداثة" هذا المفهوم الإشكالي بدوره والمعقّد في الخطاب العربي المعاصر، فظهر الحديث عن المفاهيم العقلانية والقيم الفكرية العلمية والتاريخية النقدية أو الإنسانية الخلقية التي تضمنتها مؤلفات المفكرين، والأدباء، والفلاسفة، والعلماء العرب، أو ارتبطت بسيرهم، وفي هذا السياق برزت المشاريع الفكرية النظرية المتعلّقة بقراءة التراث العربي والبحث في إمكانات جديدة تكون بمثابة مداخل نظرية ناجعة وتاريخية معرفية للحداثة وبالتالي للتقدّم والتحرر، وظهرت تبعا لذلك تلك الثـنائيات التي تم تداولها كثيرا حتى رأى بعضهم أن الفكر العربي المعاصر محكوم بالنظر في الثنائيات ومنها: التراث/الحداثة. الأصالة/المعاصرة. السلفية/التقدمية. العقلانية/الدغمائية (أو اللاعقلانية). العقل/الخيال العلم/الأسطورة. الحداثة/القدامة. التسامح/التطرّف. قصيدة النثر/ القصيدة العمودية....
أما الإشكالية المحورية الثالثة والأخيرة فقد ارتبطت بالطور الثالث، ومداراتها كثيرة ومترامية الأطراف غير أن هذه المرامي تتوحد جميعا حول همّ أساسي وكلّي هو كيف يمكن أن يحيا العرب في هذا الزمن؟ زمن العولمة أو زمن الكونية، زمن القطب الواحد، زمن الأنترنيت(الشبكة العالمية للمعلومات) والثورة الرقمية وتقنيات المعلوماتية السيارة إنه ذاك الزمن الذي بدأت تتحدد ملامحه ابتداء من سقوط المعسكر الاشتراكي إلى انهيار جدار برلين مع فجر التسعينات (ق 20) إلى بروز وضع "العولمة" وما رافقها من مقولات مثل : "الإنسان الأخير ونهاية التاريخ". "صراع الحضارات". "حوار الحضارات". "حوار الثقافات". "حوار الأديان" كونية القيم" "حقوق الإنسان وإنهاء الدكتوريات والأنظمة المستبدة" و"إحلال بدلا منها الديمقراطيات والأنظمة القائمة على التعددية الفكرية والسياسية والدينية...(7).
ولعله كان لأحداث 11 سبتمبر 2001 وللحرب على النظام العرافي سنة 2003 -ولتأزم أوضاع القضيّة الفلسطينية ولتصاعد عمليات العنف والإرهاب والاستشهاد في شتى أنحاء العالم تعبيرا عن حقوق ضائعة، واحتجاجا عن أوضاع قائمة- الأثر البارز في مسارات الفكر العربي المعاصر من جهة طبع أطروحاته واهتزاز مواقفه وتحولها إلى حد بدا معه أنه يحيا وضعا قلقا، وإشكاليا تجاه الوعي بالذات والموقف من الآخر أو ضبط أطر التواصل وآليات العمل وما يرافق ذلك من بناء للتصورات والرؤى وتحديد آفاق القول والعمل. أي بمعنى انه علينا أن نعرف كيف نفكر وفي ما نفكر وبأي أدوات ومفاهيم نفكر، وكيف نتواصل مع الآخر المختلف، وعلى أي وجه يمكن أن نحيا وإياه سويّا في عالم يسوده السلم والأمان ويحتكم إلى المبادئ والقوانين والقيم، وأداة الوصل فيه "الحوار".
من هذا المنطلق بالذات تجئ مساهمتنا هذه، إذ سنحاول على نحو من التدقيق والتحقيق العلمي والتاريخي فحص مقولة "الحوار" مع بيان استراتيجيتها في النظر والعمل بالنسبة إلى الخطاب والواقع حيث إن الحوار مفهوم معرفي نظري يستخدم باعتباره مصطلحا علميّا داخل مجالات إنتاج المعرفة النظرية والعلمية بالظواهر والحقائق والأفكار إذ، الحوار يعني "التناظر" أو "المناظرة" و"الجدل" و"المناقشة" و"المبارزة بالقول"، و"الحجاج"، وراهنا أعيد لمصطلح الحوار مركزيته في الفلسفة والعلم على السواء وأكدت المقاربات الإبستمولوجية ضرورة الاحتكام إلى الحوار والنقد المعرفي لتقدّم المعرفة العلمية، ولمعرفة حدود القوانين العلمية والأحكام العقلية من جهة إحاطتها بحقيقة الموضوع أو مجال الدراسة، إلى حد غدا معه أمر إدراك الحقيقة مشروطا مثلا لدى الفيلسوف الألماني هانزجورج غادمير H.G.Gadmer. بالاحتكام إلى منطق التفهم والحوار باعتباره طريقا إلى الحقيقة، فالمختلف والمضاد يمكن أن يكون على قدر كبير من "الوجاهة" وفيه حضور لجوانب من حقيقة الإنسان والوجود (8).
هذا في خصوص مجال المعرفة والعلم. أمّا في ما تعلق بمجال الواقع والوجود الاجتماعي والسياسي للأمم والمجتمعات فقد طفا للسطح مصطلح "الحوار" من جهة كونه الأفق النظري والأخلاقي السياسي "الإتيقي" الذي يستوعب كل الأقوال والمواقف المتعارضة والمتقابلة والمتنافرة أحيانا ويمنحنها شرعية التعبير والوجود، لكن هذا الأفق النظري الأخلاقي يحتكم بدوره عبر الحوار إلى منطق "الوجاهة" وإلى منطق "القــانون" أو الشرعية القانونية، حيث يحصل قول أو طرح ما على شرعية الوجود والفعل انطلاقا من مبدإ الانتخاب أو الاستفتاء أو الشورى أو قاعدة المداولة.
وهذا يحتم علينا أن نفحص مقولة "الحوار" وفكرته من زاويتين نظريتين، ووفق مرجعيتين زمانيتين ثقافيتين تتصل الأولى بوضع "الحوار" من جهة أشكاله وتمظهراته المختلفة في الثقافة العربية الكلاسيكية أي التراث المعرفي والفكري العربي وترتبط الثانية بمحاولة تجديد مظاهر حضور مقولة "الحوار" في الخطاب العربي المعاصر، وأشكال تعاطي الفكر المؤسس لهذا الخطاب مع مقولة الحوار وأطر تلقيه لها سواء في المستوى المعرفي النظري أو الإجرائي العملي المتصل بالممارسة السياسية والعملية لوجود العرب والمسلمين في العالم العربي الإسلامي وفي سائر أنحاء الكون، على أن نسعى استتباعا لذلك إلى أن نتبيّن جدوى فكرة "الحوار" ومدى نجاعتها في ما يتصل باستراتيجية التصدي للمشكلات والقضايا المطروحة على العرب والمسلمين سواء في مستوى الواقع الداخلي، وما يرتبط بذلك من تعايش بين المختلف داخل الوجود العربي والإسلامي، أو في خصوص ما يرتبط بالعلاقة بالآخر المختلف الغربي أو الأقصى شرقي (9) وسنقتصر في ما يتعلق بتحديد مظاهر حضور مقولة "الحوار" وفكرته في المدوّنة الثقافية الكلاسيكية على أبي الريحان البيروني (ت440هـ/1048م) المتكلم والفيلسوف والمؤرخ الذي ارتقت لديه مقولة "الحوار" بما هي مناظرة عقلية ومجادلة علمية تعتمد الحجّة والدليل إلى "انتروبولوجيا للحوار"، وهذا طبعا لا ينفي حضور مقولة "الحوار" أو "التواصل" مع الدخيل والوافد في المعارف والعلوم والفنون، وكذلك مناظرة المختلف والمباين واقتباس ما بدا أنه حق ويقين أو رأيا ذا وجاهة لدى مفكرين وفلاسفة ومتكلمين وصوفية عرب ومسلمين، إننا نلمس مظاهر لذلك لدى "الجاحظ (ت 255هـ) في رسائله" وكتبه الأخرى حيث بين أوجه التعاضد بين علوم العجم وحكمهم وآداب العرب وفضائلهم في بناء الحضارة واستمرار الثقافة وتبعه في ذلك أبو حيان التوحيدي (ت411هـ ) والفارابي (ت 339هـ) الذي اكد ضرورة اعتماد "الملّة" على حكمة اليونان وفلسفتهم لتوسيع دائرة النظـر و"العقل" وفهم أبعاد الرسـالات السماوية وأسرار فضائلها، وكذلك فعل ابن رشد (ت 595هـ)الذي بنى نسقه في ضوء نظرة جدلية تقوم على التوليف بين المنطق الأرسطي وعلوم البرهان لدى اليونان وحقائق الشريعة السماوية، وإنّا لنجد لدى مفكرين مؤرخين أمثال الشهرستاني والمبشر بن فاتك، وشمس الدين الشهرزوري - في اهتمامهم بالتاريخ التأريخ لعلوم الأقدمين وأديانهم ومنها حكم اليونان وبلاد فارس والهند-، نزعة الميل إلى التنصيص على ما بدا وجيها ومعقولا وذلك وفق منظوريتهم وهو ما يؤكد الحضور الفاعل والمؤثر لمقولة "الحوار" في التراث العربي.
من مظاهر الحوار في الثقافة العربية المرجعية :
إن المتأمّل في كتاب البيروني : "في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة فـي العقل أو مرذولة"(*) يجده اعتمد في بناء فصول هذا الكتاب ومسائله على تدرّج منهجي برهاني يجمع الحجة العقلية إلى الوثيقة المرجعية أو الواقعة التاريخية في التعرف إلى ثقافة الهند ودراسة عقائدها وتقصّى مضّان ذلك.
إن البيروني يشدّد على أهميّة نقل الخبر الصحيح وتوخي منهج الكتابة الموضوعية عن العقائد المخالفة للإسلام باعتبار أن ذلك يمثل شرط تحصيل المعرفة الصادقة بالآخر، ويظهر هذا من خطبة الكتاب إذ نجده يقول : "والكتابة نوع من أنواع الخبر يكاد أن يكون أشرف من غيره، فمن أين لنا العلم بأخبار الأمم لولا خوالد آثار القلم، ثم إن الخبر عن الشيء الممكن الوجود في العادة الجارية يقابل الصدق والكذب على صورة واحدة، وكلاهما لاحقان به من جهة المخبرين لتفاوت الهمم، وغلبة الهراش والنزاع على الأمم، فمن مخبر عن أمر كذب يقصد نفسه فيعظم به جنسه...ومعلوم أن ذلك من دواعي الشهوة والغضب المذمومين، ومن مخبر عن كذب في طبقة يحبهم لشكر أو يبغضهم لنكر... ومن مخبر عنه متقربا إلى خير بدناءة، ومن مخبر عنه جهلا، وهو المقلّد للمخبرين" (10) .
نـلاحظ أن البيــروني يصنف الأخبار ونقـلة العلم والرواة بحســب هواجسهم العـلمية أو دوافعهم الذاتية، أي من ناحية مصالح يرغبون تحقيقها، وهــو يــرى أن التحصيل العلمي من شأنه أن يصدّ عن الوقـوع في المـزالق والأغاليط، وهذا يصطلح عليه وفق منظور ابستمولوجي (معرفي علمي) حــديث بـ"الرّوح العــلمي" "Esprit Scientifique" (11)، ويظهر ذلك من كلامه "الذي لا يناشد إلا الحقيقة التي يصطلح عليها في لغة المناطقة بـ،"الماصدق"، ويشبهه بـ"العدل" يقول "وكما أن العدل في الطباع مرضي محبوب لذاته مرغوب في حسنه كذلك الصدق إلا عند من لم يذق حلاوته، أو عرفه أو تعاماه كالمسؤول من المعروفين بالكذب(12)، ولهذا يؤكد البيروني على أهمية معرفة الآخر كما هو في ذاته قائلا : "فمن لم يعرف حقيقة الحال فيها (معرفة الآخر) اغترف منها ما لا يفيده (13)، ويفسّر البيروني سبب اهتمامه بعقائد الهند ومذاهبهم الدينية والفكرية ليبين ما قد يكون لحقها من التشويه والتحريف فيقول : "وكان وقع المثال في فحوى الكلام على أديان الهند ومذاهبهم، فأشرب إلى أن أكثرها مسطور في الكتب وهو منحول، وبعضها عن بعض منقول ومخلوط غير مهذّب على رأيهم ولا مشذّب" هكذا إذن يبيّن البيروني حدوث التغيير والخلط في هذه العقائد بالنظر إلى أديان أهل الهند أنفسهم وليس بالاحتكام إلى دين آخر أي أنه يعارض حقيقة هذا الدين كما ظهرت بأصوله كما كانت في الأوّل !، وهذا منطوق قوله "غير مهذّب على رأيهم"، فالبيروني يطلب دراسة عقائد الهند وأديانهم وفق منطقها الداخلي وذلك بعيدا عن خطاب السّجال الجدّالي الذي وسم كتابات بعض المتكلمين واللاّهوتي ودعاة العقائد ويبسط في ذلك منهجه، ويحدّد غرضه فيقول : " وليس الكتاب كتاب حجاج وجدل حتى اشتغل فيه بإيراد حجج الخصوم، ومناقضة الزائغ منها عن الحق، وإنما هو كلام حكاية فأورد كلام الهند على وجهه، وأضيف إليه ما لليونانيين من مثله لتعريف المقارنة بينهم، فإن فلاسفتهم، وإن تحرّوا التحقيق فإنهم لم يخرجوا في ما اتصل بعوامهم عن رموز نحلتهم ومواضعات ناموسهم"(14).
ونجد البيروني يجتهد في وضع شروط موضوعية للدراسة العلمية لعقائد الهند، وغيرها من عقائد سائر الأمم، ومذاهبها، فبيّن أن من أوّل شروط ذلك المعرفة باللغة، وإدراك مزالق الترجمة، مؤكدا أنه على المترجم في مثل هذه المواضيع أن يكون عارفا بمضمون الغرض الذي فيه يترجم، ولا تتوقف معرفته على اللغة فحسب، "فعبر اللغة تتباين الأمم ومتى رامها (لغة الهند) أحد لإزالة المباينة لم يسهل ذلك لأنها في ذاتها طويلة عريضة، تشابه العربية، يتسمى الشيء الواحد فيها بعدة أسام مقتضبة ومشتقة" (15). فلغة أهل الهند في نظر البيروني "مركّبة من حروف لا يطابق بعضها حروف العربية أو الفارسية، ولا تشابهها بل لا تكاد ألسنتنا تنقاد إلى إخراجها على حقيقة مخارجها، ولا آذاننا تسمح بتمييز نظائرها وأشباهها ولا أيدينا في الكتابة لحكايتها"(16).
كما ينبه إلى أنه هناك اختلافات جوهرية أخرى بين الهنود والمسلمين لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار مثل : "أنهم يباينوننا بالديانة مباينة كليّة، لا يقع منا شيء من الإقرار بما عندهم ولا منهم شيء ممّا عندنا... ومنها أنهم يباينوننا في الرسوم والعادات"(17).
ولهذه الاعتبارات بدت مهمة دراسة عقائد الهند ومذاهبها لدى البيروني شاقة إلى أبعد حدّ، ولذلك ألفيناه يقول : "ولقد أعيتني المداخل فيه مع حرصي الذي تفردت به في أيامي، وبذلي الممكن غير شحيح عليه في جمع كتبهم من المظّان، واستحضار ما يهتدي لها من المكامن(18) وهذا من مطالب العلماء الجهابذة الذين يلقّبون سابقا بـ"الخاصة" أو "الخواص"، وفي ذلك قال البيروني "لأن قصارى الخواص إتّباع البحث والنظر"(19).
وفي خطاب صريح الدلالة يكشف البيروني عن غرضه العلمي الخالص من وراء دراسة ثقافة الهند وعقائدها على هذه الهيئة، حيث يقول، "وأنا في أكثر ما سأورده من جهتهم حاك غير منتقد إلا عن ضرورة ظاهرة، وذاكر من الأسماء والمواضعات في لغتهم ما لا بدّ من ذكره" (20).
إنه يمكن أن نعتبر أن مثل هذه الصرامة العلمية وما تبعا من دقة منهجية قد حددت مسالك عمل البيروني في التأريخ لعقائد الهند ومذاهبها، ومثلت بالفعل أساس قاعدة فكرية علمية انتروبولوجية تكوّنت في حضارة الإسلام المبكّر، وأصلّت للاعتراف بالآخر المختلف وبمعتقده وشرّعت مسالك التعرّف إليه علميّا، وهو ما دفع بالمستشرق الفرنسي كاردايفو (Carrade vaux) إلى القول : إن البيروني بمقاييسه هذه ينتسب إلى القرن التاسع عشر لا إلى القرن العشرين' (21) ومن ثم أمكن لنا أن نشاطر الرأي بعض الدارسين المعاصرين في خصوص اعتبارهم أن "لنا في البيروني أسوة حسنة لما يمكن أن يكون عليه "علم الثقافة" حتى لا يفقد الفكر أريحيته الإنسانية، ولا يضحى بضرورات الموضوعية العلمية، فيحاول الوقوف على ما عند الآخر من المناقب والمآثر والرؤى والسلوكات على ما هي عليه "حكاية" ويسعى من خلال ذلك إلى النفاذ إلى "معانيها" عند أهلها ثم إلى "تفسير" هذه المعاني أو "تأويلها" بحسب ما يتاح للعقل السببية فيها، في غير استيحاء مما بدا له أنه الحقّ، وفقا لما يوجبه العقل في سياق نظرة شمولية سمّاها البيروني : تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة "(22)، وعليه إنه من الممكن القول إن الخطاب الانتربولوجي نشأ مع البيروني في كتابه هذا الذي هو أثر علمي الرّوح والمنهج، فضلا عن أريحية تدفع في تلقائية إلى فهم الآخر، وإجلاء مقاصده، وإظهار تناسق رؤاه، حتى حين ينكرها العقل العلمي الصارم ذلك.
الحاجة إلى الحوار راهنا:
يمكننا الانطلاق في معالجة علاقة الفكر العربي المعاصر الحوار وبمدى الحاجة إليه انطلاقا من تأكيد حقيقة بديهية أولية وهي أن الحوار منهج لا غاية هو بمثل بامتياز شرط إمكان قيام فكر عربي خلاق (23)، ويمثل في حد ذاته استراتيجية فهم ونظر من شأنها أن تساعد على إيجاد حلول للمشكلات والقضايا والمسائل المطروحة على الوجود العربي اليوم سواء ما تعلق منها بالسياسة أو ما تعلق بالمذاهب والتيارات الفكرية المتمركزة أدبياتها حول قراءة الدين والباحثة عن إيجاد تفسير للواقع والتاريخ في ضوء النص الديني، وانطلاقا من فقه النص الديني حيث يحلّ التواصل والجدل العلمي بدل التصادم الذي ينتهي أحيانا إلى نوع من الإقصاء والتفكير، أو التصفية الدموية، ولعله من المؤسف له، ومن علامات الحياد عن المعقولية قوة الحجة أن يلتجئ المسلم باسم مذهب ما أو قراءة معينة للإسلام تقدم خطابها على أنه مطابق لمنطوق النص : ليرفض رفضا قطعيا لكل الرؤى والمثابرات والتصورات الناقضة له حتى المختلفة عنه اختلافا جزئيا لا غير.
إنه علينا أن نعلم على نحو من الدّقة اليوم أن الأنظمة النظرية للمذاهب الدينية في الإسلام مثل ما هو الأمر في أي دين توحيدي آخر مع بعض الفوارق قامت دائما على فكرة الإطلاقية، وهي بالتالي ترفض الفعل أو الفكر خارج الأطر الصارمة المكونة للنظام النظري للمذاهب سواء في ما يتعلق بالأخلاق والسلوك الفردي والجماعي أو ما كان على ذا صلة بالتفكير الحر؟ النقدي. إنك إذا كانت مسلما أو إذ كنت مسيحيا أو يهوديا يجب أن تنتمي إلى فرقة كلامية عقدية (لاهوتية) ما و إلى مذهب في الشريعة يقنن لك ما تعمل في العبادة والمعاملات، يعني أنه لا يوجد تدين خارج المذهب –غالبا- وهذا ما ساهم في بروز ما اصطلح عليه بعض المفكرين المعاصرين بـ"الإسلام الموازي" (23) حيث يعتقد الناس في الإسلام ويعملون به من خلال منظومة اجتهادية فقهية كلامية وضعها جمع من العلماء/ الفقهاء والمتكلمون وفقا لشروط مجتمعية وتاريخية ورهانات حضارية وكم معرفي معيّن.
وهكذا استقرت أغلب نزعات الفكر الدين في الإسلام المعاصر إلى نوع التعصب والإطلاقية، وإيثار ثقافة الشعارات والتدين التقليدي النابع غالبا من رؤون حشوية وسطحية لرسالة الإسلام ومعانيها السامية، ولعمق الحكمة التي انطوى عليها "القرآن" وكذلك نصوص الحديث النبوي – ما صح منها- ألم ترد الدعوة بارزة واضحة الدلالة في القرآن إلى التّعرف إلى الآخر مهما كان دينه أو عرقه أو ثقافة أولوية والتعاون وإياه بما من شأنه أن يحصل أمن الإنسانية وسعادتها. ولنا في قوله تعالى : "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلنا كم شعوبا وقبـائل لتعـــارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
أسوة حسنة وأليس الحوار اليوم بالذات صار ضرورة تؤصر للتواصل بيننا وبين الآخر، وهو يتنزل بمنزلة قناة للتفاوض من أجل إثبات الذات أن الحوار، شكل من أشكال التعارف، ذلك أنه لكي أتحاور يجب أن أعرف ذاتي وأعرف الآخر، فالحوار معرفة وطريق إلى معرفة، وعبر المعرفة يكون التعيير في التصور الذهني وفي الموقف... بهذا يتأكد لنا أنه ثمة علاقة وطيدة بين حوار الأديان وحوار الثقافات "فخورا الأديان في عصرنا هذا شكل خاص من أشكال الحوار بين الثقافات أن للفكر العربي المعاصر بعدان أساسين : بعد الثقافة مطلقا وما اتصل بها من آداب وفنون ومعارف وأفكار، وبعد المسألة الدينية وما ترتبط به من تفكير في الدين واجتهاد في نصوصه، ونقد للفكر الديني التقليدي، ومن هنا فإن "الحوار بين الأديان يكون ضدا للصدمات سواء أكانت لفظية أو اتخذت أي شكل من أشكال العدائية الفعلية"(24).
إنه علينا أن ندرك جيدا أنه عبر الحوار يمكن أن نتلمس طريق الحقيقة أو نساهم في رسمه، أو ندرك حضورها أو حضور وجه منها في قول الطرف الآخر سواء كان داخل "الملّة" أو خارجها، ولنا في قول الرسول محمد "صلى الله عليه وسلم" : الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها طلبها دعامة تشرع لهذا النهج، ومن قبل أسس الكندي 255هـ دفاعه عن الاقتباس من الفلسفة اليونانية استنادا هذا الحديث.
يبدو أنه ومن هذا المنطلق بالذات يصبح مطلب الحوار بين الأديان، بمثابة الدافع إلى تفكير علمي يكون من بواعث تجديد الفكر الديني في الإسلام، بل لنقل إن الحوار سواء ما كان منه على صعيد داخلي بين الفرق والجماعات والهيئات الناطقة باسم الإسلام في أشكاله المختلفة، أو ما كان منه على صعيد خارجي مع الآخر المختلف في العقيدة والثقافة... يتنزل بمنزلة الشرط اللازم لتطوير الفكر الديني وعقلنة خطابه، وجعل منفتحا أكثر على معارف عصره ومتفاعلا باستمرار مع التاريخ وتحولات الواقع.
وفي هذا الإطار بالذات يقرأ معنى الوحي في القرآن أو القرآن بما هو وحي من الله، إنه خلال الوحي ندرك حقيقة المعاني الإلهية السامية من الموجهة لتاريخ الشعوب، ولصيرورة الكون لأن المعاني والمدلولات كلها تجتمع فيه، فبالوحي يتجلى المعنى العظيم الذي به يعود الإنسان إلى أسمى علله، وإلى أبهى أسباب وجود"(26)، إن قراءة الوحي نظر عميق متجدد بتجدد الوجود و"إن كانت جلالة الخالق، لا حدّ لها وعظمة الإنسان لا تجف، فذلك لأن الرسالة لا تنحصر في تجربة دينية محدودة ذلك ليس في الحقيقة تساؤل عن كنه الله، بقدر ما هو تساؤل عن كنه الإنسان وعن معناه ككائن يتقبل الوحي، ويجد له معنى" (27).
إن مطلب حوار الأديان بما هو حوار بين الثقافات والحضارات تقره الديانات التوحيدية وفي مقدمتها الإسلام الذي أوصى بوجوب مجادلة أهل الكتاب "بالتي هي أحسن"( ) وأوجب التعارف والتعاون واحترام الرأي الآخر، فإنه كذلك ضرورة استوجبها وضعنا الإقليمي والدولي اليوم ذلك أن القرن العشرين كان أحد أكثر القرون عنفا ودموية في تاريخ الإنسانية حيث إن الكليانيات، الحمراء، الشيوعية أو النازية، وكذلك الحروب الاستعمارية الطويلة، والكفاح من اجل التحرر الوطني جعلت البشرية تنظر اليوم إلى الحوار بين الثقافات وبين الحصارات على أنه ضرورة ملحة. ويبدو أن العالم يريد أن يجعل من القرن الجديد (ق21م) قرن التحدي الأعظم المتمثل في بناء التعددية الثقافية، وإرساء حوار هادئ بين كل المكونات الثقافية للكون، خاصة وأننا نحسّ إحساسا مبهما بالحاجة إلى أنسنة هذه الآلة العظيمة التي تمثلها العولمة والانفتاح الاقتصادي والمالي والتجاري الشامل، وإلجامها والحيلولة بينها وبين سحق القيم والفضائل والمثل التي كانت حصاد تراكم الحضارات والفلسفات والديانات، وثمار جهود الإنسان الخيّرة.
إن التحولات العميقة التي أفرزتها العولمة لم تعزز روح التضامن والتآزر بين البشر، ولم تقدم لهم تلك الروح الإضافية التي كان عالمنا اليوم بحاجة إليها، فلا تحرير المبادلات ولا التدفق الحر لرؤوس الأموال، ولا فتح الحدود، ولا نهاية التاريخ التي تم التنبوؤ بها باسم هيمنة النموذج الأوحد للتنمية والتقدم استطاعت على ما يبدو توفير الحلول والطمأنينة للبشرية، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات. فالإنسان الذي هو غاية كل تحول وكل تنمية، يبدو اليوم وكأنه أعزل، دونما طول أو حول، مسلوب القدرة إزاء إعادة الصياغة المتسارعة للعالم مثلما لاحظ ذلك عديد المختصين. ومع الأزمة المتعاظمة للهويات المفجرة نجد الإنسان ينشد كافة السبل التي تمكنه من الاقتراب من أخيه الإنسان، وكأنه يبحث عن مواجهة أفضل، مواجهة هادئة، من اجل إيجاد الأجوبة المناسبة لتبديد حيرته إزاء العولمة الشرسة (28).
لقد تأكد اليوم ومثلما توصلت إلى ذلك عديد الدراسات السوسيولوجية أن مسألة حوار الثقافات مسألة جوهرية وأكيدة في حياة الإنسانية، فالأفراد والجماعات والمجتمعات لا تستطيع إطلاقا أن نعيش دون حوار مع الآخر قصد تبادل للمصالح المشتركة(29) وتبادل الفكر والخبرات العلمية، وعبر الحوار تتم عملية تصحيح الصورة التي يحملها الآخر عنا، فعناصر ثقافة الحوار تمكن إذن في إيجابية النظر إلى الغير باعتباره صديقا ممكنا، ومناصرا مشاركا، وأن الجدال (الحوار) معه بالحسنى هو الذي ينحت مواقف إيجابية (و) بهذه المواقف (يمكن أن) ننقل "الغيرية" من حيز الكراهية والعداوة إلى حيز الحميمية" (30)، وهذا عين ما أوصانا به القرآن الكريم "ادفع بالتي هي أحسن فإذا للذي بينك وبينه عدواة كأنه ولي حميم" ( ) وبهذا يمكن لنا عبر الحوار أن نخرج من دوامة العنف والإقصاء، فالحوار يضع حد للنزعات الفيزيولوجية والدوافع النفسية التي من الممكن أن تتحول إلى ردود فعل عنيفة. إن الحوار بما هو كلام ومحاولة تفهم طريق إلى الحقيقة ورياضة عقلية للفكر، وأرضية تؤلف بينك وبين من أنت بصدد التحاور معه.
وتجدر الإشارة إلى ان مبدا "الحوار" قد يظل فكرة طوباوية وقيمة مثالية مندرجة ضمن الآمال الخيّرة ليس إلا. وهذا يدعونا إلى البحث بكل جدية عن منطلقات نظرية وعملية أخلاقية وسياسية ترتبط بدورها بمرتكزات تتصل بالتربية والثقافة والإعلام، هذه القنوات الحيوية جدا في عملية الحوار والتي من شأنها أن تعطي جدية ونجاعة لمبدإ "الحوار" وفي طليعة ذلك ضرورة قناعة الأطراف المتحاورة بالنديّة في التعامل وقبول الآخر بكل خصوصياته وقناعاته مع رفض الأحكام المسبقة والقراءات السطحية المتماثلة لثقافة الآخر ومعتقدة.
وفي هذا الإطار يبدو أنه للمنظومات التربوية دورا أساسيا في نشر مبادئ الحوار بين الحضارات ودعم منطلقاته، مما يستوجب تضمين معاني الحوار الديني والثقافي واللغوي في البرامج والمناهج التربوية لتعريف النشء بأهمية الإسهامات الإبداعية لمختلف الشعوب والأمم، فضلا عن أهمية تلقين الشباب مبادئ التعاون والتضامن والتكامل ودفعه إلى تنويع رصيده المعرفي حول ثقافات الشعوب ولغاتها وأدبياتها وخصوصياتها.
وهذا يعني ضرورة الإقدام على إصلاح تربوي جذري تكون من مرتكزاته تربية الناشئة على التعرف إلى محيطها البشري الواسع وتقبّل الآخر والاستعداد للعيش معه رغم الاختلاف، وفي إطار احترام خصوصياته.وهذا يعني كذلك مراجعة الكتب المدرسية لاستبعاد ما فيها من أفكار مسبقة حول الثقافات الأخرى أو من إشارات الاستعلاء الثقافي واستنقاص الآخر، وإدراج مادة الدراسات الدينية المقارنة وإعطاء حيّز أكبر لتدريس الحضارات في صلب برنامج التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية، وغير ذلك مما ورد في تقرير جاك ديلور حول التعايش ومعرفة الآخر بشأن الأركان الأربعة التي ينبغي أن يقام عليها أي نظام تربوي.
فالتربية تـظل عنصر وقاية ضد انحرافات التعصب بكل أشكاله ونوعا من التطعيم الذي يكون له مفعول على المدى البعيد ضد مخاطر السقوط في التطرف والإرهاب (30).
ويبدو المجال الثقافي وعلى الأخص مجال اللغة العربية مجالا خصبا دوره ذا اهمية في ما يتعلق بإرساء قيم الحوار وتقاليده إنه من المهم أن يكون ثمة حوار خلاق بين أهل الفكر والرأي والإبداع مع تبادل للأفكار والتصور أن وتنجز شروحات وقراءات نقدية تدفع بمستوى الإبداع والفكر وتعطي معنى عميقا لدورهما في المجتمع والتاريخ.
إننا في الحقيقة نفتقر إلى قراءات جادة وعميقة لما يكتب راهنا في الوطن العربي، وليس -هناك بما الكفاية- مواكبة نقدية وقراءات شاملة ذات منطلقات معرفية لما تراكم في حقل الفكر العربي المعاصر، إن هذا الفكر يفتقر لما هو لازم لتطوّره ونعني الحوار إذ يحقق الحوار أواصر التواصل الخلاق بين أشكال الفكر والنظر، مثلما هو يمنح للفكر التحاما بواقعه التاريخي والاجتماعي، وهذا مطلب من مطالب الفكر، وعامل يساعده في تحقيق مهمة أساسية من مهامه وهي مهمة التقدم والحرية.
لننظر -مثلا في الدور الذي منحه الباحث المغربي في تاريخ الفلسفة والأفكار- وهو الأستاذ محمد وقيدي للحوار ودوره في يقظة الفكر الفلسفي في العالم العربي واضطلاعه بدوره الريادي في المشروع الحضاري العربي، فهو يرى أن التساءل عن مدى حضور الفلسفة في بيئة ثقافية ما يتطلب أن نتساءل عن مدى محاوره فلاسفتها لتاريخ الفلسفة ومذاهبه، من جهة وللتطورات العلمية وما تدفع إليه من توجهات فكرية جديدة من جهة أخرى، ثم محاورة كل نسق فكري للأنساق المعاصرة له ومع تلاقح الأسئلة التي يلقيها كل نسق في إطار معرفي شامل يمثل مرحلة تاريخية لبيئة ثقافية محددة مثل العالم العربي بشكل عام أو مثل المغرب بصفة خاصة. وهكذا، فإن الحوار المقصود يكون هنا عاما وخاصا في الوقت ذاته: مع تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم والأنماط الأخرى من التفكير حين يكون بينها وبين الفلسفة تقاطع، ثم مع وجهات النظر الفلسفية الأخرى داخل نفس البيئة الثقافية، إن النظر إلى الحوار في هذه الحالة بوصفه منهجا يكون شرطا لتطور الفكر الفلسفي، الذي يصبح من خصائص هذا النمط من التفكير، وهذا يذكى الحوار في المجتمع حول قضاياه الأساسية، فتلعب الفلسفة بذلك دورا إيجابيا يجعلها تتصف بصفة الحياة (32).
ونجده يرسم الحدود الفاصلة بين نمطين في الحوار من خلال معاينة مباشرة أجراها لواقع الفكر الفلسفي العربي حيث لاحظ "ضعف الحواريين". المؤلفات التي يتشكل منها نتاجه، علما بأني أدعو إلى التمييز في هذا المستوى بين الحوار الهادف إلى دحض آراء الغير وبين الحوار بمعناه الحق وهو ما يعني التفكير بالمعية، أي بالاعتماد على قول الغير ومعه. نحن، في هذه الحالة، أمام حالة شبيهة (دون تطابق طبعا) بتلك التي وصفها هوسرل عندما رأى أن وجها من اوجه عجز الفلسفات في زمنه عن أن تكون فلسفات حية يرجع إلى ضعف الحوار بينها. وهـذا ما يعني عجز الفلسفات التي تكون متزامنة عن الإنتاج ضمن ما سماه هوسرل "المحل الروحي المشترك" الذي نتبادل فيه الحوار . فهذا الرجوع إلى ما هو مشترك والدخول في حوار ينطلق يكون منه الشرط الذاتي لإخصاب الفكر مطلقا والفكر الفلسفي في كل بيئة ثقافية (33).
وبناء عليه يمكن أن يكون الحوار فعلا خلاّفا للمعرفة بما هو "تفكير بالمعية" مدخلا حقيقيا إلى المعرفة والتقدم ومعالجةالإنسان مطلقا وضدّا للصدامات والتعارضات والصور الخاطئة عن الذات والآخر، إنه عبر الحوار المعرفي الخلاق نتخلص من النظرة السلبية التي من الممكن أن يكون الآخر يرانا بها، ذلك أن الآخر ليس عدوا، وضدّا سلبيا دائما(34)، مثلما أنه عبر الحوار المعرفي الخلاق يمكن أن نؤسس لثقة بالذات، ولمعنى لوجودنا ونتجاوز السلبيان والمصادمة، وهو ما من شأنه أن يمنحنا مكانة في التاريخ أو في صنع التاريخ الكلّي للبشرية مثلما ساهم أجدادنا من أعلام العرب والمسلمين بقدر كبير في صنع الحضارة الإنسانية على امتداد قرون ثمانية.
ثم هل كان الفكر العربي المعاصر كما تحيل على ذلك العناوين الكثيرة والمتكرّرة المتعلّقة باستخدام هذا المفهوم المركّب من اصطلاحات ثلاثة: "فكر" "عربي" "معاصر" متجانسا ومتناغما في أطروحاته وفي استخدامه للمفاهيم؟ أو لنكن أكثر وضوحا ودقة في الاستدلال على ما يجب الاستدلال عليه هل كانت رؤى المفكرين العرب المعاصرين متجانسة أو متوافقة نظريا حول مقولة الإصلاح ذاتها وحول "الدولة" و"السياسة" و"الدين" و"المجتمع" و"التشريع" و"الحرية" و"الثقافة" و"التاريخ" و"الآخر" وحول "الأنا" ذاتها؟ طبعا قد يبدو من البديهي أن التجانس لم يكن موجودا مطلقا إذا الاختلاف والتّضاد حاصل وثابت، وهذا بديهي. لكن هل كسب هذا الفكر رهاناته الكبرى وحقق تطلعاته وتجاوز عوائق التقدّم والتحرر والبناء الحضاري. إن الإجابة عن هذا السؤال تصعب وتعسر، وتبدو معقدة للغاية(2)، سيما إذا استدعينا الطرف الثاني في بحث هذه المعادلة وهو السلطة السياسية، أو السياسة الحاكمة، إذ أنه من المحال أن نقرّ بتأثير للثقافة والفكر في الواقع بمعزل عن سلطة السياسي(3).
تبعا لما تقدم فإنّه يجدر أن نحدّد مكونات اصطلاحات هذا المفهوم : "الفكر العربي المعاصر" فالفكر يتعلق بالإنتاج النظري المتصل ببناء المفاهيم والنظريات والتصورات ذات العلاقة بالواقع والوجود الاجتماعي والحضاري والثقافي للأمة والمجتمع، ويتمركز عمل الفكر بما هو وعي نقدي أو نظر عقلي أو تحليل معرفي على دراسة المسائل الحضارية والثقافية والدينية والعقلية المتعلّقة بإشكالات التنمية والتقدّم والتحرّر والثقافة وتطوير قطاعاتها، (4)، والفكر بما هو خطاب نظري وفعل نقدي ومجمل تصورات ذهنية يستفيد من منجز المعرفة في العلوم النظرية والعلوم الإنسانية : التاريخ والاجتماع وعلم النفس والأنتروبولوجيا ومن الفلسفة ومن الخبرات الجماعية التي راكمتها الأمّة عبر تاريخها الثقافي والحضاري والروحي. أمّا عندما نتحدث عن الفكر العربي حيث يتخذ الفكر صفة له فإننا نخصص أمر الفكر مطلقا بالعالم العربي أو بالمجال الجغرافي الاجتماعي العام لوجود العرب، ولقضاياهم، وللإشكاليات التي تطرح عليهم، فصفة "العربي" هنا تحيل علي المجال. ونعني المجال الجغرافي المصطلح عليه بالعالم العربي: مجال وجود الأقطار والدول العربية من المحيط إلى الخليج.
أما في خصوص صفة "المعاصر" وهي نعت مركب بالعطف البياني لأن أصل الكلام لغة : الفكر العربي والمعاصر، فإنها تحيل على المجال الزمني الذي هو التاريخ المعاصر للعرب وللعالم العربي والذي يبتدئ من أواخر القرن التاسع عشر ويتواصل إلى حدود زمننا هذا كما يجمع على ذلك المؤرخون.
وهذا يعني أن الفكر العربي المعاصر عرف ثلاثة أطوار كبرى استقطبت كل منها جملة من المسائل والقضايا الشائكة وتتمركز كل منها حول إشكالية رئيسية.
الإشكالية المحورية الأولى تمركزت حول سؤال النهضة والتمدّن وهو المشغل الأساسي للفكر العربي المعاصر بما هو فكر إصلاحي، أو بما هو خطاب في الإصلاح، وقد استمر طرح هذا الإشكال داخل دوائر الفكر العربي المعاصر بموجب امتداد تأثير فكر عصر النهضة الذي نشأ وتبلور بصفة رئيسية إبّان حملة بونابرت على مصر، 1798م وانفتاح العالم العربي والإسلامي على نظيره الغربي المتقدم واكتشافه لتأخره وركوده وجمود عمل العقل فيه، ومن هنا ظهر ذاك السؤال المثير للجدل لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟(5) وهو سؤال دفع إلى التفكير في الدّين من جهة علاقته بالعلم والسياسة من ناحية وبالحرية والتقدم من ناحية أخرى على السواء، كما دفع ذلك إلى دراسة أسباب نكوص الحضارة العربية وخفوت عبقرية العرب بعد ان بلغوا أوج التقدم العلمي والحضاري.
الإشكالية المحورية الثانية وترتبط بالطور الثاني تمركزت مباحثها حول دراسة أسباب الهزيمة: هزيمة حيزران 1967 وهزيمة الدولة الوطنية ببعض الأقطار العربية في إنجاز أسباب التقدّم والتنمية وتحرير الإنسان وعقلنة الفكر، والارتقاء بالثقافة لتكون مرآة ينعكس عليها المنجز الحضاري والمعرفي والحقوقي والتقني، وتمهد له في الآن ذاته، وقد نجم عن ذلك تفكير نقدي في "التراث" هذا المفهوم الإشكالي الذي اخترق بقوة الخطاب العربي منذ أواخر الستينات وإلى حدود زمننا هذا (6). و"التراث" كما هو معلوم مفهوم واسع الدلالة متعدد التعريفات يمتد ليشمل كل الموروث الثقافي والعلمي والأدبي، والديني- في منظور بعض الأطروحات-، ويشمل كذلك مجمل التجارب السياسية والتحولات التاريخية والمعالم الحضارية والعمرانية على السواء، وهكذا شاع استخدام "التراث" مقابلا لـ"الحداثة" في الخطاب العربي المعاصر، وتم النظر في الإمكان الذي يكون به "التراث" مجملا، أو في جوانب منه مشتملا على بذور "الحداثة" هذا المفهوم الإشكالي بدوره والمعقّد في الخطاب العربي المعاصر، فظهر الحديث عن المفاهيم العقلانية والقيم الفكرية العلمية والتاريخية النقدية أو الإنسانية الخلقية التي تضمنتها مؤلفات المفكرين، والأدباء، والفلاسفة، والعلماء العرب، أو ارتبطت بسيرهم، وفي هذا السياق برزت المشاريع الفكرية النظرية المتعلّقة بقراءة التراث العربي والبحث في إمكانات جديدة تكون بمثابة مداخل نظرية ناجعة وتاريخية معرفية للحداثة وبالتالي للتقدّم والتحرر، وظهرت تبعا لذلك تلك الثـنائيات التي تم تداولها كثيرا حتى رأى بعضهم أن الفكر العربي المعاصر محكوم بالنظر في الثنائيات ومنها: التراث/الحداثة. الأصالة/المعاصرة. السلفية/التقدمية. العقلانية/الدغمائية (أو اللاعقلانية). العقل/الخيال العلم/الأسطورة. الحداثة/القدامة. التسامح/التطرّف. قصيدة النثر/ القصيدة العمودية....
أما الإشكالية المحورية الثالثة والأخيرة فقد ارتبطت بالطور الثالث، ومداراتها كثيرة ومترامية الأطراف غير أن هذه المرامي تتوحد جميعا حول همّ أساسي وكلّي هو كيف يمكن أن يحيا العرب في هذا الزمن؟ زمن العولمة أو زمن الكونية، زمن القطب الواحد، زمن الأنترنيت(الشبكة العالمية للمعلومات) والثورة الرقمية وتقنيات المعلوماتية السيارة إنه ذاك الزمن الذي بدأت تتحدد ملامحه ابتداء من سقوط المعسكر الاشتراكي إلى انهيار جدار برلين مع فجر التسعينات (ق 20) إلى بروز وضع "العولمة" وما رافقها من مقولات مثل : "الإنسان الأخير ونهاية التاريخ". "صراع الحضارات". "حوار الحضارات". "حوار الثقافات". "حوار الأديان" كونية القيم" "حقوق الإنسان وإنهاء الدكتوريات والأنظمة المستبدة" و"إحلال بدلا منها الديمقراطيات والأنظمة القائمة على التعددية الفكرية والسياسية والدينية...(7).
ولعله كان لأحداث 11 سبتمبر 2001 وللحرب على النظام العرافي سنة 2003 -ولتأزم أوضاع القضيّة الفلسطينية ولتصاعد عمليات العنف والإرهاب والاستشهاد في شتى أنحاء العالم تعبيرا عن حقوق ضائعة، واحتجاجا عن أوضاع قائمة- الأثر البارز في مسارات الفكر العربي المعاصر من جهة طبع أطروحاته واهتزاز مواقفه وتحولها إلى حد بدا معه أنه يحيا وضعا قلقا، وإشكاليا تجاه الوعي بالذات والموقف من الآخر أو ضبط أطر التواصل وآليات العمل وما يرافق ذلك من بناء للتصورات والرؤى وتحديد آفاق القول والعمل. أي بمعنى انه علينا أن نعرف كيف نفكر وفي ما نفكر وبأي أدوات ومفاهيم نفكر، وكيف نتواصل مع الآخر المختلف، وعلى أي وجه يمكن أن نحيا وإياه سويّا في عالم يسوده السلم والأمان ويحتكم إلى المبادئ والقوانين والقيم، وأداة الوصل فيه "الحوار".
من هذا المنطلق بالذات تجئ مساهمتنا هذه، إذ سنحاول على نحو من التدقيق والتحقيق العلمي والتاريخي فحص مقولة "الحوار" مع بيان استراتيجيتها في النظر والعمل بالنسبة إلى الخطاب والواقع حيث إن الحوار مفهوم معرفي نظري يستخدم باعتباره مصطلحا علميّا داخل مجالات إنتاج المعرفة النظرية والعلمية بالظواهر والحقائق والأفكار إذ، الحوار يعني "التناظر" أو "المناظرة" و"الجدل" و"المناقشة" و"المبارزة بالقول"، و"الحجاج"، وراهنا أعيد لمصطلح الحوار مركزيته في الفلسفة والعلم على السواء وأكدت المقاربات الإبستمولوجية ضرورة الاحتكام إلى الحوار والنقد المعرفي لتقدّم المعرفة العلمية، ولمعرفة حدود القوانين العلمية والأحكام العقلية من جهة إحاطتها بحقيقة الموضوع أو مجال الدراسة، إلى حد غدا معه أمر إدراك الحقيقة مشروطا مثلا لدى الفيلسوف الألماني هانزجورج غادمير H.G.Gadmer. بالاحتكام إلى منطق التفهم والحوار باعتباره طريقا إلى الحقيقة، فالمختلف والمضاد يمكن أن يكون على قدر كبير من "الوجاهة" وفيه حضور لجوانب من حقيقة الإنسان والوجود (8).
هذا في خصوص مجال المعرفة والعلم. أمّا في ما تعلق بمجال الواقع والوجود الاجتماعي والسياسي للأمم والمجتمعات فقد طفا للسطح مصطلح "الحوار" من جهة كونه الأفق النظري والأخلاقي السياسي "الإتيقي" الذي يستوعب كل الأقوال والمواقف المتعارضة والمتقابلة والمتنافرة أحيانا ويمنحنها شرعية التعبير والوجود، لكن هذا الأفق النظري الأخلاقي يحتكم بدوره عبر الحوار إلى منطق "الوجاهة" وإلى منطق "القــانون" أو الشرعية القانونية، حيث يحصل قول أو طرح ما على شرعية الوجود والفعل انطلاقا من مبدإ الانتخاب أو الاستفتاء أو الشورى أو قاعدة المداولة.
وهذا يحتم علينا أن نفحص مقولة "الحوار" وفكرته من زاويتين نظريتين، ووفق مرجعيتين زمانيتين ثقافيتين تتصل الأولى بوضع "الحوار" من جهة أشكاله وتمظهراته المختلفة في الثقافة العربية الكلاسيكية أي التراث المعرفي والفكري العربي وترتبط الثانية بمحاولة تجديد مظاهر حضور مقولة "الحوار" في الخطاب العربي المعاصر، وأشكال تعاطي الفكر المؤسس لهذا الخطاب مع مقولة الحوار وأطر تلقيه لها سواء في المستوى المعرفي النظري أو الإجرائي العملي المتصل بالممارسة السياسية والعملية لوجود العرب والمسلمين في العالم العربي الإسلامي وفي سائر أنحاء الكون، على أن نسعى استتباعا لذلك إلى أن نتبيّن جدوى فكرة "الحوار" ومدى نجاعتها في ما يتصل باستراتيجية التصدي للمشكلات والقضايا المطروحة على العرب والمسلمين سواء في مستوى الواقع الداخلي، وما يرتبط بذلك من تعايش بين المختلف داخل الوجود العربي والإسلامي، أو في خصوص ما يرتبط بالعلاقة بالآخر المختلف الغربي أو الأقصى شرقي (9) وسنقتصر في ما يتعلق بتحديد مظاهر حضور مقولة "الحوار" وفكرته في المدوّنة الثقافية الكلاسيكية على أبي الريحان البيروني (ت440هـ/1048م) المتكلم والفيلسوف والمؤرخ الذي ارتقت لديه مقولة "الحوار" بما هي مناظرة عقلية ومجادلة علمية تعتمد الحجّة والدليل إلى "انتروبولوجيا للحوار"، وهذا طبعا لا ينفي حضور مقولة "الحوار" أو "التواصل" مع الدخيل والوافد في المعارف والعلوم والفنون، وكذلك مناظرة المختلف والمباين واقتباس ما بدا أنه حق ويقين أو رأيا ذا وجاهة لدى مفكرين وفلاسفة ومتكلمين وصوفية عرب ومسلمين، إننا نلمس مظاهر لذلك لدى "الجاحظ (ت 255هـ) في رسائله" وكتبه الأخرى حيث بين أوجه التعاضد بين علوم العجم وحكمهم وآداب العرب وفضائلهم في بناء الحضارة واستمرار الثقافة وتبعه في ذلك أبو حيان التوحيدي (ت411هـ ) والفارابي (ت 339هـ) الذي اكد ضرورة اعتماد "الملّة" على حكمة اليونان وفلسفتهم لتوسيع دائرة النظـر و"العقل" وفهم أبعاد الرسـالات السماوية وأسرار فضائلها، وكذلك فعل ابن رشد (ت 595هـ)الذي بنى نسقه في ضوء نظرة جدلية تقوم على التوليف بين المنطق الأرسطي وعلوم البرهان لدى اليونان وحقائق الشريعة السماوية، وإنّا لنجد لدى مفكرين مؤرخين أمثال الشهرستاني والمبشر بن فاتك، وشمس الدين الشهرزوري - في اهتمامهم بالتاريخ التأريخ لعلوم الأقدمين وأديانهم ومنها حكم اليونان وبلاد فارس والهند-، نزعة الميل إلى التنصيص على ما بدا وجيها ومعقولا وذلك وفق منظوريتهم وهو ما يؤكد الحضور الفاعل والمؤثر لمقولة "الحوار" في التراث العربي.
من مظاهر الحوار في الثقافة العربية المرجعية :
إن المتأمّل في كتاب البيروني : "في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة فـي العقل أو مرذولة"(*) يجده اعتمد في بناء فصول هذا الكتاب ومسائله على تدرّج منهجي برهاني يجمع الحجة العقلية إلى الوثيقة المرجعية أو الواقعة التاريخية في التعرف إلى ثقافة الهند ودراسة عقائدها وتقصّى مضّان ذلك.
إن البيروني يشدّد على أهميّة نقل الخبر الصحيح وتوخي منهج الكتابة الموضوعية عن العقائد المخالفة للإسلام باعتبار أن ذلك يمثل شرط تحصيل المعرفة الصادقة بالآخر، ويظهر هذا من خطبة الكتاب إذ نجده يقول : "والكتابة نوع من أنواع الخبر يكاد أن يكون أشرف من غيره، فمن أين لنا العلم بأخبار الأمم لولا خوالد آثار القلم، ثم إن الخبر عن الشيء الممكن الوجود في العادة الجارية يقابل الصدق والكذب على صورة واحدة، وكلاهما لاحقان به من جهة المخبرين لتفاوت الهمم، وغلبة الهراش والنزاع على الأمم، فمن مخبر عن أمر كذب يقصد نفسه فيعظم به جنسه...ومعلوم أن ذلك من دواعي الشهوة والغضب المذمومين، ومن مخبر عن كذب في طبقة يحبهم لشكر أو يبغضهم لنكر... ومن مخبر عنه متقربا إلى خير بدناءة، ومن مخبر عنه جهلا، وهو المقلّد للمخبرين" (10) .
نـلاحظ أن البيــروني يصنف الأخبار ونقـلة العلم والرواة بحســب هواجسهم العـلمية أو دوافعهم الذاتية، أي من ناحية مصالح يرغبون تحقيقها، وهــو يــرى أن التحصيل العلمي من شأنه أن يصدّ عن الوقـوع في المـزالق والأغاليط، وهذا يصطلح عليه وفق منظور ابستمولوجي (معرفي علمي) حــديث بـ"الرّوح العــلمي" "Esprit Scientifique" (11)، ويظهر ذلك من كلامه "الذي لا يناشد إلا الحقيقة التي يصطلح عليها في لغة المناطقة بـ،"الماصدق"، ويشبهه بـ"العدل" يقول "وكما أن العدل في الطباع مرضي محبوب لذاته مرغوب في حسنه كذلك الصدق إلا عند من لم يذق حلاوته، أو عرفه أو تعاماه كالمسؤول من المعروفين بالكذب(12)، ولهذا يؤكد البيروني على أهمية معرفة الآخر كما هو في ذاته قائلا : "فمن لم يعرف حقيقة الحال فيها (معرفة الآخر) اغترف منها ما لا يفيده (13)، ويفسّر البيروني سبب اهتمامه بعقائد الهند ومذاهبهم الدينية والفكرية ليبين ما قد يكون لحقها من التشويه والتحريف فيقول : "وكان وقع المثال في فحوى الكلام على أديان الهند ومذاهبهم، فأشرب إلى أن أكثرها مسطور في الكتب وهو منحول، وبعضها عن بعض منقول ومخلوط غير مهذّب على رأيهم ولا مشذّب" هكذا إذن يبيّن البيروني حدوث التغيير والخلط في هذه العقائد بالنظر إلى أديان أهل الهند أنفسهم وليس بالاحتكام إلى دين آخر أي أنه يعارض حقيقة هذا الدين كما ظهرت بأصوله كما كانت في الأوّل !، وهذا منطوق قوله "غير مهذّب على رأيهم"، فالبيروني يطلب دراسة عقائد الهند وأديانهم وفق منطقها الداخلي وذلك بعيدا عن خطاب السّجال الجدّالي الذي وسم كتابات بعض المتكلمين واللاّهوتي ودعاة العقائد ويبسط في ذلك منهجه، ويحدّد غرضه فيقول : " وليس الكتاب كتاب حجاج وجدل حتى اشتغل فيه بإيراد حجج الخصوم، ومناقضة الزائغ منها عن الحق، وإنما هو كلام حكاية فأورد كلام الهند على وجهه، وأضيف إليه ما لليونانيين من مثله لتعريف المقارنة بينهم، فإن فلاسفتهم، وإن تحرّوا التحقيق فإنهم لم يخرجوا في ما اتصل بعوامهم عن رموز نحلتهم ومواضعات ناموسهم"(14).
ونجد البيروني يجتهد في وضع شروط موضوعية للدراسة العلمية لعقائد الهند، وغيرها من عقائد سائر الأمم، ومذاهبها، فبيّن أن من أوّل شروط ذلك المعرفة باللغة، وإدراك مزالق الترجمة، مؤكدا أنه على المترجم في مثل هذه المواضيع أن يكون عارفا بمضمون الغرض الذي فيه يترجم، ولا تتوقف معرفته على اللغة فحسب، "فعبر اللغة تتباين الأمم ومتى رامها (لغة الهند) أحد لإزالة المباينة لم يسهل ذلك لأنها في ذاتها طويلة عريضة، تشابه العربية، يتسمى الشيء الواحد فيها بعدة أسام مقتضبة ومشتقة" (15). فلغة أهل الهند في نظر البيروني "مركّبة من حروف لا يطابق بعضها حروف العربية أو الفارسية، ولا تشابهها بل لا تكاد ألسنتنا تنقاد إلى إخراجها على حقيقة مخارجها، ولا آذاننا تسمح بتمييز نظائرها وأشباهها ولا أيدينا في الكتابة لحكايتها"(16).
كما ينبه إلى أنه هناك اختلافات جوهرية أخرى بين الهنود والمسلمين لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار مثل : "أنهم يباينوننا بالديانة مباينة كليّة، لا يقع منا شيء من الإقرار بما عندهم ولا منهم شيء ممّا عندنا... ومنها أنهم يباينوننا في الرسوم والعادات"(17).
ولهذه الاعتبارات بدت مهمة دراسة عقائد الهند ومذاهبها لدى البيروني شاقة إلى أبعد حدّ، ولذلك ألفيناه يقول : "ولقد أعيتني المداخل فيه مع حرصي الذي تفردت به في أيامي، وبذلي الممكن غير شحيح عليه في جمع كتبهم من المظّان، واستحضار ما يهتدي لها من المكامن(18) وهذا من مطالب العلماء الجهابذة الذين يلقّبون سابقا بـ"الخاصة" أو "الخواص"، وفي ذلك قال البيروني "لأن قصارى الخواص إتّباع البحث والنظر"(19).
وفي خطاب صريح الدلالة يكشف البيروني عن غرضه العلمي الخالص من وراء دراسة ثقافة الهند وعقائدها على هذه الهيئة، حيث يقول، "وأنا في أكثر ما سأورده من جهتهم حاك غير منتقد إلا عن ضرورة ظاهرة، وذاكر من الأسماء والمواضعات في لغتهم ما لا بدّ من ذكره" (20).
إنه يمكن أن نعتبر أن مثل هذه الصرامة العلمية وما تبعا من دقة منهجية قد حددت مسالك عمل البيروني في التأريخ لعقائد الهند ومذاهبها، ومثلت بالفعل أساس قاعدة فكرية علمية انتروبولوجية تكوّنت في حضارة الإسلام المبكّر، وأصلّت للاعتراف بالآخر المختلف وبمعتقده وشرّعت مسالك التعرّف إليه علميّا، وهو ما دفع بالمستشرق الفرنسي كاردايفو (Carrade vaux) إلى القول : إن البيروني بمقاييسه هذه ينتسب إلى القرن التاسع عشر لا إلى القرن العشرين' (21) ومن ثم أمكن لنا أن نشاطر الرأي بعض الدارسين المعاصرين في خصوص اعتبارهم أن "لنا في البيروني أسوة حسنة لما يمكن أن يكون عليه "علم الثقافة" حتى لا يفقد الفكر أريحيته الإنسانية، ولا يضحى بضرورات الموضوعية العلمية، فيحاول الوقوف على ما عند الآخر من المناقب والمآثر والرؤى والسلوكات على ما هي عليه "حكاية" ويسعى من خلال ذلك إلى النفاذ إلى "معانيها" عند أهلها ثم إلى "تفسير" هذه المعاني أو "تأويلها" بحسب ما يتاح للعقل السببية فيها، في غير استيحاء مما بدا له أنه الحقّ، وفقا لما يوجبه العقل في سياق نظرة شمولية سمّاها البيروني : تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة "(22)، وعليه إنه من الممكن القول إن الخطاب الانتربولوجي نشأ مع البيروني في كتابه هذا الذي هو أثر علمي الرّوح والمنهج، فضلا عن أريحية تدفع في تلقائية إلى فهم الآخر، وإجلاء مقاصده، وإظهار تناسق رؤاه، حتى حين ينكرها العقل العلمي الصارم ذلك.
الحاجة إلى الحوار راهنا:
يمكننا الانطلاق في معالجة علاقة الفكر العربي المعاصر الحوار وبمدى الحاجة إليه انطلاقا من تأكيد حقيقة بديهية أولية وهي أن الحوار منهج لا غاية هو بمثل بامتياز شرط إمكان قيام فكر عربي خلاق (23)، ويمثل في حد ذاته استراتيجية فهم ونظر من شأنها أن تساعد على إيجاد حلول للمشكلات والقضايا والمسائل المطروحة على الوجود العربي اليوم سواء ما تعلق منها بالسياسة أو ما تعلق بالمذاهب والتيارات الفكرية المتمركزة أدبياتها حول قراءة الدين والباحثة عن إيجاد تفسير للواقع والتاريخ في ضوء النص الديني، وانطلاقا من فقه النص الديني حيث يحلّ التواصل والجدل العلمي بدل التصادم الذي ينتهي أحيانا إلى نوع من الإقصاء والتفكير، أو التصفية الدموية، ولعله من المؤسف له، ومن علامات الحياد عن المعقولية قوة الحجة أن يلتجئ المسلم باسم مذهب ما أو قراءة معينة للإسلام تقدم خطابها على أنه مطابق لمنطوق النص : ليرفض رفضا قطعيا لكل الرؤى والمثابرات والتصورات الناقضة له حتى المختلفة عنه اختلافا جزئيا لا غير.
إنه علينا أن نعلم على نحو من الدّقة اليوم أن الأنظمة النظرية للمذاهب الدينية في الإسلام مثل ما هو الأمر في أي دين توحيدي آخر مع بعض الفوارق قامت دائما على فكرة الإطلاقية، وهي بالتالي ترفض الفعل أو الفكر خارج الأطر الصارمة المكونة للنظام النظري للمذاهب سواء في ما يتعلق بالأخلاق والسلوك الفردي والجماعي أو ما كان على ذا صلة بالتفكير الحر؟ النقدي. إنك إذا كانت مسلما أو إذ كنت مسيحيا أو يهوديا يجب أن تنتمي إلى فرقة كلامية عقدية (لاهوتية) ما و إلى مذهب في الشريعة يقنن لك ما تعمل في العبادة والمعاملات، يعني أنه لا يوجد تدين خارج المذهب –غالبا- وهذا ما ساهم في بروز ما اصطلح عليه بعض المفكرين المعاصرين بـ"الإسلام الموازي" (23) حيث يعتقد الناس في الإسلام ويعملون به من خلال منظومة اجتهادية فقهية كلامية وضعها جمع من العلماء/ الفقهاء والمتكلمون وفقا لشروط مجتمعية وتاريخية ورهانات حضارية وكم معرفي معيّن.
وهكذا استقرت أغلب نزعات الفكر الدين في الإسلام المعاصر إلى نوع التعصب والإطلاقية، وإيثار ثقافة الشعارات والتدين التقليدي النابع غالبا من رؤون حشوية وسطحية لرسالة الإسلام ومعانيها السامية، ولعمق الحكمة التي انطوى عليها "القرآن" وكذلك نصوص الحديث النبوي – ما صح منها- ألم ترد الدعوة بارزة واضحة الدلالة في القرآن إلى التّعرف إلى الآخر مهما كان دينه أو عرقه أو ثقافة أولوية والتعاون وإياه بما من شأنه أن يحصل أمن الإنسانية وسعادتها. ولنا في قوله تعالى : "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلنا كم شعوبا وقبـائل لتعـــارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
أسوة حسنة وأليس الحوار اليوم بالذات صار ضرورة تؤصر للتواصل بيننا وبين الآخر، وهو يتنزل بمنزلة قناة للتفاوض من أجل إثبات الذات أن الحوار، شكل من أشكال التعارف، ذلك أنه لكي أتحاور يجب أن أعرف ذاتي وأعرف الآخر، فالحوار معرفة وطريق إلى معرفة، وعبر المعرفة يكون التعيير في التصور الذهني وفي الموقف... بهذا يتأكد لنا أنه ثمة علاقة وطيدة بين حوار الأديان وحوار الثقافات "فخورا الأديان في عصرنا هذا شكل خاص من أشكال الحوار بين الثقافات أن للفكر العربي المعاصر بعدان أساسين : بعد الثقافة مطلقا وما اتصل بها من آداب وفنون ومعارف وأفكار، وبعد المسألة الدينية وما ترتبط به من تفكير في الدين واجتهاد في نصوصه، ونقد للفكر الديني التقليدي، ومن هنا فإن "الحوار بين الأديان يكون ضدا للصدمات سواء أكانت لفظية أو اتخذت أي شكل من أشكال العدائية الفعلية"(24).
إنه علينا أن ندرك جيدا أنه عبر الحوار يمكن أن نتلمس طريق الحقيقة أو نساهم في رسمه، أو ندرك حضورها أو حضور وجه منها في قول الطرف الآخر سواء كان داخل "الملّة" أو خارجها، ولنا في قول الرسول محمد "صلى الله عليه وسلم" : الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها طلبها دعامة تشرع لهذا النهج، ومن قبل أسس الكندي 255هـ دفاعه عن الاقتباس من الفلسفة اليونانية استنادا هذا الحديث.
يبدو أنه ومن هذا المنطلق بالذات يصبح مطلب الحوار بين الأديان، بمثابة الدافع إلى تفكير علمي يكون من بواعث تجديد الفكر الديني في الإسلام، بل لنقل إن الحوار سواء ما كان منه على صعيد داخلي بين الفرق والجماعات والهيئات الناطقة باسم الإسلام في أشكاله المختلفة، أو ما كان منه على صعيد خارجي مع الآخر المختلف في العقيدة والثقافة... يتنزل بمنزلة الشرط اللازم لتطوير الفكر الديني وعقلنة خطابه، وجعل منفتحا أكثر على معارف عصره ومتفاعلا باستمرار مع التاريخ وتحولات الواقع.
وفي هذا الإطار بالذات يقرأ معنى الوحي في القرآن أو القرآن بما هو وحي من الله، إنه خلال الوحي ندرك حقيقة المعاني الإلهية السامية من الموجهة لتاريخ الشعوب، ولصيرورة الكون لأن المعاني والمدلولات كلها تجتمع فيه، فبالوحي يتجلى المعنى العظيم الذي به يعود الإنسان إلى أسمى علله، وإلى أبهى أسباب وجود"(26)، إن قراءة الوحي نظر عميق متجدد بتجدد الوجود و"إن كانت جلالة الخالق، لا حدّ لها وعظمة الإنسان لا تجف، فذلك لأن الرسالة لا تنحصر في تجربة دينية محدودة ذلك ليس في الحقيقة تساؤل عن كنه الله، بقدر ما هو تساؤل عن كنه الإنسان وعن معناه ككائن يتقبل الوحي، ويجد له معنى" (27).
إن مطلب حوار الأديان بما هو حوار بين الثقافات والحضارات تقره الديانات التوحيدية وفي مقدمتها الإسلام الذي أوصى بوجوب مجادلة أهل الكتاب "بالتي هي أحسن"( ) وأوجب التعارف والتعاون واحترام الرأي الآخر، فإنه كذلك ضرورة استوجبها وضعنا الإقليمي والدولي اليوم ذلك أن القرن العشرين كان أحد أكثر القرون عنفا ودموية في تاريخ الإنسانية حيث إن الكليانيات، الحمراء، الشيوعية أو النازية، وكذلك الحروب الاستعمارية الطويلة، والكفاح من اجل التحرر الوطني جعلت البشرية تنظر اليوم إلى الحوار بين الثقافات وبين الحصارات على أنه ضرورة ملحة. ويبدو أن العالم يريد أن يجعل من القرن الجديد (ق21م) قرن التحدي الأعظم المتمثل في بناء التعددية الثقافية، وإرساء حوار هادئ بين كل المكونات الثقافية للكون، خاصة وأننا نحسّ إحساسا مبهما بالحاجة إلى أنسنة هذه الآلة العظيمة التي تمثلها العولمة والانفتاح الاقتصادي والمالي والتجاري الشامل، وإلجامها والحيلولة بينها وبين سحق القيم والفضائل والمثل التي كانت حصاد تراكم الحضارات والفلسفات والديانات، وثمار جهود الإنسان الخيّرة.
إن التحولات العميقة التي أفرزتها العولمة لم تعزز روح التضامن والتآزر بين البشر، ولم تقدم لهم تلك الروح الإضافية التي كان عالمنا اليوم بحاجة إليها، فلا تحرير المبادلات ولا التدفق الحر لرؤوس الأموال، ولا فتح الحدود، ولا نهاية التاريخ التي تم التنبوؤ بها باسم هيمنة النموذج الأوحد للتنمية والتقدم استطاعت على ما يبدو توفير الحلول والطمأنينة للبشرية، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات. فالإنسان الذي هو غاية كل تحول وكل تنمية، يبدو اليوم وكأنه أعزل، دونما طول أو حول، مسلوب القدرة إزاء إعادة الصياغة المتسارعة للعالم مثلما لاحظ ذلك عديد المختصين. ومع الأزمة المتعاظمة للهويات المفجرة نجد الإنسان ينشد كافة السبل التي تمكنه من الاقتراب من أخيه الإنسان، وكأنه يبحث عن مواجهة أفضل، مواجهة هادئة، من اجل إيجاد الأجوبة المناسبة لتبديد حيرته إزاء العولمة الشرسة (28).
لقد تأكد اليوم ومثلما توصلت إلى ذلك عديد الدراسات السوسيولوجية أن مسألة حوار الثقافات مسألة جوهرية وأكيدة في حياة الإنسانية، فالأفراد والجماعات والمجتمعات لا تستطيع إطلاقا أن نعيش دون حوار مع الآخر قصد تبادل للمصالح المشتركة(29) وتبادل الفكر والخبرات العلمية، وعبر الحوار تتم عملية تصحيح الصورة التي يحملها الآخر عنا، فعناصر ثقافة الحوار تمكن إذن في إيجابية النظر إلى الغير باعتباره صديقا ممكنا، ومناصرا مشاركا، وأن الجدال (الحوار) معه بالحسنى هو الذي ينحت مواقف إيجابية (و) بهذه المواقف (يمكن أن) ننقل "الغيرية" من حيز الكراهية والعداوة إلى حيز الحميمية" (30)، وهذا عين ما أوصانا به القرآن الكريم "ادفع بالتي هي أحسن فإذا للذي بينك وبينه عدواة كأنه ولي حميم" ( ) وبهذا يمكن لنا عبر الحوار أن نخرج من دوامة العنف والإقصاء، فالحوار يضع حد للنزعات الفيزيولوجية والدوافع النفسية التي من الممكن أن تتحول إلى ردود فعل عنيفة. إن الحوار بما هو كلام ومحاولة تفهم طريق إلى الحقيقة ورياضة عقلية للفكر، وأرضية تؤلف بينك وبين من أنت بصدد التحاور معه.
وتجدر الإشارة إلى ان مبدا "الحوار" قد يظل فكرة طوباوية وقيمة مثالية مندرجة ضمن الآمال الخيّرة ليس إلا. وهذا يدعونا إلى البحث بكل جدية عن منطلقات نظرية وعملية أخلاقية وسياسية ترتبط بدورها بمرتكزات تتصل بالتربية والثقافة والإعلام، هذه القنوات الحيوية جدا في عملية الحوار والتي من شأنها أن تعطي جدية ونجاعة لمبدإ "الحوار" وفي طليعة ذلك ضرورة قناعة الأطراف المتحاورة بالنديّة في التعامل وقبول الآخر بكل خصوصياته وقناعاته مع رفض الأحكام المسبقة والقراءات السطحية المتماثلة لثقافة الآخر ومعتقدة.
وفي هذا الإطار يبدو أنه للمنظومات التربوية دورا أساسيا في نشر مبادئ الحوار بين الحضارات ودعم منطلقاته، مما يستوجب تضمين معاني الحوار الديني والثقافي واللغوي في البرامج والمناهج التربوية لتعريف النشء بأهمية الإسهامات الإبداعية لمختلف الشعوب والأمم، فضلا عن أهمية تلقين الشباب مبادئ التعاون والتضامن والتكامل ودفعه إلى تنويع رصيده المعرفي حول ثقافات الشعوب ولغاتها وأدبياتها وخصوصياتها.
وهذا يعني ضرورة الإقدام على إصلاح تربوي جذري تكون من مرتكزاته تربية الناشئة على التعرف إلى محيطها البشري الواسع وتقبّل الآخر والاستعداد للعيش معه رغم الاختلاف، وفي إطار احترام خصوصياته.وهذا يعني كذلك مراجعة الكتب المدرسية لاستبعاد ما فيها من أفكار مسبقة حول الثقافات الأخرى أو من إشارات الاستعلاء الثقافي واستنقاص الآخر، وإدراج مادة الدراسات الدينية المقارنة وإعطاء حيّز أكبر لتدريس الحضارات في صلب برنامج التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية، وغير ذلك مما ورد في تقرير جاك ديلور حول التعايش ومعرفة الآخر بشأن الأركان الأربعة التي ينبغي أن يقام عليها أي نظام تربوي.
فالتربية تـظل عنصر وقاية ضد انحرافات التعصب بكل أشكاله ونوعا من التطعيم الذي يكون له مفعول على المدى البعيد ضد مخاطر السقوط في التطرف والإرهاب (30).
ويبدو المجال الثقافي وعلى الأخص مجال اللغة العربية مجالا خصبا دوره ذا اهمية في ما يتعلق بإرساء قيم الحوار وتقاليده إنه من المهم أن يكون ثمة حوار خلاق بين أهل الفكر والرأي والإبداع مع تبادل للأفكار والتصور أن وتنجز شروحات وقراءات نقدية تدفع بمستوى الإبداع والفكر وتعطي معنى عميقا لدورهما في المجتمع والتاريخ.
إننا في الحقيقة نفتقر إلى قراءات جادة وعميقة لما يكتب راهنا في الوطن العربي، وليس -هناك بما الكفاية- مواكبة نقدية وقراءات شاملة ذات منطلقات معرفية لما تراكم في حقل الفكر العربي المعاصر، إن هذا الفكر يفتقر لما هو لازم لتطوّره ونعني الحوار إذ يحقق الحوار أواصر التواصل الخلاق بين أشكال الفكر والنظر، مثلما هو يمنح للفكر التحاما بواقعه التاريخي والاجتماعي، وهذا مطلب من مطالب الفكر، وعامل يساعده في تحقيق مهمة أساسية من مهامه وهي مهمة التقدم والحرية.
لننظر -مثلا في الدور الذي منحه الباحث المغربي في تاريخ الفلسفة والأفكار- وهو الأستاذ محمد وقيدي للحوار ودوره في يقظة الفكر الفلسفي في العالم العربي واضطلاعه بدوره الريادي في المشروع الحضاري العربي، فهو يرى أن التساءل عن مدى حضور الفلسفة في بيئة ثقافية ما يتطلب أن نتساءل عن مدى محاوره فلاسفتها لتاريخ الفلسفة ومذاهبه، من جهة وللتطورات العلمية وما تدفع إليه من توجهات فكرية جديدة من جهة أخرى، ثم محاورة كل نسق فكري للأنساق المعاصرة له ومع تلاقح الأسئلة التي يلقيها كل نسق في إطار معرفي شامل يمثل مرحلة تاريخية لبيئة ثقافية محددة مثل العالم العربي بشكل عام أو مثل المغرب بصفة خاصة. وهكذا، فإن الحوار المقصود يكون هنا عاما وخاصا في الوقت ذاته: مع تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم والأنماط الأخرى من التفكير حين يكون بينها وبين الفلسفة تقاطع، ثم مع وجهات النظر الفلسفية الأخرى داخل نفس البيئة الثقافية، إن النظر إلى الحوار في هذه الحالة بوصفه منهجا يكون شرطا لتطور الفكر الفلسفي، الذي يصبح من خصائص هذا النمط من التفكير، وهذا يذكى الحوار في المجتمع حول قضاياه الأساسية، فتلعب الفلسفة بذلك دورا إيجابيا يجعلها تتصف بصفة الحياة (32).
ونجده يرسم الحدود الفاصلة بين نمطين في الحوار من خلال معاينة مباشرة أجراها لواقع الفكر الفلسفي العربي حيث لاحظ "ضعف الحواريين". المؤلفات التي يتشكل منها نتاجه، علما بأني أدعو إلى التمييز في هذا المستوى بين الحوار الهادف إلى دحض آراء الغير وبين الحوار بمعناه الحق وهو ما يعني التفكير بالمعية، أي بالاعتماد على قول الغير ومعه. نحن، في هذه الحالة، أمام حالة شبيهة (دون تطابق طبعا) بتلك التي وصفها هوسرل عندما رأى أن وجها من اوجه عجز الفلسفات في زمنه عن أن تكون فلسفات حية يرجع إلى ضعف الحوار بينها. وهـذا ما يعني عجز الفلسفات التي تكون متزامنة عن الإنتاج ضمن ما سماه هوسرل "المحل الروحي المشترك" الذي نتبادل فيه الحوار . فهذا الرجوع إلى ما هو مشترك والدخول في حوار ينطلق يكون منه الشرط الذاتي لإخصاب الفكر مطلقا والفكر الفلسفي في كل بيئة ثقافية (33).
وبناء عليه يمكن أن يكون الحوار فعلا خلاّفا للمعرفة بما هو "تفكير بالمعية" مدخلا حقيقيا إلى المعرفة والتقدم ومعالجةالإنسان مطلقا وضدّا للصدامات والتعارضات والصور الخاطئة عن الذات والآخر، إنه عبر الحوار المعرفي الخلاق نتخلص من النظرة السلبية التي من الممكن أن يكون الآخر يرانا بها، ذلك أن الآخر ليس عدوا، وضدّا سلبيا دائما(34)، مثلما أنه عبر الحوار المعرفي الخلاق يمكن أن نؤسس لثقة بالذات، ولمعنى لوجودنا ونتجاوز السلبيان والمصادمة، وهو ما من شأنه أن يمنحنا مكانة في التاريخ أو في صنع التاريخ الكلّي للبشرية مثلما ساهم أجدادنا من أعلام العرب والمسلمين بقدر كبير في صنع الحضارة الإنسانية على امتداد قرون ثمانية.