منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#47974
الدبلوماسية الاقتصادية سيف ذوحدين


دائما ما توصف الدبلوماسية الأمريكية بـدبلوماسية " الجزرة والعصا " . وفي الواقع إن " دبلوماسية الجزرة " ليست الا شكلا من اشكال الدبلوماسية الاقتصادية . ومع استمرار تعمق العولمة الاقتصادية يزداد التعاون الاقتصادي بين الدول اتساعا ، والاعتماد المتبادل تعمقا ، والعلاقات الاقتصادية والدبلوماسية توثقا .


والاقتصــاد باعتباره وســــيلة من الوســـائل الدبلوماسية يتمثل بشكل رئيسي في التعاون الاقتصادي ؛ والمساعدات الاقتصادية ؛ والانتقامات الاقتصادية بين الدول . فالتعاون الاقتصادي هو مادة تشحيم وعامل محفز ومشجع في التبادلات والاتصالات بين الدول ، ويلعب دورا بارزا للغاية في العلاقات الدولية . فكلما ازدادت التبادلات التجارية وتعززت بين دولة واخرى ، ازداد التفاهم وتعمقت الثقة المتبادلتين بينهما . فعلى سبيل المثال ، ان التعاون الاقتصادي الذي شمل مجالات واسعة وعلى مدار فترة طويلة بين الصين وسنغافورة ، قبل إقامة العلاقات الدبلوماسية ، لعب دورا هاما جدا في إزالة الحكومة السنغافورية لمخاوفها السياسية من النظام السياسي الصيني ، ودفع بإقامة العلاقات الدبلوماسية ؛ أما المساعدات الاقتصادية باعتبارها وسيلة من الوسائل الدبلوماسية ، فمن شأنها أن تعزز العلاقات بين الدول وتحقق اهدافها السياسية والدبلوماسية . فعلى سبيل المثال أيضا ، فإن الصداقة الصينية الافريقية التي دخلت قلوب كل الافارقة لا تنفصل ابدا عن المساعدات الاقتصادية الصينية المكثفة للقارة الافريقية. لقد قدمت الصين الجديدة ، ومنذ ولادتها ، الكثير من المساعدات الاقتصادية للعديد من الدول النامية ، حيث شيدت مباني مَعْلَمِيَّة في بعض الدول منها ، وعززت من التنمية والتطور الاقتصادي فيها ، مما خلق صداقة عميقة بين الصين وهذه الدول . ومن الطبيعي ان تكون العوامل الاقتصادية هي ايضا وراء فقدان بعض الدول الصغيرة والفقيرة الى الاصالة والواجب امام مصالح وقتية والرضوخ الى اغراءات الدولار . يمكن القول إن جميع الدول تقوم باستغلال التجارة والاستثمار وغيرهما من الوسائل الاقتصادية لزيادة إمكانية نجاح أهدافها الدبلوماسية .


إن الاقتصاد إلى جانب كونه نوعا من الوسائل الإيجابية التي تدفع بالعلاقات بين دولة وأخرى ، يمكن استخدامه كوسيلة عقابية أو انتقامية ليلعب في التبادلات الدولية دور المنذر والمقيد لتصرفات الطرف الآخر . الا انه في حال عدم استخدام الانتقام الاقتصادي بشكل جيد ، يمكن ان يعيد بالضرر والاذى والخسارة على الذات ، وذلك سيكون أشد بروزا في ظل استمرار تعمق مدى الاعتماد المتبادل بين البلدان .


لكل دولة نظمها الذاتية الخاصة في اجراء التبادلات الاقتصادية ، منها اولا المنفعة المتبادلة . ان اجراء التعاون ومزاولة التجارة كلتاهما تتطلب تحقيق الأرباح للجانبين المعنيين ؛ ومنها ثانيا التنافس بين الطرفين ، حيث سيبقى المتفوق وينتهي المتدني . ان التبادلات الاقتصادية بين الدول ليست فقط عملية وحيدة الجانب تسعى فيها المؤسسات الى الارباح ، بل يتخللها احتياجات سياسية ودبلوماسية مختلفة ، لذا نجد ان الحكومات هي التي تمتلك حق السلطة المطلقة لتعاون مؤسساتها مع الخارج . كما في الانشطة الاقتصادية التي تجري على الصعيد الدولي ، لا يمكن خروج اي مؤسسة عن طاعة ورغبات حكوماتها والعمل على هواها أيضا ، فالولايات المتحدة هي من أكثر الدول التي تتدخل في التعاون الاقتصادي والتجارة الخارجية ، حيث أن القوانين التي تلجأ إليها وراء حصر مؤسساتها المحلية في مجال التجارة والاستثمار الخارجي كثيرة جدا لحد يصعب تعدادها ، فمثلا ، لا تزال وحتى يومنا هذا تقوم بفرض قيود عديدة وصارمة على تصدير منتجات التكولوجيا العالية للصين . امريكا تستطيع فرض القيود على مؤسساتها ومنعها من تصدير المنتجات التكنولوجية للصين ، الا انها لا تستطيع منع الصين من شراء هذا النوع من المنتجات من دول أخرى . فالنتيجة واضحة ، من ناحية لم تستطع الولايات المتحدة الوصول الى غاياتها السياسية ، ومن ناحية اخرى أضاعت الكثير من الفرص التجارية على مؤسساتها . ومن الطبيعي ان يكلف ذلك المؤسسات الصينية اموالا اضافية ، غير أن الولايات المتحدة بهذا التصرف أضرت بنفسها وأضرت بالصين في نفس الوقت .


وإضافة إلى ذلك ، اذا لم تستخدم الانتقامات الاقتصادية بشكل سليم ، يمكن للحكام ايقاع الاذى والضرر بالمؤسسات والتجار . في الوقت الحالي اصبح مشروع بناء خط السكة الحديدية السريع بين بكين وشنغهاي محل جدل وتعليق الرأي العام الصيني ، ويتمحور اساسا على ان اليابان هي اقوى المنافسين لهذا المشروع من حيث التيكنيلوجيا ، الا انها من حيث المشاعر والعواطف هي ابعد واسوأ الخيارات ، كون المسألة التاريخية والاحتكاكات الواقية بين البلدين وخاصة استفزازات الساسة اليمينيين من الجانب الياباني لا زالت قائمة . مؤخرا ، اعربت بعض الشخصيات اليابانية الصديقة وبصراحة متناهية بان الاوساط الاقتصادية اليابانية هي القوة الاساسية التي تعمل على تعميق الصداقة وتعزيز التعاون بين الصين وليابان ، فانها ( المؤسسات الاقتصادية اليابانية ) ستشعر بالاكتئاب وعدم الرضى فيما اذا حملت مسؤولية الحكومة اليابانية ودفعت فاتورة تصرفاتها .


لذا يمكننا رؤية اتخاذ الاقتصاد كوسيلة للعقاب والثأر ، فسيصبح سلاحا ذو حدين ، فيجب الحذر الشديد عند التفكير في استخدامه .. فاذا كانت العملية صغيرة والفائدة قليلة ، فلا داعي ، بل لا يجدر التوسع في استخدام مثل هذا السلاح . وفي حال ما كانت العملية كبيرة والفائدة لا بأس بها ، الا ان مجمل الخسائر الذاتية اكبر من خسائر الخصم ، فانها ستصبح مصيبة . لذا علينا التفكير في عاملين عند استخدام الاقتصاد الثأري : أولهما يكمن في النتائج ، حيث ينبغي الاجراءات المتخذة ملامسة جرح الخصم ومكان المه ، وإلا يستحيل أن يحقق العقاب او الثأر اهدافه . ثانيهما يتمثل في الثمن ، ان الثأر الاقتصادي قد يلحقق الاضرار بالذات ، فاذا ما كان الثمن الذي يدفع اغلى واكبر من الالم الذي يصيب الطرف الاخر ، فسينتج عن هذا التصرف كمن يبدل حصانه الاعور بحصان اعمى . لذا يجب التأمل والحذر كثيرا قبل الاقدام على هكذا تصرفات ...


خلاصة القول : إن الدبلوماسية الاقتصادية ليست مطلقة القدرة . فاذا ما أريد للصين وان تصبح دولة قوية دبلوماسيا بكل معنى الكلمة ، فعليها ان تتمتع بموقف مسؤول ولعب دور ايجابي في الشؤون الدولية ، لجانب امتلاكها لقوة اقتصادية عظيمة . (( غلوبال تايمز )) باللغة الصينية صادرة يوم 17 / 10 / 2003