منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#47999


يجتاح الشرق الأوسط وباء الطائفية الدفينة، وتترشح عن الحركات الشعبية في المنطقة إعادة الفرز المجتمعي والسياسي وفق أسس الانتماء الطائفي.. لقد غدت الطائفية أعظم مشكلة بنيوية تهدد بإعادة تركيب المجتمعات والدول الشرق أوسطية على أساس طائفي بحث بعيداً عن الأسس الوطنية أو الإنسانية المدنية.
مع تصاعد تساقط الأنظمة وتغيير الخارطة السياسية في أكثر من دولة، تنكشف عورات بنى الثقافة السياسية المتصلة بإدارة الأزمات الوطنية وإعادة تركيب الدول المنهارة.. ومن أهم العورات تلك المتصلة بالطائفية كمفاهيم وبنى وسياقات وتحالفات وجبهوية سياسية.. هناك الآن شحن طائفي متصاعد في بنية أكثر من دولة، وهناك توتر طائفي بين دول المنطقة، وهناك جبهوية سيوطائفية تتخندق وتخندق المنطقة بكاملها.. وإحدى نذر الصدامات المرشحة للتصاعد كنزاعات أهلية وحروب دولية تلك المتصلة بالشحن الطائفي المؤسس على التعصب والكراهية والإقصاء، والذي يوظف الطائفية لأغراض سياسية مصالحية بحتة.

قضية إشكالية


الطائفية أقدم وأخطر داء منيت به –وما زالت- شعوبنا ودولنا على اختلاف دوراتها الحضارية وبالذات مع فجر تأسيس الدولة الوطنية عقب انتهاء الحرب الكونية الأولى.. وقد غدت قضية إشكالية بامتياز. هذه القضية الإشكالية لم تعرف تفكيكاً ثقافياً مدنياً يعيد إنتاج نسق المفاهيم والولاءات المجتمعية، ولم تعهد معالجة سياسية وفق معايير الحكم الرشيد في أنظمة بناء الدولة من قبل نخب الدولة، ولذلك أسباب، أهمها:
1- نموذج الدولة لدينا قام على أساس من فكرة التجانس القومي أو الديني أو المذهبي، ولم تقم على وفق فكرة التجانس السياسي الذي يوجبه مشروع الدولة الوطنية، ففكرة الدولة لدينا ما زالت تتحرك ضمن مفهوم الأمة الإنسانية المسيسة، أي الدمج بين الأمة الإنسانية (المجتمعية) والأمة السياسية (الدولة) لتكوين الدولة، وهو ما أدى إلى إنكار التنوع والتعددية لمجتمعيات الدول، وقاد الدولة إلى التفرد القومي أو الطائفي بالسلطة على حساب باقي الأعراق والطوائف، فأوجب احتراب الطوائف، وأسس بالتبع إلى الإكراه والإقصاء والصراع المجتمعي المتحفز.
2- المدارس السياسية المتسيدة لدينا هي مدارس مؤدلجة بالضد من فكرة الدولة الوطنية والأمة السياسية، فالمدارس القومية والدينية والماركسية تنشىء أفكارها استناداً لروابط غير المواطنة في التأسيس لمفاهيم الأمة السياسية (الدولة)، وتستعيض عنها بروابط عرقية أو دينية أو أممية تصادر بها لحمة أمة الدولة، ومعلوم أنَّ أي استعاضة عن المواطنة بروابط فرعية أو مفترضة أو واهمة سيهد النواة الصلبة للدولة (أي أمتها السياسية)، ويؤسس لصراعات مجتمعية سياسية داخل بنية الدولة مما يحيي العصبيات والولاءات الفرعية العرقطائفية على حساب العصبية الوطنية والولاء الوطني.
3- الحواضن الفكرية والثقافية لا تساعد على الخروج من شرنقة التعصب الطائفي، فهي تغذيه عاطفياً وتميته عقلياً، وتنشطه على مستوى الولاء وليس على مستوى الانتماء، وتجعله معياراً تفاضلياً لكافة بناءات الحياة. أعتقد أنَّ نخب المجتمعات لم تمارس تفكيكاً بنيوياً يؤهل الحواضن المنتجة للمجتمع لإعادة إنتاج المفاهيم والسلوكيات بما يلائم المدنية ويوائم بين الانتماءات الفرعية والكلية للمجتمع والدولة.

الخطير في المسألة



الخطير في المسألة الطائفية تسييسها، بمعنى حملها من حيزها المجتمعي الطبيعي إلى الحيز السياسي المعني بتشكيل الدولة، فالطبيعي هو الطائفية المجتمعية الناجمة عن التنوع، والشاذ هو الطائفية السياسية التي تستهدف احتكار السلطة وتجيير الدولة لصالح طائفة دون أخرى مما يهدد وحدة أمة الدولة.

الطائفية المجتمعية


الناس بحكم الانتماء التقليدي أو الاختيار الواعي ينتمون إلى طوائف دينية أو اجتماعية، وهو شيء طبيعي بحكم التنوع الذي هو أساس الحياة البشرية، لذا فإنَّ الانتماء الطائفي ليس سبة بحد ذاته، فليس عيباً أن تنتمي لطائفة ترى فيها معتقدك أو هويتك أو مصالحك.. إنَّ الطائفية بهذا المعنى خيار واختيار إنساني قد تحكمه التقاليد أو القناعات أو حتى المصالح، فالبشر يختلفون في الاعتقاد والأيديولوجيا الدينية والتقاليد والثقافات والهويات والمصالح.. وهو ما يؤسس للطائفية المجتمعية بشكل تلقائي.
ليس بطائفي مَن ينتمي لطائفة أو حتى يعتز بانتمائه الطائفي، فهو حق طبيعي ومشروع بحكم العقيدة أو التقاليد، إنما الطائفي الذي يقبل ويرفض الآخر استناداً إلى معاييره التفاضلية أو تعصبه الذي يؤسس لرفض الآخر المختلف ويقصيه ويصادر حقوقه،.. لذا فالطائفية المجتمعية مقبولة ما دامت تعني حق الإنسان بالانتماء والاختيار الطائفي البريء غير المؤدلج وغير التفاضلي وغير التعصبي وغير المتجاوز على حقوق الآخرين.
التنوع المنتج للتعددية (بجميع أشكالها) حقيقة إنسانية تاريخية لا مجال لإنكارها أو تجاهلها أو مسخها، فالتعددية المجتمعية بما فيها التعددية الطائفية حالة إنسانية طبيعية بذاتها، وطائفية المجتمع تعني تعددية طوائفه وقبول هذه التعددية كحقيقة موضوعية تنتجها طبيعة اختلاف الناس بمعتقداتهم وهوياتهم وثقافاتهم، ولا يمكن حمل الناس جميعهم على عقيدة أو آيديولوجيا معينة بغية الظفر بالتجانس.. وفكرة التجانس المجتمعي إكذوبة آيديولوجية أنتجتها المدارس الآيديولوجية السياسية الهادفة إلى تسييس الهويات المجتمعية، وبالتالي احتكار السلطة من قبل هوية معينة على حساب الهويات الأخرى، وهو ما يؤسس للطائفية السياسية.

الطائفية السياسية


خطورة الطائفية عندما تمتد الى الدولة،هنا تغدو الطائفية سلاحا فتاكا يهدد وحدة امة الدولة والدولة معا.المفترض بالدولة، انها امة سياسية وطنية تحتوي التعددية المجتمعية على تنوعها العرقي والطائفي والاثني على اساس من مبدا المواطنة الذي يعني (وحدة انتماء عضوي بين الفردوالدولة) بغض النظر عن دينه وطائفته وقوميته واثنيته، فالدولة هنا جمهور المواطنين وامة افراد الدولة ومجموع رعاياها،توحدهم (على تنوعهم)هوية سياسية موحدة هي هوية الدولة (السياسية الوطنية) لا غير. وعندما نقول لا غير فاننا نعني بذلك ان الشرعي في عرف الدولة فقط وفقط انما هو هويتها السياسية، فليس للدولة هوية دينية او طائفية او عرقية، وادنى ركون من الدولة لهوية فرعية مجتمعة يجعلها دولة تمييز واقصاء وليست دولة وطنية جامعة لامة الدولة. ان الدولة الطائفية هنا هي دولة الجزء لا الكل، هي دولة طائفية على حساب الطوائف الاخرى، وبعد ،هي دولة تفرض التجانس السياسي من خلال الغاء التعددية المجتمعية ، وهو محال، فالولاء والتجانس المطلوب للدولة انما هو سياسي هنا، فالدولة( كفكرة ومعايير ومصالح) لا تعني بالصهر المجتمعي، بل بالصهر السياسي،وليس للدولة حق اقصاء التعددية المجتمعية الفكرية او الطائفية او العرقية او السياسية...الخ، للدولة الحيز المشترك الذي تخلقه بين مواطنيها، والمشترك هنا تؤسسه الارادة العامة والمصالح المشتركة لمجموع المواطنين،ولا يتاسس على وفق طائفة او قومية او اثنية محددة، والذي يولد الهوية الوطنية انما هو الانتماء القانوني والسياسي للدولة، وهو الذي يخلق جمهور الدولة وامتها.

جميع دول العالم غير صافية العرق او الديانة او الطائفة، فالدولة الصافية اكذوبة تاريخية، وهنا فليس للدولةالا الاعتراف بالتنوع واعطاء التعددية حقها ومجالها الطبيعي، ومجالها الطبيعي هنا اشتغالها في حقل المجتمع (كامة انسانية) وليس الدولة(كامة سياسية)، فللمجتمع حق ممارسة ذاته على اساس من تنوعه العرقي وتعدديته الطائفية بما يحقق هوياته الفرعية الطبيعية، لكن تبقى هذه الممارسة ضمناطارها المجتمعي وليس السياسي، فالسياسي هو حيز الدولة، هو الهوية المشتركة الناجمة عن انتماء افراد المجتمع جميعهم الى الدولة بحكم مواطنتهم لا بحكم اعراقهم وطوائفهم زاديانهم و اثنياتهم،اي بحكم فرديتهم لا بحكم مجموعاتهم.

الطائفية السياسية منهج يقوم على تسييس الانتماء الطائفي للمواطن وادلجته في الحياة السياسية على مستوى الافكار والمجتمعيات والسلطة،والطائفية بذلك تعمل على اقصاء المواطنة كرابطة عضوية وحيدة للدولة واستبدالها بالرابطة الطائفية في اصل انشاء الحياة السياسية وفي تكوين الدولة وفي اقامة هيكلها وتنظيم شؤونها ومصالح مجتمعها،وتعارض الطائفية السياسية كليا فكرة العقد الاجتماعي السياسي الذي يفترض بالدولة مجموع مواطنين (افراد) احرار متكافئين ومتساويين بغض النظر عن هوياتهم الفرعية (الجماعية )، متجاهلة بذلك ان الوحدة الاساس في الدولة هي الفرد المواطن وليس الجماعة الفرعية، وعلى هذا الاساس تنشأ الامة الوطنية للدولة، وان ادنى محورية ولاء للجماعة الفرعية على حساب الوحدة العضوية الفردية (المواطنة) سيصادر وحدة امة الدولة ويقضي على الدولة الوطنية بالتبع.

تشيؤ المجتمعات وتمزقها ناتج طبيعي لتفشي الطائفية السياسية وليست الطائفية المجتمعية، وهو ما يجب تفكيكه واعادة انتاجه على مستوى اعادة بناء الدول والمجتمعات الوطنية ، وهي مهمة الجميع على تنوع مواقعهم وانساقهم.