الفكر العربي القديم
مرسل: الأحد فبراير 19, 2012 6:02 pm
من خلال السلمية الدلالية التي تقترحها النصوص القديمة ، لغوية كانت أو فلسفية أو أصولية ، للأدلة نجد التمايز بين الدليل اللفظي والدليل غير اللفظي لا ينسحب على بعدهما الوظيفي مادام الأساس الوجودي لهذه الدلائل بأكملها هو الحاجة الإنسانية." فبيان الشيء قد يكون بعبارات وضعت بالاصطلاح فهي بيان في حق من تقدمت معرفته بوجه المواضعة . وقد يكون بالفعل والإشارة والرمز ، إذ الكل دليل ومبين ولكن صار في عرف المتكلمين مخصوصا بالدلالة بالقول : له بيان حسن ، أي كلام حسن رشيق الدلالة على المقاصد"1. وإذ تم التواضع على أصوات طبيعية كوسيلة تعبيرية مفضلة في التواصل بين أفراد الجنس البشري ، فإن ذلك يعود لجملة من المواصفات الذاتية المعتبرة في الطبيعة الفيزيائية للصوت اللغوي من جهة ، وإلى اقتضاءات التداول اليومي الجماعي للإنسان من جهة أخرى .
فالاقتناع المبدئي لدى علماء العربية هو أن " الكلام أولى الأشياء بأن يجعل دليلا على المعاني التي احتاج الناس إلى تفاهمها"2. وبالتأمل نجد هذا التفضيل يرجع إلى عاملين اثنين : نطقي /صوتي ودلالي/معنوي . وعلى أساسهما بنى ابن سنان مصادرته التالية :" إنما فزع العقلاء إلى الحروف في المواضعة لأنها أهل وأوسع . ومع التأمل لا يوجد ما يقوم مقامها "3. وإذا شئنا تحليل هذا القول التعليلي الذي نجده عاما عند كل من تصدى للمقارنة بين الدلالات نصل إلى جملة من الفروق التي نشير إليها باقتضاب : أ ـ ارتباط الدلالة اللغوية بالعقل . وكيفما كان مفهومنا للعقل سواء باعتباره المجرد أو باعتباره العضوي ، فإنه هو الذي ينقل المعاني المحسوسة والذهنية إلى صيغ مجردة قابلة للتعميم والديمومة. أو بمعنى آخر إن العقل هو الآلة التي بإمكانها الربط بين الدال /اللفظ والمدلول /المعنى. لذا كان "فزع العقلاء" مبررا بتواضع بشري على استعمال الأصوات دون غيرها للتعبير عن الإقتضاءات الذاتية والخارجية. والنتيجة الموضوعية هي أنه بدون العقل لا يمكن أن يتم التواضع اللغوي ، لذا حمل الحد المنطقي للإنسان بأنه "حيوان ناطق" خاصية العقل ضمنا و شرطا.
ب ـ اليسر الذي يميز الصوت اللساني هو الذي برر استعماله ، لأن الفرد لا يقوم بجهد إضافي عما هو من طبيعته الذاتية ، أو يضيف أشكالا حركية لم تكن داخلة في بنيته التكوينية. " لكون إخراج النفس أمرا ضروريا فصرفوا هذا الأمر الضروري إلى هذا التعريف ولم يتكلفوا له طريقا أخرى غير ضرورية مع كونها تحتاج إلى مزاولة"4. ويقصد بالضرورة أن العملية التصويتية لازمة لعمل أعضاء الجسم الإنساني ، لأنها غير مقصورة على إصدار الأصوات اللغوية فقط ، بل لها وظائف بيولوجية أصلية ثم اشتق منها فعل التصويت ."فالضرورة الاجتماعية مضافة إلى الذكاء الإنساني خلقا وظيفة ثانوية لهذا الجهاز الحيوي هي وظيفة النطق اللغوي"5. ومن هنا سهل على الإنسان استخدام النفس المنبعث من الرئتين لإنتاج وسيلة تعبيرية تفصح عن مقاصده . وعلى العكس من ذلك ، فإن الدلائل الأخرى تحتاج إلى حركات إضافية غير داخلة في باب الضرورة البيولوجية كاستعمال اليدين في الإشارات أو الراس في التعبير عن الرفض أو القبول... وما إلى ذلك من الحركات التعبيرية. لأن " الصوت إنما يتولد في كيفية مخصوصة في إخراج النفس ، وذلك أمر ضروري فصرف ذلك الأمر الضروري إلى وجه ينتفع به انتفاعا كليا اولى من تكلف طريق آخر قد يشق على الإنسان الإتيان به"6.
ج ـ الاتساع الدلالي للغة. إذا كان الدليل اللغوي يشترك مع باقي الأدلة في وظيفته البيانية ، فإن للغة الطبيعية بعدا معنويا تخالف به كل العلامات الأخرى . إذ "للغة الطبيعية أجرومية خاصة تفتقدها اللغات السيميوطيقية أو لنقل إن أجهزة الاتصال الحديثة التي تعتمد العلامات الأيقونية أساسا كالسينما والتلفزيون تحاول ان تضع هذه العلامات في علاقات مستمدة من حيث بناؤها من أجروميات للغة الطبيعية . وهذا معناه أن للغة الطبيعية بعدها السيمانطيقي الذي تستعيره أنظمة العلامات الأخرى في أجهزة الاتصال الحديثة"7. ويتجلى هذا البعد الدلالي في الاتساع الذي يقابل الضيق المعنوي في العلامات الأخرى . إذ إن الإمكانيات التاليفية التي تتوفر للعناصر اللغوية تتيح لها قدرة واسعة على الإحاطة الشاملة بالمعاني والأغراض المقصود تأديتها. والشمول المعنوي صفة لازمة للعلامة اللغوية. يقول القاضي عبد الجبار:"إن حاجة العقلاء لما دعت إلى الإنباء عما في النفس لما فيه من النفع ودفع الضرر وعلموا أن ذلك وإن صح بالمواضعة على الحركات وغيرها فلا يتسع ذلك اتساع الكلام ، اقتضى ذلك المواضعة على الكلام الذي عند التأمل نعرف أنه اشد اتساعا من كل ما تصح فيه المواضعة "8.
ويحمل مفهوم الاتساع الدلالي أمران متلازمان :
الأمر الأول : هو كثرة المعاني نتيجة لاتساع الأغراض والوقائع التي تحيط بالكائن البشري . وفي المقابل نجد العلامات السيميائية الأخرى محدودة ومحددة المعاني ، بحيث كل إشارة لها معنى واحد لاتتزحزح عنه، وكل حركة لها دلالة واحدة لاتتغير عنه . لكن العلامة اللغوية تمتاز بقابليتها الدخول في علاقات تركيبية ودلالية تمكنها من السيطرة على فضاء المعاني ، زيادة على قابليتها للتحول الدلالي من أسلوب إلى آخر . ولولا مطاطية الفعل اللساني وقدرته الاستيعابية لعدة دلالات لما كانت الحاجة داعية له حتى يفضل باقي العلامات. وقد كان القاضي عبد الجبار أكثر وضوحا عند صياغة مبدإ الاتساع الدلالي الذي غلب الظاهرة اللغوية: "وإنما اختار أهل المواضعة الكلام في ذلك دون غيره لأنه أوسع بابا من غيره فيشعب بمقدار ما يحتاج إليه من الأسماء للمسميات وذلك يتعذر في ما عداه من الأفعال ولأنه يدرك فهو أقرب إلى أن يعرف المقاصد من غيره من الأفعال ولأنه مما لا تمس الحاجة إليه لغير المواضعة فهو يخالف في ذلك سائر الأفعال ولذلك وقع اختيار المواضعة عليه دون غيره "9.
الأمر الثاني : قدرة الدليل اللغوي على الدخول في علاقات تأليفية هي المنتجة للمعنى . أي أن اللفظ في شكله الإفرادي محدود الدلالة ، وقد يقارن في هذا الجانب بالإماءة الجسدية والإشارة الحسية في تصور دلالاتها على معاني معينة . لكن قابلية الحدث اللساني لاتخاذ صور تركيبية مختلفة يتيح له تغطية مساحات واسعة داخل فضاء المعاني والمفاهيم . وبتعبير الجرجاني: " إن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد ، وهذا علم شريف وأصل عظيم "10 . وشرفه يأتي من قيام اللغة على جملة من العلاقات النحوية المؤسسة على مفهوم النظم الذي يحدد كل طاقات اللغة الإخبارية والإنشائية
فالاقتناع المبدئي لدى علماء العربية هو أن " الكلام أولى الأشياء بأن يجعل دليلا على المعاني التي احتاج الناس إلى تفاهمها"2. وبالتأمل نجد هذا التفضيل يرجع إلى عاملين اثنين : نطقي /صوتي ودلالي/معنوي . وعلى أساسهما بنى ابن سنان مصادرته التالية :" إنما فزع العقلاء إلى الحروف في المواضعة لأنها أهل وأوسع . ومع التأمل لا يوجد ما يقوم مقامها "3. وإذا شئنا تحليل هذا القول التعليلي الذي نجده عاما عند كل من تصدى للمقارنة بين الدلالات نصل إلى جملة من الفروق التي نشير إليها باقتضاب : أ ـ ارتباط الدلالة اللغوية بالعقل . وكيفما كان مفهومنا للعقل سواء باعتباره المجرد أو باعتباره العضوي ، فإنه هو الذي ينقل المعاني المحسوسة والذهنية إلى صيغ مجردة قابلة للتعميم والديمومة. أو بمعنى آخر إن العقل هو الآلة التي بإمكانها الربط بين الدال /اللفظ والمدلول /المعنى. لذا كان "فزع العقلاء" مبررا بتواضع بشري على استعمال الأصوات دون غيرها للتعبير عن الإقتضاءات الذاتية والخارجية. والنتيجة الموضوعية هي أنه بدون العقل لا يمكن أن يتم التواضع اللغوي ، لذا حمل الحد المنطقي للإنسان بأنه "حيوان ناطق" خاصية العقل ضمنا و شرطا.
ب ـ اليسر الذي يميز الصوت اللساني هو الذي برر استعماله ، لأن الفرد لا يقوم بجهد إضافي عما هو من طبيعته الذاتية ، أو يضيف أشكالا حركية لم تكن داخلة في بنيته التكوينية. " لكون إخراج النفس أمرا ضروريا فصرفوا هذا الأمر الضروري إلى هذا التعريف ولم يتكلفوا له طريقا أخرى غير ضرورية مع كونها تحتاج إلى مزاولة"4. ويقصد بالضرورة أن العملية التصويتية لازمة لعمل أعضاء الجسم الإنساني ، لأنها غير مقصورة على إصدار الأصوات اللغوية فقط ، بل لها وظائف بيولوجية أصلية ثم اشتق منها فعل التصويت ."فالضرورة الاجتماعية مضافة إلى الذكاء الإنساني خلقا وظيفة ثانوية لهذا الجهاز الحيوي هي وظيفة النطق اللغوي"5. ومن هنا سهل على الإنسان استخدام النفس المنبعث من الرئتين لإنتاج وسيلة تعبيرية تفصح عن مقاصده . وعلى العكس من ذلك ، فإن الدلائل الأخرى تحتاج إلى حركات إضافية غير داخلة في باب الضرورة البيولوجية كاستعمال اليدين في الإشارات أو الراس في التعبير عن الرفض أو القبول... وما إلى ذلك من الحركات التعبيرية. لأن " الصوت إنما يتولد في كيفية مخصوصة في إخراج النفس ، وذلك أمر ضروري فصرف ذلك الأمر الضروري إلى وجه ينتفع به انتفاعا كليا اولى من تكلف طريق آخر قد يشق على الإنسان الإتيان به"6.
ج ـ الاتساع الدلالي للغة. إذا كان الدليل اللغوي يشترك مع باقي الأدلة في وظيفته البيانية ، فإن للغة الطبيعية بعدا معنويا تخالف به كل العلامات الأخرى . إذ "للغة الطبيعية أجرومية خاصة تفتقدها اللغات السيميوطيقية أو لنقل إن أجهزة الاتصال الحديثة التي تعتمد العلامات الأيقونية أساسا كالسينما والتلفزيون تحاول ان تضع هذه العلامات في علاقات مستمدة من حيث بناؤها من أجروميات للغة الطبيعية . وهذا معناه أن للغة الطبيعية بعدها السيمانطيقي الذي تستعيره أنظمة العلامات الأخرى في أجهزة الاتصال الحديثة"7. ويتجلى هذا البعد الدلالي في الاتساع الذي يقابل الضيق المعنوي في العلامات الأخرى . إذ إن الإمكانيات التاليفية التي تتوفر للعناصر اللغوية تتيح لها قدرة واسعة على الإحاطة الشاملة بالمعاني والأغراض المقصود تأديتها. والشمول المعنوي صفة لازمة للعلامة اللغوية. يقول القاضي عبد الجبار:"إن حاجة العقلاء لما دعت إلى الإنباء عما في النفس لما فيه من النفع ودفع الضرر وعلموا أن ذلك وإن صح بالمواضعة على الحركات وغيرها فلا يتسع ذلك اتساع الكلام ، اقتضى ذلك المواضعة على الكلام الذي عند التأمل نعرف أنه اشد اتساعا من كل ما تصح فيه المواضعة "8.
ويحمل مفهوم الاتساع الدلالي أمران متلازمان :
الأمر الأول : هو كثرة المعاني نتيجة لاتساع الأغراض والوقائع التي تحيط بالكائن البشري . وفي المقابل نجد العلامات السيميائية الأخرى محدودة ومحددة المعاني ، بحيث كل إشارة لها معنى واحد لاتتزحزح عنه، وكل حركة لها دلالة واحدة لاتتغير عنه . لكن العلامة اللغوية تمتاز بقابليتها الدخول في علاقات تركيبية ودلالية تمكنها من السيطرة على فضاء المعاني ، زيادة على قابليتها للتحول الدلالي من أسلوب إلى آخر . ولولا مطاطية الفعل اللساني وقدرته الاستيعابية لعدة دلالات لما كانت الحاجة داعية له حتى يفضل باقي العلامات. وقد كان القاضي عبد الجبار أكثر وضوحا عند صياغة مبدإ الاتساع الدلالي الذي غلب الظاهرة اللغوية: "وإنما اختار أهل المواضعة الكلام في ذلك دون غيره لأنه أوسع بابا من غيره فيشعب بمقدار ما يحتاج إليه من الأسماء للمسميات وذلك يتعذر في ما عداه من الأفعال ولأنه يدرك فهو أقرب إلى أن يعرف المقاصد من غيره من الأفعال ولأنه مما لا تمس الحاجة إليه لغير المواضعة فهو يخالف في ذلك سائر الأفعال ولذلك وقع اختيار المواضعة عليه دون غيره "9.
الأمر الثاني : قدرة الدليل اللغوي على الدخول في علاقات تأليفية هي المنتجة للمعنى . أي أن اللفظ في شكله الإفرادي محدود الدلالة ، وقد يقارن في هذا الجانب بالإماءة الجسدية والإشارة الحسية في تصور دلالاتها على معاني معينة . لكن قابلية الحدث اللساني لاتخاذ صور تركيبية مختلفة يتيح له تغطية مساحات واسعة داخل فضاء المعاني والمفاهيم . وبتعبير الجرجاني: " إن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد ، وهذا علم شريف وأصل عظيم "10 . وشرفه يأتي من قيام اللغة على جملة من العلاقات النحوية المؤسسة على مفهوم النظم الذي يحدد كل طاقات اللغة الإخبارية والإنشائية