لهذه الاسباب يقاطع العلماء السياسة
مرسل: الاثنين فبراير 27, 2012 10:37 am
لا يستطيع عاقل أن ينكر المكانة السامية التي أنزلها الله العلماء، وسطرها في كتابه الكريم وجعلها قرآنا يتلى ويتعبد به إلى يوم القيامة، فقال جل شأنه في سورة غافر:(إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، وقال في سورة المجادلة: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، ودعانا إلى الاستزادة من العلم في قوله تعالى: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، وأوضح عظم الفارق بين مَن يعلمون ومَن لا يعلمون فقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ)، بل إنه سبحانه وتعالى فضل مداد العلماء على دماء الشهداء.
كما لا يختلف اثنان على أهمية الدروس والمواعظ والخطب التي يلقيها العلماء والخطباء والدعاة، فمازال لخطبة الجمعة مكانتها في قلوب المسلمين، كوسيلة إعلامية لها ما لها من التأثير. ويرجع احتفاظ "خطبة الجمعة" بمكانتها وقدرتها الكبيرة على التأثير، عبر التاريخ، إلى مكانة الخطبة في الإسلام وكونها أحد أركان صلاة الجمعة، قال تعالى في سورة الجمعة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
كما تعود أهمية الخطبة إلى الأجر العظيم الذي وعد به الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، المسلمين الذين يبادرون لحضور الخطبة، وحثه المسلمين أن يتواجدوا بالمسجد قبل صعود الخطيب على المنبر، وتنبيههم إلى ضرورة التركيز مع الخطيب، وأن يرعوه سمعهم وبصرهم، وتركيزهم.
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة : أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت". كما نهى صلى الله عليه وسلم عن العبث بالحصى وغيره وقت الخطبة حتى لا ينشغل المستمعون عن خطبة الخطيب؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "... ومن مس الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له".
ويمتاز الإسلام على غيره من الأديان والشرائع بأنه دين شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعا، فهو يحض الناس على فعل الطاعات وترك المنكرات، ولكنه أيضا يدعوهم لقول الحق ونصرة المظلوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يطلب من المسلم أن يكون صاحب مبدأ، وأن يكون مقتصدا في النفقة والمعيشة، وأن يسعى لكسب الرزق الحلال، وأن يكون متوازنا في سلوكياته الاقتصادية فنهاه عن التبذير وحذره من التقتير.
وتحتل السياسة والاقتصاد مكانة عظيمة في الإسلام، وليس أدل على ذلك من أن أطول آية في القرآن كله لم تتناول عبادة من العبادات المفروضة كالصوم أو الصلاة أو الزكاة أوالحج، وإنما قدمت شرحا تفصيليا لأصل اقتصادي خالص ألا وهو "الدين" أو القرض قال تعالى في سورة البقرة:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ.....).
وكم حكا لنا القرآن من أحوال الحكام الطغاة والجبابرة، وكيف أنهم عتوا وظلموا وجاروا على أقوامهم فأذلوهم وأذاقوهم العذاب، بعدما حكموهم بالحديد والنار، ولقد تجلى ذلك بوضوح في الحكاية عن فرعون – أوضح نموذج للحاكم الديكتاتور- فقال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى، إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى...)، كما أرسى الإسلام قواعد الشورى كنظام إسلامي سياسي أصيل فقال تعالى:(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ....)، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ..).
أين الخلل؟
غير أن المتابع الراصد لدروس العلماء وخطب الخطباء بمصر يلحظ غياب القضايا السياسية والاقتصادية، عن الدروس والخطب، بشكل واضح. وفي تقديري أن ذلك يرجع لعدة أسباب أهمها:-
1- افتقار غالب العلماء والدعاة والخطباء إلى الثقافة السياسية والاقتصادية اللازمة: التي تمكنهم من تناول مفاهيم ومصطلحات السياسة والاقتصاد والاجتماع، فضلا عن عدم فهمهم أصلا لقضاياها وإشكالاتها، وهو ما يرجع – في تقديري – إلى:
• أنهم لا يدرسون بالجامعة، ضمن ما يدرسون، مناهج سياسية أو اقتصادية، خاصة في الكليات الأزهرية التي تخرج الخطباء، مثل كلية الشريعة والقانون وكلية الدعوة الإسلامية وكلية أصول الدين، التي تنحصر مناهجها في العلوم الشرعية (فقه/ سيرة/ حديث/ تفسير/ خطابة/...) فقط.
• كما يعود أيضا إلى قلة رواتبهم، وهو ما يحول دون قدرته على شراء كتاب يناقش قضية سياسية أو اقتصادية، أو متابعة مطبوعة دورية متخصصة، لاسيما في ضوء الغلاء الفاحش في أسعار الكتب والمطبوعات الدورية.
2- تحول درس العلم أو "الخطبة" إلى روتين: وتحولها إلى وظيفة "عقيمة" يشكو منها معظم الخطباء الرسميين، خاصة وأنهم في الغالب ليسوا أصحاب رسالة، وإنما ألقى بهم نظام تنسيق القبول بالجامعة في كلية "الدعوة" أو "أصول الدين"، أو "الشريعة والقانون"، فضلا عن سوء التنسيق وهو ما يجعل هذه الكليات (الدعوة – أصول الدين- الشريعة والقانون-....) تقبل الطلاب الذين حصلوا على درجات قليلة في امتحان الثانوية الأزهرية (50 – 60 %)، والذين لم يقبلوا بكليات الطب أو الهندسة أو ما شابهها من كليات القمة كما يسمونها في مصر!.
3- خوف العلماء والدعاة والخطباء من تناول الموضوعات السياسية: أو الاقتصادية، مثل الانتخابات وحرية إبداء الرأي، وضرورة المشاركة السياسية، أو الديمقراطية أو الإصلاح السياسي، أو التنمية وأهميتها، والديون وخطورتها على استقلال الشعوب وحريتها، وذلك حتى لا يتم تصنيفه على أنه "خطيب مؤدلج" أو منتمٍ لإحدى الجماعات أو الحركات الإسلامية الموجودة على الساحة والتي تتبنى مثل هذه المفاهيم، فيتم وضعه في "القائمة السوداء"، فيمنع من الخطابة ويحول لعمل إداري أو يضيق عليه في رزقه من قبل الوزارة أو يتم نقله لإحدى المحافظات النائية كنوع من التأديب أو المعاقبة!
4- ضيق فهم بعض العلماء والدعاة والخطباء للسياسة والاقتصاد: حيث يحصرون الموضوع في الشورى بمعناها الضيق، مشاورة الرسول لأصحابه في الغزوات، وموضوع "الربا"، أي الاقتراض من البنوك أو الإيداع فيها، فيما يتجاهلون القضايا السياسية والاقتصادية الحقيقية التي يمتلئ بها القرآن والسنة مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحض على كلمة الحق والصدع بها، وحث المسلم أن يكون عنصراً منتجاً ونافعا لنفسه ومجتمعه، حريصا على التنمية، والحض على الاقتصاد في النفقة والمعيشة، التحذير من التبذير والإسراف واعتبار المسرف أخا للشيطان، قال تعالى في سورة الإسراء:(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)، وأيضا إقرار الإسلام بالملكية الخاصة وترحيبه بالتملك طالما كان من طريق حلال، واعتراف الإسلام بالذمة المالية المستقلة للمرأة وحقها في البيع والشراء والتعاقد والهبة.
ملاحظات.. ميدانية:
ومن خلال رصد وتحليل عد دمن دروس العلم وخطب الجمعة، بمصر لفترة طويلة، قد يكون من المفيد أن نرصد عددا من الملاحظات الميدانية وهي:
1. هذه الحال المتردية لدروس العلم وخطب الجمعة؛ من حيث مقاطعتها تقريبا للشقين السياسي والاقتصادي تكاد تكون حال كل أو غالب المساجد التي توصف بأنها "مساجد حكومية"، وهي تلك التي تقع تحت إشراف وزارة الأوقاف، ولم ينج من هذا سوى عدد قليل من المساجد الأهلية وخاصة تلك التي تتبع – بشكل غير رسمي– جماعة الإخوان المسلمين، التي تحظرها السلطات بمصر، أو الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية، أو جماعة أنصار السنة المحمدية.
2. للإنصاف فإن وزارة الأوقاف انتبهت منذ سنوات إلى هذا الأمر، فأنشأت معاهد لإعداد الدعاة، وهي "مراكز الثقافة الإسلامية"، بواقع معهد في كل محافظة(تقسم الجمهورية إداريا إلى 26 محافظة)، جعلتها مقصورة على غير خريجي جامعة الأزهر، مدة الدراسة بها سنتان، بعدها يتلقى الخريج دورة تدريبية بالمساجد مدتها ستة شهور، قسم منها نظري والآخر عملي، ثم ينطلق بعدها الخطيب ليعتلي المنابر بعد توزيعه على أحد المساجد. غير أني آخذ على هذه التجربة - رغم أهميتها- أنها أغفلت المنهجين السياسي والاقتصادي تماما، فلا يدرس الداعية بالمعهد أي كتاب في أصول السياسة أو قواعد ومفاهيم الاقتصاد طوال العامين!!
3. الفترة من عام 1974 حتى عام 1981م، أي حتى قبيل اغتيال الرئيس محمد أنور السادات، شهدت تطورا ملحوظا في خطبة الجمعة من حيث الموضوعات، خاصة السياسية والاقتصادية، وذلك في المساجد التي كانت تسيطر عليها الحركات الإسلامية، حيث يكثر بين أعضائها خريجو كليات الطب والهندسة والسياسة والاقتصاد والتجارة والحقوق.
4. منذ عام 2000م صدرت توجيهات عليا بضم جميع مساجد الجمهورية (خاصة التي يسيطر عليها الإسلاميون) للإشراف الكامل لوزارة الأوقاف، وهو ما فرغ المساجد تدريجيا – إلا قليلا منها – من هذا النوع من الخطباء الذين كانوا يعرضون في ثنايا خطبهم لبعض القضايا والموضوعات السياسية أو الاقتصادية التي تناقش واقع الناس.
5. مازالت هناك بقية قليلة من المساجد التي يخطب بها خطباء من ذوي الاتجاهات الإسلامية، تشذ على القاعدة، وتتناول في الخطبة القضايا التي تهم المجتمع، خاصة وأن جمهورها من محبي أو من أنصار الحركة الإسلامية أو ممن يهتمون بمعرفة تعليق أو رأي الجماعة في القضايا المثارة، وخاصة قضايا وأخبار المقاطعة أو الاحتلال الأمريكي للعراق أو الصهيوني لفلسطين، أو قضايا الشأن الداخلي بمصر وفي مقدمتها نقد حكومة الحزب الحاكم أو التجديد للرئيس لولاية خامسة!
حلول مقترحة:
ولكي يعود لدرس العلم مكانته وأهميته في تبصير الناس وتصحيح مفاهيمهم المغلوطة عن الإسلام، ولخطبة الجمعة هيبتها، وحتى يتخلص العلماء والدعاة والخطباء من هذه الحالة التي سيطرت عليهم لفترة طويلة من الزمن، فإنني أقدم عددا من الاقتراحات العملية منها:
1. إعادة النظر في مناهج الكليات الأزهرية، خاصة تلك التي تخرج العلماء والدعاة والوعاظ والخطباء، من خلال لجنة قومية محايدة تضم خيرة العلماء والخبراء المشهود لهم بالنزاهة والحيدة والوطنية.
2. إضافة مناهج سياسية واقتصادية ميسرة، تعالج المفاهيم والقضايا الحديثة بلغة سهلة بعيدة عن تعقيدات هذا العلم، على أن يكون هذا الكتاب- الذي يشارك في إعداده نخبة من السياسيين والاقتصاديين وأساتذة الشريعة- مقررا على الطلاب في جميع الكليات بجامعات مصر.
3. إعادة النظر في راتب الخطيب والواعظ، واعتماد بند ثابت كبدل للتثقيف، أسوة بما يصرف للمذيعين في جهاز التليفزيون، يمكنه من شراء بعض الكتب والمجلات المتخصصة التي تعالج القضايا السياسية والاقتصادية.
4. فتح الباب أمام المتخصصين في الاقتصاد والسياسة والاجتماع وعلم النفس، ممن يجيدون مخاطبة الناس ويمتلكون خلفية عالية في العلوم الشرعية لاعتلاء المنابر، بعد تدريبهم على الخطابة وإعدادهم من الناحية الشرعية.
5. إعداد دورات تدريبية مستمرة للخطباء والوعاظ والعلماء والدعاة في السياسة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس و... يقوم بالتدريب خلالها أساتذة جامعيون ومفكرون وكتاب مشهود لهم بالكفاءة والوطنية، والقدرة على توصيل العلوم في محاولة للارتقاء بمستوى الخطباء.
6. إصدار وزارة الأوقاف بعض الكتب والمذكرات التي تعالج القضايا الاقتصادية والسياسية بلغة سهلة وميسورة، وتوزيعها بالمجان على الخطباء والوعاظ والعلماء والدعاة.
هذا إذا ما أردنا الاتقاء بمستوى الخطباء، وإعادة درس العلم وخطبة الجمعة لسابق عهدها، وحتى يحدث هذا سيبقى الحال على ما هو عليه وعلى المتضرر أن يلجأ إلى الفضاء (بالفاء)" وليس (القاف)..!!!
كما لا يختلف اثنان على أهمية الدروس والمواعظ والخطب التي يلقيها العلماء والخطباء والدعاة، فمازال لخطبة الجمعة مكانتها في قلوب المسلمين، كوسيلة إعلامية لها ما لها من التأثير. ويرجع احتفاظ "خطبة الجمعة" بمكانتها وقدرتها الكبيرة على التأثير، عبر التاريخ، إلى مكانة الخطبة في الإسلام وكونها أحد أركان صلاة الجمعة، قال تعالى في سورة الجمعة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
كما تعود أهمية الخطبة إلى الأجر العظيم الذي وعد به الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، المسلمين الذين يبادرون لحضور الخطبة، وحثه المسلمين أن يتواجدوا بالمسجد قبل صعود الخطيب على المنبر، وتنبيههم إلى ضرورة التركيز مع الخطيب، وأن يرعوه سمعهم وبصرهم، وتركيزهم.
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة : أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت". كما نهى صلى الله عليه وسلم عن العبث بالحصى وغيره وقت الخطبة حتى لا ينشغل المستمعون عن خطبة الخطيب؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "... ومن مس الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له".
ويمتاز الإسلام على غيره من الأديان والشرائع بأنه دين شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعا، فهو يحض الناس على فعل الطاعات وترك المنكرات، ولكنه أيضا يدعوهم لقول الحق ونصرة المظلوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يطلب من المسلم أن يكون صاحب مبدأ، وأن يكون مقتصدا في النفقة والمعيشة، وأن يسعى لكسب الرزق الحلال، وأن يكون متوازنا في سلوكياته الاقتصادية فنهاه عن التبذير وحذره من التقتير.
وتحتل السياسة والاقتصاد مكانة عظيمة في الإسلام، وليس أدل على ذلك من أن أطول آية في القرآن كله لم تتناول عبادة من العبادات المفروضة كالصوم أو الصلاة أو الزكاة أوالحج، وإنما قدمت شرحا تفصيليا لأصل اقتصادي خالص ألا وهو "الدين" أو القرض قال تعالى في سورة البقرة:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ.....).
وكم حكا لنا القرآن من أحوال الحكام الطغاة والجبابرة، وكيف أنهم عتوا وظلموا وجاروا على أقوامهم فأذلوهم وأذاقوهم العذاب، بعدما حكموهم بالحديد والنار، ولقد تجلى ذلك بوضوح في الحكاية عن فرعون – أوضح نموذج للحاكم الديكتاتور- فقال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى، إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى...)، كما أرسى الإسلام قواعد الشورى كنظام إسلامي سياسي أصيل فقال تعالى:(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ....)، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ..).
أين الخلل؟
غير أن المتابع الراصد لدروس العلماء وخطب الخطباء بمصر يلحظ غياب القضايا السياسية والاقتصادية، عن الدروس والخطب، بشكل واضح. وفي تقديري أن ذلك يرجع لعدة أسباب أهمها:-
1- افتقار غالب العلماء والدعاة والخطباء إلى الثقافة السياسية والاقتصادية اللازمة: التي تمكنهم من تناول مفاهيم ومصطلحات السياسة والاقتصاد والاجتماع، فضلا عن عدم فهمهم أصلا لقضاياها وإشكالاتها، وهو ما يرجع – في تقديري – إلى:
• أنهم لا يدرسون بالجامعة، ضمن ما يدرسون، مناهج سياسية أو اقتصادية، خاصة في الكليات الأزهرية التي تخرج الخطباء، مثل كلية الشريعة والقانون وكلية الدعوة الإسلامية وكلية أصول الدين، التي تنحصر مناهجها في العلوم الشرعية (فقه/ سيرة/ حديث/ تفسير/ خطابة/...) فقط.
• كما يعود أيضا إلى قلة رواتبهم، وهو ما يحول دون قدرته على شراء كتاب يناقش قضية سياسية أو اقتصادية، أو متابعة مطبوعة دورية متخصصة، لاسيما في ضوء الغلاء الفاحش في أسعار الكتب والمطبوعات الدورية.
2- تحول درس العلم أو "الخطبة" إلى روتين: وتحولها إلى وظيفة "عقيمة" يشكو منها معظم الخطباء الرسميين، خاصة وأنهم في الغالب ليسوا أصحاب رسالة، وإنما ألقى بهم نظام تنسيق القبول بالجامعة في كلية "الدعوة" أو "أصول الدين"، أو "الشريعة والقانون"، فضلا عن سوء التنسيق وهو ما يجعل هذه الكليات (الدعوة – أصول الدين- الشريعة والقانون-....) تقبل الطلاب الذين حصلوا على درجات قليلة في امتحان الثانوية الأزهرية (50 – 60 %)، والذين لم يقبلوا بكليات الطب أو الهندسة أو ما شابهها من كليات القمة كما يسمونها في مصر!.
3- خوف العلماء والدعاة والخطباء من تناول الموضوعات السياسية: أو الاقتصادية، مثل الانتخابات وحرية إبداء الرأي، وضرورة المشاركة السياسية، أو الديمقراطية أو الإصلاح السياسي، أو التنمية وأهميتها، والديون وخطورتها على استقلال الشعوب وحريتها، وذلك حتى لا يتم تصنيفه على أنه "خطيب مؤدلج" أو منتمٍ لإحدى الجماعات أو الحركات الإسلامية الموجودة على الساحة والتي تتبنى مثل هذه المفاهيم، فيتم وضعه في "القائمة السوداء"، فيمنع من الخطابة ويحول لعمل إداري أو يضيق عليه في رزقه من قبل الوزارة أو يتم نقله لإحدى المحافظات النائية كنوع من التأديب أو المعاقبة!
4- ضيق فهم بعض العلماء والدعاة والخطباء للسياسة والاقتصاد: حيث يحصرون الموضوع في الشورى بمعناها الضيق، مشاورة الرسول لأصحابه في الغزوات، وموضوع "الربا"، أي الاقتراض من البنوك أو الإيداع فيها، فيما يتجاهلون القضايا السياسية والاقتصادية الحقيقية التي يمتلئ بها القرآن والسنة مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحض على كلمة الحق والصدع بها، وحث المسلم أن يكون عنصراً منتجاً ونافعا لنفسه ومجتمعه، حريصا على التنمية، والحض على الاقتصاد في النفقة والمعيشة، التحذير من التبذير والإسراف واعتبار المسرف أخا للشيطان، قال تعالى في سورة الإسراء:(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)، وأيضا إقرار الإسلام بالملكية الخاصة وترحيبه بالتملك طالما كان من طريق حلال، واعتراف الإسلام بالذمة المالية المستقلة للمرأة وحقها في البيع والشراء والتعاقد والهبة.
ملاحظات.. ميدانية:
ومن خلال رصد وتحليل عد دمن دروس العلم وخطب الجمعة، بمصر لفترة طويلة، قد يكون من المفيد أن نرصد عددا من الملاحظات الميدانية وهي:
1. هذه الحال المتردية لدروس العلم وخطب الجمعة؛ من حيث مقاطعتها تقريبا للشقين السياسي والاقتصادي تكاد تكون حال كل أو غالب المساجد التي توصف بأنها "مساجد حكومية"، وهي تلك التي تقع تحت إشراف وزارة الأوقاف، ولم ينج من هذا سوى عدد قليل من المساجد الأهلية وخاصة تلك التي تتبع – بشكل غير رسمي– جماعة الإخوان المسلمين، التي تحظرها السلطات بمصر، أو الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية، أو جماعة أنصار السنة المحمدية.
2. للإنصاف فإن وزارة الأوقاف انتبهت منذ سنوات إلى هذا الأمر، فأنشأت معاهد لإعداد الدعاة، وهي "مراكز الثقافة الإسلامية"، بواقع معهد في كل محافظة(تقسم الجمهورية إداريا إلى 26 محافظة)، جعلتها مقصورة على غير خريجي جامعة الأزهر، مدة الدراسة بها سنتان، بعدها يتلقى الخريج دورة تدريبية بالمساجد مدتها ستة شهور، قسم منها نظري والآخر عملي، ثم ينطلق بعدها الخطيب ليعتلي المنابر بعد توزيعه على أحد المساجد. غير أني آخذ على هذه التجربة - رغم أهميتها- أنها أغفلت المنهجين السياسي والاقتصادي تماما، فلا يدرس الداعية بالمعهد أي كتاب في أصول السياسة أو قواعد ومفاهيم الاقتصاد طوال العامين!!
3. الفترة من عام 1974 حتى عام 1981م، أي حتى قبيل اغتيال الرئيس محمد أنور السادات، شهدت تطورا ملحوظا في خطبة الجمعة من حيث الموضوعات، خاصة السياسية والاقتصادية، وذلك في المساجد التي كانت تسيطر عليها الحركات الإسلامية، حيث يكثر بين أعضائها خريجو كليات الطب والهندسة والسياسة والاقتصاد والتجارة والحقوق.
4. منذ عام 2000م صدرت توجيهات عليا بضم جميع مساجد الجمهورية (خاصة التي يسيطر عليها الإسلاميون) للإشراف الكامل لوزارة الأوقاف، وهو ما فرغ المساجد تدريجيا – إلا قليلا منها – من هذا النوع من الخطباء الذين كانوا يعرضون في ثنايا خطبهم لبعض القضايا والموضوعات السياسية أو الاقتصادية التي تناقش واقع الناس.
5. مازالت هناك بقية قليلة من المساجد التي يخطب بها خطباء من ذوي الاتجاهات الإسلامية، تشذ على القاعدة، وتتناول في الخطبة القضايا التي تهم المجتمع، خاصة وأن جمهورها من محبي أو من أنصار الحركة الإسلامية أو ممن يهتمون بمعرفة تعليق أو رأي الجماعة في القضايا المثارة، وخاصة قضايا وأخبار المقاطعة أو الاحتلال الأمريكي للعراق أو الصهيوني لفلسطين، أو قضايا الشأن الداخلي بمصر وفي مقدمتها نقد حكومة الحزب الحاكم أو التجديد للرئيس لولاية خامسة!
حلول مقترحة:
ولكي يعود لدرس العلم مكانته وأهميته في تبصير الناس وتصحيح مفاهيمهم المغلوطة عن الإسلام، ولخطبة الجمعة هيبتها، وحتى يتخلص العلماء والدعاة والخطباء من هذه الحالة التي سيطرت عليهم لفترة طويلة من الزمن، فإنني أقدم عددا من الاقتراحات العملية منها:
1. إعادة النظر في مناهج الكليات الأزهرية، خاصة تلك التي تخرج العلماء والدعاة والوعاظ والخطباء، من خلال لجنة قومية محايدة تضم خيرة العلماء والخبراء المشهود لهم بالنزاهة والحيدة والوطنية.
2. إضافة مناهج سياسية واقتصادية ميسرة، تعالج المفاهيم والقضايا الحديثة بلغة سهلة بعيدة عن تعقيدات هذا العلم، على أن يكون هذا الكتاب- الذي يشارك في إعداده نخبة من السياسيين والاقتصاديين وأساتذة الشريعة- مقررا على الطلاب في جميع الكليات بجامعات مصر.
3. إعادة النظر في راتب الخطيب والواعظ، واعتماد بند ثابت كبدل للتثقيف، أسوة بما يصرف للمذيعين في جهاز التليفزيون، يمكنه من شراء بعض الكتب والمجلات المتخصصة التي تعالج القضايا السياسية والاقتصادية.
4. فتح الباب أمام المتخصصين في الاقتصاد والسياسة والاجتماع وعلم النفس، ممن يجيدون مخاطبة الناس ويمتلكون خلفية عالية في العلوم الشرعية لاعتلاء المنابر، بعد تدريبهم على الخطابة وإعدادهم من الناحية الشرعية.
5. إعداد دورات تدريبية مستمرة للخطباء والوعاظ والعلماء والدعاة في السياسة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس و... يقوم بالتدريب خلالها أساتذة جامعيون ومفكرون وكتاب مشهود لهم بالكفاءة والوطنية، والقدرة على توصيل العلوم في محاولة للارتقاء بمستوى الخطباء.
6. إصدار وزارة الأوقاف بعض الكتب والمذكرات التي تعالج القضايا الاقتصادية والسياسية بلغة سهلة وميسورة، وتوزيعها بالمجان على الخطباء والوعاظ والعلماء والدعاة.
هذا إذا ما أردنا الاتقاء بمستوى الخطباء، وإعادة درس العلم وخطبة الجمعة لسابق عهدها، وحتى يحدث هذا سيبقى الحال على ما هو عليه وعلى المتضرر أن يلجأ إلى الفضاء (بالفاء)" وليس (القاف)..!!!