منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#48316
تحتل المملكة العربية السعودية مكانة مهمة في التنظيم الدولي الحديــث. فعلى الصعيد الإقليمي كانت المملكة من بين البلدان القليلة التي أسهمت في تأسيس جامعة الدول العربية مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. كما أنها سعت بعد دعوة العاهل المغربي الملك الحسن الثاني إلى عقد مؤتمر إسلامي لتدارس نتائج إحراق المسجد الأقصى سنة 1969م إلى التمسك بإضفاء صبغة الدوام والاستمرارية على هذه المبادرة ، وذلك باستضافة مقر منظمة المؤتمر الإسلامي ابتداء من سنة 1972م في جدة. وفي إطار منظومة الأمم المتحدة كانت المملكة العربية السعودية من البلدان العربية القليلة التي وقعت ميثاق سان فرانسيسكو الذي تأسست بمقتضاه المنظمة العالمية.
وبغض النظر عن الدور الذي قامت به المملكة في كل المنظمات المتخصصة دون استثناء، فإنها أعطت قضية التنمية المستديمة لبلدان الجنوب مركزاً أولوياً في سياستها الخارجية، ولهذه الغاية فقد ركزت جهودها على دعم المنظمات الاقتصادية القائمة، ومنها تلك التي أفرزتها اتفاقية بروتن وودز، وخاصة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي للإنشاء والتنمية. وقد استطاعت المملكة بفضل دورها الخاص والمؤثر داخل المنظمتين أن تكون الدولة الوحيدة في العالم العربي والإسلامي و الثالثي، التي تحتل مركز العضوية الدائمة داخل المؤسستين، وذلك من خلال مجلسي إدارة الصندوق والبنك.
وقد مكنها هذا الدور بامتياز من أن تكون الناطق باسم بلدان الجنوب ، والمدافع عنها داخل المنتديات الدولية ، وهي إستراتيجية أثبتت نجاحها من خلال التحول الكبير في دور كل من صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي التي أصبحت تركز في مختلف أنشطتها على قضايا التنمية المستديمة لبلدان الجنوب.
انطلاقا من هذا المنظور سوف نخصص المحور الأول من هذا البحث للدور الذي أدته المملكة في إطار التنظيم الدولي من أجل المحافظة على السلام العالمي على حين نركز ضمن المحور الثاني على دورها داخل التنظيمات الاقتصادية ، وذلك لأهداف تحقيق التنمية والرخاء في بلدان الجنوب.

المبحث الأول : الإسهام في التنظيم الدولي لأجل السلام:
سوف تحاول هذه الورقة أن تتناول ضمن المحور الأول الدور السعودي ضمن التنظيمات الإقليمية ، على حين تتناول في المحور الثاني هذا الدور من خلال منظومة الأمم المتحدة.

أولاً : الدور السعودي من خلال التنظيمات الإقليمية:
تبدو علاقات المملكة في محيطها الإقليمي والجهوي وكأنها قطب الرحى لمجموعة من الدوائر المرتبطة بعضها ببعض انطلاقا من الإطار المحدود في مجلس التعاون لدول الخليج العربية إلى الجامعة العربية وانتهاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي، ففي كل من هذه الدوائر أدت المملكة دوراً حاسماً في عملية التأسيس، كما شكلت ضمانة أساسية لاستمرار تلك المنظمات في القيام بدورها والنجاح في مهماتها.
وترتبط هذه المكانة بالأساس بالدور الذي أدته المملكة على مر التاريخ لكونها حارساً أميناً للحرمين الشريفين ، والجهود المثلى التي بذلتها في خدمة حجاج بيت الله سواء على مستوى إعداد البنيات الضرورية للاستقبال ، أو توفير كل الخدمات مما أصبح مصدر تنويه وإعجاب في كل بقاع العالم الإسلامي. وقد أضفت مسؤولية حراسة الحرمين الشريفين وخدمتهما على المملكة شعوراً بالثقة والاطمئنان لدى كل أطراف الجوار الإقليمي سواء منطقة الخليج أم مختلف بقاع العالمين العربي والإسلامي.
وانطلاقا من هذا الموقع الاستثنائي الذي دعمته حكمة القيادة السعودية وبعد رؤيتها للمشكلات الإقليمية والدولية ، فقد أصبحت المملكة تؤدي دور المرجح الإقليمي من أجل الحفاظ على السلام والاستقرار ، بل وتمارس بشأن الكثير من القضايا دور الوسيط الناجح في تحقيق التسوية السلمية للنزاعات ، وهي وضعية أصبحت معها الدبلوماسية السعودية تتمتع بالكثير من المصداقية في مختلف المنتديات.
وقد دعم هذا المركز بالتأكيد توافر المملكة على ما يناهز 25 بالمائة من الاحتياطي النفطي العالمي ، وتوافرها منذ تاريخ الصدمة النفطية لسنة 1973م على فائض مهم من عائدات النفط وسيولة نقدية أعطتها الفرصة المناسبة لدعم مشاريعها واقتراحاتها بالوسائل المادية الكفيلة بوصولها إلى حيز التنفيذ.
وهكذا وفي الإطار الخليجي فقد أسهمت المملكة بشكل مؤثر في جمع كل من دول البحرين والكويت وقطر وعمان والإمارات لإنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي قامت الأطراف المتعاقدة بتوقيع دستوره بتاريخ 22 رجب 1401هـ / 25/5/1981م.
وتستضيف المملكة مقر الأمانة العامة لهذه المنظمة الفتية (1) إلا أنها وعلى الرغم من أهميتها لكونها أكبر دولة داخل المنظمة إلا أن العلاقات بين الأعضاء منظمة بشكل ديمقراطي حيث يتناوب رئاسة المجلس الأعلى الذي يضم رؤساء الدول الست كل من الأعضاء، كما أن القرارات تتخذ بأغلبية الأصوات.
ويمارس المجلس الأعلى بحكم أهميته دور لجنة تسوية المنازعات حيث أثبتت المملكة كلما تعلق الأمر بنزاع حدودي أو تضارب في المصالح بين أعضاء المنظمة قدرتها على القيام بدور المرجح والحافظ للتوازن ، ومن المؤكد أن ممارسة هذا الدور بامتياز أحدثت آثارا محمودة على تسر يع وتيرة الاندماج داخل المنظمة وعلى تسوية كل المشكلات القائمة بين أعضائها بشكل سلمي وبفعالية يندر توافرها في منظمات إقليمية مماثلة.
وفي الإطار الأوسع كانت المملكة من بين البلدان العربية المؤسسة لمنظمة الجامعة العربية وذلك في سنة 1365هـ/ 1945م(2)، وإذا كان الهدف الأساسي من تأسيس هذه المنظمة هو تعزيز التعاون والوحدة بين العرب والدفاع عن مصالحهم المشتركة إلا أنها لم تتمكن بشكل مؤثر من تحقيق الأهداف التـي أنشئت من أجلها، ويرجع الكثيرون هذا التقهقر إلى البنية المؤسسية للمنظمة ونظام التصويت فيها الذي يرتكز على الإجماع بدل الأغلبية ، وكذلك إلى عدم الانضباط في عقد مؤتمرات القمة التي فقدت صبغتها الدورية، وكذلك إلى عدم الالتزام بالمقررات والتوصيات.
وقد كان للهزات التي عرفتها المنظمة أثر خطير علي حسن أدائها ، وخاصة بعد إقصاء مصر من عضويتها إثر توقيع اتفاقيات كامب ديفيد ، وعدم تحقيق أي نجاح في تعديل الميثاق وإعادة النظر في البناء المؤسسي.
وعلى الرغم من ذلك فقد بذلت المملكة داخل منظمة الجامعة العربية دوراً محموداً في التقريب بين وجهات نظر مختلف البلدان العربية ، وذلك من أجل حقن الدماء وتفادي تدهور العلاقات نحو حافة الحرب. وهكذا دأبت على بذل وساطتها ومساعيها الحميدة لتسوية المنازعات بين بلدان الخليج ، كما ثابرت بوصفها عضواً في الجامعة للعمل على تحسين الوضع في لبنان بعد أن أصبح غارقاً في الحرب الأهلية ، وبذلت جهوداً مشكورة في تقريب الشقة بين المسلمين والنصارى، أما القضية الفلسطينية وهي أعقد مشكلات العالم العربي والمجتمع الدولي على الإطلاق فقد حاولت المملكة من خلال مؤتمرات القمة ومؤتمرات وزراء الخارجية العرب ومختلف اللجان وعلى رأسها القمة السباعية أن توحد أصوات المجموعة العربية بخصوص التوصل إلى حل عادل ومنصف للنزاع متنكبة طريق الحكمة والواقعية، وهكذا أسهمت في إقرار اعتراف عربي مطلق بمنظمة التحرير الفلسطينية وعدها الممثل الوحيد والمشروع للشعب الفلسطيني ، كما أن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد أطلق مبادرته الشهيرة منذ أوائل الثمانينيات التي أصبحت تعرف بمشروع فهد للتسوية الشاملة للنزاع.
وتحاول المملكة في علاقاتها بباقي البلدان العربية داخل الجامعة أن تركز على ضرورة الالتزام بمجموعة من قواعد حسن السلوك التي تتمثل أساساً فيما يأتي:
1) احترام السيادة والاستقلال والسلامة الإقليمية لكل من الدول الأعضاء.
2) احترام السيادة على الموارد الطبعية والاقتصادية لكل دولة.
3) الالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة.
4) تسوية المشكلات الثنائية بين الدول العربية بالوسائل السلمية.
5) احترام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وميثاق الجامعة ، وذلك لأن احترام المواثيق هو أسلم الطرق لضمان الأمن القومي العربي (3).

وتعد المملكة التشبث بهذه المبادئ شرطاً أساسياً للحفاظ على كيان الأمة العربية وتحقيق تماسكها وصيانة مصالحها وأهدافها المشتركة عادة أن تحقيق التضامن العربي وسيلة أساسية لتحقيق الاستقرار في العلاقات العربية ، وهو في الوقت نفسه سلاح مؤثر لتحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط.
فالمملكة ترى أن الجامعة يجب أن تكون هي الإطار المبلور للتضامن العربي بخصوص النزاع مع إسرائيل، فالواقع الراهن ليس إلا نتيجة حتمية لممارسات الحكومة الإسرائيلية التي تتناقض مع أسس عملية السلام ومبادئها ، وتتنافى مع الالتزامات التي نصت عليها الاتفاقات المبرمة في إطار هذه العملية ، عادة أن إخلال إسرائيل بهذه المبــــادئ والأسس وتراجعهــا عن الالتزامات والتعهدات والاتفاقات التي توصل إليها في إطار عملية السلام أو المماطلة في تنفيذها يعرض أمن المنطقة لمخاطر وتداعيات تعود بها إلى دوامة التوتر والعنف ، وهو ما تتحمل الحكومة الإسرائيلية وحدها المسؤولية الكاملة عنه.
إن المملكة ترى في هذا الإطار أن الوسيلة الوحيدة لتجنب احتمال الوقوع في آفـة الحرب هي الرجوع إلى الأسس والمبادئ التي جرى الاتفاق عليها في مؤتمر مدريد وخاصة مبدأ الأرض مقابل السلام ، إضافة إلى الوفاء بالتعهدات والالتزامات المنصوص عليها في اتفاقيات أسلو. وأن الأمن الذي تسعى إليه إسرائيل لا يمكن بلوغه إلا في إطار سلام شامل وعادل يكفل لجميع الأطراف الأمن المتوازن والمتكامل وتحقيق الاستقرار والنماء لجميع شعوب المنطقة (4).
وهذا الموقف الواضح للملكة من قضية السلام هو في الواقع رد حاسم على كل الادعاءات التي كانت ترى أنها تمارس سياسة رفض مطلق تجاه قضية السلام مع إسرائيل في المنطقية العربية ، فالمملكة كانت على العكس من ذلك من أول الداعين في إطار مبادرة الملك فهد الشهيرة إلى سلام عادل لجميع بلدان المنطقة، وهو ما يعني أن إمكانية السلام مع إسرائيل تبقى مقرونة بشرط أساسي يتمثل في إعادة الأرض العربية المحتلة ، وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه الكامل في تقرير المصير ، وبناء دولته المستقلة التي هي عضو كامل داخل الجامعة العربية(5).
كما أن المملكة بذلت في إطار الجامعة العربية جهوداً مشكورة من أجل نزع جميع أسلحة الدمار الشامل من منطقة الشرق الأوسط ، وبفضل هذه الجهود أصدرت الجامعة في دورتها 101 قراراً يدعو إلى جعل منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة بمختلف أنواعها النووية والكيميائية والبيولوجية ، وهذا الموقف ليس إلا تذكيراً بالمخاطر المحدقة بالمنطقة نتيجة احتكار إسرائيل للسلاح النووي ، وسعي بعض البلدان الأخرى لامتلاك أسلحة بيولوجية وكيماوية من أجل تحقيق الردع وتحدي التفوق الإسرائيلي.
أما بالنسبة للعالم الإسلامي فالمملكة العربية السعودية ستبقى أبد الدهر ذلك المركز الديني والحضاري الذي تهفو إليه قلوب المسلمين من كل مكان ، وبالإضافة إلى ذلك فقد استضافت المملكة مقر منظمة المؤتمر الإسلامي بمدينة جدة ابتداء من سنة 1972م بعد أن كانت من أول المشاركين في مؤتمر الرباط الإسلامي لسنة 1969م، وبعد أن كانت من أول المشاركين في تأسيس المنظمة الجديدة ودعمها .
وتقوم المملكة داخل المنظمة الإسلامية بدور أساسي في تقريب وجهات النظر بين الجناحين الشرقي والغربي للعالم الإسلامي ، كما أنها تسهم بشكل مؤثر في نشاط لجنة القدس التي يرأسها العاهل المغربي الملك الحسن الثاني وهي لجنة عقدت حتى الآن 17 اجتماعاً ، وأصدرت العديد من التوصيات بما فيها إنشاء صندوق القدس الذي يشكل خطوة عملية رائدة لمنع التهويد ودعم المقدسيين في جهودهم من أجل الحفاظ على عروبة المدينة المقدسة وهويتها الإسلامية.

ثانياً : الدور السعودي فـي إطار منظمة الأمم المتحدة:
منذ أكثر من خمسين سنة مضت قام المرحوم الملك فيصل ومعه أخوه الملك فهد برحلة إلى نيويورك حاملين توجيهات الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة ، وذلك بقصد المشاركة في تأسيس المنظمة العالمية ، وهكذا وبعد أن نجح الملك عبد العزيز في إعادة توحيد أرجاء المملكة وفق مبادئ الشرعية الإسلامية المرتكزة على العدالة والسلام والمساواة والإخاء بين الناس بادر إلى المشاركة في تأسيس أكبر هيئة دولية تسعى إلى إرساء المبادئ نفسها على نطاق عالمي.
ولأنها واحدة من الخمسين دولة الموقعة على ميثاق الأمم المتحدة فقد أسهمت المملكة في 3 مجالات أساسية من ميزانية الأمم المتحدة :
1) الميزانية العامة للمنظمة.
2) في مجال قوات حفظ السلام الدولي.
3) ميزانيات المنظمات المتخصصة. (6)
وهذه المساهمة لم تكن مادية فحسب بل كانت مقرونة بدور قيادي أطره الدبلوماسيون ورجال الدولة وعلى رأسهم وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل. ويمكن القول بكل اقتناع أن المملكة انتهجت إستراتيجية شمولية تعتمد مجموعة من المبادئ الأساسية التي تشكل ثوابت مركزية في سياستها الخارجية ، وذلك من أجل تحقيق عالم أفضل يسوده السلام والاستقرار.
ويمكن اختصار تلك المبادئ الرئيسة لإستراتيجية المملكة داخل الأمم المتحدة في ميدان السلام فيما يأتي:
1) احترام سيادة الدول الأعضاء:
ترى المملكة منذ مشاركتها في تأسيس المنظمة العالمية أن العلاقات بين الدول الأعضاء يجب أن تكون مطبوعة بالاحترام المتبادل والتعاون في إطار المبادئ التي يضمنها ميثاق الأمم المتحدة.
ويرتبط بهذا المبدأ نبذ استعمال القوة في العلاقات الدولية ، ورفض سياسة العدوان والاعتداءات المسلحة ، أو تحريض العصابات والجماعات الانفصالية كما ترى أن احترام هذه المبادئ هو الوسيلة المثلى لضمان الأمن والاستقرار في المجتمع الدولي. وقد أكد وزير الخارجية السعودي هذا الموقف في العديد من الكلمات التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ، فقد أكد سموه " أن أسس ودعائم نظامنا الدولي الراهن تستمد شرعيتها وتستلهم قوتها من ذات المبادئ والمثل التي يستند عليها ميثاق الأمم المتحدة ومفاهيم الشرعية الدولية ومن جملتها وأهمها احترام سيادة الدول واستقلالها، وحرمة حدودها الدولية وتكريس قيم العدل والمساواة بين الدول ، ونبذ استخدام القوة في حل المنازعات"(7).
وفي الواقع فإن التمسك بهذه المبادئ ينبع في الأساس من الإيمان الراسخ للمملكة بمبادئ الشريعـة الإسلامية السمحاء التي تقوم على نبذ الفتنة وإشاعة السلام والاستقرار بين بني البشر.
2) تسوية المنازعات بالطرق السلمية:
لقد دأبت المملكة في سياستها الخارجية وباستمرار على نبذ اللجوء إلى القوة أو دعم أعمال العدوان عادة أن كل المنازعات الدولية يجب أن تخضع للتسوية عن طريق الوسائل السلمية المنصوص عليها في المادة 33 من ميثاق المنظمة العالمية والمتمثلة في الوساطة والتوفيق والتحكيم واللجوء إلى القضاء الدولي.
لكن المملكة وبقدر ما تحبذ تسوية المنازعات بالوسائل السلمية إلا أنها ترى أن المجتمع الدولي يجب أن يتوافر على الإرادة السياسية الكاملة لتمكين المنظمة العالمية من القيام بدورها في تطبيق مبادئ ميثاقها ، وقد أكد وزير الخارجية السعودي هذا المبدأ في الكثير من المناسبات . ففي كلمة المملكة أمام الجمعية العامة في دورتها الثانية والخمسين أشار إلى :" أن مقدرة منظمتنا على معالجة الأزمات والمشاكل الدولية تظل دوماً مرتبطة بمدى توفر الإرادة السياسية لوضع مبادئها وميثاقها موضع التطبيق العملي ، وكل ما نأمله أن تشهد الحقبة القادمة من تاريخ هذه المنظمة حرصاً مستمراً من قبل الدول الأعضاء على ضمان تحقيق هذه الغاية التي يتوقف عليها مستقبل الأمم المتحدة الذي هو مستقبلنا جميعاً "(8).
3) تطبيق مبادئ الشرعية الدولية لتكون وسيلة لتحقيق السلام:
ترى المملكة أنه لا يمكن لمنظمة الأمم المتحدة أن تحقق النجاح المنشود في تحقيق السلام إلا إذا عملت على نقل المبادئ المضمنة في قراراتها وتوصياتها من إطارها النظري إلى الواقع العملي ، فعدم احترام القرارات والتوصيات يترتب عليه شعور بعدم المبالاة وعدم احترام ا لمنظمة بجميع مؤسساتها.
وبغض النظر عن المظاهر المتعددة لعدم احترام مؤسسة الأمم المتحدة وقراراتها ، فإن المملكة ترى أن إسرائيل هي النموذج الأكثر عدوانية في المجتمع الدولي ، بل الأكثر مماطلة في تطبيق قرارات الأمم المتحدة وتوصياتها ، فالمملكة تؤكد " أن الأمن الذي تسعى إليه إسرائيل وتتمناه يمكن أن تحصل عليه إذا ما تحقق السلام العادل والشامل في المنطقة وفق مبادئ الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن (القرارات 242 و338 و425) ومبدأ الأرض مقابل السلام…" (9).
كما أن المملكة ترى أن " السلام القائم على الشرعية الدولية ومرجعية مدريد هو المدخــــل السليم لتحقيق الأمن لإسرائيل وجيرانهــــا ، وهو كذلك المدخل الملائم لتهيئة الظروف الملائمـــة لبلوغ أي تطلعات وأهداف تتعلق بالتعـــــاون الإقليمي بين دول المنطقة "(10).
4 ) الإلحاح على النزع الكامل لأسلحة الدمار الشامل:
ترى المملكة أن كل جهود الأمم المتحدة لتحقيق السلام ستبقى مشلولة إذا استمر السباق المحموم بين أعضاء المجتمع الدولي من أجل امتلاك أسلحة الدمار الشامل بمختلف أنواعها ،بما فيها الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية.
وهكذا شاركت المملكة بشكل مؤثر في مؤتمر نيويورك الذي انعقد سنة 1995م من أجل النظر في مستقبل معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية ، كما أسهمت في الجهود المبذولة للتوصل إلى اتفاقية شاملة لمنع التجارب النووية.
وترى المملكة في هذا المجال أن احتكار إسرائيل للسلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط بالذات يعد نذير شؤم بالنسبة لمستقبل السلام في المنطقة ، بل وحافزاً يدفع باقي الدول نحو تحطيم هذا الاحتكار أو امتلاك أسلحة دمار بديلة ، ولتفادي الوقوع في مثل هذا الوضع المنذر بأوخم العواقب فإن المملكة " تتمسك بضرورة زيادة فعالية معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية ، وذلك عن طريق تفعيل نظام الضمانات التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية وجعلها ذات صبغة عالمية، وضرورة وضع الضوابط والمعايير التي تساعد على التقدم المنشود في مجالات نزع أسلحة الدمار الشامل انسجاما مع قرار الأمم المتحدة رقم 1 الصادر سنة 1946م " (11).
وبالتأكيد فإن إحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط يرتبط بمدى خضوع إسرائيل للإرادة الدولية وقبولها هي الأخرى الانضمام إلى اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية لكونها الدولة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط التي لم تصبح بعد وحتى تاريخه طرفاً في المعاهدة ، والدولة الوحيدة التي تمتلك مقومات التفجير النووي.
5) التصدي للإرهاب الدولي:
لقد تميز موقف المملكة العربية السعودية في هذا المجال بالإدانة الصريحة والمطلقة لكل أشكال الممارسات الإرهابية ، وهو موقف عُبر عنه بوضوح أمام مؤسسات الأمم المتحدة ، وضمن البيانات الصادرة عن مجلس التعاون لدول الخليج العربي ودول إعلان دمشق وجامعة الدول العربية.
وينطلق الموقف السعودي في هذا المجال من كون " التطرف والعنف والإرهاب ظواهر عالمية غير مقصورة على شعب أو عرق أو ملة معينة ، وبالنظر لعالمية هذه الظاهرة وشموليتها، فإن أمر التصدي لها ومكافحتها يستدعي جهوداً دولية مشتركة يكون التركيز فيها على دوافع وأسباب هذه الظاهرة والنتائج المترتبة عليها" (12).
وتتضح حكمة هذا الموقف السعودي من خلال التركيز على عنصرين أساسيين :
أ‌) الإلحاح على الصبغة العالمية والشمولية للظاهرة الإرهابية ، وهو ما يعني رفض المزاعم الغربية التي تجعل من هذه الظاهرة خصوصية تطبع البلدان العربية والإسلامية على وجه الخصوص.
ب‌) دعوة المجتمع الدولي إلى ضرورة البحث في دوافع الظاهرة وأسبابها دون الاكتفاء بالتركيز على الردع والعقاب ، فمعالجة الأسباب والدوافع من شأنها أن تركز على مظاهر الظلم والقهر التي تعاني منها فئات واسعة في عالم الجنوب ، كما يمكن أن تركز على الممارسات العدوانية لبعض الأنظمة المتسلطة ، كما هو الشأن فيما تمارسه إسرائيل في حق المواطنين العرب في فلسطين وباقي الأراضي المحتلة أو الصرب ضد مسلمي البوسنة والهرسك.
ج) العمل من أجل تضافر الجهود في إطار الأمم المتحدة لتعقب مجرمي الحرب ومحاكمتهم جزاء لما يقترفونه من جرائم ضد الإنسانية ، بل والعمل على تأسيس محكمة دولية تابعة للمنظمة العالمية مختصة بالنظر في هذه الجرائم ومعاقبتها.
6) دعم التدخل الإنساني بوساطة الأمم المتحدة:
إن المملكة العربية السعودية واعية كل الوعي بالرهانات الجديدة التي أصبح يفرضها النظام العالمي الجديد ، والتي أصبح العالم نتيجة لتداعياتها شبيهاً بالقرية الشمولية ساعياً في إطار النموذج الجديد للعولمة نحو توحيد الضوابط بخصوص قضايا البيئة وحقوق الإنسان.
وهكذا فالمملكة ترى أن من واجب المجتمع الدولي أن يولي العناية الكاملة بشروط تحقيق السلام والاستقرار في شبه القارة الهندية ودعم مبدأ تقرير المصير بالنسبة لمشكلة جامو و كشمير . وكذلك مساعدة الشعب الصومالي على تشكيل سلطة وطنية تمثل مختلف فئات الشعب.
كما أن المملكة بذلت جهوداً مضنية لتحقيق المصالحة الوطنية في أفغانستان ، كما ترى أن على الأمم المتحدة أن تمارس دورها في تحقيق أهداف الشعب الأفغاني في السلام والاستقرار الداخلي ، كما ترى أن " ما تعانيه العديد من الدول في القارة الإفريقية من ويلات الحروب الداخلية والصراعات القبلية والنزاعات الانفصالية مما نجمت عنه أوضاع إنسانية بالغة الصعوبة يستدعي منا جميعاً جهداً متصلاً لاحتوائها والتخفيف من آثارها ونتائجها" (13).
ومن ثم فالمملكة ترى أن واجب التدخل الإنساني هو واجب جماعي لا تحتكره أي من الدول على انفراد بل تمارسه المجموعة الدولية بوساطة الأمم المتحدة سواء تعلق الأمر بفتح مسالك الاستعجال الإنساني كما تنص على ذلك قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن أم بتطبيق مبدأ الاحتياطية الذي أصبح يعطي الأمم المتحدة حق القيام بالتدخل انطلاقاً من كون الأوضاع الإنسانية تجاوزت الحدود الوطنية ، وأصبحت شاغلاً رئيساً لكل أعضاء المجتمع الدولي خاصة وأن تدهور تلك الأوضاع يمكن أن يسهم بشكل خطير في تهديد السلام الإقليمي والعالمي.
7) تفعيل دور المنظمة ووضع ميثاقها موضع التطبيق:
لقد كانت المملكة دائماً ومنذ مشاركتها في عملية التأسيس الأولي للمنظمة في سان فرانسيسكو سنة 1945م حريصة على دعم كل الجهود الهادفة إلى إضفاء مزيد من الفعالية على دور المنظمة وتحسين أدائها و خاصة منها الجمعية العامة التي تعد الجهاز الديمقراطي للمنظمة.
وهكذا دعمت منذ سنة 1950م قرار " الاتحاد من أجل السلام " الذي أعطى الجمعية العامة فرصة التصدي لحالات العدوان واتخاذ كل التدابير الضرورية بما فيها استعمال القوة المسلحة إذا فشل مجلس الأمن في القيام بدوره، كما أنها أسهمت منذ سنة 1965م في إنشاء مجموعة من اللجان الأممية الهادفة إلى تفعيل دور الأمم المتحدة أو إعادة النظر في الميثاق.
وترى المملكة الآن أن من واجب الأمم المتحدة أن تتكيف مع التحديات التي يفرضها النظام العالمـي الجديد. ولذلك فقد دعمت الاقتراحات التي قدمها كل من الأمين العام السابق بطرس غالي ضمن تقريره المعروف بـ " أجندة السلام" ، وكذلك الأمين العام الحالي كوفي عنان الهادفة إلى إعادة هيكلة مؤسسات الأمم المتحـدة وأجهزتها الإدارية.
وترى المملكة أن هــذا التغيير لا ينبغي أن يقتصر على النصوص بل ينبــغي أن يتجه " إلي تفعيل دور المنظمة والعمل على وضــــع بنود ميثاقهـــا موضع التطبــــيق لمواجهة بؤر التوتر المزمنة والمنتشرة والتي لا تزال تهدد الأمن والاستقرار في ربوع عالمنا المضطرب"(14).
وخلاصة القول أن مواقف المملكة داخل الأمم المتحدة لم تكن مضطربة أو مطبوعة بالمجاملة أو الخضوع للضغوط والمزايدات ، بل كانت دائماً مواقف مبدئية ترتكز على مجموعة من الثوابت المستمدة من أسس الشريعة الإسلامية السمحاء ومبادئها .

كما أن تلك المواقف لم تكن لتعبر عن نفسها بشكل منفرد ، بل كانت دائماً تتميز بترسيخ التضامن والتعاون ضمن الدوائر المؤطرة لسلوكها الإقليمي والقاري ، ولهذا السبب نفسه فقد كان الخطاب السعودي إلى الأمم المتحدة معبراً أمنياً وصادقاً في آن واحد عن آمال كل أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وتطلعاتهم ، بل وعن تطلعات باقي بلدان الجنوب.

المبحث الثاني: دور المملكة داخل التنظيم الدولي خدمة لتنمية بلدان الجنوب ورخائها:
إذا كانت المملكة العربية السعودية قد أسهمت منذ أكثر من خمسين سنة من أجل تحقيق الاستقرار والسلم في المجتمع الدولي من خلال كل المنظمات التي أسهمت في تأسيسها ورعايتها ، كما تابعنا ذلك ضمن المبحث الأول ، فإنها أسهمت بأضعاف ذلك في مجالات تحقيق التنمية المستديمة لبلدان الجنوب خاصة منذ الطفرة النفطية مع بداية السبعينيات.
وهكذا يظهر البرنامج السعودي للمعونات الخارجية أن حجم هذه المساعدة بلغ خلال العقدين الماضيين ما يفوق سبعين ملياراً وستمائة مليون دولار استفادت منها اثنان وسبعون دولة نامية (15).
وسوف نكتفي ضمن هذا المبحث بالتعرض ضمن محور أول إلى جهود المملكة من أجل تحقيق التنمية في الإطار الإقليمي ، على حين نركز ضمن المحور الثاني على الدور الذي لعبته في إطار التنظيم العالمي وخاصة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي.

أولاً : دور المملكة في إطار التنظيمات الإقليمـية:
تبرز أهمية الدور الذي أدته المملكة في الميدان الاقتصادي إقليمياً ضمن العديد من الدوائر التي تنطلق من الحركية الاندماجية التي أضفتها على العلاقات بين دول الجوار في إطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية إلى الرغبة الأكيدة في تفعيل التعاون العربي من خلال إنشاء منطقة تبادل حر وسوق عربية شاملة وأخيراً إلى توجه يرمي إلى تأكيد روح التضامن الإسلامي من خلال العديد من المؤسسات النشيطة وعلى رأسها البنك الإسلامي للتنمية.
وهكذا كانت المملكة حريصة دائماً على تحقيق أعلى درجات التعاون والانسجام في العلاقات بين بلدان الخليج العربي، وحرصت تباعاً على إيفاد البعثات من أجل التوصل إلى صيغة متكاملة لبناء المستقبل (16).
كما أن المملكة أدت دوراً حاسماً في إخراج مجلس التعاون لدول الخليج العربية إلى الوجود عندما وقع رؤساء الدول دستور المنظمة الجديدة. وبغض النظر عن الجوانب السياسية لعمل المنظمة الجديدة فإنها يمكن أن تدرج ضمن المنظمات الإقليمية الاندماجية التي تعطي الأولوية للنشاط الاقتصادي؛ إذ كان من النتائج المباشرة لهذا التأسيس ارتفاع هائل في حجم التبادل التجاري بين المملكة وباقي أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية .
كما أن المجلس وبدعم من المملكة قام في سنة 1403هـ/1983م بتأسيس مؤسسة الاستثمار الخليجي التي تقوم بالاستثمار في طائفة عريضة من المشروعات الصناعية والزراعية في بلدان مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
ولا يشك أحد الآن في أن مجلس التعاون لدول الخليج العربية خطا خطوة جريئة في اتجاه التكامل الإقليمي ، كما أنه نجح في أعماله بصورة تبعث على الإعجاب، ولم يكن ذلك إلا نتيجة حتمية للتجانس بين الأعضاء ، والتزامهم بأصول دينهم وحضارتهم، وكذلك بفضل مصالحهم المشتركة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأخيراً بفضل الدور الممتاز الذي أدته المملكة العربية السعودية بصفتها الحافظ للتوازن والمرجح كلما دعت ضرورات الانسجام والاستمرار إلى ممارسة ذلك الدور.
وفي إطار الجامعة العربية حرصت المملكة دائماً على تجاوز حالة التجميد التي تعاني منها المؤسسات الاقتصادية العربية ، فدعمت بشكل قوي كل المنظمات الفرعية العربية، ومن بينها وعلى سبيل المثال فقط الهيئة العربية للاستثمار والتنمية في الميدان الزراعي، التي تهدف أساساً إلى المساعدة على تحقيق التنمية الزراعية للعالم العربي، وكذلك الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي الذي يعمل على تمويل مشاريع التنمية الاقتصادية في البلدان العربية .
كما أدت المملكة دوراً أساسياً ضمن اللجان ذات الطبيعة الاقتصادية التابعة للجامعة، وخاصة منها لجنة الخبراء العرب في التعاون ، وكذلك النفط واللجنة الاقتصادية واللجنة الاجتماعية. كما أدت دوراً أساسياً في مداولات المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للجامعة. ونظراً للتأخير الكبير في إنجاز استحقاقات الاندماج العربي الموعود من خلال اتفاقية إنشاء السوق العربية المشتركة فقد حرصت المملكة في سائر اللقاءات العربية على التذكير بتلك الاستحقاقات واضعة رهن إشارة المنظمة ، وكذلك مؤسسات العمل العربي المشترك كل الإمكانات الضرورية لتفعيل نشاطها ودعمه .
فالمملكة ترى أنه لو طبقت الاتفاقيات القائمة تحت مظلة الجامعة العربية لحرر جزء مهم من التجارة العربية البينية (17)، ولكان ذلك التحرير هو الخطوة الأولى لتحقيق منطقة شاسعة للتبادل الحر عبر العالم العربي. كما ترى المملكة أن الترسانة القانونية في هذا المجال قد أصبحت غنية بفضل ما أسهمت به المجالس الوزارية المتخصصة مؤاخذة على بعض البلدان العربية عدم التزامها بتعهداتها الخاصة بتنفيذ تلك الاتفاقيات وتباطؤها في تحرير السلع المتفق عليها مما يشكل عائقاً كبيراً لتحقيق هذا الطموح (18).
وقد رأت المملكة في ظل التطورات المرتبطة بالنظام العالمي الجديد ورهانات العولمة والشمولية الناتجة عن تنفيد اتفاقيات الجات أن إنشاء منطقة التبادل الحر العربية أصبح ملحاً وضرورياً وذلك تنفيذاً لقرار القمة العربية التي انعقدت بالقاهرة في سنة ‍1996م التي دعت إلى تكليف المجلس الاقتصادي والاجتماعي باتخاذ سائر التدابير لإقامة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى.
وهكذا دعمت المملكة إقرار البرنامج التنفيذي لتحقيق هذا المشروع على مدى عشر سنوات تنتهي بإنشاء سوق عربية كبرى.
وتجدر الإشارة إلى أن المملكة كانت من بين أولى الدول التي شرعت منذ سنة 1983م في إلغاء التعرفة الجمركية على قوائم السلع العربية المتفق عليها (19) ، كما أنها تعهدت صراحة بتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل من أجل الالتزام بشكل دقيق بمقتضيات البرنامج التنفيذي قصد الوصول سنة 2007م إلى تنفيذ محكم للجدول التاريخي للاستحقاقات الهادفة إلى إنشاء سوق عربية كبرى (20).
وهكذا يظهر واضحاً أن نظرة المملكة إلى التعاون والتضامن العربي لم تعد تقتصر على سياسة المساعدة التي تبقى نتائجها ظرفية ومحدودة ، بل أصبحت تركز على تحقيق الاندماج العربي بشكل متدرج ينتهي إلى إنشاء سوق مشتركة مما يؤدي إلى زيادة العرض والطلب على السلع والمنتجات العربية ، ونمو التجارة العربية ، ويسهم في خلق فرص العمل ، ونمو الناتج المحلي الإجمالي في الأقطار العربية كافة.
وبالتأكيد فإن تقوية الجبهة العربية على المستوى الاقتصادي سيكون هو الوسيلة المثلى لدعم القدرة التفاوضية للوطن العربي في مواجهة التحديات الخطيرة التي يحملها القرن الحادي والعشرون ، وعلى وجه الخصوص تحديات المنافسة التجارية ، وقيام التكتلات الاقتصادية الكبرى ، ومظاهر العولمة الناتجة عن توقيع أوفاق الأورغواي ، وإنشاء المنظمة العالمية للتجارة.
أما على المستوى الإسلامي فقد رأت المملكة دائماً أن التضامن السياسي لنصرة قضايا الإسلام والمسلمين وعلى رأسها استعادة القدس الشريف ينبغي أن يكون مقروناً بجهد دؤوب لتحقيق التضامن اقتصادياً عن طريق مساعدات التنمية.
وهكذا كانت المملكة ومنذ منتصف السبعينيات في صدارة المتبرعين لأغراض المساعدات الرسمية للتنمية (21)، ولم تتفوق عليها دولياً إلا الولايات المتحدة الأمريكية، على حين بلغت هذه النسبة 4,2 % من الناتج الوطني الإجمالي على حين لم تتجاوز لدى أكثر البلدان الغربية نسبة 0,35% .
وقد عملت المملكة في إطار منظمة المؤتمر الإســلامي على إنشاء العديـــد من الأجهزة (22) التي يبقى أهمها البنك الإسلامي للتنمية الذي برهن منذ تأسيسه على فعاليته وقدرته على العمل الجاد والإبداع في استحداث البرامج والوسائل الناجحة لتحقيق أهدافه سواء في مجال إقامة المشاريع الاقتصادية والاجتمــاعية أو الإسهام في تنمية التبادل التجاري والتمويلي وزيادته بين الدول الأعضاء (23).
لقد مضى أكثر من عشرين عاماً على إنشاء البنك الإسلامي للتنمية ؛ ولذلك اقترحت المملكة نظراً لزيادة عدد الأعضاء و توسع المجال الجغرافي لنشاطه تشكيل لجنة تنظر في ما يمكن إعداده لمواجهة تحديات المستقبل.

وقد أعدت تلك اللجنة تقريراً مفصلاً في الموضوع تضمن العديد من التوصيات فيما يتعلق بالموارد المالية للبنك والتعاون الاقتصادي والأنشطة المتصلة به، كما أوصت اللجنة بالموافقة على الأولويات المبينة في الخطة الإستراتيجية للمدى المتوسط الموضوعة من طرف البنك ، وهي خطة تهدف في إطار سياسة الخصخصة - التي أصبحت تشكل النموذج الأمثل لنشاطات الاستثمار - إلى تعزيز تمويل القطاع الخاص وخاصة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ، وذلك من خلال تقديم الدعم إلى المؤسسات الوطنية للتمويل التنموي (24).
وتعد المملكة العربية السعودية أكبر مسهم في رأس مال البنك الإسلامي للتنمية كما أن بقاءه واستمرار نشاطه مدين بشكل خاص لجهودها التي ركزت بالأساس على البحث عن صيغ وآليات جديدة مثل برنامج تمويل البنية الأساسية ، وبرنامج تعاون البنك مع المنظمات غير الحكومية لتطوير الوقف الإسلامي ، وبرامج المساعدة الفنية ، وصندوق حصص الاستثمار والتمويل المباشر للقطاع الخاص (25).
وفي الواقع فإن مساعدات المملكة للعالم النامي على الصعيد الإقليمي لا تقتصر على البنك الإسلامي للتنمية ، بل توجه عبر العديد من القنوات بما فيها صندوق الأوبك للتنمية الدولية، وبنك التنمية الاقتصادية الإفريقي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وصندوق النقد العربي ، والشركة العربية لضمان الاستثمار.

ثانيا : دور المملكة التنموي على المستوى العالمي:
لم تقتصر جهود المملكة في دعم التنمية والرخاء الاقتصادي على محيطها العربي والإسلامي بل تجاوزتها إلى العالم الثالث والمجتمع الدولي ، إذ أصبحت ترصد نسبة كبيرة من ناتجها القومي الإجمالي لمساعدة البلدان النامية على تنفيذ برامج التنمية الخاصة بها، وهو إسهام بلغ في بعض سنوات العقد الماضي ما نسبته 6 % من الناتج القومي الإجمالي ، وذلك في وقت لم تف فيه البلدان الصناعية بوعودها التي كانت تقتصر نظرياً على نسبة قدرها 0,7 % من الناتج القومي الإجمالي.
ويعتبر الصندوق السعودي للتنمية القناة الرئيسة التي تقدم بوساطتها المملكة مساعداتها(26)، وعلى الرغم من حداثــــة عهده فقد قطع أشواطاً كبيرة في ميـــدان التعـــاون التنموي الدولي ؛ إذ يسهم اليوم في تمويل 276 مشروعاً موزعة في أكثر من ستين بلداً(27).
وسوف نحاول ضمن هذا المحور التعرض من جهة إلى الدور الذي مارسته المملكة في دعم المنظمات الدولية الإنمائية بشكل عام على حين نفرد الجانب الثاني لدورها في مؤسسات بروتن وودز وخاصة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي .
أ ) دور المملكة في التنظيمات الدولية بشكل عام:
لقد عملت المملكة ابتداء من عقد السبعينيات على توظيف فوائضها النقدية بشكل مكثف في الميدان التنموي.
وهكذا عملت على دعم جهود برنامج الغداء العالمي في إيصال المواد الغذائية إلى المحتاجين عبر كل بلدان العالم ، وهي تبرعات نقدية وأخرى عينية ، وذلك بمعدل يزيد عن 100 مليون ريال في السنة (28) . كما وضعت إلى جانب البلدان الخليجية الأخرى ابتداءً من سنة 1401هـ/1981م برنامج الخليج لمؤازرة المنظمات الإنسانية والإنمائية التابعة للأمم المتحدة، وقد قدمت المملكة بمفردها نحو78 % من موارد هذا البرنامج الذي رصد 40 % من موارده لدعم منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونيسيف)، كما استفادت منه العديد من المنظمات الأخرى مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة ومنظمة العمل الدولية وبرنامج البيئة واليونسكو وصندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية .
وقد أسهمت المملكة في جهود الأمم المتحدة لمحاربة الأمراض وخاصة البرنامج العالمي للقضاء على مرض عمى النهـر (29) حيث شاركت في الاجتماعات الدولية المخصصة لتعبئة الموارد المالية والتقنية لتنفيذ المراحل الثلاث لهذا البرنامج.
وفي مجال مساعدة اللاجئين ، وتقديراً من المملكة للدور الإنساني الذي تضطلع به مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فقد اعتادت أن تقدم لها إسهاماً سنوياً لدعم نشاطها ، كما تبرعت لفائدتها بشكل جزافي خلال المؤتمر الأول والمؤتمرات الموالية بمبالغ مالية مهمة وبكميات ضخمة من الحبوب خصصت لمساعدة اللاجئين في إفريقيا ، وخاصة اللاجئين في الصومال(30).
وبالنسبة للاجئين الفلسطينيين على وجه الخصوص فقد سبق للمملكة أن أسهمت في إنشاء وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم في الشرق الأدنى (الأونروا) التي أنشأتها الأمم المتحدة عقب احتلال إسرائيل لفلسطين ، وهكذا وتقديراً من المملكة للدور الذي أدته هذه الوكالة في حق أكثر من مليون من اللاجئين الفلسطينيين فقد دأبت على الإسهام سنوياً في ميزانيتها ، كما أنها تدخلت مرارا لتغطية العجز الذي أصبحت تعانيه.
وفي الإطار الإنساني نفسه دعمت المملكة الجهود التي تبذلها اللجنة الدولية للصليب الأحمر وهلاله ، حيث دأبت على دعم ميزانيتها السنوية ، كما قدمت لها مساعدات استثنائية بلغت حوالي 80 مليون دولار (31).
وبصفة عامة فيمكن القول إن المملكة أسهمت بشكل مكثف في دعم كل المنظمات العالمية الهادفة إلى تحقيق التنمية والرخاء لبلدان الجنوب، بل إنها كانت في كثير من الأحيان من العاملين على تأسيسها وإخراجها إلى حيز الوجود.
ففي خضم المطالبة بإقامة نظام اقتصادي عالمي جديد واعتبارا لسياسة الهيمنة التي كانت تمارسها البلدان الغربية داخل منظمة التغذية والزراعة فقد عملت المملكة داخل منظمة الأوبك وداخل مجموعة السبعة والسبعين من أجل إخراج الصندوق الدولي للتنمية الزراعية إلى حيز الوجود ، وأدت الضغوط التي مارستها المملكة بسبب مركزها المتفوق داخل الأوبك إلى إقناع البلدان الغربية بالإسهام في رأس مال الصندوق الجديد الذي أصبح ابتداء من سنة 1976م منظمة متخصصة تابعة للأمم المتحدة ، وما زال يقدم منذ ذلك التاريخ قروضاً ميسرة لبلدان الجنوب من أجل دعم التنمية الزراعية في المناطق الريفية ودعم صغار الفلاحين (32) .

ب ) دور المملكة في مؤسسات بروتن وودز :
لقد اختارت المملكة العربية السعودية أسلوباً واعياً في توظيف فوائضها المالية التي أفرزتها الطفرة النفطية مع بداية السبعينيات ، وهكذا واعتبارا للاحترام الذي يحظى به صندوق النقد الدولي بوصفه منظمة متخصصة تابعة للأمم المتحدة وبصفته مؤسسة ضابطة وموجهة للنظام النقدي والاقتصاد العالمي ، فقد رأت المملكة أن توجه إليه جزءاً مهماً من فوائضها خدمة بالأساس لمصالح البلدان النامية وللاقتصاد العالمي.
وقد بلغ الإسهام السعودي في الصندوق أوجه في أواخر سنة 1981م عندما رفع المجلس التنفيذي إلى مجلس المحافظين توصية بزيادة حصة المملكة لتصل إلى 2100 مليون وحدة من وحدات حقوق السحب الخاصة؛ أي ما يعادل 2,5مليار من الدولارات(33)، وكانت النتيجة المباشرة لذلك زيادة القوة التصويتية للمملكة من 1,74 % إلى 3,5 % مما أصبحت معه تحتل المركز السادس بصفتها مسهمة في رأس مال الصندوق (34).
وقد مكنها هذا الوضع على وجه الخصوص من أن تتمتع منذ ذلك التاريخ بمركز العضوية الدائم داخل المجلس التنفيذي للصندوق، وهو ما يخولها من أن تلعب دوراً أكثر أهمية في الدفاع عن مصالح البلدان النامية داخل هذه المؤسسة الاقتصادية الكبرى.
لقد أخذ الإسهام السعودي في نشاط الصندوق أشكال عدة فقد توسع انطلاقاً من عقد السبعينيات حجم القروض التي قدمتها المملكة للصندوق لتمويل سياسته ، وهي قروض وجهت أساساً لتمويل برنامج التسهيلات النفطية لسنة 1974م (35) و 1975م، وكذلك من أجل تمويل تسهيلات التمويل التكميلي التي طورها الصندوق ابتداء من سنة 1977م لمساعدة البلدان النامية في تغطية احتياجاتها لمواجهة الصعوبات المالية الكبيرة التي تعاني منها في موازين أداءاتها.
وقد توجت المملكة هذه السياسة الإقراضية مع الصندوق بعقد اتفاقية قروض ضخمة جعلت منها أكبر مقرض للصندوق على الإطلاق ؛ إذ بلغت قيمتها 10 مليارات من الدولارات خلال سنتي 1981م و 1982م، وهي قروض توجهت على وجه الخصوص لتمويل البرامج الإقراضية للبلدان النامية التي تعاني من عجز كبير في موازين مدفوعاتها.
ويعد كثير من المسؤولين السعوديين أن هذا الحضور القوي في مؤسسات بروتن وودز وخاصة الصندوق الموجه أساساً لخدمة التعاون الدولي والاقتصاد العالمي وعلاقاتها الودية مع البلدان الصناعية والنامية على حد السواء.
لكن هل تمكنت المملكة العربية السعودية حقاً من تحقيق تحول جذري في آلية اتخاذ القرار داخل هذه المنظمة الاقتصادية الكبرى؟
للجواب عن هذا السؤال ينبغي أن لا نفرط في التفاؤل ، فالبلدان الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة تعد الصندوق وسيلتها الممتازة للتحكم في الاقتصاد العالمي وفرض شروطها على البلدان النامية ، بل وتوجيهه لخدمة إستراتيجيتها الشمولية ومصالحها الحيوية ، وأكبر دليل على ذلك هو التحول المهم الذي عرفته عملية الإقراض نحو بلدان المعسكر الاشتراكي السابق التي أنشأ الصندوق من أجلها آلية جديدة تعرف بآلية دعم الاقتصاديات في طور التحول ، وهكذا أصبحت كل من روسيا وبلدان أوربا الشرقية تحصل على قروض بعشرات المليارات من الدولارات في وقت يضاعف فيه الصندوق من قيود المشروطية المنفذة في إطار مسطرات التقويم الهيكلي على بلدان الجنوب.
وقد دخل الصندوق خلال الأشهر القليلة الماضية مرحلة جديدة في نشاطه الإقراضي تتمثل في تقديم الدعم إلى البلدان الآسيوية التي تعرضت للأزمة المالية ، وهي سياسة تندرج ضمن أولويات الإستراتيجية الغربية الهادفة إلى حفظ توازنات الاقتصاد الليبرالي.
هكذا إذن يبقى من المستبعد - على المدى القصير على الأقل - أن تتمكن أي من البلدان العربية أو النامية من إدخال تغييرات جذرية على نظام الصندوق ابتغاء المشاركة بشكل مؤثر في آلية اتخاذ القرار فالولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون لا يتوانون عن التهديد صراحة بأن أي تعديل على النظام الحالي للصندوق يؤثر على مصالحهم سيجابه بإجراءات مالية تحرم الصندوق وغيره من المنظمات المالية الدولية من كل عون مالي هي في أمس الحاجة إليه.
وخلاصة القول أنه على الرغم من كل الإحباطات المحيطة بدور البلدان النامية والعربية على وجه الخصوص داخل المنظمات الدولية الكبرى فإن المملكة العربية السعودية استطاعت أن تخترق هذا الواقع لتسهم بشكل مؤثر في دعم مركز البلدان النامية داخل تلك المنظمات وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.
فبفضل هذا الإسهام بادر الصندوق إلى وضع برنامج خاص للنهوض بالإصلاح الهيكلي ومؤازرته في البلدان الأقل نمواً ، وهي عملية أدى فيها الصندوق السعودي للتنمية دوراً أساسياً ، كما أن الحضور الدائم للمملكة من خلال عضوية المجلس التنفيدي أدى إلى نتائج إيجابية لمصلحة بلدان الجنوب ، سواء إذا تعلق الأمر بفحص رسائل النوايا أم تنظيم الاستشارات السنوية أم اعتماد برامج التقويم الهيكلي أم على وجه الخصوص البت في طلبات الإقراض.