صفحة 1 من 1

الدولة في التاريخ : بين مقتضيات الدين ومنطق السياسة ..

مرسل: الأربعاء إبريل 04, 2012 4:22 pm
بواسطة أحمد المعجل 5

الدولة في التاريخ:
مسيرة السلطة بين مقتضيات الدين ومنطق السياسة

المصدر : د. طلال صالح بنّـان- جدة:


بعد شهرين سَتُقام عندنا أول انتخابات بلدية, كأول ممارسة سياسية من نوعها منذ إنشاء المملكة. الانتخابات لا تعكس آلية بموجبها يتم اختيار رموز السلطة في المجتمع, لتقلد مناصب سياسية في مؤسسات الدولة الرسمية, كأهم مظاهر التنمية السياسية للمجتمعات المعاصرة, فحسب... بل انها تعكس فلسفة سياسية مختلفة, على ما عُهد تقليدياً عن غاية المجتمع السياسي المنظم (الدولة) وطبيعة حركة السلطة السياسية المنظمة, في المجتمع, عن تلك التي تتفاعل في مجتمعات أقل تنظيماً من الدولة, على مستوى حركة الظاهرة السياسية, داخلياً أو خارجياً.
الدولة: شر لابد منه أم هي الشر المطلق?!
الدولة, كأعلى مستويات التنظيم الاجتماعي للمجتمعات الإنسانية, تعكس محاولة الإنسان, طوال تاريخه استئناس السلطة, لتنظيم تجمعه الإنساني, سياسياً. مع ذلك, اختلف الفكر السياسي ومراحل تطور النظرية السياسية, حول مدى جدوى الدولة السياسية لتحقيق الغاية منها في ايجاد مجتمع منظم يحافظ على الحد الأدنى من ممارسة الإنسان (المواطن) لحقوقه الطبيعية والمكتسبة والتمتع بحرياته, كونه إنساناً, يختلف عن الكائنات الأخرى, عن طريق التحكم في حركة السلطة في المجتمع, كأداة إيجابية لتنظيم حياة مدنية, تختلف عن كل أشكال وأنماط الحياة, التي خبرها الإنسان قبل نشوء الدولة.
الدولة, لم تنشأ لأسباب سياسية, فحسب... بل كقيمة أخلاقية, تكريساً للفضيلة ونشر الخير, استجابة لفطرة الإنسان السوية الاجتماعية المتعاونة, كما يقول فلاسفة النظرية التقليدية.. أو كبحاً لنوازع الفرد الأنانية والانعزالية, كما يقول فلاسفة النظرية الليبرالية.
ولكن الدولة, ليست في كل الأحوال, استجابة لطبيعة الإنسان الخيرة أو ضرورة لدفع الإنسان ليكون أقل ميلاً لتغليب مصالحه ومقاومة الضعف تجاه غرائزه الانعزالية الضيقة, كما يتفق فلاسفة النظرية التقليدية والليبرالية الحديثة, معاً, ولكنها معلمٌ من معالم الاستخدام المنظم للسلطة, لصالح فئة, على حساب حقوق وحريات الفئات الأخرى.الدولة ليست, فقط شراً لابد منه, كما يقول الرواقيون, بل هي الشر كله الذي يجب إزالته, حتى تبلغ مسيرة التاريخ غاية منتهاها. الدولة, ليست نهاية التاريخ, كما قال أرسطو منذ أكثر من 2500 سنة, ولكن الإيذان بزوالها, مرحلة مهمة لبلوغ مسيرة التاريخ غايتها, كما قال كارل ماركس في القرن التاسع عشر.
الدين: استئناس السطلة أم استغلالها
لذا فإنه لا يمكن أن نتحدث عن الدولة, دون أن نتطرق إلى مفهوم السلطة في المجتمع, التي حاولت أشكال الدول المختلفة, عبر التاريخ, أن تتعامل مع حركة السلطة, كظاهرة سياسية للتحكم في السلوك الإنساني, من أجل الوصول إلى تنظيم أكثر دقة وصرامة للعلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات, بعيداً عن احتمالات الفوضى التي قد تتفشى, بعيداً عن التحكم في حركة السلطة في التجمعات الإنسانية.
ولكن وإن كان هناك توجه لاستئناس حركة السلطة, منذ أن عرف الإنسان العيش في تجمعات كبيرة منظمة, وصولاً إلى نموذج الدولة, فإن ظهور الدولة, لا يمكن فصله عن ظهور الدين, لتهذيب السلوك الإنساني, كأهم مقدمات فرض السلطة وتنظيم استخدامها. السلطة ليست فقط حركة عنف قهرية, حتى ولو كانت منظمة, ولكنها, في حاجة إلى شرعية سياسية لفرض الأخذ بخيارها, تعكس قناعة بضرورة حركتها, قبل أن تكون استجابة لعوامل الردع التي تمتلكها.
هذه الشرعية السياسية, ليس بأفضل من العقيدة الدينية لتوفيرها, على الأقل من باب تأمل قوة غيبية للسلطة أو من يمارسها, من أجل ضمان امتثال أكبر لقواعد السلوك المنظم العامة التي يفرضها ظهور الدولة. تأثير الدين في محاولة استئناس السلطة وفرضها, يمكن أن نتتبع أثره في كل, إن لم يكن جميع الحضارات الإنسانية, التي واكبت ظهور الدولة, سواء بشكلها التقليدي البسيط, أو بشكلها المعقد الحديث. يظهر هذا جلياً في تطور أهم حضارتين شهدتهما البشرية, الحضارة العربية الإسلامية.. ومن قبلها الحضارة الغربية, بجذورها الإغريقية والرومانية, وتراثها اليهودي المسيحي.
ولكن قبل ذلك, فإنه قد يكون من المفيد أن نتطرق, بصورة سريعة ومختصرة, لتطور العلاقة بين السلطة والدين في تجربة ظهور الدولة القديمة, قبل نزول الديانات السماوية, لتتضح لنا علاقة الدين بالسياسة, كأهم معالم ظهور نموذج الدولة في تطور المجتمعات الإنسانية. ولتكن البداية تأصيل مفهومي الدولة الدينية والمدنية, لتكتمل لنا صورة مسيرة السلطة من بدايات علاقتها المتلازمة بالدين, وحتى طلاقهما عن بعض, في تراث النظرية والممارسة السياسية الغربية.. وإن أبقيا على علاقة وثيقة تربطهما في النظرية والممارسة السياسية الإسلامية.
الدولة الدينية والدولة المدنية
الدولة الدينية, بصورة عامة, هي تلك الدولة التي يحدد الدين شرعية السلطة السياسية في المجتمع, ولا تتدخل العناصر الأخرى (السياسية), في تحديد مصدر شرعية النظام السياسي.. ولا آلية حركة مؤسساته, كما لا يكون لها دورٌ في تحديد الغاية من الكيان السياسي, بعيداً عن الغائية الدينية.
الدولة المدنية, من جانب آخر, هي ذلك الكيان السياسي (الدولة), الذي تحدد مصادر شرعيته متغيرات (سياسية) تنبع من إرادة الجماعة السياسية, بعيداً عن أي شكل من أشكال التدخل من قبل الدين (أو المؤسسات الدينية في المجتمع), في تحديد مكانة السلطة في المجتمع, والعلاقة في ما بين سلطات الدولة المختلفة.. وأن لا تكون للدين أية مدخلات أخلاقية رسمية للتأثير على نظام القيم السائد في المجتمع.. ويقتصر دور الدين على الاهتمام بحاجة الإشباع الروحي للقيم والمعتقدات الدينية, طبقاً لخيارات أفراد المجتمع الدينية بعيداً عن أي تدخل للمؤسسات الدينية في المجتمع في حركة النظام السياسي الرسمية... مع بقاء الدولة, في كل الأحول, محايدة بين معتقدات أفراد المجتمع الدينية ومللهم.
هذان تعريفان أكثر تطرفاً, لكل من الدولة الدينية والدولة المدنية.. وتتفاوت التوجهات نحو البعد أو القرب من علاقة الدين بالدولة, والسياسة, بصورة خاصة تبعاً لتوجه الفكر السياسي لهذه المدرسة السياسية أو تلك من هذه القضية, إيجاباً أو سلباً, ومدى أخذ النخبة السياسية الحاكمة, في اي مجتمع من المجتمعات, في ممارسة السلطة, بأيٍ من مصادر الشرعية السياسة, التي توفرها كل من المدرستين أو النظريتين. لنأخذ بعض هذه الخصائص لكل من نموذج الدولتين, من خلال الخبرة التاريخية لتجربتهما والأساس النظري لخلفيتهما الفكرية والفلسفية, بشيء من التفصيل, حتى نتمكن من قياس مدى الهوة بينهما.. وإن كانت هناك أوجه للتقارب بينهما.
نشأة وتطور الدولة الدينية
الدولة الدينية, تاريخياً, امتداد للنظام الأبوي في الفكر والممارسة السياسية. مع تطور المجتمعات وتعقد العلاقات السياسية والاجتماعية بها, ذهب الفكر السياسي إلى تأسيس شرعية السلطة السياسية, في المجتمع (الدولة) على أسس ''ميتافيزيقية'' غيبية, تضفي على من هو أو من هم في السلطة إمكانات لا يمكن أن يوفرها المفهوم الأبوي البسيط, الذي تطور مع نشأة الأسرة. لابد, إذن, من توفر قوة غير عادية لمن يمارس السلطة, يستطيع من خلالها ضمان استمرار سلطته المطلقة على الجماعة السياسية. ومن غير الدين بإمكانه أن يوفر تلك القوة اللازمة لإضفاء شرعية غير عادية للسلطة.
لذلك نجد في الحضارات القديمة هناك علاقة وطيدة بين الدين والسلطة. فرعون, في الحضارة المصرية القديمة كان يقدم نفسه على أنه إلهً (أنا ربكم الأعلى), قبل أن يكون ملكاً. كما أن الطبقة الكهنوتية في بلاط فرعون كان لها دور سياسي كبير في تحديد مصدر شرعية السلطة وفرض إرادتها على المجتمع. وكانت المعابد ترمز إلى بلاط الحكم, كما كانت ترمز إلى البعد الروحي لمكانة السلطة في المجتمع, ومكانة الدين ودوره في الحياة العامة, بصورة عامة. لولا هذا البعد الروحي (الديني) للحضارة المصرية, لما تمكن فراعنة مصر بناء حضارة استطاعت أن تستمر لخمسة آلاف سنة لما قبل القرن الثالث للميلاد.. ولما استطاعوا أن يمتد حكمهم, في أسر متعاقبة, طوال تلك الحقبة الطويلة من الزمن. حتى ما خلفوه من آثار تعكس هذا البعد الروحي (للسلطة).. والمكانة الدينية الرفيعة التي كان يتمتع بها فراعنة مصر.
ولكن الخلفية النظرية والتاريخية والثقافية للعلاقة بين الدين والدولة, في ما يُعرف بالدولة الدينية والدولة المدنية, تجد جذورها الفكرية والحركية في الحضارتين الأوربية (المسيحية) والعربية (الإسلامية), ابتداءً من تقاليد الثقافة اليونانية القديمة.. والثقافة الأوربية الحديثة, مروراً بالثقافة الإسلامية التقليدية والمعاصرة.
إسهامات الثقافة اليونانية والرومانية
قبل تطور الدولة الدينية, التي سادت في أوروبا في العصور الوسطى وكانت سلطة ملوكها (المطلقة) تعتمد على ما سمي بالحق الالهي في الحكم (Divine Right) باعتبار الملك نائب الله في الأرض(Vice Regent), تطور في الفكر السياسي الغربي ما كان يطلق عليه البعد الروحي للاجتماع السياسي, بعيداً عن ما كان يتطور في الحضارة اليونانية القديمة من ممارسة سياسية لها وجهة نظر سلبية تجاه طبيعة الإنسان الأنانية... فكان أن طورت النظرية السياسية الغربية, في الثقافة والممارسة الإغريقية القديمة, توجهاً نحو التأكيد على الطبيعية الاجتماعية للإنسان, بوصفه كائناً اجتماعياً, كما كان يقول أفلاطون(427 - 347 ق.م), أو بمفهوم أكثر دقة, من الناحية السياسية, بوصفه *****اً سياسياً, كما يعرفه أرسطو (384 - 322 ق.م).
وحتى تكون للسلطة السياسة ذلك البعد التنظيمي الذي يعتمد على فلسفة السلطة المطلقة للحاكم, كما هو الحال في النظام الأبوي المتفاعل داخل مجتمع الأسرة الضيق, كان لابد الاستعانة بزعم إمكانات غير بشرية لدى الحاكم, لتبرير سلطته المطلقة, وإن كان ذلك لا يعني, بالضرورة, استخدامها, بصورة استبدادية, خارج نطاق المصلحة العامة للجماعة السياسية... على الأقل هذا ما تفترضه النظرية السياسية التقليدية.
فكرة الفيلسوف الحاكم, عند أفلاطون, هي أولى إرهاصات البعد الغيبي ''الميتافيزيقي'' لمصدر الشرعية السياسية للنظام السياسي, خارج نطاق الحركة الاجتماعية لأفراد متساوي القدرات والإمكانات, في داخل النظام السياسي. وكان هذا التطور, في النظرية السياسية الغربية, الذي جاء به أفلاطون في فكرته عن سلطة الفيلسوف الحاكم الذي يستخدم ملكاته, غير العادية, لتحقيق الصالح العام للجماعة السياسية, يعكس انقلاباً فلسفياً في الفكر والممارسة السياسية, في أثينا القديمة, التي كانت تأخذ بالأسلوب الديموقراطي في التفضيل بين القدرات السياسية للأفراد, عن طريق المنافسة على شغل المناصب العامة في المجتمع, دون الاعتماد على أي متغيرات, غيبية وغير بشرية, لا تستطيع الجماعة السياسية تفهم سرها ولا مبعث جدارتها السياسية, وما عليها إلا أن تمتثل لإرادتها, وكأنها قدر سياسي, يتفاعل في عالم آخر غير عالم الواقع الذي يعيشونه.
هذه الفكرة البسيطة عن الإمكانات ''الخارقة'' غير الإنسانية للسلطة الحاكمة, لمواجهة تعقيد العلاقات البشرية في المجتمع السياسي, في مرحلة ما بعد نظام السلطة الأبوية التقليدي في نطاق الأسرة الضيق, تطور من كونه فلسفة دهرية لا دينية كما كان الحال في جمهورية أفلاطون, إلى أن أصبح فلسفة دينية, اختلط فيها ما هو ديني بما هو سياسي, لتصبح شرعية السلطة السياسية, في الأساس ''دينية'', بوصف الحاكم ''إله'' يحكم بتفويض ديني مطلق, لا أباً لأسرة سياسية (الدولة), كما تطور في الحضارة الرومانية الوثنية, في ما وصف: عودة لتقاليد السلطة الدينية المطلقة لفراعنة مصر القديمة.
ومن هنا كانت الفلسفة الرواقية (Stoicism), في زمن الإمبراطورية الرومانية, ردة فعل ''رومانسية'' خيالية رافضة للدولة, والسياسة, بشكل عام, في دعوة لمثاليات أخلاقية, تؤكد على المساواة بين الحاكم والمحكوم, إسقاطاً على الأساس الديني, لشرعية الإمبراطور الروماني.
الدولة عند المسيحية
إلا أن المسيحية أتت بتطور جديد في النظرية السياسية والممارسة السياسية في المجتمعات الغربية, بإدخال الدين بالمعنى السماوي, كمتغير أساسي في السلطة.
المسيحية تعايشت مع الخلفية الوثنية للإمبراطورية الرومانية مبديةً سلبية سياسية تجاه حركة السلطة في المجتمع, الذي نشأت فيه المسيحية وكان خاضعاً لسلطة الإمبراطور الوثني في روما. بل ان المسيحية كانت تحض رعايا الكنيسة أن يكونوا مواطنين صالحين, يدفعون الضرائب لوالي الإمبراطور الروماني الوثني في فلسطين.. ولا يتحدون سلطة الولاية الرومانية لمجتمعاتهم... أخذاً بما زُعِم أنه جاء عن المسيح عليه السلام: أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله, إشارة للفصل بين المجال الزمني (الدولة) والمجال الروحي الديني (الكنيسة), دون ما اعتبار لاحتمال ازدواج الولاء, من قبل الفرد بين الدولة والكنيسة في حياته اليومية.
حتى عندما انتشرت المسيحية واعتنقها الكثيرون من رعايا الإمبراطورية الرومانية في حوض البحر الأبيض المتوسط, بالرغم من اضطهاد سلطة الإمبراطورية الرومانية الوثنية في تلك المجتمعات للمسيحيين. إلى أن وصلت المسيحية لبلاط الإمبراطورية في روما واعتنقها الإمبراطور قسطنطين, لتصبح الدين الرسمي للدولة (393 م.) وتسقط روما بيد البرابرة, بعد ذلك بـ 17 سنة (410م.), الذين غزوها من الشمال, لتُحَمّل المسيحية وزر سقوط واحدة, إن لم تكن أعظم الإمبراطوريات التي عرفها العالم القديم, في أوروبا وحوض البحر الأبيض المتوسط.
حتى ذلك الوقت لم تكن المسيحية مهتمة بالسلطة, أو السياسة, بشكل عام. الراهب سانت أوغسطين (354 - 430 م) الذي كان يقطن في قرطاج بالجزائر دافع عن اتهام المسيحية من أنها السبب وراء سقوط الإمبراطورية الرومانية, في كتابه: مدينة الله (413م.). الذي يصر فيه على الفصل بين الدين والدولة والسياسة, بشكل عام.. ويبدي عدم تحمس لتبني الكنيسة, من قبل أي نظام سياسي, حتى ولو كان مسيحياً...! مفنداً أن السبب في سقوط الإمبراطورية الرومانية ليس اعتناقها للمسيحية, بل بسبب الظلم والاستبداد الذي طغى على تاريخها, وهي نهاية طبيعية لكل سلطة مستبدة, مهما بلغ نفوذها واستشرى طغيانها. مؤكدا: أن المسيحية لا تتعدى كونها معتقداً دينياً روحياً يعكس تضحية المسيح من أجل خلاص الإنسان.. وهي ليست لها علاقة بحركة السلطة في المجتمع.. وأن المسيحي يجد السلام الذي ينشده في العيش ''روحياً'' في مدينة الله, بالانتماء إلى أحد الأديرة.. والتردد على الكنيسة, بعيداً عن الدولة والسياسة, حتى يعيش أجواء مدينة الله في هذه الدنيا, تحضيراً ليعيش حياة أبدية سرمدية في مدينة الله الحقيقية في جنات عدن مع المسيح.
ولم تغز فكرة الدولة, وحركة السياسة بصفة عامة, الفكر السياسي المسيحي, من حيث إقامة مجتمع مسيحي يحكم بحكومة دينية, إلا في القرن الثالث عشر على يد الفيلسوف سانت توماس أكويناس المعروف في أدبيات الفلسفة السياسية العربية بتوما الأكويني (1225 - 1274 م.). توما الأكويني, تكلم لأول مرة عن إمكانية قيام نظام حكم مسيحي ''ديني'' يستمد شرعيته من سلطة الكنيسة, وكان متأثراً بالفلسفة الإغريقية والإسلامية وتجربة الدولة الإسلامية.
إلا أنه وإن تأخر الفكر السياسي المسيحي من استيعاب فكرة الدولة الدينية, فإن حركة المجتمع في أوروبا في العصور الوسطى سبقت في استيعاب متغير الدين سياسياً, من خلال دور الكنيسة في الحياة العامة, حتى أنها (أي الكنيسة) مثلت سلطة سياسية, بحد ذاتها, تنافس سلطة الملوك والإقطاعيين في المجتمعات الأوروبية. وكان فكر توما الأكويني, من أوائل حركات الإصلاح في داخل الكنيسة الكاثولوكية, لتهذيب سلوكها السياسي وتنظيمه, دون المساومة في مكانة الكنيسة الدينية والسياسية في المجتمع, باعتبار السلطة الزمنية (الدولة) خاضعة للسلطة الدينية (الكنيسة).
تجاذبات بين طرفين
ما كانت تستبعده المسيحية من احتمال تطور صراع بين الدولة والكنيسة حول ولاء الفرد في المجتمع المسيحي, كان قضية متفاعلة, منذ البداية, وإن كانت الكنيسة تحاول أن تجد مبرراً لفصل كلا المجالين عن بعضهما البعض, مع إبداء توجه سلبي غير طموحٍ في التدخل في الحياة السياسية. لذا, سرعان ما نشأ صراع على ولاء الفرد, في مجتمعات القرون الوسطى في أوروبا, هل هو للكنيسة, (البابا) أم للملك (الدولة). ونشأ ما عرف بنظرية السيفين.
كل طرف (الكنيسة, الدولة) يدعي أنه مفوضً لممارسة السلطة على المجتمع المسيحي من قبل الله. في الوقت الذي تكون فيه الكنيسة قوية فإنها, وإن عزفت عن ممارسة السلطة الزمنية, مباشرة, إلا أنها تفوض ممارستها للملك نيابة عنها, عن طريق مراسيم التتويج فيضع البابا التاج على رأس الملك, تفويضاً منه لممارسة الملك السلطة الزمنية نيابة عن بابا الفاتيكان (الكنيسة). وكانت أشهر مراسيم التتويج في العصور الوسطى تتويج البابا للملك شارمان ملكاً على أوروبا في بداية القرن العاشر الميلادي. وعندما يشتد الصراع بين الكنيسة والملك, ينزع بعض الملوك الأقوياء, إلى إدعاء التفويض الإلهي مباشرة من الله, رغماً عن البابا والكنيسة, مثل هنري الرابع.. وعندما يكون البابا قوياً, فإنه لا يكتفي بسلطة تتويج الملوك, فحسب... بل واللجوء إلى طردهم من الكنيسة, كعقوبة على تمردهم على الكنيسة, أو كتعبير عن عدم رضا البابا والكنيسة (سياسياً) عن الملك.
إرهاصات الفكر العلماني
بقي الأمر في النظرية السياسية الغربية حتى القرن الرابع عشر عندما حصل أول تحدٍ حقيقي لسلطة الكنيسة تجاه الدولة والمجتمع في أوروبا. كان المفكر مارسيلو البادوي (1275 - 1343) أول من نادى, في كتابه المدافع عن السلام (1324م.) بالفكر العلماني في فصل الدين عن الدولة... بل وسيطرة السلطة الزمنية للدولة على السلطة الدينية للكنيسة, بتطوير نظرية القانون الوضعي (قانون الدولة), في مواجهة القانون الإلهي (قانون الكنيسة). الأول: يفرض تفوقه بكونه يحكم سلوكيات الفرد في الحياة الدنيا وامتلاكه لأدوات ردع قسرية آنية, تفرضها الدولة.. أما الآخر, فيختص بالحياة الآخرة, والأخذ بتأجيل العقاب والثواب, إلى العالم الآخر..!
كان فكر مارسيلو البادوي أول تأصيل نظري للعلمانية, المأخوذ بها في الغرب الآن, التي تقول بفصل الدين عن الدولة, والسياسة, بصفة عامة. ثم تأصل هذا الفكر في عصر النهضة في القرن السادس عشر, على يد نيقولا ميكيافلي (1496 - 1519 م.) الذي قال, في كتابه الأمير (1513م.) بمنطق الدولة وعقلانية السياسة, بعيداً عن أية مؤثرات أخلاقية أو دينية.
إلى أن تطور الفكر الليبرالي, في القرن السابع عشر والثامن عشر على يد فلاسفة العقد الاجتماعي توماس هوبز (1588 - 1679) وجان لوك (1632 - 1704 م.) وجان جاك روسو (1712 ـ 1778), ليحدث الطلاق النهائي, غير الرجعي, بين الدولة والدين. لينشأ المجتمع المدني الحديث, في أوروبا والغرب عموماً على أسس علمانية بعيداً عن مدخلات الدين, عن طريق فصل تام بين الدولة والكنيسة... بين الجانب المادي في حياة الإنسان والجانب الروحي, لتصبح السياسة حركة إنسانية خالصة, بعيداً عن مؤثرات أية قيم دينية أو حتى أخلاقية, لا تخدم عملية إدارة الصراع من أجل السلطة, في المجتمع.
الدولة القومية الحديثة
يشكل ظهور الفكر الليبرالي أهم تطور في النظرية السياسية الغربية, منذ عصر الإغريق الأقدمين. بل أنه يشكل العودة لتراث الإغريق الفلسفي والحضاري الأصيل, في قيم وحركة الممارسة السياسية, التي تأثرت سلباً, بفكر سقراط وأفلاطون, ولم تنفع محاولات أرسطو الفكرية والفلسفية في إحيائها, لتغرق أوروبا, والعالم الغربي عموماً, لما يقرب من ألفي عام في متاهات الخلاف بين ما هو ديني وما هو سياسي.. بين ما هو ميتافيزيقي وما هو واقعي.. بين حاجات الروح ورغبات الجسد, ولما يقرب من خمسة عشر قرناً من الصراع بين الدولة والكنيسة.
بعد ضعف الكنيسة وتجرؤ الملوك والنبلاء الإقطاعيين على سلطتها.. وبعد التطور الهائل الذي شهدته أوروبا, بداية من القرن الخامس عشر في ما سمي بعصر النهضة والتنوير, في جميع المجالات, وتوالت الاكتشافات الجغرافية والاختراعات العلمية.. واتسع نطاق الدولة ونفوذها.. وتحولت حركة الصراع في المجتمعات الأوروبية لتكون بين فعاليات سياسية (الملوك والنبلاء والإقطاعيين.. وبعد ذلك الملك, والبرلمان), بعد أن كانت بين الكنيسة والدولة, ظهرت الحاجة لأساس جديد للشرعية السياسية, تؤسس عليه السلطة السياسية في المجتمعات الأوروبية شرعيتها السياسية, بعيداً عن هيمنة الكنيسة.
مبدأ السيادة الشعبية
وكان الإنجاز الأساسي للفكر الليبرالي, في تطور النظرية السياسية, في محاولة تطوير ما سمي بمبدأ السيادة الشعبية, وتأسيس شرعية الملوك عليها, بعيداً عن المصدر التقليدي ''الكنسي'' الحق الإلهي في الحكم.
العقد الاجتماعي, الذي أنشأ المجتمع السياسي (الدولة), عند فلاسفة العقد الاجتماعي هو بين الجماعة السياسية, الحاكم ليس طرفاً فيه. مصدر الشرعية الأساسي هو الإرادة العامة للجماعة السياسية (General Well), التي تُوجِد السلطة, وتراقبها, وتحدد مصيرها, في كل الأحوال خيارات الجماعة السياسية, كما تتفاعل في حركة انتخاب رموز مؤسسات السلطة المختلفة.
كل السلطات التي يتمتع بها الحاكم (تمارسها الدولة) إنما هي تفويض من قبل الجماعة السياسية لممارسة السلطة (الحكم) نيابة عنها, وليست أصالة عن الحاكم, إطلاقاً. ولذلك فإن حركة السلطة ومصير بقائها في الحكم, يتوقف على إرادة الجماعة السياسية, وليس على إمكانات الحاكم, سواء كانت حقيقية أو ميتافيزيقية. الجماعة السياسية (الشعب) هو الذي يأتي بالسلطة, وهو الذي بيده مصيرها, إن شاء أبقاها.. وإن شاء أزالها واستبدلها بسلطة أخرى تعكس خياراته السياسية وتفضيلاته, وليس إمكانات السلطة الذاتية.
من ناحية أخرى, وتأكيداً على مبدأ محدودية صلاحيات السلطة ومرجعيتها للإرادة العامة للجماعة السياسية, نشأت خارج حركة السلطة, ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني المعاصر. هناك شك متأصل من حركة السلطة وفعاليات مؤسساتها, في النظرية والممارسة الديموقراطية. السلطة لابد أن تكون تحت رقابة الجماعة السياسية, بصورة دائمة ومستمرة, حتى لا تنحرف السلطة عن ما تريده الجماعة السياسية, منها.
وقد أنشأت النظرية الليبرالية آليات للتأكد من حركة مؤسسات السلطة السياسية, إما عن طريق تحديد العلاقة بين هذه السلطات, بافتراض الحركية الصراعية التنافسية لمؤسسات السلطة (الفصل بين السلطات).. مع تطوير مؤسسات غير رسمية, في داخل النظام السياسي تتفاعل في جانب المدخلات منه, للتأثير على حركة السلطة, وعدم انحرافها عن مسارها الذي حددته الإرادة العامة للجماعة السياسية. من مؤسسات النظام السياسي غير الرسمية هذه, التي تتشكل منها مؤسسات المجتمع المدني المعاصر: الأحزاب السياسية, وجماعات الضغط, ووسائل الاتصال المختلفة التي تبلور الرأي العام السائد في الجماعة السياسية, وتأتي في مقدمتها الصحافة.
تلك كانت مسيرة السلطة في تاريخ تطور تجربة الدولة في النظرية والممارسة الغربية, ترى ما هو وضع الدولة.. وحركة السلطة في تراث النظرية والممارسة الإسلامية.. وكيف تختلف التجربتان عن بعضهما البعض, من حيث علاقة الدين بمتغير السلطة.. وهل نجحت تجارب الأخذ بقيم النظرية والممارسة الغربية في بعض المجتمعات الإسلامية, جرياً وراء الأخذ بأسباب معالم التنمية السياسية المأخوذ بها في الغرب, بدعوة المعاصرة والتحديث.. أم هنــاك عـقبــات أســـاسيــة تجـــابه تطـــور نظــرية سياسية إسلامية, ومن ثم ممارسة سياسية ديــمــوقـــراطــيـة, مـثــل تلك التي تتفــاعـــل في الغرب.. أو قريباً منها. هذا ما ســوف نتــطرق إلـيــه فــي الجــزء الثــانــي من هذه الدراسة.


م.ن