مفهوم القوة
مرسل: الأحد فبراير 26, 2012 1:55 pm
مفهوم القوة في الفكر الإستراتيجي مقدمة:
برغم من أن الفلاسفة والعلماء الإجتماعيين والإستراتيجيين العسكريين قد أفاضوا منذ القدم حول تناول مفهوم القوة واختلفوا في تعريفه إلا أن الإختلافات القائمة بينهم لم تكن جوهرية بالقدر الكبير، وذلك بالنسبة للأغراض العلمية التي تختلف كثيراً في طبيعتها عن المداولات الأكاديمية؛ على قدر أهمية الأخيرة .
والقوة ( Power ) هي ببساطة القدرة على التأثير على الآخرين وإخضاعهم لإرادة القوي الفاعل، لذلك فالأقوياء في أي موقف اجتماعي كان أم سياسي أم اقتصادي أم ثقافي هم الذين يفرضون إرادتهم وكلمتهم ويسيرون الأمور كما يرونها ووفقاً لمصالحهم الخاصة.
تعتبر قوة الدولة من العوامل التي يعلق عليها أهمية خاصة في ميدان العلاقات الدولية، وذلك بالنظر إلى أن هذه القوة هي التي ترسم أبعاد الدور، الذي تقوم به الدولة في المجتمع الدولي وتحدد إطار علاقاتها بالقوى الخارجية في البيئة الدولية (1) وبطبيعة الحال لا يعني ذلك أن الدولة القوية والتي تسير الأمور وفقاً لمصالحها ورغباتها دولة سيئة أو أنانية أو مفسدة في الأرض، فالسوء والأنانية والإفساد؛ أمور مستقلة عن القوة، ودليل على ذلك قول الرسول محمد صلي الله عليه وسلم " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير" ومن ثمَ فإن العامل المحدد لأخلاقية القوة هو استخدامها في الخير والإعمار دون إلحاق الضرر بمصالح الآخرين .
مفهوم القوة تجاوز في مضمونه الفكري المعنى العسكري الشائع إلى مضمون حضاري أوسع ليشمل القوة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والتقنية ... الخ. ولكن أياً من مصادر القوة مهما تعددت لا يكتسب وزناً وتأثيراً بمجرد وجوده، وإنما يرتبط هذا الوزن والتأثير بالقدرة على التدخل الواعي لتحويل مصادر القوة المتاحة إلى طاقة مؤثرة وسلاح فعال، فالقوة ( Strength ) هي مجرد إمتلاك مصادر القوة كالموارد والقدرات الاقتصادية والعسكرية والسكان وغيرها، أما القدرة (Power) فتنصرف إلى إمكانية تحويل هذه المصادر إلى عنصر ضغط وتأثير في إرادات الآخرين .
تعريف القوة لغةً:
ورد في المعجم الوسيط أن القوة هي ضد الضعف وهي الطاقة، وهي تمكن الإنسان من أداء الأعمال الشاقة، وهي المؤثر الذي يغير أو يحيل حالة سكون الجسم، وهي مبعث النشاط والحركة والنمو وجمعها قوى، ورجل شديد القوى أي شديد وقوي في نفسه وقوَّى دعم ووطَّد، كما نجد أن القوي والقادر والمقتدر من أسماء الله الحسنى، تأتي القوة بمعنى الجد في الأمر وصدق العزيمة، وقد وردت القوة في القرآن الكريم في كثير من الآيات، وعلى سبيل المثال " وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة "(2)أي أعدوا لهم جميع أنواع القوة المادية والمعنوية (3) " خذوا ما أتيناكم بقوة (4) أي بحـزم وعزم (5) "لو أن لي بكم قوة أو أوي إلى ركن شديد " (6) أي لو كان لي قوة أستطيع أن أدفع أذاكم بها أو الجأ إلى عشيرة وأنصار تنصرني عليكم (7) .
والقوة هي لغة كل العصور وهي أحد المفردات الهامة التي يتوقف عندها المفكرون في كافة أنحاء الأرض وبمختلف لغاتهم، حيث تبين أن معناها يكاد يكون واحد في كل اللغات حيث يدور في إطار مفهوم القدرة على الفعل والإستطاعة والطاقة وهي ضد الضعف وتعني أيضاً التأثير والنفوذ والسلطة .
تعريف القوة إصطلاحاً:
يعرف علم الإجتماع القوة "بالقدرة على إحداث أمر معين" و"تأثير فرد أو جماعة عن طريق ما على سلوك الآخرين"، يعتبر موضوع القوة من المواضيع التي يهتم بها علم الجغرافية السياسية والعلاقات الدولية لذا جاء تعريف وتفسير مفهوم القوة للكثير من الكتاب والمفكرين في هذا الإطار.
وفي رأي كارل فريدريك فإن أفضل تعريف للقوة هي القدرة على إنشاء علاقة تبعية فعند القول أن لإنسان ما قوة سياسية تفوق قوى الآخرين، فهذا يعني أن الآخرين يتبعون نظام أفضلياته، والقوة ليست مجرد التسلط ولكنها تتضمن أيضاً القدرة على الإستمالة والنفوذ لدى الآخرين، ويرى أنه بالاسـتخدام الماهر والذكي للقوة يمكن للطـرف (أ) أن يجعل الطـرف (ب) يفعل ما يريد دون قهـر أو إرغام بمعنى يمكن تحويل القهـر إلى إتفاق وتزامن كنفـوذ جماعات الضـغط في المجتمعات المتحضرة(8).
ويرى سبيكمان أن القوة تعني البقاء على قيد الحياة والقدرة على فرض إرادة الشخص على الآخرين والمقدرة أيضاً على إملاء هذه الإرادة على أولئك الذين لا قوة لهم وإمكانية إجبار الآخرين ذوي القوة الأقل على تقديم تنازلات(9) .
ويرى كل من ميكافيلي وهوبز ومورغنثوه على أن القوة هي الوسيلة والغاية النهاية التي تعمل الدولة للوصول إليها في مجال العلاقات الدولية .
ولقد بلور علماء الجيوبولتيكا مفهوم القوة وكأنه مرادف لمفهوم السيطرة فلقد بين راتزل بأن الدولة كائن حي يحتاج إلى النمو والتطور حتى لو كان عن طريق القوة. ويعتبر علماء السياسة أن مفهوم القوى هو المفهوم الرئيسي في علم السياسة بل ومن المفاهيم الرئيسية في العلوم الإجتماعية كلها ومن ناحية أخرى فإن السياسة ترتبط بشكل وثيق مع القوى . كما أن البحث عن القوة يميز السياسة عن الأنواع الأخرى من النشاط الإنساني(10) .
في عالم السياسة توجد ثلاثة إتجاهات لتعريف القوة :
الإتجاه الأول: يعرف القوة بأنها القدرة على التأثير في الغير وهي القدرة على حمل الآخرين للتصرف بطريقة تضيف إلى مصالح مالك القوة .
الإتجاه الثاني: يعرف القوة بأنها المشاركة الفعالة في صنع القرارات المهمة في المجتمع.
الإتجاه الثالث: يحاول أن يجمع بين الإتجاهين السابقين ويعـرف القوة بأنها التحكم والسيطرة المباشرة أو غير المباشرة لشخص معين أو جماعة معينة على أوجه إثارة القضايا السياسية أو عملية توزيع القيم وما يترتب عليه من مقدرة في تقرير أو تأثير في الموقف في الإتجاه الذي يفضله صاحب القوة(11) .
أما كلية الحرب الأمريكية فتعرف مفهوم القوة القومية للدولة بأنها الإمكانية أو القدرة التي يمكن أن تستخدمها الدولة للوصول إلى أهدافها القومية في الصراع الدولي، إذن فالقوة هي الطاقة العامة للدولة لكي تسيطر وتتحكم في تصرفات الآخرين (12) .
في الفكر الإستراتيجي يقصد بقوة الدولة فاعلية الدولة ووزنها في المجال الدولي الناتجان عن قدرتها على توظيف مصادر القوة المتاحة لديها في فرض إرادتها وتحقيق أهدافها ومصالحها القومية والتأثير في إرادة الدول الأخرى ومصالحها وأهدافها. وقوة الدولة بهذا المعنى تتحدد في ضوء عنصرين مصادر القوة ثم عملية إدارة وتوظيف تلك المصادر، لذا فإن أياً من مصادر القوة لا يكتسب وزناً وتأثيراً بمجرد وجوده وإنما يرتبط هذا الوزن والتأثير بالتدخل الواعي لتحويل مصادر القوة المتاحة إلى طاقة مؤثرة وسلاح فعال.
المفاهيم المرتبطة بمفهوم القوة
يتداخل مفهوم القوة مع عدة مفاهيم أخرى مثل السلطة والنفوذ والقهر والتأثير والإرغام والردع والإرهاب والإغراء، وهي تستخدم كمترادفات وكعناصر لتحليل القوة .
السلطة: هي الوجه الأول للقوة السياسية والسلطة بصفة عامة هي قوة ذات طابع نظامي حيث تكون القوة مرتبطة بمنصب أو وظيفة معينة معترف بها داخل المجتمع ويعطي لشاغلها حق إصدار القرارات ذات صفة الإلزام الشرعي بالنسبة للآخرين، وتنقسم إلى ثلاثة أنواع: سلطة قانونية وتقليدية وكاريزماتية .
النفوذ السياسي: هو الوجه الثاني للقوة السياسية وهي ممارسة عن طريق تفاعل إجتماعي تستخدم فيه وسائل الإغراء والترهيب والإقناع والسيطرة والهيمنة والإرغام والإكراه، وتوجد أشكال متعددة من النفوذ تتراوح ما بين الترغيب والإستمالة والإقتناع إلى السيطرة والهيمنة والردع والإكراه((13) .
القهــر: هو أي قوة أو تهديد يقلل من حرية الحركة، بما يجعل التصرفات تتم بحرية أقل مما كان يمكن أنَّ تكون عليه، وهناك بعض المفكـرين يميزون بين التأثير والقـوة والقهـر، والقهر شكل من أشـكال القوة التي تواجه المجبر بالقـدرة على إلحاق الضرر به بغض النظر عن الموقف الذي يتخذه .
التأثير: يعد مفهوم التأثير مفهوماً محورياً في الدراسات السياسية حيث يميز بعض المحللين بينه وبين مفهوم القوة عن طريق تضيقه بحيث لا يشمل إلا الوسائل غير المباشرة أو غير الملموسة لتغيير السلوك. أما البعض الآخر فيعتبر أن القوة ما هي إلا شكل من أشكال التأثير (14)، وقد يكون التأثير قسرياً أو غير قسري .
الهيمنة: يدل مفهوم الهيمنة على تأثير دولة على دولة أو دول أخرى ويصف سياسات القوة التي تردع بها جيرانها المعتمدين عليها بالتهديد من أجل إجبارهم على الاستسلام .
السيطرة: يدل مفهوم السيطرة على ممارسة دولة لها نفوذ وقوة لنفوذ فعلي على دولة أخرى أو إقليم معين، وهذا النفوذ قد يأخذ شكل تحالف أو علاقة تبعية، وهو ينتج عن التفاوت في القوة بين الدول وبعضها البعض .
الردع: يتميز الردع بوجود إستراتيجية للتهديد بالعقاب، أي إقناع الخصم بأن التصرف غير المرغوب فيه سوف يكبده من الخسائر أكثر بكثير مما قد يترتب عليه من مكاسب، ويجب أن يكون الردع مصداقياً، وأحياناً تكمن القوة في إغراء طرف أخر بالمكافأة .
الإكراه: شكل من أشكال التأثير وللإكراه صور متعددة إقتصادية وإجتماعية، سياسية وإن التهديد بإستخدام القوة أو الإستخدام الفعلي للقوة العسكرية هو شكل من أشكال القوة ويرتبط بمفاهيم القوة والتأثير والسلطة.
وهناك تميز بين القدرة والقوة فالقدرة هي معطي موضوعي وهي موارد متاحة أما القوة فهي ممارسة عملية وهي التوظيف السياسي لتلك الموارد، وإن النقلة من إمتلاك الموارد إلى إستخدامها أي من القدرة إلى القوة، يتطلب إرادة سياسية ودور للعقل البشري، وفي كثير من الحالات التاريخية نجد أن الحروب قد تحددت ليس بميزان القدرات والإمكان وحسب ولكن أيضاً بإرادة التصميم والعزم والمثابرة وتلعب القيادة السياسية الحاكمة والثقافة السياسية السائدة دوراً حاسماً وهاماً في هذا المجال .
مصادر القوة(2)
إذا قلنا أن القوة هي القدرة على التأثير على الآخرين، وأن المجتمع أو الدولة القوية هما القادران على التأثير على الآخرين ويعمل الآخرون من الدول والمجتمعات لها حساباً. فلابد أن تكون لهذه الدولة مقومات تضطر المجتمعات والدول الأخرى للخضوع لها فما هي مصادر القوة عند هذه الدولة القوية أو ذلك المجتمع المؤثر؟
هناك شبه إجماع بين مفكري الجغرافيا السياسية أن مصادر القوة والتي تحدد قيمة الدولة من الناحية السياسية يمكن إبرازها في ثلاثة عوامل هي :
1ـ العوامل الطبيعية .
2ـ العوامل الاقتصادية .
3ـ العوامل البشرية .
ويرجع آخرون قوة الدولة إلى خمسة عوامل تشكل منهجاً يقوم بتحليل هذه العوامل باعتبارها معادلة القوة الشاملة للدولة وهي :
1ـ العامل الجغرافي .
2ـ العامل الاقتصادي .
3ـ العامل السياسي .
4ـ العامل النفسي .
5ـ العامل العسكري.
كما يرى بعض مفكري العلاقات الدولية وعلى رأسهم هانز مورجانثو أن القوة الشاملة للدولة يعبر عنها من خلال تسعة عناصر هي :
1ـ العامل الجغرافي .
2ـ الموارد الطبيعية.
3ـ الطاقة الصناعية.
4ـ الاستعداد العسكري.
5ـ السكان .
6ـ الشخصية القومية .
7ـ الروح المعنوية .
8ـ نوعية الدبلوماسية .
9ـ نوعية الحكم .
هكذا تطور الفكر العالمي بالنسبة لمفهوم القوة الشاملة للدولة وإن كانت قد استقرت أخيراً على وجهة نظر شرقية وأخرى غربية .
وجهة النظر الأولى
التي يعبر عنها بوجهة النظر الشرقية (نسبة للاتحاد السوفيتي السابق) والتي تشير إلى مفردات القوة الشاملة في إطار خمسة قدرات هي :
1ـ القدرة السياسية (القدرة الداخلية) .
2ـ القدرة الدبلوماسية (القدرة الخارجية).
3ـ القدرة الاقتصادية .
4ـ القدرة العسكرية .
5ـ القدرة المعنوية .
وجهة النظر الثانية
وهي تعبر عن وجهة نظر أخرى أخذت من مصادر غربية (أمريكية) والتي تشير إلى خمسة عناصر رئيسية يمكن منها استخلاص قوة الدولة الشاملة وهي :
1ـ الكتلة الحيوية / الحرجة للدولة (الأرض - والسكان). critical mass
2ـ القوة الاقتصادية economic capability
3ـ القوة العسكرية capability military
4ـ الهدف الإستراتيجي strategic purpose
5ـ الإرادة الوطنية will pursue national purpose
خصائص القوة
القوة مفهوم حركي ديناميكي غير ثابت يدخل في تكوينها عدد كبير من العناصر المتغيرة المادية وغير المادية التي ترتبط مع بعضها، والقوة بطبيعتها شيء نسبي لأن قوة الدولة تقاس بمقارنتها بقوة الدول الأخرى، كما تظهر القوة بشكل تدريجي وهذا يعني أن بعض الدول الضعيفة نسبياً يمكن أن تلعب دوراً فعالاً في أزمة معينة بشكل سريع وغير متوقع بحيث يصبح بإمكانها التأثير على دولة أخرى أقوى منها وحتى إجبارها على تغيير سياستها، فقد تلاشت قوة الولايات المتحدة الأمريكية أمام شعب فيتنام مع أنها تملك أسلحة دمار شامل، ولكن خشيت من إستخدامها خوفاً من رد فعل الصين الشعبية والإتحاد السوفيتي (السابق) مما دفع صانع القرار الأمريكي إلى حصر المجهود الحربي في أسلحة تقليدية .
وتتدرج ممارسة القوة بين التأثير بالطرق الدبلوماسية من جهة وبين أسلوب الإجبار والقسر من جهة ثانية، وإن اللجوء إلى القوة هو في الحقيقة الوصول إلى مرحلة العجز عن الحل بالطرق السلمية ويعتمد السعي وراء القوة على الموارد المتاحة من أجل تنفيذ سياسة الدولة (15) . وليس هناك حصر مانع وجامع لمصادر قوة الدولة خاصة في المجال الدولي إذ يختلف تأثير هذه المصادر من دولة لأخرى ومن فترة زمنية إلى أخرى في الدولة نفسها، إرتباطاً بطبيعة الإطار الدولي وبمصادر قوة الطرف الأخر في العلاقة، وبالقدرة على إدارة مصدر القوة من جانب القيادات السياسية أو إستغلاله .
والحقيقة أن مفهوم القوة وبالمعنى والذي سبق وحددناه يتضمن كلا الجانبين، جانب إمتلاك أسباب القوة وجانب توظيف هذه الأسباب في التحكم في إرادة الآخرين وأفعالهم، في ضوء ما تقدم نستطيع أن نحدد خصائص القوة في المجال الدولي فيما يأتي:
أولاً : أن القوة هي جوهر العلاقات الدولية، كما أن السلطة هي جوهر السياسة القومية والفارق بين القوة والسلطة أن هذه الأخيرة تتضمن الأولى، ولكنها ترتبط بغاية وهي تحقيق وحدة الجماعة، وبوسيلة هي الإحتكار الشرعي لأدوات القمع . وبعبارة أخرى فإن السلطة التي يدور حولها الصراع في السياسة الداخلية هي سلطة مستأنسة ومتمركزة في الحكومة التي تحتكرها لفرض تحقيق الوحدة والإستقرار، أما القوة التي يدور حولها الصراع بين الدول فليست مستأنسة ولا متمركزة ولا منظمة، والهدف منها تحقيق المصالح القومية لكل دولة وهي مصالح متعددة ومتعارضة بطبيعتها الأمر الذي يفسر طابع العداوة والحرب الذي يغلب على العلاقات الدولية، والناتج عن سعي كل الدول إلى فرض إرادتها وتحقيق مصالحها في غياب السلطة العليا التي تحتكر أدوات القمع .
ثانياً : أن القوة ليست هدف في نفسها ولكنها وسيلة لممارسة النفوذ والتأثير الذي يتضمن تحقيق أهداف الدولة والتي لا تخرج عن تحقيق المصالح القومية أو الوظيفة الحضارية فضلاً على حماية الأمن القومي وصيانة الاستقلال السياسي أو الردع .
ثالثاً : أن قوة الدولة دائماً نسبية ويتوقف تقديرها على أمرين أولهما القدرة على تحويل مصادر القوة المتاحة أو الكامنة إلى قوة فعالة وثانيهما محصلة قوة الطرف الأخر، قد تتساوى دولتان في إمتلاك مصادر القوة نفسها إلا أن قدرة إحداهما وعدم قدرة الأخرى على توظيف أحد أو بعض مصادر قوتها يجعل القادر على توظيف مصادر قوتها أقوى نسبياً من الأخرى على الرغم عن تساوي مصادر القوة في الدولتين .
من ناحية أخرى فإن وزن قوة الدولة في تغير مستمر نتيجة للتغيير في أهمية مصادر القوة المتاحة لديها، أو لدى الطرف الآخر أو لما قد يطرأ على العلاقات بين الدول من تبادلات تؤثر في أوزان قوتها كالحروب أو المعاهدات أو التحالفات أو الإنقسامات أو غير ذلك .
رابعاً : أن القوة صناعة وإرادة فرضتها طبيعة العلاقات الدولية التي تتسم بالفوضى وغياب السلطة، الأمر الذي فرض على الدول السعي بشتى الوسائل والطرق إلى صنع مصادر القوة والعوامل المهنية لتفعيلها، بوصفها الضمان الحقيقي لأمنها وإستقرارها وتحقيق مصالحها، ولعل ما يثبت أن القوة صناعة وإرادة هي قوة كل من اليابان وألمانيا الآن مقارنة بأوضاعها في نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد تمتلك بعض الدول العديد من مصادر القوة كالسكان والموارد والإقليم والعامل المعنوي، إلا أنها تفتقد القدرة على إنتاج القوة وإدارتها على الرغم من عراقتها التاريخية وسمو تقاليدها الحضارية .
خامساً : تتصف القوة بندرتها مما يترتب على ذلك أن الدول مهما ملكت من قوة فأنها تحرص على ما تمتلكه وتحاول عدم تشتيت جهودها وإن القوة بطبيعتها شي نسبي لأن قوة الدولة تقاس بمقارنتها بقوة الدول الأخرى . كما تظهر القوة بشكل تدريجي وهذا يعني أن بعض الدول الضعيفة نسبياً يمكن أن تلعب دوراً فعالاً في أزمة معينة بشكل سريع وغير متوقع والقوة مفهوم حركي ديناميكي غير ثابت يدخل في تكوينها عدد كبير من العناصر المتغيرة المادية وغير المادية التي ترتبط مع بعضها والبعض الآخر، لذلك فإن أي إستنتاج يتعلق بقوة الدولة أو ترتيبها بين الدول الأخرى وأن كان مبنياً على معلومات حديثة هو في الواقع مرهون بوقت ظهوره، وهذا يتطلب إعادة تقييم الدولة بصورة مستمرة (16)
سادساً : تتدرج ممارسة القوة بين التأثير بالطرق الدبلوماسية من جهة وبين أسلوب الإجبار والقسر من جهة ثانية، وأن اللجوء إلى القوة وهو في الحقيقة الوصول إلى مرحلة العجز عن الحل بالطرق السلمية، ويعتمد السعي وراء القوة على المـوارد المتاحة من أجل تنفيذ سياسة الدولة معتمدين على دفع هذه القوة إلى حدها الأقصى من خلال نوعية الدبلوماسية التي تترجم الموارد القومية إلى قوة قومية (17).
أدوات القـوة
تمارس الدولة قوتها في النطاق الخارجي من خلال أداتين هما : الدبلوماسية والحرب، وفي ضوء مصادر القوة التي أشرنا إليها آنفاً والتي تحدد الدولة على أساسها أهدافها، وتقرر الاختيار بين هذه الأداة أو تلك من أدوات القوة، والدولة الأقوى هي التي تفوز دائماً في الدبلوماسية وفي الحرب، وفي إطار يغلب عليه الصراع، وتغيب عنه السلطة العليا الحاكمة، ولا تعرف لغة المنطق، ولا قيم العدالة والمساواة، و لا معيار الموضوعية، وإنما ثمة هدف واحد هو المصلحة، وأداتان هما الدبلوماسية والحرب .
والدبلوماسية تسبق الحرب وتلازمها وتعقبها، والأولى أن تحقق الدول غايتها وتفرض إرادتها من خلال الأساليب والمهارات الدبلوماسية التي ترتكز إلى قوة فعلية، يمكن التلويح بها أو التهديد باستخدامها دون التورط في الحرب، لما تتطلبه من نفقات وموارد، وما تخلفه من خسائر ومخاطر على كلا الجانبين، وبصفة خاصة بعد شيوع استخدام أسلحة الدمار الشامل بمختلف أنواعها، وحرص كثير من الدول على امتلاكها .
وعندما تخفق الدبلوماسية في إجبار الطرف الآخر على الإذعان لإرادة الدولة تصبح ضرورة لإثبات القدرة وفرض الاحترام وإجبار الطرف الآخر على الخضوع لإرادة الأقوى . وأثناء ذاـك تواصل الدبلوماسية مهامها لإقناع الخصم بضرورة التسليم، وصياغة شروط التسليم، ومعاهدات لعقد الهدنة أو الصلح مع أطراف أخرى تكسبها إلى جانبها أو تحييدها في الصراع الدائر، أو غير ذلك من الجهود الدبلوماسية التي تلازم الحرب، وتساعد على تحقيق أهدافها بأقل الخسائر الممكنة .
وعقب انتهاء الحرب تنشط الدبلوماسية من جديد لصياغة الاتفاقات، وإبرام المعاهدات التي تتضمن اعتراف الطرف الآخر بالهزيمة، وقبوله الخضوع الإرادي لشروط الدولة المنتصرة، وعلى مقتضى مصلحتها القومية .
وهكذا تتكامل الدبلوماسية والحرب بوصفهما أداتين للقوة أو وسيلتين لإقناع أو إكراه الطرف الآخر على الامتثال لإرادة الدولة . ولعل هذا التكامل يفسر عدة مظاهر، مثل مشاركة الدبلوماسيين والعسكريين في مجالس الأمن القومي وفي تشكيل سياساته، وظهور ما يعرف بالدبلوماسية العسكرية أو دبلوماسية القوة، نتيجة لتعيين العسكريين - بعد انتهاء مد ة خدمتهم بالجيش – في السلك الدبلوماسي، وغير ذلك من مظاهر التقارب والتعاون بين الدبلوماسيين والعسكريين، وبصفة خاصة عقب الحرب العالمية الثانية التي جسدت هذه العلاقة الوثيقة بين الدبلوماسية والحرب بوصفهما أداتين للقوة، ودعامتين لمفهوم الأمن القومي (18) .
استخدامات القوة
سبق وذكرنا أن القوة ليست هدفاً في ذاتها، ولكنها وسيلة لتحقيق أهداف أخرى من خلال النفوذ أو التأثير الناتج عن ممارسة القوة، فما هي تلك الأهداف التي تُستخدم القوة لتحقيقها ؟
تختزل أغلب الدراسات الغربية أهداف القوة في هدف واحد : هو تحقيق المصلحة القومية فالعلاقات الدولية ليست سوى علاقات قوى تخضع لقانون واحد : هو قانون المصالح القومية . ويضيف بعض الباحثين استخدامات أخرى للقوة لا تبتعد كثيراً عن هدف المصلحة القومية، مثل حماية الحدود وضمان الأمن وصيانة المعاهدات وتحقيق الرفاهية .
والحقيقة أن إعلان بعض الدول عن استخدامات أخرى للقوة لا ترتبط بعامل المصلحة القومية، قد يكون مجرد قناع لإخفاء السبب الحقيقي الذي يحكم حركتها في النطاق الدولي، والذي لا يعدو أن يكون المصلحة القومية نفسها .
سبق وذكرنا أن إدعاء رسالة فرنسا الثقافية الذي أسُتخدم لتوسيع الحروب والفتوحات النابليونية في القارة الأوربية، ولتوسيع الاستعمار الفرنسي لدول العالم الثالث لم يكن في الحقيقة سوى قناع للأطماع الفرنسية خارج حدودها وبالطريقة نفسها يمكن تفسير ادعاءات الولايات المتحدة الواردة بوثيقة البيت الأبيض عن ( إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة )، والتي تربط استخدام القوة في النطاق الخارجي بنشر قيم الحرية والمساواة والقضاء على الإرهاب، بأنها مجرد ستار تستتر خلفه الأسباب الحقيقية التي ترتبط بالسيطرة على منابع البترول، وضرب القوى الإسلامية، وتكوين إمبراطورية أمريكية (19)
وإذا كانت الدولة القومية العلمانية ذات التقاليد الرأسمالية والقائمة على مبدأ الدولة الحارسة، تأبى إلا أن تجعل من لغة المصالح أساس حركتها في النطاق الخارجي، حتى لو غلفت تلك المصالح بغطاء من القيم والمثاليات، فإن النموذج الآخر للدولة القومية – أي الدولة القومية العقدية التي تعتمد على العامل العقدي في عملية بناء الدولة، وتأسيس شرعية السلطة السياسية، ورسم سياستها الداخلية والخارجية – يقوم على الربط بين حركتها السياسية في النطاق الخارجي، ووظيفة حضارية لا تنبع من منطـق المصالح، وهو النمـوذج الذي تتحول فيه القوة إلى إرادة حضارية، أي أداة تحقيق الوظيفة الحضارية، تلك التي تدور حول نشر قيم عالمية واحدة تضمن التقدم الروحي والمعنوي لسائر البشر .
ثمة تطبيقان لهذه الدولة التي تستخدم القوة بوصفها إرادة حضارية:(الدولة الأيديولوجية، والدول الدينية)، الأولى تضع قوتها في خدمة عقيدتها السياسية، وتربط حركتها في المجال الخارجي بفكرها الأيديولوجي، أما الثانية فتجعل محور تعاملها الخارجي يدور حول نشر عقيدتها الدينية .
وذلك من منطلق القناعة بأن كلاً منهما – أي الفكر الأيديولوجي والعقيدة الدينية – يمثل إضافة جديدة إلى معالم التقدم الإنساني تفرض عليهما – أي الدولة الأيديولوجية، والدولة الدينية – الالتزام بنشر هذه المنجزات وتعميمها من أجل الارتقاء بالوجود البشري، وتسخير قوتهما للدفاع عن هذه الوظيفة الحضارية .
القوة والتوازن
لاشك أن هناك اختلافات في القوى النسبية للدول، ومرد هذا الاختلاف يعود إلى تباين ما هو متاح لكل دولة من المصادر والمكونات والمـوارد المادية وغير المادية التي تدخل في تركيب هذه القوة، وتدرك كل دولة في ظل البيئة الدولية الحالية والتي يحكمها منطق الصراع أن حماية حدودها ومكتسباتها الوطنية فضلاً عن تحقيق مصالحها القومية رهن بامتلاك القوة والسعي الدائم إلى زيادة هذه القوة إلى أبعد مدة ممكن وذلك بإضافة مصادر أو طرق أو وحـدات إنتاج جديدة للقوة (تحالف، تعاهد تفوق علمي وعسـكري وغيرها) أو بالعمل على إضـعاف قوى الآخـرين بشتى الطـرق (الحرب، الحرب النفسية، التفريق، التقسيم .. وغيرها ) لخلق التوازن المطلوب لضمان أمنها وصيانة استقلالها (20)
التوازن ليس حالة جامدة، بل عملية متغيرة ومتطورة، وعملية حركية متغيرة تندفع من سعي الأطراف ذات العلاقة إلى الحفاظ على أوضاعها ومصالحها النسبية التي تعكس القدرات والإمكانات والموارد المتاحة لها، وعند تغير القدرات بشكل حاسم من طرف يسعى الطرف الآخر إلى إعادة التوازن من جديد، ومفهوم توازن القوى الشامل مركب ومتعدد الأبعاد وهو من حيث القدرات يتجاوز مفهوم التوازن العسكري الذي يدخل كأحد أبعاد توازن القوى الذي يضم علاوة على ذلك القدرات الاقتصادية والبشرية والسياسية .
تستعمل عبارة توازن القوى أحياناً كوصف لكيفية توزيع القوى ويجري استعمال هذه التعبير للإشارة إلى توزيع عادل للقوة مثل كفتي ميزان متساويتين، والمشكلة في هذا الاستعمال هو أن الغموض في قياس القوة يجعل من الصعب تحديد متى يكون هذا التوازن متساوٍ، والتوزيع المتساوي للقوة بين الأمم أمر نادر، وفي أغلب الأحيان فإن عمليات النمو المتفاوت والتي تعتبر قاعدة أساسية في السياسة الدولية تعني صعود دول وانحدار دول أخرى وتعمل هذه التحولات في توزيع القوة على حفز رجال الدولة إلى تكوين التحالفات وبناء الجيوش والقيام بمخاطرات تؤدي إلى موازنة أو كبح القوى الصاعدة، ولكن موازنة القوة لا تحول دائماً دون بروز دولة مسيطرة، وتحاول نظريات الهيمنة وانتقال القوة تفسير السبب الذي يجعل بعض الدول التي أصابت النجاح والتفوق تفقد هذا النجاح وهذا التفوق فيما بعد .
تراوحت أساليب التوازن التي مورست عبر التاريخ ما بين التحالفات والتحالفات المضادة والتدخل المباشر وغير المباشر ونزع السلاح والتفرقة بين الخصوم والتعويضات والتهدئة بل والحرب بمستوياتها، وتلجأ الدول إلى إتباع ما يناسبها فيها في إطار النظام الدولي في مرحلة معينة بما يتضمنه من شروط وعلاقات متغيرة، ولا توجد قاعدة ثابتة ومحددة تحكم توازن القوى (21) وقد ظهرت في الأعوام القليلة الماضية شعارات دولية حول الاعتماد المتبادل ورفض استخدام القوة وتوازن المصالح، وتطور النظام من توازن المصالح إلى اختلال توازن القوى، إذا حدث تحول غير ملحوظ من مثالية توازن المصالح على إلى التسليم بتفوق الغرب وشبه الإنفراد الأمريكي بمكانة القوى العظمى.
ومن ناحية أخرى يوجد اتجاه يؤكد بشكل مستمر على أنماط التفاعل التكاملية والتنمية الاقتصادية والتجارة الدولية والتقدم التكنولوجي تمثل احد الأركان الرئيسية لما يسمى بالنظام العالمي، طبقاً لذلك فإن العالم يبدو وكأنه يمثل مجتمع من الدول تتفاعل فيما بينها على مستوى عال من ديناميكية الذاتية في مجالات التبادل الدبلوماسي والاقتصادي والاجتماعي، وخلال هذه التفاعلات فإن الدول ترتبط فيما بينها بعملية مستمرة للموازنة الحساسة لتصرفات كل منها (22).
دور القوة في العلاقات الدولية
يتحدد دور ووزن أي دولة من الدول في المجال الدولي بحجم مواردها المادية أو البشرية التي تضعها في خدمة عملها الدبلوماسي الإستراتيجي، ومن واجب الدول أن لا ترسم لنفسها أهدافاً لا تستطيع مواردها تحقيقها، ولقد تبدل دور القوة الآن، لأن أهداف الدولة تبدلت بدورها، على سبيل المثال فإن هدف الدولة كان في وقت مضى يتمثل في الحصول على موقع قوة يتفوق نسبياً على الدول المجاورة وعلى مكاسب اقتصادية بالمقارنة مع المكاسب السابقة، ولكن الدولة اليوم هي أكثر اهتماماً بموضوع المكاسب الاقتصادية المطلقة التي تمكن مواطنيها من التمتع بمستوى أعلى من الحياة، وهذا التقدم الاقتصادي يتطلب عالماً مستقراً يكون التعاون الاقتصادي الدولي فيه ممكناً والدول تعتمد على بعضها إلى حد كبير، والمشكلات الأكثر صعوبة في عالم اليوم لا يمكن حلها إلا عبر الجهود المشتركة، والطرق الحالية المستخدمة في حل النزاعات والـخلافات علـى المصالح تعتمد أكثر فأكـثر علـى الدبلوماسية الماهرة، والمساومات الهادئة الهادفة إلى تحقيق مستويات مقبولة من الجميع، كما يجب التفريق بين استخدام القوة والتهديد باستخدامها وهو الأكثر شيوعاً في العلاقات الدولية والذي يبدو جلياً في عمليات الردع (23) DETERRENCE، ونشاهد حالياً تغيير عالمي لمفهوم القوة إذ في ظل التعادل النووي لموازين القوى على المستوى العالمي يستحيل على القوى العظمى تغيير هذه الموازين المركزية، لأن مثل هذه لمحاولات محاطة بالخطورة الكبرى، وهذه الحقيقة لا تترك إلا مجالاً واحداً للعب في هذه الموازين في الدول الهامشية وهي القوى الإقليمية .
ولقد نادي جورباتشوف باستبعاد استخدام القوة في حل الصراعات العالمية وأضاف إليها الصراعات الإقليمية أيضاً (24) ورغم ذلك فإن القوة ستظل تلعب دوراً حاسماً كوسيلة لتحقيق مصالح الدول وكقياس لمكانها ووضعها في النظام الدولي .
برغم من أن الفلاسفة والعلماء الإجتماعيين والإستراتيجيين العسكريين قد أفاضوا منذ القدم حول تناول مفهوم القوة واختلفوا في تعريفه إلا أن الإختلافات القائمة بينهم لم تكن جوهرية بالقدر الكبير، وذلك بالنسبة للأغراض العلمية التي تختلف كثيراً في طبيعتها عن المداولات الأكاديمية؛ على قدر أهمية الأخيرة .
والقوة ( Power ) هي ببساطة القدرة على التأثير على الآخرين وإخضاعهم لإرادة القوي الفاعل، لذلك فالأقوياء في أي موقف اجتماعي كان أم سياسي أم اقتصادي أم ثقافي هم الذين يفرضون إرادتهم وكلمتهم ويسيرون الأمور كما يرونها ووفقاً لمصالحهم الخاصة.
تعتبر قوة الدولة من العوامل التي يعلق عليها أهمية خاصة في ميدان العلاقات الدولية، وذلك بالنظر إلى أن هذه القوة هي التي ترسم أبعاد الدور، الذي تقوم به الدولة في المجتمع الدولي وتحدد إطار علاقاتها بالقوى الخارجية في البيئة الدولية (1) وبطبيعة الحال لا يعني ذلك أن الدولة القوية والتي تسير الأمور وفقاً لمصالحها ورغباتها دولة سيئة أو أنانية أو مفسدة في الأرض، فالسوء والأنانية والإفساد؛ أمور مستقلة عن القوة، ودليل على ذلك قول الرسول محمد صلي الله عليه وسلم " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير" ومن ثمَ فإن العامل المحدد لأخلاقية القوة هو استخدامها في الخير والإعمار دون إلحاق الضرر بمصالح الآخرين .
مفهوم القوة تجاوز في مضمونه الفكري المعنى العسكري الشائع إلى مضمون حضاري أوسع ليشمل القوة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والتقنية ... الخ. ولكن أياً من مصادر القوة مهما تعددت لا يكتسب وزناً وتأثيراً بمجرد وجوده، وإنما يرتبط هذا الوزن والتأثير بالقدرة على التدخل الواعي لتحويل مصادر القوة المتاحة إلى طاقة مؤثرة وسلاح فعال، فالقوة ( Strength ) هي مجرد إمتلاك مصادر القوة كالموارد والقدرات الاقتصادية والعسكرية والسكان وغيرها، أما القدرة (Power) فتنصرف إلى إمكانية تحويل هذه المصادر إلى عنصر ضغط وتأثير في إرادات الآخرين .
تعريف القوة لغةً:
ورد في المعجم الوسيط أن القوة هي ضد الضعف وهي الطاقة، وهي تمكن الإنسان من أداء الأعمال الشاقة، وهي المؤثر الذي يغير أو يحيل حالة سكون الجسم، وهي مبعث النشاط والحركة والنمو وجمعها قوى، ورجل شديد القوى أي شديد وقوي في نفسه وقوَّى دعم ووطَّد، كما نجد أن القوي والقادر والمقتدر من أسماء الله الحسنى، تأتي القوة بمعنى الجد في الأمر وصدق العزيمة، وقد وردت القوة في القرآن الكريم في كثير من الآيات، وعلى سبيل المثال " وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة "(2)أي أعدوا لهم جميع أنواع القوة المادية والمعنوية (3) " خذوا ما أتيناكم بقوة (4) أي بحـزم وعزم (5) "لو أن لي بكم قوة أو أوي إلى ركن شديد " (6) أي لو كان لي قوة أستطيع أن أدفع أذاكم بها أو الجأ إلى عشيرة وأنصار تنصرني عليكم (7) .
والقوة هي لغة كل العصور وهي أحد المفردات الهامة التي يتوقف عندها المفكرون في كافة أنحاء الأرض وبمختلف لغاتهم، حيث تبين أن معناها يكاد يكون واحد في كل اللغات حيث يدور في إطار مفهوم القدرة على الفعل والإستطاعة والطاقة وهي ضد الضعف وتعني أيضاً التأثير والنفوذ والسلطة .
تعريف القوة إصطلاحاً:
يعرف علم الإجتماع القوة "بالقدرة على إحداث أمر معين" و"تأثير فرد أو جماعة عن طريق ما على سلوك الآخرين"، يعتبر موضوع القوة من المواضيع التي يهتم بها علم الجغرافية السياسية والعلاقات الدولية لذا جاء تعريف وتفسير مفهوم القوة للكثير من الكتاب والمفكرين في هذا الإطار.
وفي رأي كارل فريدريك فإن أفضل تعريف للقوة هي القدرة على إنشاء علاقة تبعية فعند القول أن لإنسان ما قوة سياسية تفوق قوى الآخرين، فهذا يعني أن الآخرين يتبعون نظام أفضلياته، والقوة ليست مجرد التسلط ولكنها تتضمن أيضاً القدرة على الإستمالة والنفوذ لدى الآخرين، ويرى أنه بالاسـتخدام الماهر والذكي للقوة يمكن للطـرف (أ) أن يجعل الطـرف (ب) يفعل ما يريد دون قهـر أو إرغام بمعنى يمكن تحويل القهـر إلى إتفاق وتزامن كنفـوذ جماعات الضـغط في المجتمعات المتحضرة(8).
ويرى سبيكمان أن القوة تعني البقاء على قيد الحياة والقدرة على فرض إرادة الشخص على الآخرين والمقدرة أيضاً على إملاء هذه الإرادة على أولئك الذين لا قوة لهم وإمكانية إجبار الآخرين ذوي القوة الأقل على تقديم تنازلات(9) .
ويرى كل من ميكافيلي وهوبز ومورغنثوه على أن القوة هي الوسيلة والغاية النهاية التي تعمل الدولة للوصول إليها في مجال العلاقات الدولية .
ولقد بلور علماء الجيوبولتيكا مفهوم القوة وكأنه مرادف لمفهوم السيطرة فلقد بين راتزل بأن الدولة كائن حي يحتاج إلى النمو والتطور حتى لو كان عن طريق القوة. ويعتبر علماء السياسة أن مفهوم القوى هو المفهوم الرئيسي في علم السياسة بل ومن المفاهيم الرئيسية في العلوم الإجتماعية كلها ومن ناحية أخرى فإن السياسة ترتبط بشكل وثيق مع القوى . كما أن البحث عن القوة يميز السياسة عن الأنواع الأخرى من النشاط الإنساني(10) .
في عالم السياسة توجد ثلاثة إتجاهات لتعريف القوة :
الإتجاه الأول: يعرف القوة بأنها القدرة على التأثير في الغير وهي القدرة على حمل الآخرين للتصرف بطريقة تضيف إلى مصالح مالك القوة .
الإتجاه الثاني: يعرف القوة بأنها المشاركة الفعالة في صنع القرارات المهمة في المجتمع.
الإتجاه الثالث: يحاول أن يجمع بين الإتجاهين السابقين ويعـرف القوة بأنها التحكم والسيطرة المباشرة أو غير المباشرة لشخص معين أو جماعة معينة على أوجه إثارة القضايا السياسية أو عملية توزيع القيم وما يترتب عليه من مقدرة في تقرير أو تأثير في الموقف في الإتجاه الذي يفضله صاحب القوة(11) .
أما كلية الحرب الأمريكية فتعرف مفهوم القوة القومية للدولة بأنها الإمكانية أو القدرة التي يمكن أن تستخدمها الدولة للوصول إلى أهدافها القومية في الصراع الدولي، إذن فالقوة هي الطاقة العامة للدولة لكي تسيطر وتتحكم في تصرفات الآخرين (12) .
في الفكر الإستراتيجي يقصد بقوة الدولة فاعلية الدولة ووزنها في المجال الدولي الناتجان عن قدرتها على توظيف مصادر القوة المتاحة لديها في فرض إرادتها وتحقيق أهدافها ومصالحها القومية والتأثير في إرادة الدول الأخرى ومصالحها وأهدافها. وقوة الدولة بهذا المعنى تتحدد في ضوء عنصرين مصادر القوة ثم عملية إدارة وتوظيف تلك المصادر، لذا فإن أياً من مصادر القوة لا يكتسب وزناً وتأثيراً بمجرد وجوده وإنما يرتبط هذا الوزن والتأثير بالتدخل الواعي لتحويل مصادر القوة المتاحة إلى طاقة مؤثرة وسلاح فعال.
المفاهيم المرتبطة بمفهوم القوة
يتداخل مفهوم القوة مع عدة مفاهيم أخرى مثل السلطة والنفوذ والقهر والتأثير والإرغام والردع والإرهاب والإغراء، وهي تستخدم كمترادفات وكعناصر لتحليل القوة .
السلطة: هي الوجه الأول للقوة السياسية والسلطة بصفة عامة هي قوة ذات طابع نظامي حيث تكون القوة مرتبطة بمنصب أو وظيفة معينة معترف بها داخل المجتمع ويعطي لشاغلها حق إصدار القرارات ذات صفة الإلزام الشرعي بالنسبة للآخرين، وتنقسم إلى ثلاثة أنواع: سلطة قانونية وتقليدية وكاريزماتية .
النفوذ السياسي: هو الوجه الثاني للقوة السياسية وهي ممارسة عن طريق تفاعل إجتماعي تستخدم فيه وسائل الإغراء والترهيب والإقناع والسيطرة والهيمنة والإرغام والإكراه، وتوجد أشكال متعددة من النفوذ تتراوح ما بين الترغيب والإستمالة والإقتناع إلى السيطرة والهيمنة والردع والإكراه((13) .
القهــر: هو أي قوة أو تهديد يقلل من حرية الحركة، بما يجعل التصرفات تتم بحرية أقل مما كان يمكن أنَّ تكون عليه، وهناك بعض المفكـرين يميزون بين التأثير والقـوة والقهـر، والقهر شكل من أشـكال القوة التي تواجه المجبر بالقـدرة على إلحاق الضرر به بغض النظر عن الموقف الذي يتخذه .
التأثير: يعد مفهوم التأثير مفهوماً محورياً في الدراسات السياسية حيث يميز بعض المحللين بينه وبين مفهوم القوة عن طريق تضيقه بحيث لا يشمل إلا الوسائل غير المباشرة أو غير الملموسة لتغيير السلوك. أما البعض الآخر فيعتبر أن القوة ما هي إلا شكل من أشكال التأثير (14)، وقد يكون التأثير قسرياً أو غير قسري .
الهيمنة: يدل مفهوم الهيمنة على تأثير دولة على دولة أو دول أخرى ويصف سياسات القوة التي تردع بها جيرانها المعتمدين عليها بالتهديد من أجل إجبارهم على الاستسلام .
السيطرة: يدل مفهوم السيطرة على ممارسة دولة لها نفوذ وقوة لنفوذ فعلي على دولة أخرى أو إقليم معين، وهذا النفوذ قد يأخذ شكل تحالف أو علاقة تبعية، وهو ينتج عن التفاوت في القوة بين الدول وبعضها البعض .
الردع: يتميز الردع بوجود إستراتيجية للتهديد بالعقاب، أي إقناع الخصم بأن التصرف غير المرغوب فيه سوف يكبده من الخسائر أكثر بكثير مما قد يترتب عليه من مكاسب، ويجب أن يكون الردع مصداقياً، وأحياناً تكمن القوة في إغراء طرف أخر بالمكافأة .
الإكراه: شكل من أشكال التأثير وللإكراه صور متعددة إقتصادية وإجتماعية، سياسية وإن التهديد بإستخدام القوة أو الإستخدام الفعلي للقوة العسكرية هو شكل من أشكال القوة ويرتبط بمفاهيم القوة والتأثير والسلطة.
وهناك تميز بين القدرة والقوة فالقدرة هي معطي موضوعي وهي موارد متاحة أما القوة فهي ممارسة عملية وهي التوظيف السياسي لتلك الموارد، وإن النقلة من إمتلاك الموارد إلى إستخدامها أي من القدرة إلى القوة، يتطلب إرادة سياسية ودور للعقل البشري، وفي كثير من الحالات التاريخية نجد أن الحروب قد تحددت ليس بميزان القدرات والإمكان وحسب ولكن أيضاً بإرادة التصميم والعزم والمثابرة وتلعب القيادة السياسية الحاكمة والثقافة السياسية السائدة دوراً حاسماً وهاماً في هذا المجال .
مصادر القوة(2)
إذا قلنا أن القوة هي القدرة على التأثير على الآخرين، وأن المجتمع أو الدولة القوية هما القادران على التأثير على الآخرين ويعمل الآخرون من الدول والمجتمعات لها حساباً. فلابد أن تكون لهذه الدولة مقومات تضطر المجتمعات والدول الأخرى للخضوع لها فما هي مصادر القوة عند هذه الدولة القوية أو ذلك المجتمع المؤثر؟
هناك شبه إجماع بين مفكري الجغرافيا السياسية أن مصادر القوة والتي تحدد قيمة الدولة من الناحية السياسية يمكن إبرازها في ثلاثة عوامل هي :
1ـ العوامل الطبيعية .
2ـ العوامل الاقتصادية .
3ـ العوامل البشرية .
ويرجع آخرون قوة الدولة إلى خمسة عوامل تشكل منهجاً يقوم بتحليل هذه العوامل باعتبارها معادلة القوة الشاملة للدولة وهي :
1ـ العامل الجغرافي .
2ـ العامل الاقتصادي .
3ـ العامل السياسي .
4ـ العامل النفسي .
5ـ العامل العسكري.
كما يرى بعض مفكري العلاقات الدولية وعلى رأسهم هانز مورجانثو أن القوة الشاملة للدولة يعبر عنها من خلال تسعة عناصر هي :
1ـ العامل الجغرافي .
2ـ الموارد الطبيعية.
3ـ الطاقة الصناعية.
4ـ الاستعداد العسكري.
5ـ السكان .
6ـ الشخصية القومية .
7ـ الروح المعنوية .
8ـ نوعية الدبلوماسية .
9ـ نوعية الحكم .
هكذا تطور الفكر العالمي بالنسبة لمفهوم القوة الشاملة للدولة وإن كانت قد استقرت أخيراً على وجهة نظر شرقية وأخرى غربية .
وجهة النظر الأولى
التي يعبر عنها بوجهة النظر الشرقية (نسبة للاتحاد السوفيتي السابق) والتي تشير إلى مفردات القوة الشاملة في إطار خمسة قدرات هي :
1ـ القدرة السياسية (القدرة الداخلية) .
2ـ القدرة الدبلوماسية (القدرة الخارجية).
3ـ القدرة الاقتصادية .
4ـ القدرة العسكرية .
5ـ القدرة المعنوية .
وجهة النظر الثانية
وهي تعبر عن وجهة نظر أخرى أخذت من مصادر غربية (أمريكية) والتي تشير إلى خمسة عناصر رئيسية يمكن منها استخلاص قوة الدولة الشاملة وهي :
1ـ الكتلة الحيوية / الحرجة للدولة (الأرض - والسكان). critical mass
2ـ القوة الاقتصادية economic capability
3ـ القوة العسكرية capability military
4ـ الهدف الإستراتيجي strategic purpose
5ـ الإرادة الوطنية will pursue national purpose
خصائص القوة
القوة مفهوم حركي ديناميكي غير ثابت يدخل في تكوينها عدد كبير من العناصر المتغيرة المادية وغير المادية التي ترتبط مع بعضها، والقوة بطبيعتها شيء نسبي لأن قوة الدولة تقاس بمقارنتها بقوة الدول الأخرى، كما تظهر القوة بشكل تدريجي وهذا يعني أن بعض الدول الضعيفة نسبياً يمكن أن تلعب دوراً فعالاً في أزمة معينة بشكل سريع وغير متوقع بحيث يصبح بإمكانها التأثير على دولة أخرى أقوى منها وحتى إجبارها على تغيير سياستها، فقد تلاشت قوة الولايات المتحدة الأمريكية أمام شعب فيتنام مع أنها تملك أسلحة دمار شامل، ولكن خشيت من إستخدامها خوفاً من رد فعل الصين الشعبية والإتحاد السوفيتي (السابق) مما دفع صانع القرار الأمريكي إلى حصر المجهود الحربي في أسلحة تقليدية .
وتتدرج ممارسة القوة بين التأثير بالطرق الدبلوماسية من جهة وبين أسلوب الإجبار والقسر من جهة ثانية، وإن اللجوء إلى القوة هو في الحقيقة الوصول إلى مرحلة العجز عن الحل بالطرق السلمية ويعتمد السعي وراء القوة على الموارد المتاحة من أجل تنفيذ سياسة الدولة (15) . وليس هناك حصر مانع وجامع لمصادر قوة الدولة خاصة في المجال الدولي إذ يختلف تأثير هذه المصادر من دولة لأخرى ومن فترة زمنية إلى أخرى في الدولة نفسها، إرتباطاً بطبيعة الإطار الدولي وبمصادر قوة الطرف الأخر في العلاقة، وبالقدرة على إدارة مصدر القوة من جانب القيادات السياسية أو إستغلاله .
والحقيقة أن مفهوم القوة وبالمعنى والذي سبق وحددناه يتضمن كلا الجانبين، جانب إمتلاك أسباب القوة وجانب توظيف هذه الأسباب في التحكم في إرادة الآخرين وأفعالهم، في ضوء ما تقدم نستطيع أن نحدد خصائص القوة في المجال الدولي فيما يأتي:
أولاً : أن القوة هي جوهر العلاقات الدولية، كما أن السلطة هي جوهر السياسة القومية والفارق بين القوة والسلطة أن هذه الأخيرة تتضمن الأولى، ولكنها ترتبط بغاية وهي تحقيق وحدة الجماعة، وبوسيلة هي الإحتكار الشرعي لأدوات القمع . وبعبارة أخرى فإن السلطة التي يدور حولها الصراع في السياسة الداخلية هي سلطة مستأنسة ومتمركزة في الحكومة التي تحتكرها لفرض تحقيق الوحدة والإستقرار، أما القوة التي يدور حولها الصراع بين الدول فليست مستأنسة ولا متمركزة ولا منظمة، والهدف منها تحقيق المصالح القومية لكل دولة وهي مصالح متعددة ومتعارضة بطبيعتها الأمر الذي يفسر طابع العداوة والحرب الذي يغلب على العلاقات الدولية، والناتج عن سعي كل الدول إلى فرض إرادتها وتحقيق مصالحها في غياب السلطة العليا التي تحتكر أدوات القمع .
ثانياً : أن القوة ليست هدف في نفسها ولكنها وسيلة لممارسة النفوذ والتأثير الذي يتضمن تحقيق أهداف الدولة والتي لا تخرج عن تحقيق المصالح القومية أو الوظيفة الحضارية فضلاً على حماية الأمن القومي وصيانة الاستقلال السياسي أو الردع .
ثالثاً : أن قوة الدولة دائماً نسبية ويتوقف تقديرها على أمرين أولهما القدرة على تحويل مصادر القوة المتاحة أو الكامنة إلى قوة فعالة وثانيهما محصلة قوة الطرف الأخر، قد تتساوى دولتان في إمتلاك مصادر القوة نفسها إلا أن قدرة إحداهما وعدم قدرة الأخرى على توظيف أحد أو بعض مصادر قوتها يجعل القادر على توظيف مصادر قوتها أقوى نسبياً من الأخرى على الرغم عن تساوي مصادر القوة في الدولتين .
من ناحية أخرى فإن وزن قوة الدولة في تغير مستمر نتيجة للتغيير في أهمية مصادر القوة المتاحة لديها، أو لدى الطرف الآخر أو لما قد يطرأ على العلاقات بين الدول من تبادلات تؤثر في أوزان قوتها كالحروب أو المعاهدات أو التحالفات أو الإنقسامات أو غير ذلك .
رابعاً : أن القوة صناعة وإرادة فرضتها طبيعة العلاقات الدولية التي تتسم بالفوضى وغياب السلطة، الأمر الذي فرض على الدول السعي بشتى الوسائل والطرق إلى صنع مصادر القوة والعوامل المهنية لتفعيلها، بوصفها الضمان الحقيقي لأمنها وإستقرارها وتحقيق مصالحها، ولعل ما يثبت أن القوة صناعة وإرادة هي قوة كل من اليابان وألمانيا الآن مقارنة بأوضاعها في نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد تمتلك بعض الدول العديد من مصادر القوة كالسكان والموارد والإقليم والعامل المعنوي، إلا أنها تفتقد القدرة على إنتاج القوة وإدارتها على الرغم من عراقتها التاريخية وسمو تقاليدها الحضارية .
خامساً : تتصف القوة بندرتها مما يترتب على ذلك أن الدول مهما ملكت من قوة فأنها تحرص على ما تمتلكه وتحاول عدم تشتيت جهودها وإن القوة بطبيعتها شي نسبي لأن قوة الدولة تقاس بمقارنتها بقوة الدول الأخرى . كما تظهر القوة بشكل تدريجي وهذا يعني أن بعض الدول الضعيفة نسبياً يمكن أن تلعب دوراً فعالاً في أزمة معينة بشكل سريع وغير متوقع والقوة مفهوم حركي ديناميكي غير ثابت يدخل في تكوينها عدد كبير من العناصر المتغيرة المادية وغير المادية التي ترتبط مع بعضها والبعض الآخر، لذلك فإن أي إستنتاج يتعلق بقوة الدولة أو ترتيبها بين الدول الأخرى وأن كان مبنياً على معلومات حديثة هو في الواقع مرهون بوقت ظهوره، وهذا يتطلب إعادة تقييم الدولة بصورة مستمرة (16)
سادساً : تتدرج ممارسة القوة بين التأثير بالطرق الدبلوماسية من جهة وبين أسلوب الإجبار والقسر من جهة ثانية، وأن اللجوء إلى القوة وهو في الحقيقة الوصول إلى مرحلة العجز عن الحل بالطرق السلمية، ويعتمد السعي وراء القوة على المـوارد المتاحة من أجل تنفيذ سياسة الدولة معتمدين على دفع هذه القوة إلى حدها الأقصى من خلال نوعية الدبلوماسية التي تترجم الموارد القومية إلى قوة قومية (17).
أدوات القـوة
تمارس الدولة قوتها في النطاق الخارجي من خلال أداتين هما : الدبلوماسية والحرب، وفي ضوء مصادر القوة التي أشرنا إليها آنفاً والتي تحدد الدولة على أساسها أهدافها، وتقرر الاختيار بين هذه الأداة أو تلك من أدوات القوة، والدولة الأقوى هي التي تفوز دائماً في الدبلوماسية وفي الحرب، وفي إطار يغلب عليه الصراع، وتغيب عنه السلطة العليا الحاكمة، ولا تعرف لغة المنطق، ولا قيم العدالة والمساواة، و لا معيار الموضوعية، وإنما ثمة هدف واحد هو المصلحة، وأداتان هما الدبلوماسية والحرب .
والدبلوماسية تسبق الحرب وتلازمها وتعقبها، والأولى أن تحقق الدول غايتها وتفرض إرادتها من خلال الأساليب والمهارات الدبلوماسية التي ترتكز إلى قوة فعلية، يمكن التلويح بها أو التهديد باستخدامها دون التورط في الحرب، لما تتطلبه من نفقات وموارد، وما تخلفه من خسائر ومخاطر على كلا الجانبين، وبصفة خاصة بعد شيوع استخدام أسلحة الدمار الشامل بمختلف أنواعها، وحرص كثير من الدول على امتلاكها .
وعندما تخفق الدبلوماسية في إجبار الطرف الآخر على الإذعان لإرادة الدولة تصبح ضرورة لإثبات القدرة وفرض الاحترام وإجبار الطرف الآخر على الخضوع لإرادة الأقوى . وأثناء ذاـك تواصل الدبلوماسية مهامها لإقناع الخصم بضرورة التسليم، وصياغة شروط التسليم، ومعاهدات لعقد الهدنة أو الصلح مع أطراف أخرى تكسبها إلى جانبها أو تحييدها في الصراع الدائر، أو غير ذلك من الجهود الدبلوماسية التي تلازم الحرب، وتساعد على تحقيق أهدافها بأقل الخسائر الممكنة .
وعقب انتهاء الحرب تنشط الدبلوماسية من جديد لصياغة الاتفاقات، وإبرام المعاهدات التي تتضمن اعتراف الطرف الآخر بالهزيمة، وقبوله الخضوع الإرادي لشروط الدولة المنتصرة، وعلى مقتضى مصلحتها القومية .
وهكذا تتكامل الدبلوماسية والحرب بوصفهما أداتين للقوة أو وسيلتين لإقناع أو إكراه الطرف الآخر على الامتثال لإرادة الدولة . ولعل هذا التكامل يفسر عدة مظاهر، مثل مشاركة الدبلوماسيين والعسكريين في مجالس الأمن القومي وفي تشكيل سياساته، وظهور ما يعرف بالدبلوماسية العسكرية أو دبلوماسية القوة، نتيجة لتعيين العسكريين - بعد انتهاء مد ة خدمتهم بالجيش – في السلك الدبلوماسي، وغير ذلك من مظاهر التقارب والتعاون بين الدبلوماسيين والعسكريين، وبصفة خاصة عقب الحرب العالمية الثانية التي جسدت هذه العلاقة الوثيقة بين الدبلوماسية والحرب بوصفهما أداتين للقوة، ودعامتين لمفهوم الأمن القومي (18) .
استخدامات القوة
سبق وذكرنا أن القوة ليست هدفاً في ذاتها، ولكنها وسيلة لتحقيق أهداف أخرى من خلال النفوذ أو التأثير الناتج عن ممارسة القوة، فما هي تلك الأهداف التي تُستخدم القوة لتحقيقها ؟
تختزل أغلب الدراسات الغربية أهداف القوة في هدف واحد : هو تحقيق المصلحة القومية فالعلاقات الدولية ليست سوى علاقات قوى تخضع لقانون واحد : هو قانون المصالح القومية . ويضيف بعض الباحثين استخدامات أخرى للقوة لا تبتعد كثيراً عن هدف المصلحة القومية، مثل حماية الحدود وضمان الأمن وصيانة المعاهدات وتحقيق الرفاهية .
والحقيقة أن إعلان بعض الدول عن استخدامات أخرى للقوة لا ترتبط بعامل المصلحة القومية، قد يكون مجرد قناع لإخفاء السبب الحقيقي الذي يحكم حركتها في النطاق الدولي، والذي لا يعدو أن يكون المصلحة القومية نفسها .
سبق وذكرنا أن إدعاء رسالة فرنسا الثقافية الذي أسُتخدم لتوسيع الحروب والفتوحات النابليونية في القارة الأوربية، ولتوسيع الاستعمار الفرنسي لدول العالم الثالث لم يكن في الحقيقة سوى قناع للأطماع الفرنسية خارج حدودها وبالطريقة نفسها يمكن تفسير ادعاءات الولايات المتحدة الواردة بوثيقة البيت الأبيض عن ( إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة )، والتي تربط استخدام القوة في النطاق الخارجي بنشر قيم الحرية والمساواة والقضاء على الإرهاب، بأنها مجرد ستار تستتر خلفه الأسباب الحقيقية التي ترتبط بالسيطرة على منابع البترول، وضرب القوى الإسلامية، وتكوين إمبراطورية أمريكية (19)
وإذا كانت الدولة القومية العلمانية ذات التقاليد الرأسمالية والقائمة على مبدأ الدولة الحارسة، تأبى إلا أن تجعل من لغة المصالح أساس حركتها في النطاق الخارجي، حتى لو غلفت تلك المصالح بغطاء من القيم والمثاليات، فإن النموذج الآخر للدولة القومية – أي الدولة القومية العقدية التي تعتمد على العامل العقدي في عملية بناء الدولة، وتأسيس شرعية السلطة السياسية، ورسم سياستها الداخلية والخارجية – يقوم على الربط بين حركتها السياسية في النطاق الخارجي، ووظيفة حضارية لا تنبع من منطـق المصالح، وهو النمـوذج الذي تتحول فيه القوة إلى إرادة حضارية، أي أداة تحقيق الوظيفة الحضارية، تلك التي تدور حول نشر قيم عالمية واحدة تضمن التقدم الروحي والمعنوي لسائر البشر .
ثمة تطبيقان لهذه الدولة التي تستخدم القوة بوصفها إرادة حضارية:(الدولة الأيديولوجية، والدول الدينية)، الأولى تضع قوتها في خدمة عقيدتها السياسية، وتربط حركتها في المجال الخارجي بفكرها الأيديولوجي، أما الثانية فتجعل محور تعاملها الخارجي يدور حول نشر عقيدتها الدينية .
وذلك من منطلق القناعة بأن كلاً منهما – أي الفكر الأيديولوجي والعقيدة الدينية – يمثل إضافة جديدة إلى معالم التقدم الإنساني تفرض عليهما – أي الدولة الأيديولوجية، والدولة الدينية – الالتزام بنشر هذه المنجزات وتعميمها من أجل الارتقاء بالوجود البشري، وتسخير قوتهما للدفاع عن هذه الوظيفة الحضارية .
القوة والتوازن
لاشك أن هناك اختلافات في القوى النسبية للدول، ومرد هذا الاختلاف يعود إلى تباين ما هو متاح لكل دولة من المصادر والمكونات والمـوارد المادية وغير المادية التي تدخل في تركيب هذه القوة، وتدرك كل دولة في ظل البيئة الدولية الحالية والتي يحكمها منطق الصراع أن حماية حدودها ومكتسباتها الوطنية فضلاً عن تحقيق مصالحها القومية رهن بامتلاك القوة والسعي الدائم إلى زيادة هذه القوة إلى أبعد مدة ممكن وذلك بإضافة مصادر أو طرق أو وحـدات إنتاج جديدة للقوة (تحالف، تعاهد تفوق علمي وعسـكري وغيرها) أو بالعمل على إضـعاف قوى الآخـرين بشتى الطـرق (الحرب، الحرب النفسية، التفريق، التقسيم .. وغيرها ) لخلق التوازن المطلوب لضمان أمنها وصيانة استقلالها (20)
التوازن ليس حالة جامدة، بل عملية متغيرة ومتطورة، وعملية حركية متغيرة تندفع من سعي الأطراف ذات العلاقة إلى الحفاظ على أوضاعها ومصالحها النسبية التي تعكس القدرات والإمكانات والموارد المتاحة لها، وعند تغير القدرات بشكل حاسم من طرف يسعى الطرف الآخر إلى إعادة التوازن من جديد، ومفهوم توازن القوى الشامل مركب ومتعدد الأبعاد وهو من حيث القدرات يتجاوز مفهوم التوازن العسكري الذي يدخل كأحد أبعاد توازن القوى الذي يضم علاوة على ذلك القدرات الاقتصادية والبشرية والسياسية .
تستعمل عبارة توازن القوى أحياناً كوصف لكيفية توزيع القوى ويجري استعمال هذه التعبير للإشارة إلى توزيع عادل للقوة مثل كفتي ميزان متساويتين، والمشكلة في هذا الاستعمال هو أن الغموض في قياس القوة يجعل من الصعب تحديد متى يكون هذا التوازن متساوٍ، والتوزيع المتساوي للقوة بين الأمم أمر نادر، وفي أغلب الأحيان فإن عمليات النمو المتفاوت والتي تعتبر قاعدة أساسية في السياسة الدولية تعني صعود دول وانحدار دول أخرى وتعمل هذه التحولات في توزيع القوة على حفز رجال الدولة إلى تكوين التحالفات وبناء الجيوش والقيام بمخاطرات تؤدي إلى موازنة أو كبح القوى الصاعدة، ولكن موازنة القوة لا تحول دائماً دون بروز دولة مسيطرة، وتحاول نظريات الهيمنة وانتقال القوة تفسير السبب الذي يجعل بعض الدول التي أصابت النجاح والتفوق تفقد هذا النجاح وهذا التفوق فيما بعد .
تراوحت أساليب التوازن التي مورست عبر التاريخ ما بين التحالفات والتحالفات المضادة والتدخل المباشر وغير المباشر ونزع السلاح والتفرقة بين الخصوم والتعويضات والتهدئة بل والحرب بمستوياتها، وتلجأ الدول إلى إتباع ما يناسبها فيها في إطار النظام الدولي في مرحلة معينة بما يتضمنه من شروط وعلاقات متغيرة، ولا توجد قاعدة ثابتة ومحددة تحكم توازن القوى (21) وقد ظهرت في الأعوام القليلة الماضية شعارات دولية حول الاعتماد المتبادل ورفض استخدام القوة وتوازن المصالح، وتطور النظام من توازن المصالح إلى اختلال توازن القوى، إذا حدث تحول غير ملحوظ من مثالية توازن المصالح على إلى التسليم بتفوق الغرب وشبه الإنفراد الأمريكي بمكانة القوى العظمى.
ومن ناحية أخرى يوجد اتجاه يؤكد بشكل مستمر على أنماط التفاعل التكاملية والتنمية الاقتصادية والتجارة الدولية والتقدم التكنولوجي تمثل احد الأركان الرئيسية لما يسمى بالنظام العالمي، طبقاً لذلك فإن العالم يبدو وكأنه يمثل مجتمع من الدول تتفاعل فيما بينها على مستوى عال من ديناميكية الذاتية في مجالات التبادل الدبلوماسي والاقتصادي والاجتماعي، وخلال هذه التفاعلات فإن الدول ترتبط فيما بينها بعملية مستمرة للموازنة الحساسة لتصرفات كل منها (22).
دور القوة في العلاقات الدولية
يتحدد دور ووزن أي دولة من الدول في المجال الدولي بحجم مواردها المادية أو البشرية التي تضعها في خدمة عملها الدبلوماسي الإستراتيجي، ومن واجب الدول أن لا ترسم لنفسها أهدافاً لا تستطيع مواردها تحقيقها، ولقد تبدل دور القوة الآن، لأن أهداف الدولة تبدلت بدورها، على سبيل المثال فإن هدف الدولة كان في وقت مضى يتمثل في الحصول على موقع قوة يتفوق نسبياً على الدول المجاورة وعلى مكاسب اقتصادية بالمقارنة مع المكاسب السابقة، ولكن الدولة اليوم هي أكثر اهتماماً بموضوع المكاسب الاقتصادية المطلقة التي تمكن مواطنيها من التمتع بمستوى أعلى من الحياة، وهذا التقدم الاقتصادي يتطلب عالماً مستقراً يكون التعاون الاقتصادي الدولي فيه ممكناً والدول تعتمد على بعضها إلى حد كبير، والمشكلات الأكثر صعوبة في عالم اليوم لا يمكن حلها إلا عبر الجهود المشتركة، والطرق الحالية المستخدمة في حل النزاعات والـخلافات علـى المصالح تعتمد أكثر فأكـثر علـى الدبلوماسية الماهرة، والمساومات الهادئة الهادفة إلى تحقيق مستويات مقبولة من الجميع، كما يجب التفريق بين استخدام القوة والتهديد باستخدامها وهو الأكثر شيوعاً في العلاقات الدولية والذي يبدو جلياً في عمليات الردع (23) DETERRENCE، ونشاهد حالياً تغيير عالمي لمفهوم القوة إذ في ظل التعادل النووي لموازين القوى على المستوى العالمي يستحيل على القوى العظمى تغيير هذه الموازين المركزية، لأن مثل هذه لمحاولات محاطة بالخطورة الكبرى، وهذه الحقيقة لا تترك إلا مجالاً واحداً للعب في هذه الموازين في الدول الهامشية وهي القوى الإقليمية .
ولقد نادي جورباتشوف باستبعاد استخدام القوة في حل الصراعات العالمية وأضاف إليها الصراعات الإقليمية أيضاً (24) ورغم ذلك فإن القوة ستظل تلعب دوراً حاسماً كوسيلة لتحقيق مصالح الدول وكقياس لمكانها ووضعها في النظام الدولي .